صور الحكم بعدم دستورية نص تشريعي

المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

للأحكام الصادرة عن القضاء الدستوري في الأنظمة الدستورية المقارنة ، بوجه عام ، ثلاثة صور ، هي : الأحكام البسيطة ، والأحكام الوسيطة ، والأحكام الاستبدالية ، التي يتم تناولها في المطالب الثلاثة التالية:
المطلب الأول : الأحكام البسيطة .

وهي الأحكام الخالصة غير المركبة ، التي تنتج أثرها بغير شرط أو تحفظ ، وتظهر هذه الأحكام باحدى الصورتين الآتيتين :-
أولاً : الأحكام بعدم الدستورية .
وهي الأحكام التي تنطوي على إعلان أو منطوق بعدم الدستورية . وتترتب على مثل هذه الأحكام نتائج غاية في الخطورة بالنسبة للنص التشريعي المحكوم بعدم دستوريته ، وتختلف هذه الاثار بحسب نظام الرقابة الدستورية المتبع في الدولة ، حيث انه في الدول التي تأخذ بنظام الرقابة السابقة (1) يعد منطوق الحكم بعدم الدستورية عائقاً دون إصدار النص التشريعي المخالف للدستور ، بينما في الدول التي تأخذ بنظام الرقابة اللاحقة يعد منطوق الحكم بعدم الدستورية محدداً لإبقاء أو لحذف النص التشريعي من النظام القانوني للدولة. ففي بعض الدول لا تقضي المحكمة ببطلان التشريع أو إلغائه ، وإنما يقف سلطانها عند إهمال القاضي لحكم القانون غير الدستوري والامتناع عن تطبيقه في القضية المعروضة عليه ، وهو ما عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية . (2) وفي دول اخرى يكون منطوق الحكم منضوياً على إعلان بإلغاء أو بإبطال النص التشريعي المخالف للدستور ، ومقتضى ذلك بطلان النص التشريعي المقضي بعدم دستوريته منذ صدوره (الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية) من ذلك ايطاليا والكويت (3) ، بينما يقتصر منطوق الحكم في دول اخرى على إعلان عدم الدستورية إذ يظل النص التشريعي سارياً حتى تاريخ نشر الحكم بعدم دستوريته (الأثر الفوري للحكم بعدم الدستورية) ، كما في النمسا . (4)

ثانياً : الأحكام الرافضة للدعوى الدستورية .
إذا لم ترَ المحكمة في النص التشريعي المطعون بعدم دستوريته – وبناء على الأسباب التي قدمها الخصوم – شائبة عدم الدستورية ، في هذه الحالة على المحكمة الدستورية أن تقضي برفض الدعوى (5) . وتختلف الأحكام الرافضة للدعوى الدستورية في مضمونها ، وإن اتحدت في جوهرها السلبي . ففي سويسرا يكون الحكم بـ “عدم إعلان عدم الدستورية ” Non Declartion d’ in Constitutionnalite ، بينما يكون الحكم بعدم القبول ، أو برفض الدعوى أو الطعن ، أو برفض المسألة الدستورية (كما في أسبانيا ، وإيطاليا ، وفرنسا ، ومصر). (6)

المطلب الثاني : الأحكام الوسيطة.
وهي الأحكام التي تصدر في الاحوال التي تريد فيها المحكمة الدستورية أن تتفادى الحكم بعدم الدستورية لأسباب ترتأيها وتقدرها ، منها المحافظة على الأمن القانوني(7) وهذه الأحكام تعد بمثابة استراتيجية خلاقة وفي غاية الخصوبة والثراء يتجاوز القضاء الدستوري ، من خلالها ، الإطار التقليدي لرقابة الدستورية المتمثل في الحكم بدستورية القانون أو عدم دستوريته إلى خلق مستويات متدرجة لعدم الدستورية ، بحيث يستطيع القضاء من خلال تلك الأحكام إلزام المشرع بإعادة فحص القانون وتنقيحه بما يتفق وأحكام الدستور ، من دون الحاجة لإعلان عدم دستوريته .

(8) وتظهر هذه الأحكام باحدى الصور الثلاث الآتية:
أولاً : أحكام المطابقة بشرط التفسير .
وتعد هذه الأحكام بحسب الأصل أحكام بعدم الدستورية ، غير أن اقترانها ببعض التحفظات ، التي يعد التقيد بها شرط لدستوريتها ، يدرجها في عداد الأحكام الصادرة برفض الدعوى الدستورية (أي أحكام بالدستورية) . وفي هذه الصورة من الأحكام تلجأ المحكمة الدستورية إلى منهج معين في التفسير للحيلولة دون الحكم بعدم الدستورية ، سواء انصب هذا المنهج على تفسير القاعدة الدستورية أو تفسير القاعدة القانونية التشريعية. (9) .

فالقضاء الدستوري في بعض النظم المقارنة كايطاليا والمانيا وفرنسا ، يستعمل وسائل تفسيرية معينة لتحاشي إبطال القانون كلما أمكن تفسيره بطريقة تجعله موافقاً لأحكام الدستور حفاظاً على وحدة النظام القانوني وضرورة خضوع القاعدة الدنيا للقاعدة الأعلى منها والتقيد بأحكامها ، مع ما يقتضيه ذلك من توفيق بينهما . وهذا النمط من الأحكام يمثل خروجاً عن الإطار المعتاد لرقابة الدستورية المتمثل في الحكم بدستورية النص التشريعي المطعون عليه أو عدم دستوريته توصلاً لنمط جديد يقضي بدستورية النص محل الرقابة شريطة مراعاة التفسير الذي تراه المحكمة موافقاً لأحكام الدستور ، فيكفل هذا النمط الجديد من الأحكام تفادي الكثير من المشاكل العملية الناجمة عن الحكم بعدم الدستورية كعدم الاستقرار في المراكز القانونية .

والمحكمة الدستورية الايطالية ، من خلال الموازنة بين النصوص محل الرقابة والمبادئ الدستورية، تصدر هذا النمط من الأحكام المطابقة مع التحفظ ، باعلانها أن القانون يكون دستورياً شريطة احترام التفسير الذي تراه المحكمة ، مع تأكيدها أن أي تفسير آخر يجعله مناقضاً لأحكام الدستور . (10) وهذا المسلك هو عين ما يفعله المجلس الدستوري الفرنسي عندما يفسر القانون بطريقة تجعله موافقاً لأحكام الدستور أسوة ببعض النظم المقارنة (ايطاليا ، المانيا) التي تعد مصدراً تاريخياً لهذا النمط من القرارات . (11)

ويرى جانب من الفقه الفرنسي أن هذا النمط من القرارات المطابقة بشرط يجد سنده القانوني في سلطة القاضي في التفسير التي تعد وسيلة لممارسة الرقابة ، من خلال توضيحه العلاقة بين القاعدة الدنيا محل الرقابة “وهي القانون “ والقاعدة العليا التي يرجع اليها في ممارسة تلك الرقابة وهي الدستور أو “المجموعة الدستورية في مجملها” حتى تأتى التشريعات الخاضعة للرقابة متفقة معها ومنسجمة مع أحكامها . فالمجلس الدستوري يقوم بعملية تفسير مزدوج ، إذ يعمل على تفسير النصوص الدستورية من ناحية ، وتفسير القانون محل الرقابة بما يجعله موافقاً لأحكام الدستور من ناحية اخرى .

فالقرارات المطابقة بشرط تعد وسيلة للحوار بين المجلس الدستوري والسلطة التشريعية ، إذ تتيح تلك النوعية من القرارات للمجلس الدستوري تنقيح النص التشريعي وتصحيحه من دون الحاجة إلى الحكم بعدم دستوريته . وذلك من خلال إلزام المشرع بالتفسير الذي يراه المجلس الدستوري موافقاً لأحكام الدستور (12) .

ثانياً : أحكام بعدم الدستورية الجزئية (أحكام الإلغاء الجزئي) .
وهي الأحكام التي ينصب منطوق الحكم فيها بعدم الدستورية على جزء من النص التشريعي المطعون عليه . اذ قد تنتهي المحكمة من بحثها للقانون إلى أن تتبين أن في جزء من أجزائه او في بعضها تعارضاً مع نص من نصوص الدستور ، وترى مع ذلك ان سائر أجزائه خالية تماماً من كل عيب دستوري .

فهي لا تملك في مثل هذه الحالة إلا القضاء بعدم دستورية الأجزاء المتعارضة مع الدستور وحدها ، من دون أن يمس حكمها سائر أجزاء القانون المتفقة مع الدستور أو يتعرض لها. وتصدق هذه القاعدة سواء كانت الاجزاء المتفقة مع الدستور فقرات من نص قانون واحد أو كانت نصوصاً من تشريع يتضمن عدة نصوص مستقلة (13) ، إذ يجب الإبقاء على النصوص الصحيحة المطابقة للدستور والتي تقبل التجزئة ، بحيث لا تتأثر اطلاقاً بالنصوص المقضي بعدم دستوريتها ، والاعتداد بها ، متى كانت وحدها تستطيع أن تحقق فعاليتها فيما تنطبق عليه من وقائع أو منازعات موضوعية ولو كان إعمالها يتم على نحو جزئي ، وفي حدود ما شرعت له ، ومن دون الخروج عن القواعد المتعلقة بتطبيقها وتفسيرها فمن المقرر أن بطلان العمل التشريعي بتمامه يكون في احدى حالتين ، اما تعذر فصل النصوص التي أبطلتها المحكمة عما سواها أو قصور النصوص المتبقية عن الوفاء بمقاصد التشريع وغاياته (14).

وقد عبرت المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الامريكية عن هذه القاعدة بوضوح في حكمها الصادر عام 1924 في قضية Dorchy v. Kansas إذ قالت : “ان الجزء السليم من القانون لا يعتبر ممكن الانفصال عن الاجزاء المخالفة للدستور إلا إذا تحقق فيه شرطان :
اولهما: ان يتضح أنه يستطيع وحده إنتاج أثر قانوني ، والثاني: أن يظهر أن المشرع لو علم بسقوط الاجزاء المخالفة للدستور لاختار مع ذلك بقاء هذا الجزء “(15).
وقد أتبعت المحكمة الدستورية العليا في مصر ذات النهج واتخذت ذات المعيار (16) ، إذ تقول في حكم لها صادر في 2 يناير 1993 :
“وحيث إنه إذ كان ما تقدم ، وكانت النصوص التي ينتظمها العمل التشريعي لا تعتبر – من زاوية العيوب الموضوعية – مهدرة بتمامها إلا في احدى حالتين :

اولاهما : إذا كان فصل النصوص التي أبطلتها المحكمة عما سواها متعذراً ، وكان ملحوظاً عند إقرار المشرع للنصوص جميعها ما بينها من صلة حتمية تجعل ترابطها معاً واتصال اجزائها ببعض ، حقيقة قانونية لا مراء فيها .

ثانيتهما : إذا كان متعذراً بعد إبطال المحكمة للنصوص المخالفة للدستور، أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع ، وغاياته.

وحيث إنه إذ كان ذلك ، وكان إبطال هذه المحكمة نص المادة (5) من القانون المطعون عليه، مؤداه زوال النصوص الاخرى المرتبطة بها ، باعتبار انها مترتبة عليها ، ولا قوام لها بدونها ، ولا يتصور إعمالها في غيبتها ، وما كان المشرع ليقرها بمعزل عن المادة المشار إليها او استقلالاً عنها ، فان احكام المواد (6،3،15) من هذا القانون تكون مع مادته الخامسة كلا لا يتجزأ ، وتسقط تبعاً لها ” (17) . ويلجأ المجلس الدستوري الفرنسي إلى هذه التقنية – الحكم بعدم الدستورية الجزئية – في كل مرة يقرر فيها أن إبطال بعض نصوص القانون لا يؤثر على تكامل القانون بحد ذاته .

في هذا الفرض يحكم المجلس ببطلان بعض أحكام القانون مع بقاء الأحكام الأخرى . طالما أنها قابلة للانفصال عن بقية نصوص القانون من دون ان تمس وحدته اما إذا كانت هذه النصوص غير قابلة للانفصال فليس امام المجلس إلا إلغاء القانون باكمله. وقد طبق المجلس الدستوري هذه التقنية في قراره الصادر في 10 – 11 أكتوبر 1984 الخاص بمنشآت الصحافة (18).

ثالثاً : أحكام مشروطة .

وهي الأحكام التي تدعو المشرع إلى تعديل النص التشريعي المطعون عليه بما يتفق مع الدستور ، أو التي تقرر مجرد الإعلان بعدم مطابقة القاعدة القانونية الواردة بالنص للدستور ، دون الحكم بعدم الدستورية . وهذا النوع من الأحكام لا يؤدي إلى عدم تطبيق القاعدة القانونية المعلن عدم دستوريتها . وقد استحدثته المحكمة الدستورية الألمانية لاسباب تتعلق بالنظام الدستوري وهي المحافظة على الأمن القانوني ، الأمر الذي يحتم الإبقاء على سريان القاعدة غير الدستورية لمدة انتقالية لتفادي أية نتائج تمس النظام الدستوري .

وعلى المشرع في هذه الحالة أن يتكيف مع الدستور بتعديل النص الذي صدر بشأنه الحكم بإعلان عدم مطابقته للدستور. وعلى المشرع أيضاً عند إجراء التعديل التشريعي بأن يضع القواعد المناسبة التي تسري على الماضي احتراماً لمبدأ المساواة أمام القانون (19). وعلى الرغم من أن القانون الألماني لم يكن يخول المحكمة الفيدرالية الألمانية سوى سلطة إبطال التشريع غير الدستوري ، إلا أن المحكمة استحدثت هذا النوع من الأحكام الذي يقضي بعدم دستورية التشريع من دون القضاء ببطلانه ، وقد مارست المحكمة هذا التقليد القضائي من دون سند تشريعي ، مما دفع المشرع إلى تقنينه سنة 1970 بتعديل قانون المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية (المادة 31/2 و 3 ، والمادة 79) دون أن يحدد هذا التعديل الأحوال التي تقتصر فيها المحكمة على الحكم بإعلان عدم دستورية التشريع من دون إبطاله ومن دون تحديد آثار هذا الحكم (20) .

إلا أن المحكمة الدستورية ميزت بين آثار الحكم بالبطلان ، والحكم بعدم الدستورية، فجعلت الحكم الأول كاشفاً لعدم صحة التشريع منذ ولادته ، وجعلت الحكم الثاني منشأً لإلغاء النص غير الدستوري من يوم صدور هذا الحكم. وقد سنحت الفرصة للمحكمة الدستورية الألمانية أن تقتصر على الحكم بإعلان عدم الدستورية من دون الحكم بالبطلان في عدة مناسبات ، منها على سبيل المثال حكمها الذي يقضي بعدم مطابقة تشريع ضريبي للدستور بسبب إخلاله بمبدأ المساواة ، إذ رأت المحكمة ان إبطال التشريع منذ صدوره سوف يؤدي إلى نتائج وخيمة تلحق بالدولة ، وكذلك الشأن بالنسبة إلى قانون يتعلق بتحديد مرتبات الموظفين لما رأت المحكمة من أن إبطال هذا القانون سوف يؤدي إلى إستحالة تقاضي الموظفين مرتباتهم بصفة مؤقتة إلى حين صدور قانون جديد(21).

المطلب الثالث : الأحكام الاستبدالية .
وهذه الأحكام لها طابع خاص ، إذ هي أقرب إلى أن تكون أحكاماً مكملة للنصوص التشريعية لانها تكمل بالتفسير الذي تقرره المحكمة ما تنطوي عليه هذه النصوص من نقص تشريعي مع بقاء مبنى النصوص قائماً فكأن المبنى يبقى والمعنى هو الذي يتغير ويكتمل بالتفسير الذي يجعل النص يقرأ محمولاً على معناه الجديد الذي وضعه له الحكم ، وذلك تجنباً لوقوع النص في حمأة عدم الدستورية(22). ان إتباع المنهج الاستبدالي في التفسير يؤدي إلى هذا النوع من الأحكام عادة .

وهذا المنهج يتميز باستيفاء متطلبات مبدأ الدستورية ، وذلك بهدف مزدوج هو تجنب استخلاص قاعدة مخالفة للدستور أو جزء منها من النص التشريعي المطعون عليه ، واستخلاص قاعدة اخرى تتفق مع المتطلبات الدستورية من ناحية اخرى . ويلاحظ ان النص لا يعد مخالفاً للدستور بعد أن يخضع لهذا النوع من منهج التفسير ، وبعبارة اخرى ، فإن تفسير النص الذي ينتهي إلى مطابقته مع الدستور يعد شرطاً لهذه الدستورية .

وطالما أن هذا التفسير كان خطوة لازمة للرقابة الدستورية على النص ، فانه يعد ملزماً وحجة بكل ما يتمتع به الحكم من قوة إلزامية وحجية (23).

وقد لجأت المحكمة الدستورية الإيطالية إلى هذا المنهج التفسيري ، من خلال الحكم بالبطلان الجزئي للنص للوصول إلى نوع من إحلال القواعد القانونية .

وقيل في شرح ذلك إلى أن الذي يعتنق منهج التفسير الاستبدالي يستأصل القاعدة التي عبر عنها النص أو جزءاً منها ، بما يخلق في ذاته فراغاً في النص ، سرعان ما يملؤه التفسير من خلال ملأ الفراغ بقاعدة اخرى . مثال ذلك ، ما قضت به المحكمة الدستورية الإيطالية من عدم دستورية الفقرة الثالثة من المادة 313 من قانون العقوبات في حدود ما نصت عليه من تخويل وزير العدل سلطة رفع الدعوى عن جرائم إهانة المحكمة الدستورية ، تأسيساً على انها وحدها بحكم مسئوليتها في ضمان فاعلية مبدأ الشرعية وإخضاع السلطات العامة للدستور ، تملك ممارسة رفع الدعاوى الجنائية عن جرائم الإهانة الموجهة اليها ، مما يقتضي الحكم بعدم دستورية الفقرة سالفة الذكر فيما نصت عليه من تخويل هذه السلطة لوزير العدل . وواضح من هذا الحكم أن المحكمة بعد أن أبطلت النص إبطالاً جزئياً ( في خصوصية وزير العدل في رفع الدعوى) أقامت قاعدة قانونية تعطيها الحق في رفع هذه الدعوى (24).

كما لجأت المحكمة الدستورية الألمانية إلى هذا النوع من التفسير الاستبدالي لحماية النص المطعون عليه من خلال إعطائه مضموناً معيناً يتفق مع الدستور ، وذلك لما يترتب على الأثر الكاشف للحكم بعدم الدستورية من آثار خطيرة على النظام القانوني .

ولوحظ ايضاً ان المجلس الدستوري الفرنسي قد لجأ إلى هذا النوع من التفسير ، وسمي بالحل الوسط بين الرفض والبطلان لأنه يعطي للنص التشريعي تفسيراً يعصمه من البطلان لعيب عدم الدستورية ، من ذلك قراره رقم “167 – 83” الصادر في 19 يناير 1984 بشأن القانون الخاص بالمؤسسات الائتمانية ، فإن الطاعنين قد نعوا على المادة 34 من القانون محل الطعن المتعلق بتعديل النظام المصرفي ، مخالفتها لأحكام المادة 34 من الدستور ، لتفسيرهم لها بأنها تخول لجنة وضع التنظيمات المصرفية السلطة المحجوزة للقانون في اتخاذ القرارات المتعلقة بإلغاء التأميمات المحتملة ، غير ان المجلس الدستوري أوضح أن هذه المادة “لا تعني سوى ان اللجنة المذكورة يمكنها السماح بتحويل ممتلكات مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص عن طريق تنظيم ما تم الاستيلاء عليه من المساهمين في المؤسسات الائتمانية المؤممة ، وبالتالي فإن هذه المادة لا تتضمن المعنى الذي حملها إياه الطاعنون ” (25).

وقد أخذت المحكمة الدستورية العليا في مصر بهذا المنهج الاستبدالي فقضت بأن عليها ألا تفصل فيما يثيره الطعن على النصوص القانونية من المسائل الدستورية ، كلما كان بوسعها ان تتجنبها من خلال إسناد المخالفة المدعى بها إلى أساس آخر يستقيم عقلاً معها ويصححها. وبناءاً على هذا المنهج التفسيري ، قضت المحكمة بان قرار وزير المالية رقم 381 لسنة 1982 حتى وان صح القول ببطلانه لصدوره بناء على تنظيم باطل ممثلاً في القرار بقانون رقم 42 لسنة 1967 في شأن التفويض في الاختصاصات – إلا أن قرار وزير المالية ، يظل محمولاً على نص الفقرة الثانية من المادة 124 مكررا من القانون الكمركي – التي أحال فعلا إليها – والتي لا يجوز بمقتضاها رفع الدعوى الجنائية في شان الجرائم المنصوص عليها بفقرتها الأولى إلا بناء على طلب من وزير المالية أو من ينيبه .

فالواضح مما تقدم ، أنه بعد أن استبعدت القاعدة القانونية الواردة في قرار وزير المالية المطعون عليه استبدلت بها المحكمة الدستورية العليا قاعدة اخرى من هذا القرار بحكم إحالته إلى القانون الكمركي الذي يعطي لوزير المالية أو من ينيبه ذات الاختصاص محل النزاع .

ومن ناحية اخرى ، فقد طبق حكم المحكمة الدستورية العليا المذكور ذات المنهج الاستبدالي حين قضى بعدم دستورية الفقرة الثالثة من المادة 124 مكررا من قانون الكمارك الصادر بالقرار رقم 66 لسنة 1963 ، وذلك فيما نصت عليه من أنه ( ولا يترتب على الصلح رد البضائع المضبوطة في الجرائم المشار إليها ، وإنما يجوز رد وسائل النقل التي استخدمت في التهريب). ذلك أن إسقاط القاعدة القانونية التي حكم بعدم دستوريتها لم يولد فراغاً في النص المطعون عليه ، لأن المحكمة انتهت إلى أن الصلح المقرر بنص الفقرة الثالثة من المادة 124 مكررا المشار إليها ينعقد مقابل أداء مبلغ التعويض كاملاً ويؤدي إلى إنقضاء الدعوى الجنائية في الجرائم محل الصلح ، اما مصادرة البضائع المضبوطة فتتم بناء على نص في القانون يتضمن قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها ، وهو ما قضت المحكمة بعدم دستوريته .

فالقاعدة القانونية التي استبدلت هي ترتيب المصادرة كأثر للصلح ، والقاعدة التي حلت محلها هي أن الصلح يؤدي فقط إلى انقضاء الدعوى ، أي أن المصادرة تستند إلى نص في القانون مخالف للدستور ولا تستند إلى النص الذي يستمر صحيحا منتجا أثره في انقضاء الدعوى الجنائية (26) .
_________________
1- قد تباشر المحكمة الدستورية سلطة الإلغاء السابق في مرحلة اقتراح القانون وقبل عرضه على البرلمان ، ففي السويد يقوم المجلس القانوني الذي يتكون من قضاة المحكمة العليا بدور فعال في هذه المرحلة . فالاقتراحات الخاصة بالتشريعات الجديدة لا تعرض على البرلمان الا بعد ان يتشاور مجلس الدولة بشأنها مع المجلس القانوني، إذ تعد هذه المشاورات جزءاً من عملية سن القوانين. غير أن الوضع الغالب ان تباشر هذه السلطة بعد سن القانون وقبل اصداره . فالقوانين التي يقرها البرلمان لا بد ان ترسل إلى رئيس الدولة ليقوم باصدارها ، وقد يرى رئيس الدولة إحالة القانون إلى محكمة خاصة تحددها بعض الدساتير للتحقق من دستورية القانون قبل اصداره ، ويمارس القضاء هذه السلطة نتيجة لطلب رئيس الدولة في بعض الدساتير (كما في دستور مملكة البحرين الصادر في 14 فبراير سنة 2002) ، ونتيجة لطلب المجلس التشريعي في بعضها (كما في دستور الاكوادور الصادر سنة 1929 ، ونتيجة لطلب أي من كليهما في بعضها الاخر (كما في الدستور السوري الصادر سنة 1950).
انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص ص155-157
2- انظر د. محمد جمال عثمان جبريل ، أثر الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا ، دار النهضة العربية، القاهرة ، 2000 ، ص19
3- انظر د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الرجعي والأثر المباشر ، ط1، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2000 ، ص21 ، و د. عثمان عبد الملك الصالح ، الرقابة القضائية امام المحكمة الدستورية في الكويت ، ط1 ، مطابع كويت تايمز ، اصدار مجلة الحقوق ، كلية الحقوق – جامعة الكويت – ، 1986 ، ص34
4-الأصل ان الحكم بعدم الدستورية في النمسا يبدأ نفاذه من يوم نشره ولا يرتد إلى الماضي (م 139 – 140 من الدستور النمساوي الصادر سنة 1920) ، إلا أن المشرع الدستوري في تعديل 1975 اعطى للمحكمة الدستورية سلطة تقديرية تستطيع بمقتضاها ان تعطي للحكم بعدم الدستورية أثراً رجعياً تقدر مداه .
انظر د. يحيى الجمل ، القضاء الدستوري في مصر ، مرجع سابق ، ص72
5- ولا يجوز للمحكمة الدستورية – بأي حال من الاحوال – ان تصدر احكاماً بدستورية التشريعات .
المستشار عز الدين الدناصوري ، و د. عبد الحميد الشواربي ، الدعوى الدستورية ، ط1، منشأ المعارف ، الاسكندرية، 2002، ص27
6- انظر د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص300
7- تعني فكرة الأمن القانوني ضرورة التزام السلطات العامة بتحقيق قدر من الثبات النسبي للعلاقات القانونية وحد ادنى من الاستقرار للمراكز القانونية المختلفة بهدف إشاعة الأمن والطمأنينة بين أطراف العلاقات القانونية من اشخاص قانونية عامة وخاصة . وتتمثل فكرة الامن القانوني باربع صور هي : عدم رجعية القوانين ، وضرورة احترام الحقوق المكتسبة للافراد التي استمدوها بطريق مشروع من القوانين القائمة ، ووجوب التزام الدولة – في التشريعات التي تصدرها – بعدم مفاجئة الافراد أو مصادمة توقعاتهم المشروعة ، والصورة الرابعة تتعلق بوجوب تقرير ضوابط للاثر الرجعي للاحكام الصادرة من القضاء الدستوري وهو بصدد ممارسة الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين انظر د. يسري محمد العصار ، الحماية الدستورية للأمن القانوني في قضاء المحكمة الدستورية ، مجلة الدستورية، العدد الثالث ، السنة الاولى ، يوليو 2003 ، ص ص51-52
8- د. شعبان أحمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص 455
9- انظر د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص300
10- انظر د. شعبان أحمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص442
11- لجأ المجلس الدستوري الفرنسي إلى هذه التقنية الجديدة – المطابقة مع التحفظ – Conformite sous reserve بهدف التخفيف من وطأة قراراته بالإبطال على الأغلبية البرلمانية ، بحيث يعمد من خلال هذه التقنية إلى اصدار قراره على أساس “ان كل تفسير بخلاف ذلك يعتبر مخالفاً للدستور “..
انظر د. أمين عاطف صليبا ، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون ، مرجع سابق ، ص276
12- ظهرت هذه النوعية من القرارات في قضاء المجلس الدستوري الفرنسي منذ بواكير عهده بالرقابة ، إذ استخدمها المجلس الدستوري بادئ الامر بصدد الرقابة على دستورية اللوائح البرلمانية ، وكان ذلك في ثاني قرار يصدر من المجلس الدستوري وهو القرار رقم “2 – 59” الصادر في 24 يونيو 1959 بشأن الرقابة على دستورية لائحة الجمعية الوطنية ، وكذلك قراره رقم “37 – 69” الصادر في 20 نوفمبر 1969 بشان الرقابة على بعض التعديلات المدخلة على لائحة الجمعية الوطنية ، حيث قرر المجلس الدستوري عدم دستورية بعض نصوصها ودستورية باقي النصوص بشرط مراعاة التفسيرات التي اوضحها المجلس الدستوري ومنها عدم المساس بحق التصويت الشخصي لاعضاء البرلمان . ثم انتقلت تلك النوعية من القرارات ، بعد ذلك للرقابة على دستورية التشريعات البرلمانية منذ قرار المجلس الدستوري رقم “35 – 68” الصادر في 30 يناير 1968 ، ثم توالت قرارات المجلس الدستوري في نفس الاتجاه .
انظر د. شعبان أحمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص ص438-443
13- انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص238
14- انظر د. منير عبد المجيد ، أصول الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، 2001 ، ص11
15-Dorchy v. Kansas ، 264 U.S. 286 (1924)
نقلاً عن د. أحمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري ، مرجع سابق ، ص226
16- انظر د. يسري محمد العصار ، التصدي في القضاء الدستوري ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1999 ، ص ص37 – 38
17- القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية ” دستورية ” ، جلسة 2 يناير سنة 1993 ، مجموعة احكام م.د.ع ، الجزء الخامس، المجلد الثاني ، ص ص135 – 136
18- انظر د. رفعت عيد سيد ، الوجيز في الدعوى الدستورية ، مرجع سابق ، ص130 ، و د. أمين عاطف صليبا، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون ، مرجع سابق ، ص276
19- انظر د. احمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص301
20- انظر د. صبري محمد السنوسي محمد ، آثار الحكم بعدم الدستورية (دراسة مقارنة ) ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2000 ، ص ص99 – 100
21- انظر د. احمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص349
22- انظر د. إبراهيم حسنين ، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في الفقه والقضاء ، دار الكتب القانونية ، القاهرة ، 2003 ، ص459
23- د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص279
24- حكم المحكمة الدستورية الإيطالية رقم 15 لسنة 1969 ، نقلاً عن د. أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص281
25-Conseil Constitutionnel 83 – 167 D.C.،19 Jan v. 1984 ، RJC-I، P.177
نقلاً عن د. شعبان أحمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص 450
26- انظر د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص 282.