بناء وصياغة الأحكام والقرارات القضائية

تمهيد: إن بناء وصياغة الأحكام والقرارات القضائية لا يخضع لقالب واحد وصورة واحدة، بل هو يختلف من تخصص إلى آخر، ومن درجة إلى أخرى، فالحكم المدني ليس كالحكم الجنائي، والحكم الصادر في الاستئناف غير الحكم الصادر في الدرجة الأولى، والحكم الصادر في قسم من أقسام المحكمة أو غرفة من غرف المجلس أو غرف المحكمة العليا يختلف عن الحكم الصادر عن قسم آخر أو غرفة أخرى، وكذلك فقرارات المحكمة العليا ليست كقرارات مجلس الدولة مثلا، وهذا على اعتبار أن بناء الأحكام يخضع لعديد الاعتبارات، منها كيفية تشكيل المحكمة، وما يقرره القانون بالنسبة للإجراءات أمامها، وطرق الإثبات المقبولة، ونوع البيانات المطلوبة في الحكم، والتسبيب المطلوب للحكم، وغير ذلك من الاعتبارات التي يحددها القانون ويتوجب أن يشتمل عليها الحكم، وعموما إن فهم بناء وصياغة الأحكام والقرارات القضائية يتطلب بالإضافة إلى الإلمام بالإجراءات معرفة بعض الكلمات المفتاحية والاصطلاحية في ميدان الأحكام والقرارات القضائية نتطرق إلى بعضها في هذا الدرس.

ومن أجل ألا نتيه في الدراسة لا بأس أن نختار نوعا واحدا من أنواع الأحكام والقرارات القضائية وندرس ما يتعلق به من قواعد مختلفة، ولنأخذ على سبيل المثال: الأحكام الجنائية الصادرة بالإدانة سواء من محاكم الجنح والمخالفات (خاصة من حيث التسبيب) أومن محاكم الجنايات.

فالحكم الجنائي عموما ليكون سليما يجب توافر شروط معنية تتعلق بتشكيل المحكمة وبصدور الحكم بعد مداولة قانونية، وكذا النطق بالحكم ومشتملاته وكيفية بنائه على أساس إجراءات صحيحة.

1-تشكيل المحكمة:

يتعين أن يصدر الحكم من محكمة اكتملت عناصر تشكيلها، وإلا كان الحكم باطلا لتعلقه بالنظام العام، ويصدر الحكم من القضاة الذين حضروا جميع الجلسات وإلا كان باطلا بنص المادة 341 من ق.إ.ج، إذ يتعين على القاضي الذي يفصل في الدعوى أن يكون قد باشر جميع إجراءاتها تطبيقا لمبدأ شفوية المرافعات، غير أن عدم حضور أحد القضاة لا يحول دون اشتراكه في إصدار الحكم في حالة عدم حدوث مرافعات أو إجراءات التحقيق، كأن تقتصر الجلسة على التأجيل مثلا، وكذا في حالة ندب أحد القضاة لإجراء تحقيق تكميلي أو صدور حكم تمهيدي أو تحضيري فيها، و تنص المادة 341 ق.إ.ج على أنه في حالة حدوث طارئ ما منع حضور أحد القضاة الذين سمعوا المرافعة لسبب ما سواء كان النقل أو الوفاة أو التقاعد، يتعين إعادة المرافعة في الدعوى من جديد، إذ لا يجيز القانون للقاضي الذي لم يستمع إلى المرافعة أن يفصل في الدعوى، في حين أن تغيير ممثل النيابة العامة لا يؤثر في سلامة الحكم من الناحية الإجرائية عند حضور من يؤدي وظيفته والأمر نفسه يسري أيضا على كاتب الجلسة.

2-المداولات:

بعد أن تنتهي إجراءات المحاكمة وتنتهي المرافعات تصدر المحكمة قرارها بإقفال باب المرافعات وافتتاح المداولات، وفيها ينسحب القضاة إلى غرفة المداولات أو المشورة ليتباحثوا فيها بينهم ويتذاكروا بشأن ثبوت وقائع الدعوى أو انتفائها، ويدققوا في قرار الاتهام ويناقشوا الطلبات والدفوع وكذا مواد القانون الواجبة التطبيق، لينتهوا إلى الحكم في الدعوى بحسب اقتناعهم، وتجري المداولة بواسطة القضاة الذين باشروا جميع إجراءات الدعوى وسمعوا المرافعة فيها وذلك بشكل سري لا يطلع عليه الجمهور، ولا يحضر المداولة ممثل النيابة أو دفاع الخصوم أو كاتب الجلسة أو أي شخص آخر لكانت أو لم تكن له صفة في الدعوى، لأن إهدار هذه السرية يبطل الحكم، فمن أقدس واجبات القضاء المحافظة على سرية المداولات، وتصدر الأحكام بأغلبية الآراء خلال المداولات إذ تنص المادة 309 من ق.إ.ج على أن: “يتداول أعضاء محكمة الجنايات بعد ذلك بأخذ الأصوات في أوراق تصويت سرية وبواسطة اقتراع على حدة عن سؤال من الأسئلة الموضوعية، وعن الظروف المخففة التي يلتزم الرئيس بطرحها عندما تكون قد تثبت إدانة المتهم، ويعد في صالح المتهم أوراق التصويت البيضاء أو تقرر أغلبية الأعضاء بطلانها، وتصدر جميع الأحكام بالأغلبية، وفي حالة الإجابة بالإيجاب على سؤال إدانة المتهم تتداول محكمة الجنايات في تطبيق العقوبة، وبعد ذلك تؤخذ الأصوات بواسطة أوراق تصويت سرية بالأغلبية المطلقة، وإذا ما أصدرت محكمة الجنايات الحكم بعقوبة جنحة فلها أن تأمر بوقف تنفيذ هذه العقوبة.”

وقد أبطلت المحكمة العليا الأحكام التي لا تلتزم هذه الإجراءات، وارتأت أنها تستوجب النقض متى جاءت خلافا لما سنه المشرع بخصوص المداولات كما لا بد أن ينص الحكم على أنه صدر بالإجماع بناء على رأي الأغلبية.

3-النطق بالحكم:

يعد النطق بالحكم آخر إجراءات التحقيق النهائي الذي تجريه المحكمة، إذ لا يصدر الحكم الجنائي إلا بالنطق به، ويقصد بذلك تلاوة منطوقه شفويا من قبل رئيس الجلسة أو من ينوبه من مسودة الحكم الموقعة من طرف هيئة المداولة، إذ لا تكون نسخة الحكم الأصلية قد كتبت بعد، والأصل أن يحضر القضاة الذين نظروا في الدعوى وتداولوا في الحكم سيما وأنه يجوز لكل قاض أن يعدل عن رأيه ويطلب إعادة المناقشة في أية لحظة قبل النطق بالحكم وإعلانه، كما يجوز أن يغيب بعض القضاة ممن حضر المداولة أو أن تتلو هيئة محكمة أخرى منطوق الحكم، ما دام الثابت أن الحكم قد صدر من القضاة الذين سمعوا المرافعة، و ذلك من خلال توقيعهم على مسودة الحكم، ويشتمل النطق بالحكم على تلاوة منطوقه و أسبابه مع بيان ثوابت الفعل الإجرامي الذي يقرر إدانة المتهم و مسؤوليته عنه، إلى جانب ذكر العقوبة و النص القانوني المطبق والحكم في الدعوى المدنية، وتكون الأسباب أساس الحكم بنص المادة 379 ق.إ.ج، ويتم النطق بالحكم سواء أكان بالبراءة أم بالإدانة في جلسة علنية وبحضور المتهم حسب ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 309 ق.إ.ج، وذلك حتى لو نظرت الدعوى في جلسة سرية، وإلا كان الحكم باطلا بنص المادة 314 من ق.إ.ج بالنسبة لمحكمة الجنايات، كما يصدر الحكم في الجلسة التي سمعت فيها المرافعة، أو في جلسة تالية إذا لم يحدد القانون أجلا للنطق به، ويدون الحكم بمحضر الجلسة و يوقع عليه رئيس المحكمة و كاتب الجلسة.

4-تحرير الحكم:

لا يكتمل صدور الحكم بمجرد النطق به بل يجب تدوينه واشتماله على بيانات معينة استلزمها القانون لصحة الحكم، وتتمثل في البيانات الواردة خاصة في المادة 314 من ق.إ.ج بوجه خاص، وذلك بمراعاة الإجراءات الشكلية المقررة قانونا، وهذا ما سنوضحه فيما يلي:

4-1-تدوين الحكم:

عند النطق بالحكم في الجلسة العلنية يثبت في محضر الجلسة، وتحرر ذلك نسخة الحكم الأصلية، وهي محرر رسمي لا يدحض ما جاء فيه بطريق الطعن بالتزوير، ويدون كاتب الجلسة الحكم طبقا لما جاء بمحضر الجلسة ومسودة الحكم التي يحررها رئيس المحكمة أو أحد قضاتها، ويوقع الرئيس وكاتب الجلسة عليها، ولكنها ليست سوى ورقة تحضيرية فالعبرة في الأحكام بالنسخة الأصلية، ويقع الحكم تحت طائلة البطلان إذا لم يوقعه الرئيس، في حين أن إهمال الكاتب في التوقيع لا يترتب عليه بطلان الحكم إذ يستمد هذا الأخير قوامه القانوني بمجرد توقيع رئيس المحكمة على نسخة الحكم الأصلية، وذلك قصد تنظيم العمل القضائي و توحيده قبل التوقيع، وإلا كان الحكم باطلا باعتبار نسخة الحكم محررا رسميا يتعين صدوره بتوقيع موظف مختص، وبعد التوقيع على النسخة تودع لدى قلم كتاب المحكمة خلال 3 أيام على الأكثر من تاريخ النطق بالحكم، و ينوه ع هذا الإيداع بالسجل المخصص لذلك بنص الفقرة الثانية من المادة 380 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، وبذلك يمكن لأطراف النزاع الحصول على صور من الحكم لاستعمالها في التنفيذ أو الاحتجاج أو كملخصات تستخدم في صحيفة السوابق العدلية.

4-2-مشتملات الحكم:

أوجب المشرع لصحة الحكم اشتماله على بيانات معينة تتمثل فيما يلي:

4-2-1-ديباجة الحكم:

وهي رأس الحكم وتأتي في مقدمته تشمل النص على صدور الحكم باسم الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وباسم الشعب الجزائري، كما يتضمن اسم المحكمة المصدرة للحكم، وذلك لتحديد اختصاصها المكاني والنوعي وسلامة تشكيلها، لذا فإن إغفاله يبطل الحكم لأنه يؤدى إلى الجهالة مما يؤثر سلبيا على سلامة الحكم، كما تحتوى الديباجة-بالعودة إلى المادتين 375 و 380 من ق.إ.ج على اسم ممثل النيابة لبيان حضورها وتاريخ صدور الحكم، وأسماء القضاة الذين أصدروه وحضروا جلساته إلى جانب كاتب الجلسة، واسم المترجم عند الاقتضاء، وهوية أطراف الخصومة وبيان حضورهم أو غيابهم يوم النطق بالحكم، وإغفال أحد هذه البيانات يجعل الحكم باطلا، كما تتضمن الديباجة كيفية إحالة لدعوى إلى المحكمة ونص الأحكام وعلنية الحكم وأداء الشهود لليمين وطلبات النيابة وكلمة المتهم كآخر من يتكلم، وهي البيانات التي تجعل الحكم بالإدانة دالا بذاته على سلامته.

4-2-2-أسباب الحكم:

تعد أسباب الحكم إحدى البيانات الجوهرية التي تتطلبها النصوص القانونية ضمانا لجديتها في البحث عن الحقيقة وبعث الثقة في سلامتها، ويكاد الفقه يجمع على أن أسباب الحكم تعبر عن الأدلة والحجج للواقعة والأسانيد القانونية والمقدمات المنطقية التي تصل إلى النتيجة التي خلص إليها الحكم من حيث إدانة المتهم أو براءته، لذا كانت المحاكم ملزمة ببيان الأسباب والأدلة التي اعتمدتها كمصدر لاقتناعها، وهو أمر جوهري سواء بالنسبة للأحكام الفاصلة في الموضوع أو السابقة على الفصل فيه، حيث يقف الخصوم على الأسباب التي دفعت القاضي إلى الأخذ بوجهة نظر دون أخرى ويوفر لهم ضمانة طبيعية، إذ يجعل ذلك القاضي مدفوعا تلقائيا إلى تمحيص رأيه لصياغة مقدمات تؤدى منطقيا إلى النتيجة التي يتبناها حكمه، ويمكن بذلك قضاء النقض من ممارسة رقابته على صحة تطبيق القانون على الوقائع مما يدعم الثقة في نزاهة القضاء، ناهيك عن أن التزام صياغة تلك الأسباب يتيح للمتهم تقبل الحكم سواء بإدانته أو ببراءته، ويعزز ثقته بعدالة ذلك الحكم والمرجع القضائي الذي أصدره، و تقر أيضا بذلك عين الضحية بغض النظر عن نتيجة الحكم، ولعل أكبر المستفيدين من الحكم المسبب والدقيق هو المجتمع، الذي تعتبر من أولوياته أن لا يدان برئ ولا يفلت مجرم من عقاب يستحقه.

وتقوم أسباب الحكم على نوعين: أسباب قانونية وأخرى موضوعية، ويقصد بالأسباب القانونية بيان أركان الواقعة وظروفها القانونية والنص القانوني المطبق عليها، أما الأسباب الموضوعية فيقصد بها تلك الأسباب أو الأدلة التي يبنى عليها الحكم كتعبير عن اقتناع القاضي إثباتا أو نفيا، من خلال بيانها بيانا كافيا ومنطقيا، وتتضمن أسباب الحكم جانبا آخر هو الرد على أوجه الدفاع الجوهرية التي أبديت أثناء نظر الدعوى، فإن كانت الأسباب القانونية والموضوعية تمثل الحجج الايجابية للحكم فإن الرد على الدفوع يكون بمثابة رد مسبق ودفع للنقد المحتمل للحكم ، خصوصا وأن عدم تحرير الأسباب يضع الحكم تحت طائلة البطلان، و دراسة أسباب الحكم تقتضي دراسة التسبيب كمبدأ قانوني، وبالتالي أيضا عناصره كبيان الواقعة المستوجبة للتجريم والمادة القانونية المنطبقة عليها، إذ من الصعب التطرق إلى الأدلة القانونية دون عرض أركان الواقعة وظروفها وأدلة إسنادها للمتهم ومسؤوليته عنها، وهذا ما سندرسه بالتفصيل فيما بعد.

4-2-2-1-شروط صحة أسباب الحكم:

حتى تكون أسباب الحكم صحيحة ينبغي أن تتوافر فيها الشروط التالية:

4-2-2-1-1 من حيث طبيعة الحكم بالإدانة:

يتعين على المحكمة أن تبين الواقعة المستوجبة للعقوبة والعناصر القانونية للجريمة المستخلصة منها، وأي ظروف أخرى يعتد بها المشرع في تقدير العقوبة من حيث تشديدها أو تخفيفها، إذ تكون الأسباب قاصرة إذا اكتفت بمجرد الإشارة إلى الأدلة دون سردها وبيان مضمونها، ولكن لا يعد الحكم معيبا إذا أغفل فيها ذكر الباعث على ارتكاب الجريمة باعتباره خارجا عن ظروف الجريمة وعناصرها.

أما في حالة الحكم بالبراءة فيكفي أن تبين المحكمة العناصر والأدلة التي بنت قناعتها ببراءة المتهم من الجريمة المنسوبة إليه، لأن إغفالها التحدث عن أدلة الاتهام لا يؤثر في الحكم ما دامت لم تر فيها ما تطمئن معه إلى إدانة المتهم.

4-2-2-1-2 من حيث كفاية الأسباب:

إذ يجب أن تكون الأسباب شاملة وافية متضمنة الرد على كل طلب أو دفع جوهري منتج في الدعوى من شأنه تغيير وجهة نظر المحكمة قبل إقفال باب المرافعة متى كان هذا الطلب أو الدفع جازما وصريحا، فإن لم يكن كذلك فالمحكمة غير ملزمة بالرد على كل شبهة يثيرها الدفاع طالما أن الرد يستقى ضمنيا من عدم أخذها بهذا الدفاع وطرحها له.

4-2-2-1-3 من حيث وضوح الأسباب:

إذ يجب أن تكون أسباب الحكم-سواء بالبراءة أو بالإدانة-واضحة جلية لا يكتنفها أي غموض أو إبهام، وألا يشوبها أي تناقض وأن تكون متناسبة ومتماشية مع ما توصل إليه رأي المحكمة وما جاء في منطوق الحكم.

4-2-2-1-4 من حيث إجراءات الحكم:

استقر الفقه والقضاء على قاعدة مفادها أن كل حكم ينطوي في حد ذاته على عناصر صحته ومطابقته للقانون، إذ يجب أن يبنى الحكم على إجراءات صحيحة، فإن أغفل النص على إجراء معين يدل على عدم حدوثه، ولا يجوز إثبات العكس بأي طريق آخر كشهادة قلم كتاب المحكمة، في حين أن كل إجراء شكلي أثبته الحكم نفترض صحته ولا يجوز لأي من الخصوم إثبات عكسه، وقد تبنى المشرع الجزائري شأن المشرع الفرنسي ذلك بالنسبة لأحكام محكمة الجنايات إلا ما تعلق بتضمين في المحضر أو الحكم أو في إشهاد يفهم منه صراحة وجود نقص في استيفاء الإجراءات بنص المادة 315 من ق.إ.ج.

ونستخلص من ذلك إن الحكم يجب أن يبنى على الأدلة التي طرحت على المحكمة خلال الدعوى، ولذلك يعد الحكم معيبا مبنيا على أمور لا سند لها خلال التحقيقات وإجراءات المحاكمة.

4-2-3-منطوق الحكم:

ويعبر على ما قضت به المحكمة في الدعوى بعد مناقشة الطلبات المطروحة عليها، وهو الذي ينطق به في الجلسة ويتم به تعيين حقوق الخصوم في موضوع الدعوى، ويحوز المنطوق بمجرد صدوره حجته فيما قضى به مع جواز التظلم منه بطرق الطعن المختلفة، ويكتب المنطوق بعد الأسباب ويتضمن باعتباره الفاصل في موضوع الدعوى مدى مسؤولية المتهمين عن الجرائم المنسوبة إليهم من حيث الإدانة والعقوبة المسلطة عليهم أو البراءة، ففي حالة الحكم بالإدانة يجب أن ينص المنطوق على الأفعال المجرمة قانونا المنسوبة للمتهم والتي تقرر أدانته ومسؤوليته عنها، وينص أيضا على العقوبة المفروضة عليه ونصوص القانون المتناسبة مع الفعل والمطبقة عليه، وذلك إعمالا لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات وإغفال ذكر هذه النصوص يبطل الحكم، كما يتعين على المحكمة أن تفصل في كل الطلبات المقدمة إليها بالطرق القانونية حتى لو لم ينص المنطوق صراحة على قرار المحكمة بشأن الطلبات، فالتوضيح الضمني كاف، كما يجب أن يحدد المنطوق الحكم الذي يفصل في الدعوى المدنية كما تنص المادة 379 ق.إ.ج، وأن يكون مطابقا للحكم الذي نطق به القاضي في الجلسة وإلا كان باطلا لأن الأصل في نسخة الحكم الأصلية أنها تسجيل لما نطقت به المحكمة شفويا.

ويترتب على النطق بالحكم أن يكون هذا الأخير بمثابة قانون واقعي خاص بالدعوى ويعني ذلك أن الحكم يبرز لأطراف الدعوى القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على علاقاتهم، وكذا استنفاذ المحكمة سلطتها على الدعوى العمومية التي صدر بشأنها حكم فاصل في موضوع النزاع بالتالي خروجها من حوزة المحكمة، فلا يجوز لها الرجوع إليه أو العدول عنه أو تغييره.

ويترتب على هذا الأثر العام أثر خاص عندما يكون الحكم الجنائي صادرا بالإدانة لكونها ظاهرة قانونية خاصة، ذلك لأن الحكم بالبراءة مقرر لمركز قانوني سابق يعتمد على عدم قيام الدليل على وقوع الفعل أو نسبته إلى المتهم، مما يعنى أنه في حدود علم القاضي لم يكن المتهم خاضعا بسلوكه لسطوة القانون. وهذا الوضع سابق على الحكم، أما الحكم بالإدانة فيختلف من حيث أنه منشئ لمركز قانوني لا مقرر له، حيث أن جزءا منه مقرر لمركز سابق وجزء منشئ لمركز آخر، فما دام أن مسؤولية المتهم تنهض بارتكاب الفعل المسند إليه، فإن إصدار الحكم بالإدانة هو إثبات لوضع سابق على الحكم خلافا لما هو عليه الحال بالنسبة لفرض العقوبة، فتوقيع العقوبة بعد الحكم بالإدانة هو إنشاء لمركز جديد، فالمتهم قبل صدور الحكم كان شخصا مستحقا للعقاب إن صح إسناد الفعل الإجرامي إليه، أما بصدوره فقد أصبح خاضعا للعقاب بالفعل ،إلى جانب ذلك يترتب على النطق بالحكم التنفيذ الجبري متى صار الحكم باتا بالأحوال التي أشرنا إليها سابقا وإدراجه في صحيفة السوابق العدلية المحكوم عليه وأداء ما حكم به من مصاريف، بيد أنه استثناء على ذلك يجوز للمحكمة التي أصدرت الحكم أن تعود إلى نظر الدعوى في الأحوال التالية:

4-2-3-1-إذا كان الحكم غيابيا وعارض فيه المتهم، أو كان صادرا من محكمة الجنايات طبقا لإجراءات التخلف عن الحضور وحضور المتهم أو القبض عليه.

4-2-3-2-في حالة وجود خطأ مادي شرط ألا يتناول تصحيح هذا الخطأ أي تعديل للحكم أو المساس بحجيته ومثال ذلك: أن يخطئ الحكم في مقدار صافي الحساب أو أن يخطئ في اسم المتهم.

4-2-3-3-في حالة عدم تحرير الأسباب وعدم إيداعها في الميعاد القانوني مما يترتب عليه بطلان الحكم.

4-2-3-4-في حالة حاجة الحكم الصادر إلى تفسير وأن يؤدي ذلك إلى إحداث تعديل على الحكم.

4-2-3-5-في حالة وجود إشكال من إشكالات التنفيذ.

5-ضوابط تسبيب الحكم الجنائي الصادر بالإدانة:

إن كانت العدالة الجنائية الحديثة تقوم على القناعة التامة المؤكدة لقاضي الموضوع في الوصول إلى الحكم الذي يصدره سواء بالإدانة أو البراءة، ولكن إذا كان الحكم الجنائي يصدر عن قاض إنسان، فإنه بحكم بشريته معرض للخطأ في الوصول إليه، خاصة إذا كان هذا الخطأ ذا أثر خطير على حياة الأفراد وحرياتهم، فقد يترتب عليه فقدان الحق في الحياة أو سلب الحرية أو تلويث سمعة وشرف ضحية هذا الخطأ، لذا كان من مقتضيات العدالة أن تكون هناك وسيلة فعالة يستطيع القاضي من خلالها تبرير عدله البشري الوضعي، ويمكن عن طريقها أن تتحقق الرقابة على قضائه من الخصوم والرأي العام، و ذلك لا يتأتى إلا بتسبيب الحكم الجنائي.

5-1-ماهية التسبيب

إن الالتزام بالتسبيب يعد أداة اقتناع ووسيلة اطمئنان ولذلك وجب على القضاة الالتزام به، فالحكم دون بيان أسبابه هو والهوى سواء، فعن طريق الأسباب يتضح الاقتناع الذاتي للقاضي ويكون مبنيا على أسس موضوعية حقيقية ويقينية تبرر صدور حكمه في الواقع والقانون، مما يضمن حسن سير الجهاز القضائي ويدعم الثقة في القضاء.

والتسبيب في الفلسفة هو عبارة عن مقدمات تؤدي إلى نتائج محددة تترتب عليها، ولكي تأتي هذه النتائج صحيحة ومطابقة للواقع يجب أن تكون تلك المقدمات كذلك، فالأسباب الكاملة والسائغة هي الدعامة الأساسية التي تستند إليها النتيجة، وهي التي تربطها بالمقدمة بعلاقة منطقية، والتسبيب في المنطق أداة للتبرير ومن ثم الإقناع.

أما الرأي الغالب في الفقه الوضعي فيرى أن التسبيب هو بيان الأسباب الواقعية والقانونية التي قادت القاضي إلى الحكم الذي نطق به، وتكون تلك الأسباب متصلة بالواقع في مادياته، وكذا فيما يتعلق بوجود الواقعة من عدمه وكيفية إسنادها إلى القانون، إلى جانب خضوع الوقائع لقانون عن طريق التكييف القانوني الذي ينطبق عليها، أي إسقاط المعنى العام المجرد للقاعدة القانونية على العنصر الفردي للواقعة.

أما في التشريع فعلى عكس التشريع المصري الذي اكتفى بالنص على وجوب اشتمال الحكم على الأسباب التي بني عليها فإن التشريع الفرنسي جاء بنص عام ألزم بمقتضاه الجهاز القضائي بتسبيب الأحكام التي يصدرها دون وضع مفهوم محدد له، واقتصر على النص على وجوب بيان أسباب الأحكام الصادرة في المخالفات والجنح، وفرض جزاء البطلان على عدم التسبيب أو القصور فيه، وحذا التشريع الجزائري حذوه في ذلك، إذ ألزم القضاة بتسبيب أحكامهم وإيراد أسباب واضحة وكافية تكفل الغرض من إلزامية التسبيب.

والأسباب في لغة القضاء –فيما يتعلق بالأحكام – ترادف الحيثيات وهي مجموعة الأسانيد والمقدمات التي تؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها القاضي بمناسبة تناوله للخصومة، وتوصله إلى الحكم الفاصل فيها بما يتوافق والاقتناع الشخصي له، فهي إذن المسببات التي يستند إليها الحكم قبل نفاذه باعتبارها دعما ماديا ومعنويا له .وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض الفرنسية مقارنة بنظيرتها المصرية ترددت في مد رقابتها على تسبيب الأحكام الجنائية إلى الأسباب الواقعية، إذ بدأت رقابتها على وجوب وجود الأسباب، ثم توسعت في فرض رقابتها عن طريق تطبيقها لنظرية النقض في الأساس القانوني و قضت بأن هذا العيب يؤدي إلى عدم كفاية الأسباب الواقعية لتبرير الحكم مما يبطله ،كما قضت بوجوب بيان الوقائع التي عن طريقها توصل قاضي الموضوع إلى ثبوت الجريمة من عدمه، والأدلة التي تنسب الوقائع أو تنفيها عن المتهم.

فالتسبيب من ثمة هو عبارة عن بيان شكلي وموضوعي من القاضي الجنائي للأسباب الواقعية والقانونية التي عالج بها الطلبات وتصدى للدفوع الجوهرية والتي قادته إلى الحكم الذي اطمأن إليه، وما إذا كانت تلك الأسباب منطبقة إلى الحد الأمثل على قواعد العقل والمنطق، وصالحة لتكون مقدمات كافية للحكم سواء بالإدانة أو بالبراءة أو بالفصل في مسالة تمهيدية مؤثرة في موضوع الدعوى.

5-2-الأساس القانوني للتسبيب في التشريع الجزائري

إن تسبيب الأحكام ضمانة من ضمانات تحقيق العدالة، والأسباب تشمل وفق نص المادة 379 من ق.إ.ج الأداة القانونية والموضوعية والرد على أوجه الدفاع على أن تكون شاملة و مقنعة، وذلك ما نستقيه من نص المادة:» كل حكم يجب أن ينص على هوية الأطراف و حضورهم أو غيابهم في يوم النطق بالحكم ،و يجب أن يشتمل على أسباب ومنطوق، وتكون الأسباب أساس الحكم، ويبين المنطوق الجرائم التي تقرر الأشخاص المذكورين أو مسؤولياتهم أو مساءلتهم عنها كما تذكر به العقوبة ونصوص القانون المطبقة، والأحكام في الدعاوي المدنية، و يقوم الرئيس بتلاوة الحكم”. كما تنص المادة 144 من الدستور الجزائري على أنه :” تعلل الأحكام القضائية “، فتسبيب الحكم ضمانة أقرها الدستور حتى تتسنى المراقبة اللازمة للأحكام، وكذا كفالة حقوق المحكومين في محاكمة عادلة، لذلك فإن عدم ذكر الأسباب يترتب عنه النقض والإبطال على كل أمر أو حكم قضائي أوجب القانون تسبيبه وإلا كان عرضة للبطلان، ما عدا أحكام محكمة الجنايات التي لا يشترط القانون تسبيب أحكامها واكتفى بإلزامها بذكر البيانات الواردة بنص المادة 314 من ق.إ.ج بحيث تنص المادة على أنه: “يجب أن يثبت حكم محكمة الجنايات الذي يفصل في الدعوى العمومية مراعاة جميع الإجراءات الشكلية المقررة قانونا كما يجب أن يشتمل فضلا عن ذلك على ذكر ما يلي:

1-بيان الجهة القضائية التي أصدرت الحكم.

2-تاريخ النطق بالحكم.

3-أسماء الرئيس والقضاة المساعدين والمحلفين وممثل النيابة العامة وكاتب الجلسة والمترجم إن كان ثمة محل لذلك.

4-هوية وموطن المتهم أو محل إقامته

5-اسم المدافع عنه.

6-الوقائع موضوع الاتهام.

7-الأسئلة الموضوعة والأجوبة التي أعطيت عنها وفقا لأحكام المواد 305 وما يليها.

8-منح أو رفض الظروف المخففة.

9-العقوبات المحكوم بها ومواد القوانين المطبقة دون حاجة لإدراج النصوص نفسها.

10-إيقاف التنفيذ إن كان قد قضي به.

11-علنية الجلسات أو القرار الذي أمر بسريتها وتلاوة الرئيس للحكم علنا.

5-3-أهمية التسبيب في الأحكام الجنائية

من مقتضيات العدالة أن تكون هناك وسيلة فعالة يستطيع القاضي-بوصفه بشرا معرضا للخطأ في عدله البشري-أن يبرر الحكم الذي أصدره مما يبين سبل بناء قناعته الذاتية ويسمح بالرقابة على قضائه إزاء أطراف النزاع والرأي العام والمحكمة العليا، وذلك لا يتأتى إلا بالالتزام بالتسبيب، الذي لا ينبغي النظر إليه كمجرد شكل تستكمل به الورقة الرسمية للحكم الجنائي، إنما يجب أن تكون مقدمات القاضي فيه سائغة وكافية لحمل منطوق الحكم، إلى جانب كونه من القواعد الشكلية الإجرائية المتعلقة بحماية حق الدفاع والحريات الفردية، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأهمية لا تقف عند أطراف الخصومة بل تمتد إلى القضاة أنفسهم.

فبالنسبة للخصوم، يعتبر التسبيب وسيلة إقناع، حيث يكفل التسبيب إقناع الخصوم بصحة وعدالة الحكم الجنائي، إذ أن اطلاعهم على أسبابه يولد لديهم قناعة بصحته وعدالته، ويدفعهم للثقة بأن الحكم لم يكن وليد أهواء أو أغراض وإنما صدر بعد بحث واستنتاج وتمحيص للوقائع؛ كما أنه ثانيا حق طبيعي للخصوم، بوصفه أداة لتفعيل الحقوق الأخرى وضابطا يحمي الحقوق الفردية، ويدافع عن الحريات الشخصية، وانطلاقا من هذا الواقع، فإن هذا الحق يعد التزاما دستوريا بصيانة الحريات العامة، رغم أن الكثير من الدساتير لم تنص عليه لكونها رأت أن من صلب الدساتير حماية الحريات والحقوق الفردية، مما يشمل تلقائيا الالتزام بالتسبيب، ولربما جاز الجزم بأن ضمانة التسبيب تصدر من القانون الطبيعي إذا من قواعده الأساسية على رأي «مارك آنسل” أن من يحوز سلطة ما فلا بد من وجود وسيلة أخرى معها تضمن عدم استبداده وتعسفه أو جنوحه في استعمالها، وهذا دور التسبيب.

والتسبيب من جهة ثالثة تكريس لحق الدفاع، حيث يضمن التسبيب فعالية حق الخصوم في الدفاع، إذ يلتزم القاضي الجنائي بالرد على الطلبات الهامة والدفوع الجوهرية التي يثيرها الأطراف، فيوردها في حكمه بل ويبين أسباب الأخذ بها من عدمه بالرد الكافي والسائغ عليها، وإذ نقول ذلك فلأن من مظاهر هذا الحق تسبيب الأحكام الجنائية باعتباره وسيلة غير مباشرة لتحقيقه، كما أنه وسيلة لحماية الخصوم من أخطاء القضاة، إذ تعتبر وسيلة وقاية من جنوح أو سهو القاضي نفسه، فيما قد يتعرض له من ظروف صحية أو نفسية أو اجتماعية تؤثر على قضائه، وتكشف مدى منطقية رؤيته القضائية وكفاءته العلمية، فعن طريق الالتزام بالتسبيب تتكشف هذه الأخطاء، وتعالج بالوسائل القانونية المتاحة.

إن من جوهر التزام القاضي بتسبيب حكمه وإظهاره للطريقة التي يعالج بها الموضوع والكيفية التي استنبط بها حكمه وما دار في ذهنه، وكيف استقر رأيه على ذاك النحو، ولهذا يمكن رصد جانبين تتجلى فيهما أهمية التسبيب بالنسبة للقاضي، فهو من جهة وسيلة لتبرير الحكم وكشف لحجة القاضي و مدى ابتعاده عن شبهة التخاذل أو الاستبداد أو شوائب الفساد في الاستدلال، و يظهر ما إذا كان قد قام بواجبه في تدقيق البحث وإمعان النظر و تمحيص الوقائع و تقصي الحقائق بكل تجرد وحياد، فهو بمثابة التبرير الذي يضعه بين يدي أطراف الخصومة و المجتمع ككل ليرفع ما قد يدور بالأذهان من تشكيك و رمي بسوء تقدير الحكم، وهذا الالتزام يجعل القاضي أمينا على جوهر رسالة القضاء؛ ثم هو من جهة ثانية مدعاة لاجتهاد القاضي، فعلم القاضي المسبق بالتزامه بتسبيب الحكم يدفعه إلى التريث و التروي و الاجتهاد فلا يصدر حكمه إلا وقد ألم بشتات الموضوع، وتوصل إلى قناعة موضوعية تدعمها أسانيد وحجج قوية، لهذا يعد التسبيب بمثابة المنبه الذي يدعو القضاة إلى الاجتهاد في صياغة أسباب قوية، وتقدير الوقائع تقديرا صحيحا حتى ينزلها منزلة الاحترام، ويسلم من مظنة الاستبداد والتعسف وسوء التقدير، ليصبح الحكم وسيلة إقناع وليس مجرد ممارسة عملية للسلطة التي يتمتع بها القاضي.

5-4-وظائف التسبيب

إن التسبيب ضمانة من أهم الضمانات التي أرستها الحضارة القانونية، فضلا عن الوظيفة الوقائية الرقابية التي تشرح الحكم أمام كل من الخصوم ومحكمة الطعن وتمكن من فرض نوع من الرقابة على الحكم الذي يمثل النشاط الإجرائي لقاضي الموضوع، فإن له أيضا وظيفة تقويمية تطويرية تتجلى في كشف النقاب عن نقائص الأحكام المطبقة و توجيه المشرع إلى تفاديها بالتعديل أو الإلغاء، وما يقوم به من إثراء و تقوية الأحكام الجنائية وبالتالي في رسم السياسة الجنائية ككل، ويرتبط موضوع تسبيب الحكم الجنائي الصادر بالإدانة بفكرة العمل القضائي التي كان الفقه و ا يزال يجتهد في البحث عن معيار لها، فالقضاة عندما يسببون أحكامهم لا يجب أن يشيروا إلى الوقائع والنصوص و الأدلة والدفوع والطلبات فحسب ،لأن الحكم الجنائي ذو تأثير أبعد من أن يكون مجرد إجراء شكلي، فهو أيضا حدث واقعي و حاسم على الأفراد خصوصا إذا تعلق الأمر بالإدانة، مما يجعل مسألة التسبيب في حد ذاتها هي بالدرجة الأولى مسألة منطق، وبالتالي فإن وظيفة التسبيب لا تقف عند رقابة الخصوم على الحكم الجنائي الذي أصدره قضاة الموضوع سواء ضدهم أم في صالحهم و إنما يؤدي وظيفة أخرى ذات أهمية بالغة تتمثل في كونه وسيلة لمحكمة الطعن لفرض رقابتها على الحكم الجنائي، فتستطيع تقدير قيمة هذا الحكم، و الفصل في الطعن يعتمد على مناقشة هذه الأسباب في ضوء تفنيد الطعن لها.

وإذا كان التسبيب يلعب هذا الدور الهام في كفالته لمحاكم الطعن من فرض رقابتها على الأحكام الصادرة من قضاة الموضوع، فهل يعني هذا أن هناك ارتباطا وثيقا بين الالتزام بالتسبيب ونظام الطعن عموما في المواد الجنائية؟ نعم، بما أن التسبيب ضمانة قانونية وقاعدة من قواعد النظام العام تلتزم بها المحاكم على اختلاف درجتها ولا تتوقف هذه القاعدة على جواز الطعن في الأحكام التي تصدرها من عدمه، فإن الأحكام التي تصدر في المواد الجنائية تكون واجبة التسبيب سواء كانت مما يجوز الطعن فيه أم لا، والالتزام بالتسبيب أصلا لا يوجب الأخذ بنظام الطعن بالنقض، ودليل ذلك أن تسبيب الحكم تقرر في كثير من الدول قبل أن تعرف نظام الطعن بالنقض، فالدول ذات النظام القانوني الأنجلوسكسوني تعرف نظام التسبيب على الرغم من أنها لا تعرف الطعن بالنقض بصورته المطبقة في الدول ذات النظام اللاتيني، فنظام الطعن في الأحكام لا يستطيع أن يقوم بوظيفته الرقابية إلا إذا كان لهذه الأحكام أسباب واضحة تمكنه من استعمال هذه القناة، كما يجب أن تكشف هذه الأسباب عن مضمون الاقتناع الموضوعي للمحكمة، والذي انتهى بها إلى الحكم الذي أصدرته، إذ يكفل التسبيب لمحكمة الاستئناف مراقبة الأحكام الصادرة من محاكم أول درجة في الواقع و القانون عن طريق بيان أسبابها تستطيع محكمة الاستئناف تقدير ثبوت التهمة والأدلة، وأوجه الدفاع المقدمة من شأنها تدارك عيوب الأحكام الابتدائية، ومراقبة صحتها من حيث صحة استخلاص الواقعة وعناصرها القانونية ومدى صحة إثباتها وكيفية رد الطلبات والدفوع الجوهرية، وسلامة التكييف القانوني والنص المطبق والحكم الصادر والنشاط الإجرائي للقضاة، وإذا لزم الأمر فإنها تلتزم بتحرير أسباب جديدة تكون خالية من العيوب التي تقتضي نقض الأحكام.

وتزداد أهمية التسبيب بالنسبة للطعن بالنقض ذلك أنها تحاكم الحكم المطعون فيه، ولا تقوم بوظيفة الرقابة على الحكم إلا من خلال رقابتها على الأسباب العادية، فالأخذ بنظام النقض يفترض بداهة الالتزام بالتسبيب، ولولا هذا الأخير لأصبح الطعن مجرد حق شكلي ليس له مضمون، ولعجز الخصوم عن كشف مثالب الحكم التي تكون أساسا لطعونهم.

وما يزيد من أهمية التسبيب بالنسبة لمحكمة النقض أن الطعن لعيوب في التسبيب أو قصور فيه هو أكثر أوجه الطعن بالنقض شيوعا، فالمقصود الرئيسي للشارع من إرساء ضمانة التسبيب هو تمكين محكمة النقض من الأخذ بحقها في مراقبة تطبيق القانون، وذلك لا يتأتى إلا إذا كانت الأحكام مشتملة على أسباب واضحة وكافية، كما أن علم القاضي المسبق بالرقابة المفروضة على المنهج القضائي الذي سلكه في استخلاص النتائج تدفعه إلى تسبيب حكمه بالشكل الكافي، ولذلك فإن اطلاع المحكمة على الأسباب يمكنها من تكوين رأي إما بقبول الطعن أو رفضه مما يساهم في التقليل من عدد الطعون بنسبة كبيرة، و إذا كان تسبيب الأحكام الجنائية التي يصدرها قضاة الموضوع هو قناة رقابية لمحكمة النقض عليها، فإن الأسباب التي تسطرها محكمة النقض للأحكام الصادرة منها سواء بالقبول أو بالرفض تؤدي وظيفة هامة فعن طريق هذه الأسباب تتحقق وحدة القانون من خلال تطبيقه التطبيق الصحيح، إذ تتمتع المبادئ القانونية التي تضعها محكمة النقض بقوة أدبية كبيرة لدى المحاكم الأدنى درجة بل تعد بمثابة نموذج يحتذى به في العمل القضائي اليومي مما يساهم في رسم السياسة الجنائية الحديثة، و يحقق فعالية القانون الجنائي ومتابعة تطوره المستمر وضمان مسايرته للمصلحة التي يحميها.

5-5-صياغة تسبيب الحكم بالإدانة

إن الحكم الجنائي الصادر بالإدانة خطوة قانونية ذات أثر خطير على حياة الأفراد وحرياتهم الشخصية، لما فيها من هدم لقرينة البراءة التي تقضي بأن الأصل في الإنسان البراءة، لذا فقد خصها المشرع بقواعد شكلية معينة، بحيث تضمن صحتها في الواقع والقانون، وصياغة هذا الحكم تقتضي أربعة عناصر أساسية:

5-5-1-بيان الواقعة وظروفها

يؤدي بيان الواقعة دورا كبيرا في الحكم بالإدانة، فهو الكاشف عن الجريمة التي تخضع للقانون، وهو الأداة التي تتمكن محكمة النقض عن طريقها من مراقبة صحة التكييف القانوني للفعل المسند للمتهم، ويتصل بيان الواقعة بمبدأ الشرعية، فعن طريقه يمكن التحقق من الجريمة التي انتهى القاضي لإثباتها، وكذا التأكد من أن لها عقوبة يقررها القانون، ونستنتج من ذلك أن البيانات الموضوعية للواقعة تتمثل في

5-5-1-1-بيان عناصر الفعل المادي للجريمة:

5-5-1-1-1-بيان الفعل المادي: فالواقعة تبعا لتكييفها القانوني قد تتكون من فعل ايجابي أو فعل سلبي، لذا يجب أن يبين الحكم ماهية الأفعال التي صدرت عن المتهم مثل: فعل الاختلاس في السرقة، أو إزهاق روح في القتل العمد، أو فعل الجرح أو الضرب أو تغيير الحقيقة في التزوير، والخطأ في هذا البيان أو قصوره يستوجب نقض الحكم لأنه يحول دون تمكين محكمة النقض من بسط رقابتها تجاه محكمة الموضوع في شأن توافر الركن الذي يتطلبه القانون بشرط توافر مصلحة الطاعن فيما يرى في الحكم من خطأ أو قصور.

5-5-1-1-2-بيان النتيجة الإجرامية في بعض الجرائم: يوجد شكلان للنتيجة: الضرر والخطر، وكل نص قانوني يوجد لحماية مصلحة معينة، والسلوك المكون للجريمة هو الفعل الذي يؤدى إلى المساس بهذه المصلحة ليكون الضرر محققا كأثر للفعل الإجرامي، وإذا كانت الجريمة بطبيعتها تتطلب نتيجة معينة بذاتها وجب بيان توافرها كالوفاة في القتل العمدي وكذا جريمة الضرب المفضي إلى الوفاة، والعاهة المستديمة أو المرض أو العجز في جريمة الضرب.

5-5-1-1-3- بيان علاقة السببية بين الفعل والنتيجة: يجب أن يبين الحكم علاقة السببية التي تربط الفعل المادي والنتيجة وهي علاقة عادة ما تبرزها الوقائع وكيفية سردها وتسلسلها، ولكونها علاقة موضوعية مستقلة عن الفعل المادي وجب على الحكم بالإدانة أن يبرز توافرها ضمن أسباب الحكم وإلا كان معيبا، وإذا كان ذلك يخضع لتقدير محكمة الموضوع إلا أن القول بأن سببا ما يصلح في نظر القانون لأن يحدث النتيجة أو لا يحدثها يعد مسألة قانونية، وهو ما يخضع للرقابة من طرف محكمة النقض، لذا فإن محكمة الموضوع مطالبة ببيان علاقة السببية في حكمها وأيضا بالرد الكافي على الدفع بانتفائها في عبارات واضحة ضمنيا أو صراحة.

5-5-1-1-4- بيان الواقعة في حالة الشروع: إن الشروع في ارتكاب الجريمة فعل يعاقب عليه القانون إذا ارتكب الجاني أعمالا تؤدي مباشرة إلى وقوع الفعل المجرم، ولو لم تكن هذه الأعمال مكونة للجريمة نفسها، وأن ينصرف قصده إلى تنفيذها بصورة تامة، وأن لا تتم الجريمة التي قصد ارتكابها لأسباب خارجة عن إرادته، والتفرقة بين الأعمال المعتبرة شروعا معاقبا عليه و بين الأعمال التي لا تعد كذلك هو مسألة قانونية تخضع إلى تفسير النصوص وتطبيقها، و يتحقق بيان الواقعة في حالة الشروع في بيان فعل البدء في التنفيذ ثم بيان الظروف الخارجية التي حالت دون اكتمال الجريمة لأن إرادته الآثمة تستوجب العقاب.

5-5-1-1-5- بيان الواقعة في حالة المساهمة الجنائية: إن العقاب في حالة المساهمة الجنائية يستلزم تحقق الفعل الأصلي، ومن ثم وجب بيان واقعة هذا الفعل إضافة إلى الوقائع التي تتكون منها عناصر المساهمة سواء كانت اتفاقا أو تحريضا أو مساعدة، لهذا وجب أن يبين الحكم الأفعال التي يتكون منها الاشتراك في الأعمال المحضرة أو المتممة للجريمة إلى جانب نية الاشتراك في هذا الفعل، لأن إغفال هذا البيان في تلك الحالة يضع الحكم تحت طائلة البطلان، كما يجب استظهار صفة المحكوم عليه فاعلا أصليا أو شريكا، فإن توقف الفعل على الاشتراك وجب ذكر ما يفيد ذلك من مظاهر مستخلصة من ظروف الدعوى و ملابساتها وما يساعد على الاعتقاد بوجودها، مما يمنح محكمة النقض الرقابة الكافية على لحكم لان قصور هذا البيان يترتب عليه النقض.

5-5-1-2-بيان الركن المعنوي في حكم الإدانة:

للركن المعنوي أهمية بالغة في النظرية العامة للجريمة، إذ يعتبر وسيلة المشرع في تحديد مسؤولية المتهم عن الجريمة ثم عقابه عنها، فالعدالة تقتضي أن لا يدان شخص ليس بنفسه نزعة إجرامية تحتاج إلى الردع و الإصلاح، لذلك فإن السائد في التشريعات الحديثة أن المسؤولية الجنائية تتطلب قيام عنصرين هما: الفعل الضار بمصلحة يحميها القانون، إلى جانب الإرادة الآثمة وهي تمثل في مجملها الركن المعنوي للجريمة، إذ لا يكفي لتوقيع العقوبة مجرد ارتكاب الفعل الذي يقوم عليه الركن المادي للجريمة كما هي موصوفة في القانون ، بل يجب أن يكون الفعل صادرا من إنسان عاقل متمتع بالأهلية الجنائية، وتتوفر لديه نية مؤكدة في ارتكاب الجريمة عن طريق تعمد إتيان هذا السلوك، وهذا ما يسمى القصد الجنائي الذي يأخذ صورا عدة:

– إن اتجه الفاعل إلى إحداث النتيجة بنية مؤكدة مع ترجيحه أو علمه باحتمال وقوع نتيجة إجرامية، هنا يكون القصد الجنائي احتماليا.

– ألا تكون هناك إرادة متجهة إلى أي نتيجة إجرامية أساسا، مع توقع حدوثها فيكون هنا الركن المعنوي متخذا صورة الخطأ غير العمدي مع التبصر.

– ألا تكون أية إرادة متجهة إلى أي نتيجة إجرامية مع توقع حدوثها ومع عدم الرضا بذلك واتخاذ احتياطات تقديرية خاطئة تؤدي إلى حدوث النتيجة رغما عن الفاعل، فهنا يتخذ القصد الجنائي صورة الخطأ غير العمدي بدون تبصر.

وقوام القصد الجنائي العام هو العلم المفترض بالقانون والعلم بماهية الوقائع، وهو ما يستفاد عادة من مجرد التدليل على نسبتها للمتهم، أي إقامة الدليل على إسنادها إليه، و يحتاج القصد العام إلى عناية خاصة لإثباتها في القليل من الجرائم، و منها العلم بتزوير المحرر في جريمة استعمال المزور، و العلم بمصدر الأشياء المخفاة في جريمة إخفاء أشياء محصلة من جناية أو جنحة؛ أما القصد الخاص فلا مجال لافتراضه لذا يتطلب عناية و جهدا خاصين في الحكم بالإدانة، لذلك يجب أن يلتزم قاضي الموضوع ببيان ذلك في الحكم الذي يصدره في الجرائم التي تتطلب لتحققها قصدا جنائيا خاصا، و هو مطالب بكشف النقاب عن وقائعها و إثبات توافرها من عدمه ومثال ذلك: استظهار القصد الخاص في جرائم القتل العمدي أي توافر نية إزهاق الروح أو جريمة التزوير بتوافر نية استعمال المزور، فإذا شاب الحكم قصور في بيان ذلك فإنه ينقض للقصور في تسبيب الحكم.

5-5-1-1-3-بيانات أخرى جوهرية في الحكم بالإدانة:

يحتاج تسبيب الحكم الجنائي الصادر بالإدانة إلى عناية خاصة، إذ يجب أن يتضمن الحكم بيانا كافيا عن الواقعة المسندة للمتهم فضلا عن بيانات أخرى تعتبر جوهرية فيه، وتتمثل في البيانات التالية:

5-5-1-1-3-1-بيان محل ارتكاب الجريمة: يكون بيان محل الجريمة جوهريا في الحكم بالإدانة إذا كان لهذا المحل أثر في العقوبة في الجرائم التي لا تتكامل أركانها إلا إذا ارتكبت في محل معين ومثال ذلك: جرائم الفعل المخل بالحياء، والفعل الفاضح علنا و كذا جرائم السب و القذف، إذ اعتبرت محكمة النقض الفرنسية بيان محل وقوع الجريمة جوهريا في هذه الجرائم السالفة الذكر، فقد نقضت أحد الأحكام الذي صدر في جريمة سب و قذف لموظف عام أثناء تأدية مهامه، و ذلك لأن الحكم خلا من بيان تحقق محل ذلك، كما قد يؤثر محل الجريمة في الفصل فيه كظرف مشدد للعقوبة، مما يستوجب بيانه في الحكم.

5-5-1-1-3-2-إن بيان تاريخ الوقائع يكون جوهريا من حيث أهميته في موضوع الواقعة والإجراءات المحيطة بها، إذ يكتسي أهمية خاصة في جرائم الاعتياد والنظر إلى الفترة بين كل واقعة وأخرى لتطبيق أحكام العود كظرف مشدد للجريمة وتفعيل رقابة النقض في شأن هذه الأحكام، أما من الناحية الإجرائية فإن بيان تاريخ الواقعة ذو أهمية في قبول الدعوى في بعض الجرائم التي تتطلب رفع الدعوى خلال فترة زمنية من تاريخ وقوعها.

5-5-1-1-3-3-ويكون بيان زمن وقوع الجريمة جوهريا إذا كان القانون يرتب عليه أثر قانونيا، ويكون النقض في هذا البيان أو إغفاله مؤديا إلى قصور الحكم في البيان بما يبطله، فقد تكون الجريمة مكيفة كجنحة إذا وقعت في النهار، وجناية إذا وقعت ليلا، ثبت دفع المتهم بوقوع الجريمة نهارا وجبت العناية بالرد على هذا الدفع وإلا كان الحكم باطلا لإخلاله بحقوق الدفاع، فالليل يعتبر ظرفا مشددا كما هو الأمر في جريمة السرقة.

5-5-1-1-3-4-إن الشروط المفترضة-شأنها شأن الأركان القانونية لقيام الجريمة-واجبة البيان عندما تشكل مقدمة لقيام الفعل، وعدم بيانها يعد قصورا ويترتب عليه البطلان، فالشرط المفترض هو مركز قانوني تحميه قاعدة قانونية، فالعقاب على جريمة إصدار شيك بدون رصيد يستلزم إثبات توافر شيك وفقا لمفهومه في القانون، وتتحقق الشروط المفترضة أيضا في وقائع جنائية كجريمة إخفاء أشياء مسروقة فهي تتطلب أن تكون هذه الأشياء متحصله من جريمة السرقة؛ ويمكن أيضا أن تتخذ الشروط المفترضة صفة معينة تكون في الجاني أو المجني عليه ومن قبيل هذه الصفة، صفة الموظف في جريمة الاستيلاء على المال العام و الاختلاس مما يستوجب بيانها، وقد تكون صفة المجني عليه أو الضحية ظرفا مشددا للعقوبة كما هو الحال في جريمة هتك العرض على القاصر أو على أحد المحارم ، و تجدر بنا الإشارة أخيرا إلى أن القاضي في بيانه للواقعة لا يتقيد بالإشارة إليها في كل جزئياتها على نحو صريح، بل يكفي بيانها ضمنيا من خلال أسئلة و أجوبة فيما يتعلق بالأحكام الصادرة عن محكمة الجنايات، شرط أن تكون واضحة وغير مبهمة، كالقول بأن التهمة ثابتة أن ما نسب إلى المتهم واضح، دون بيان الثابت والواضح بيانا واقعيا مقنعا، ويجب أن تحدد واقعة الدعوى فلا يصح إبراز عدة روايات لها دون أن يظهر أي منها اطمأنت إليها المحكمة و استقرت عليها، إذ لا بد أن يكشف هذا التحديد ارتياح المحكمة لهذه الصورة و استقرارها في وجدانها بشكل واضح و على نحو يؤكد يقين المحكمة من تحققها، وتختلف الواقعة الواجبة البيان باختلاف ما فصل فيه الحكم، فإذا فصل في الموضوع وجب بيان أركان الجريمة و ظروفها، أما إذا فصل في مسألة نوعية فإنه يقتصر على بيان واقعتها فقط، أما إذا فصل في مسألة سابقة على الفصل في الموضوع اقتصر على بيان الواقعة المتعلقة بتلك المسألة فحسب.

5-5-2-بيان النص القانوني:

إن النص القانوني الذي يجب بيانه في الحكم هو النص الذي يتضمن الجريمة والعقوبة لها وفقا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.

5-5-2-1-تكييف الوقائع تكييفا صحيحا: متى خلصت المحكمة إلى واقعة الدعوى الصحيحة، تعين عليها تكييفها في ضوء النصوص القانونية واجبة التطبيق، والتكييف لا يعد رخصة تمارسها المحكمة أو تغفلها، بل هو واجب عليها لا يجوز أن تتخلى عنه، إذ أن إغفال المحكمة تكييف واقعة معينة والاكتفاء بالإحالة في هذا الصدد إلى ما جاء في تقرير الخبير مثلا يجعل حكمها مشوبا بالقصور في التسبيب، ويعد التكييف من البيانات الجوهرية الواجب توافرها في الحكم، ويتعين على المحكمة بمناسبة إصدار الحكم الإشارة إليها على نحو صريح وواضح ولا تغني عن ذلك الإشارة الضمنية إليه، وتتجلى أهمية هذا التكييف في أن تكييف القاضي الجنائي للوقائع له حجيته أمام المحاكم المدنية، والحكمة من ذلك هي الحفاظ على مبدأ الشرعية وتمكين محكمة النقض من أداء دورها الرقابي على الأحكام من حيث التطبيق الصحيح للقانون على الوقائع.

5-5-2-2-الغرض القانوني من وجوب بيان النص القانوني في الحكم بالإدانة: إن مبدأ الشرعية يتطلب من القاضي أن يبين التكييف القانوني للجريمة، وذلك من أجل التأكد من تواجد نص في القانون ينطبق عليها، فإذا لم يجد نصا قانونيا يعاقب على فعل معين وجب عليه الحكم بالبراءة، فالغرض القانوني الذي من أجله ألزم المشرع قاضي الموضوع بأن يذكر النص القانوني الذي طبقه هو التأكد من تجريم الفعل من طرف المشرع، و ثبوت الجريمة و نسبتها إلى المتهم وفقا لتكييفها القانوني و العقاب المتلائم مع الجريمة بموجب نص قانوني، و تماشيا مع ذلك فإن قاعدة بيان النص القانوني المطبق على الواقعة لا تتعلق بالنشاط الإجرائي الذي يقوم به القاضي، فيما يتعلق بالفصل في مدى ثبوت الواقعة و لكنها تتعلق بالاستدلال القانوني، الذي يجعل التكييف القانوني للجريمة على اتصال مباشر مع النص القانوني، في مدى تأثيرهما على صحة الحكم، و قد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى إمكانية تعويض النص في حالة إغفاله، بالتكييف القانوني لغرض رقابتها على الوصف القانوني للواقعة و مدى توافقه مع العقوبة التي قضت به، و الحقيقة أن إغفال ذكر النص القانوني لا يؤثر في صحة الحكم ما دامت تستطيع مراقبة الشرعية من خلال التكييف القانوني إذا كانت الواقعة صحيحة في تكييفها القانوني، ولا تخرج العقوبة المحكوم بها عن حدود العقوبة التي يتضمنها النص القانوني واجب التطبيق.

5-5-2-3-ذكر نص القانون :لا ينصرف الالتزام بذكر نص القانون المطبق على الواقعة– بالضرورة – إلى بيان النص الذي يتضمن وصف الجريمة و تعريفها القانوني، إذ يكفي ذكر المادة القانونية المطبقة فإن احتوت على عدة فقرات تحتوي على أنماط متعددة للسلوك الإجرامي فقد ذهب الفقه إلى بيان الفقرة الواجبة التطبيق، و ذلك ما بينه البند التاسع من المادة 314 من ق.إ.ج ،وهو بيان جوهري اقتضته قاعدة شرعية الجرائم و العقوبات، فالحكم الذي أغفل مواد القانون التي أخذ بها والخاصة بالفعل المجرم والعقوبة يقع تحت طائلة البطلان، فقد استقر قضاء محكمة النقض على أن عدم بيان حكم الإدانة للنص القانوني المتضمن للتجريم و العقاب يؤدي إلى بطلانه، و هذا ما تنص عليه المادة 379 ق.إ.ج الفقرة الثالثة:” ويبين المنطوق الجرائم التي تقرر إدانة الأشخاص المذكورين أو مسؤوليتهم أو مساءلتهم عنها، كما تذكر به إلا أن الاجتهاد القضائي استقر على أنه لا يشترط أن ينقل الحكم تلك المادة حرفيا، وإنما تكفي الإشارة إلى رقمها مادام من السهل معرفة الجريمة و تعريفها القانوني من خلال الوقائع المبينة في الحكم و التي يستشف منها أن بيان نص القانون يعد بيانا جوهريا في منطوق الحكم، و علة هذا البيان أن تثبت المحكمة في قرارها الواقعة المنسوبة إلى المتهم و أنها تعتبر قانونا وفقا للنص المنطبق عليها، مما يمكن محكمة النقض من مراقبة صحة تطبيق القانون على الوقائع، و لا يغني عن ذكر النص الإشارة إلى القانون المتضمن مادة العقاب أو الإشارة إلى مواد الاتهام ما دامت المحكمة لم تفصح عن الأخذ بها، فالعبرة بالإشارة إلى النص القانوني بوروده في ورقة الحكم التي يوقع عليها رئيس المحكمة و كاتب الجلسة، فلا يكفي بيانها في مسودة الحكم التي لا تعدو أن تكون مشروعا للحكم يجوز للمحكمة التعديل فيما تضمنه من أسباب ومدونات، وإذا كان هذا هو شأن وجوب بيان النص القانوني فإن الخطأ المادي في ذكر رقم المادة لا يترتب عليه البطلان، إذا كانت العقوبة المفروضة هي واجبة التطبيق بموجب النص الذي كان يجب ذكره، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية كما يذهب الرأي الغالب في الفقه إلى وجوب بيان النص القانوني في الحكم بالإدانة، و أن عدم الإشارة إليه يصم الحكم بالبطلان، أما بالنسبة إلى لأحكام البراءة فتجب الإشارة فيها إلى النص و إذا ما كانت تستند إلى توافر سبب إباحة أو مانع من موانع المسؤولية أو سبب من أسباب الإعفاء من العقوبة أو مانع من موانع السير في الدعوى، و تطبيقا لما تقدم أيضا فإنه لا يكفي بيان الواقعة في الحكم دون الإشارة إلى النص القانوني الذي طبقته المحكمة، بالقول إن بيان الواقعة يتيح معرفة النص فهذا يشكل تعطيلا لنص قانوني واجب التطبيق.

5-5-3-الاستدلال الصحيح

إذا كان للقاضي أن يكون عقيدته في ضوء ما يرتاح إليه وجدانه فإن سلطته في هذا الصدد ليست مطلقة بل لابد أن تتكون من خلال استدلال صحيح ثابت في أوراق الدعوى، إذ لا يجوز أن يكون سنده فيها مبنيا على محض تصور وتخمين، فليكون الحكم مسببا صحيحا ومعتبرا يجب بيان الأسانيد والأدلة والحجج التي أنتجته من حيث الواقع، ولكي يحقق ذلك الغرض منه يجب أن يكون تحت رقابة النقض جزء هام يبنى عليه الحكم وهو الاستدلال.

5-5-3-1-أهمية الدليل في المواد الجنائية:

يعتبر بيان الأدلة التي يتكون منها الاقتناع الذاتي للقاضي الجنائي الوسيلة التي عن طريقها يظهر هذا الاقتناع، ومن ثم يثبت للخصوم وللرأي العام ولجهة النقض صحة قضائه، ولذلك فإن التزام القاضي الجنائي ببيان الأدلة التي كون منها اقتناعه يعد الضابط القانوني لمبدأ الالتزام بالتسبيب، وإذا كان من ضمانات المحاكمة العادلة حق المتهم في مناقشة الأدلة التي يجب أن تكون مشروعة و صالحة لأن تكون أساسا لحكم الإدانة ، فإن ذلك يحتم على قاضي الموضوع بيان مصادر اقتناعه والكشف عن الأدلة و الأسانيد التي كونت هذا الاقتناع.

والدليل بصفة عامة هو ما تنهض به الحجة لثبوت قضية ما، أي ما تستعين به المحكمة لإثبات الواقعة ومدى صحتها تكون يقين القاضي في الدعوى المعروضة أمامه ويستهدف الدليل إظهار الحقيقة ماديا و معنويا وإثبات وقوع الجريمة أو نفيها أو نسبتها لشخص معين أو عدمه ، ويلعب الإثبات الجنائي دورا هاما في البحث عن الحقيقة والوصول إليها عن طريق تنوع الأدلة و تعدد طرق الإثبات في المواد الجنائية كاعتراف المتهم و شهادة الشهود والمعاينة وفحص المستندات وتقارير الخبراء ،مما يساعد القاضي الجنائي على تكوين عقيدته ما دام-على خلاف القاضي المدني-هو الذي يستنبط الدليل الذي يستند إليه في قضائه ،وبيان هذا الدليل يعد أمرا هاما لإثبات العناصر القانونية للواقعة، ومن ثم فإنه يكفل تحقيق رقابة محكمة النقض على الأساس القانوني للحكم، وهو الوسيلة التي يتحقق عن طريقها الغرض من تسبيب الأحكام إذ يتوجب على المحكمة أن تذكر مضمون شهادة الشهود وغيرها من الأدلة التي اعتمد عليها الحكم في الدعوى. إذ يتوجب لاستقامة الحكم بالإدانة أن يقنع المتهم والرأي العام ومحكمة النقض بأن الإدانة تطابق القانون، وأن يثبت الحكم صراحة توافر جميع أركان الجريمة على النحو الذي يثبت قيام مسؤولية المتهم واستحقاق العقوبة، وهذا لا يتأتى إلا ببيان الأدلة التي تثبت ذلك.

5-5-3-2-قواعد صحة الاستدلال:

5-5-3-2-1-بيان مضمون كل دليل من أدلة الإثبات :ليكون الحكم بالإدانة صحيحا يجب أن يبين مضمون ومؤدى أدلة الإثبات حتى يتضح وجه استدلاله به، فإذا كان الدليل شهادة شاهد وجب بيان مضمون هذه الشهادة بما يكفي لإثبات الواقعة، شرط أن تكون المحكمة قد استندت إليها في الحكم، فالمحكمة ملزمة فقط ببيان الأدلة ذات الأثر في تكوين عقيدتها، فإذا تطابقت أقوال الشهود جاز أن يجمع بينهم في مضمون الشهادة، أما إن كان الدليل فنيا فيجب بيان مضمون تقرير الطب الشرعي في جرائم القتل العمدي، فبيان مضمون الأدلة يكشف عن مدى صحة النتائج ومنهج اقتناع القاضي، ولولاه لما أمكن تحقيق الرقابة على مشروعية الأدلة التي تعد أساسا للإدانة في الأحكام الشرعية، وانعدامه يعد قصورا في التسبيب ويؤدي إلى بطلان الحكم .

5-5-3-2-2-أن يكون للدليل مصدرا في أوراق الدعوى: لا بد أن يكون الدليل قد استمد حقيقته من الأوراق، وأن يثبت أنه كان بإمكان الخصوم مناقشته أو تفنيده عملا بنص المادة 212 ق.إ.ج، فإن لم يكن له وجود إلا في عقيدة المحكمة من خلال أدلة لم تعرض على الخصوم أثناء نظر الدعوى فذلك ينفي عنها صفة الثبوت في الأوراق، ومثل هذه الأدلة تنقصها الضمانات اللازمة لقبولها كأدلة في المواد الجنائية لا سيما كأدلة للإدانة مما يعيب الحكم ويبطله، فإن كان موضوع الدعوى جريمة تزوير و قالت المحكمة في بيان أسبابها أنها استمدت دليل قناعتها بثبوت التهمة من تقرير الخبير وليس في أوراق الدعوى أي تقرير كان حكمها باطلا .

وبذلك يتضح أن وجود مصدر للأدلة في الأوراق لا يكفي لصحة الحكم بالإدانة بل يجب أن يقترن بطرح الدليل على بساط المناقشة من طرف الخصوم خلال المرافعات فإذا تبينت محكمة النقض من أن محكمة الموضوع قد بنت بالفعل حكمها على دليل خلت منه أوراق الدعوى وكان لهذا الدليل أثره في الحكم الذي انتهت إليه فإنها تبطل الحكم للخطأ في الإسناد، وشرط ثبوت الدليل في أوراق الدعوى لا يقتصر على نوع معين من الأدلة فقد ينصب على دليل قولي : كالاعتراف والشهادة أو دليل فني : كالخبرة ، أو دليل مادي : كالمستندات وأدوات الجريمة وتتجلى الحكمة من هذه القاعدة من خلال احترام مبدأ شفوية المرافعات وقاعدة المواجهة بين الخصوم وكذا السماح لمحكمة النقض بمباشرة وظيفتها الرقابية فضلا عن تحقيقها للغاية من التسبيب.

5-5-3-2-3-عدم جواز استناد القاضي إلى معلوماته الشخصية: قد تتنوع معلومات القاضي فهناك معلومات يحصل عليها بصفته قاضيا أنيط به البحث في نزاع ما ، وهناك معلومات يحصل عليها من قنوات أخرى بصفته فردا من المجتمع خارج دائرة عمله ، والضابط في تمييز المعلومات التي تكونت منها عقيدة القاضي هو القناة التي استخلص منها المعلومة فإن كانت مستمدة من خارج نطاق الدعوى ، فهي معلومات شخصية لا تصلح لتكون أساسا صالحا للإدانة على ضوئها ، و إن كانت مستمدة من تقارير الخبراء و شهادة الشهود و إجراءات التحقيق فهي أساس رأيه ومحور نشاطه الذهني ونبراس استدلاله المنطقي والقانوني والقضائي عن طريق الاستنتاج والاستقراء والقياس لتبرير الحكم الذي تطمئن إليه عقيدته. فالمعلومات الشخصية لا يجوز أن يعتمد عليها القاضي الجنائي كأساس في قضائه، بل يلتزم بأدلة الإثبات أو النفي المطروحة أمامه في المحكمة وأن ينظر إلى النزاع من خلال ما ثبت في ملف الدعوى تحدوه دائما القاعدة القانونية دون غيرها.

5-5-3-2-4-أن تكون الأدلة التي استند إليها الحكم مشروعة: إن احترام قيم العدالة وأخلاقياتها واحترام حقوق الدفاع تستلزم مشروعية دليل الإدانة، فالإثبات المشروع يستدعي عدم قبول أي دليل أقيم أمام القضاء عن طريق مخالفة القانون أو الدفاع، إذ تتحقق الإدانة بمجرد وجود أدلة مشروعة صالحة لتبنى عليها الإدانة، ومشروعية أدلة الإدانة تتطلب أن يتم الوصول إلى الدليل بشكل نص عليه القانون، كالقبض على المتهم الذي يجب أن يتم وفق شروط معينة وفي حالات محددة ، وكذا إجراء التفتيش لشخص متهم أو منزله إذ لا بد أن تسبقه إجراءات خاصة نص عليها القانون ، فإذا تم دون التقيد بذلك فإنه يكون باطلا وتبطل بالتبعية الأدلة المستمدة منه ، أيضا فإن الشهادة التي يبنى عليها الحكم لابد أن يسبقها حلف اليمين.

أما مشروعية الأدلة التي تتصل بحرية المتهم في التعبير عن إرادته فتتمثل في إجراءات التحقيق، ومثال ذلك الضغط عليه سواء بالإكراه المادي أو المعنوي للاعتراف بارتكاب الجريمة وهذا الدليل لا يصلح كأساس لإدانته قانونا، وفي ذلك قضت محكمة النقض الفرنسية بأن: ” الحكم الذي يعتمد على اعتراف تم انتزاعه بالعنف و التعذيب بواسطة رجال الشرطة يكون باطلا ، وأن الاعتراف الذي يتم الحصول عليه بعد إيهام المتهم بتحقيق مصلحة خاصة له يكون اعترافا باطلا والحكم الذي بنى إدانته عليه باطل كذلك”، كما قضت بأن: “الأدلة التي يتم الحصول عليها باستعمال أجهزة علمية حديثة بالضغط على إرادة الأفراد فهي أدلة باطلة لأنها اعتداء على الحقوق الشخصية للأفراد “، ومثال ذلك: جهاز كشف الكذب والتنويم المغناطيسي …الخ والجزاء المترتب على الدفع ببطلان الدليل وإثبات أن الحكم الصادر بالإدانة قد استند إلى دليل غير مشروع ، فإنه يكون حكما مشوبا بالفساد في الاستدلال لأن قاضي الموضوع استمد قناعاته من مصدر غير شرعي لم ينص عليه القانون.

5-5-3-2-5-أن تكون أدلة الإدانة منطقية: يتجه الفقه الحديث إلى اعتبار الحكم الجنائي بناء منطقيا، إذ لا يكفي لصحة الحكم الجنائي الصادر بالإدانة ذكر الأدلة وأن يكون مصدرها الأوراق وأن تكون شرعية، ولكن يجب إلى جانب ذلك أن تكون منطقية وأن تؤدي إلى النتائج المستنبطة منها وفق قواعد العقل والمنطق، وأن يكون اقتناع القاضي نتيجة تفكير منطقي ويكون استقراؤه للوقائع غير مخالف لقواعد المنطق، وتبدو مظاهر منطقية أدلة الإدانة فيما يلي:

5-5-3-2-6- أن تكون الأدلة مقدرة تقديرا مقبولا: فالبيان الواضح والكافي للأدلة يكشف عن كفاية اقتناع القاضي ، وصحة منهجه في هذا الاقتناع ويمكن محكمة النقض من فرض رقابتها على مصادر الاقتناع الموضوعي للقاضي ، فإن كان الحكم مشوبا بالغموض و أسبابه مبهمة في ما أثبته أو نفاه من وقائع متعلقة ببيان توافر أركان الجريمة أو عناصر الإدانة على وجه العموم، فالاضطراب الذي يشوبه ينبئ عن اختلال فكرته وعدم فهمه الواقعة فهما صحيحا يسمح باستخلاص الحقيقة استخلاصا سائغا عن طريق استدلال منطقي وممنهج ، و قد مدت محكمة النقض الفرنسية رقابتها إلى جميع مسائل التكييف القانوني للواقعة فالخطأ في التقدير القانوني للواقعة يعد خطأ في القانون و استقر الفقه والقضاء على أن سلطة محكمة الموضوع في التثبت من الواقعة و تقدير أدلتها ليست مطلقة بل مقيدة ، بأن يكون تقديرها في ذلك متصفا بالمنطقية وهو ما عبرت عنه محكمة النقض بشرط أن تكون الأدلة مقدرة تقديرا مقبولا وسائغا ، ومثال ذلك أنه إن ارتأت المحكمة أن الواقعة المطروحة أمامها ليست خيانة أمانة بل عقد أسبغ عليه عقد الوديعة لإرهاب المدين من المساءلة الجنائية، واستدلت المحكمة على ذلك بأن الالتزام برد الوديعة قد ضرب له أجل معين ، فإن حكمها يكون منطقيا وتقديرها للوقائع يبدو سائغا و منطقيا، إذ يكون التقدير منطقيا متى استلهم الأصول و الضوابط المنطقية بأن تكون المقدمات مؤدية إلى النتيجة التي خلص إليها الحكم أي كان أسلوب الاستدلال المنطقي سواء استقرائي أو استنتاج أو قياس إذ يجب أن تتحدد عناصره في :

مقدمة يستدل بها على صحة نتيجة ما.

نتيجة لهذه المقدمات.

علاقة منطقية تربط المقدمة بالنتيجة لزوما.

قواعد يعتمد عليها العقل في انتقاله من المقدمة إلى النتيجة.

5-5-3-2-7-أن يكون الدليل صالحا لحمل قضاء الحكم: إذا كان لمحكمة الموضوع سلطة تقدير ثبوت الواقعة وظروفها ونسبتها إلى المتهم، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة بل مقيدة بأن تستند في ذلك إلى أدلة تصلح لحمل قضاء الحكم وهذه الصلاحية منوطة بالواقعة التي صدر بها الحكم، فالدليل الذي يصلح لاعتبار المتهم فاعلا لا يصلح دائما لاعتباره شريكا. ولا يشترط لكون الدليل صالحا لحمل قضاء الحكم أن يكون مباشرا أو غير مباشر، فالمهم أن يكون دليلا معتبرا قانونا، أما الاستدلالات فإنها لا تكفي بذاتها لحمل قضاء الحكم كاستخدام الكلب البوليسي مثلا في الكشف لا يكفي وحده لتقيم عليه محكمة الموضوع قضاءها بالإدانة، ويتصل هذا الشرط مسألة نوعية الدليل الذي يعتد به في مسألة فنية، فالقاضي لا تتوافر له خبرة في المسائل الفنية ومن ثم لا يجوز أن يحل نفسه مكان المتخصصين فإذا خالف ذلك كان الدليل الذي بني عليه عقيدته غير صالح لحمل قضاء الحكم.

5-5-3-2-8-أن تكون الأدلة متناسقة في ما بينها غير متعارضة: يتطلب الاستدلال ليكون صحيحا متوافقا مع المنطق و العقل أن يعتمد على أدلة لا تتناقض في ما بينها، فتكون الأسباب الواقعية في جملتها مترابطة متناسقة المضمون بحيث تعبر في النهاية عن مضمون النشاط الإجرائي للقاضي الذي أفرز الحكم الذي انتهى إليه فإذا أوردت المحكمة في حكمها دليلين متعارضين في ظاهرهما و أخذت بهما معا، و جعلتهما عمادها في ثبوت إدانة المتهم دون أن تتصدى لهذا التعارض فان هذا يجعل حكمها معيبا يتعين نقضه، فالتناقض الذي يبطل الحكم هو الذي يقع بين أسباب الحكم بحيث ينفي بعضها ما يثبته البعض الآخر، فلا تقوى المقدمات على حمل النتيجة التي انتهى إليها قاضي الموضوع، و بعكس التناقض بين الأسباب والمنطوق الذي يبطل دائما الحكم، فالتناقض بين الأدلة لا يبطل الحكم إلا إذا أفضى هذا إلى محو دليل بدليل آخر بحيث يتعذر معرفة أيها المنتج للحكم و أيهما اعتمدت عليه المحكمة فالتعارض بين الأدلة يؤدي إلى تناقض بين الأسباب الواقعية ويحدث اضطرابا في اقتناع قاضي الموضوع و ينعكس أثره على الحكم، و من صوره أن يعتمد الحكم بالإدانة على دليل مادي و آخر قولي بينهما تناقض جلي دون توضيح ما يرفع هذا التعارض.

وتجب الإشارة إلى أن تناسق الأسباب فيما بينها لا يكفي لصحة الحكم الجنائي ولكن يجب أيضا أن تكون متناسقة مع المنطوق، فإذا كانت محكمة الموضوع مثلا قد أوردت في صدر الحكم عند تحصيلها للواقعة ما يفيد بأن إحراز المتهم للمواد المخدرة كان بغرض التجارة إلا أنها أدانته بجريمة أخف وهي جريمة الإحراز بقصد الاستعمال الشخصي دون بيان الأسباب التي استمدت منها هذا الرأي، ودون أن ترفع التناقض بين الأسباب والمنطوق مما يعيب الحكم ويستوجب نقضه.

5-5-3-2-9-أن يتفق الاستدلال مع قواعد العقل والمنطق: وفقا لمبدأ حرية الاقتناع الذاتي للقاضي الجنائي فإن قاضي الموضوع يتمتع بسلطة تقديرية في استخلاصه للصورة الصحيحة الواقعة و أدلة إثباتها أو نفيها، وذلك من خلال الأدلة المطروحة أمامه على بساط البحث من أوراق الدعوى و التحقيق الابتدائي و النهائي و مرافعات الخصوم و مذكراتهم و دفاعهم ، فالحكم الجنائي عملية عقلية و صناعة ذهنية يسجل فيها القاضي عقيدته بشأن ما طرح أمامه بعد تمحيصها بالعقل و المنطق فالحكم يكون معيبا إذا استندت في تقدير سن المجني عليه من أقوال والد أو تقرير الطبيب الشرعي على الرغم من ثبوت هذا السن من واقع سجل الحالة المدنية. وأيضا فإن الأسباب لا تكون مؤدية إلى المنطوق وفق قواعد العقل والمنطق، إذا ما أسس الحكم قضاءه على مجرد الافتراض والاحتمال لا على التثبت واليقين خصوصا إذا تعلق الأمر بالإدانة فإن الحكم يكون معيبا واجب النقض، وإذا كانت رقابة محكمة النقض على النتائج المبنية على التقرير الموضوعي للأدلة إلا أنها حافظت على الضوابط التي تفسح من خلالها المجال لحرية الاقتناع الشخصي للقاضي ما دام تم استخلاص الصورة الصحيحة للواقعة وظروفها استخلاصا سائغا وسليما يتفق مع حكم العقل والمنطق السوي.

5-5-3-2-10-مبدأ تساند الأدلة: إن الأدلة في المواد الجنائية أجزاء متساندة يشد بعضها بعضا، لأن اقتناع القاضي ومنهجه في الاقتناع لا يقف عند كل دليل على انفراد ويقتنع به بمعزل عن غيره من الأدلة، لكن يقوم الاقتناع الذاتي على الأثر الذي تحدثه الأدلة مجتمعة فينتهي إلى الحكم الذي يصدره لوحدة الأثر في دعم الإدانة ليكون مرجع المحكمة فيما خلصت إليه مستمدا من جملة الأدلة التي تضمنتها الأوراق.

5-5-3-2-11-استثناء المبدأ

على الرغم من أن محكمة النقض طبقت مبدأ تساند الأدلة إلا أنها في حالات أخرى طبقت أيضا جواز الاستثناء ببعض الأدلة عن البعض الآخر ورفضت نقض الأحكام استنادا إلى ذلك، إذ ارتأت بأنه متى تبين من خلال الظروف الواقعة وأدلة المحكمة وجود دليل باطل أو فاسد لم يكن له أي تأثير في عقيدة قاضي الموضوع ولم يستمد منه الحكم فان هذا الدليل ببطلانه واستبعاده لا يؤدي إلى بطلان ما عداه من أدلة، ولا يضعف قوة تساندها فجواز الاستغناء عن بعض الأدلة والاستناد إلى البعض الأخر يمثل استثناء من مبدأ تساند الأدلة.

5-5-4-الرد على الطلبات الهامة والدفوع الجوهرية:

تعد الدفوع-إذا ما توافرت الشروط الجوهرية اللازمة لقبول الطلبات والدفوع-إجراء هاما ذا أثر في مصير الفصل في الدعوى، لذا وجب على محكمة الموضوع أن تبين من خلال أسباب الحكم الرد على الدفوع الجوهرية التي من شأنها-إن صحت – أن تضعف الأسس القانونية أو المنطقية التي اعتمد عليها.

5-5-4-1-الطلبات الهامة والدفوع الجوهرية: يقصد بالطلب في المواد المدنية ما يتوجه به المدعي إلى المدعى عليه طالبا الحكم به. ويقصد بالدفع كل وسيلة يجيب بها المدعى عليه على طلب المدعي بقصد الحيلولة دون الحكم عليه به ، وقد جرى العمل في المواد الجزائية أيضا على إطلاق كلمة طلب على موضوع الدعوى مباشرة، و مصطلح الدفع على ما انصب على أوجه الدفاع القانونية التي يبديها الخصوم، ومثالها أن يطلب المتهم ندب خبير عندما يرى أن ذلك من مصلحته ، وقد يصدر عنه الدفع بذلك أيضا كما لو دفع بانقضاء الدعوى الجنائية لأي سبب من أسباب الانقضاء ، وكذلك الحال في صدور الطلب من النيابة العامة لطلب سماع شاهد الإثبات، و قد يصدر عنها الدفع بأن المجني عليه تتوافر فيه شروط المسؤولية .

ومن المتفق عليه فقها وقضاء أنه يجب على محكمة الموضوع أن تقوم بالرد على كل طلب هام أو دفع جوهري يتقدم به أحد أطراف الدعوى إذا توافرت فيه شروط الصحة وذلك تحت طائلة بطلان الحكم للإخلال بحق الدفاع أو القصور في التسبيب.

5-5-4-2-أنواع الطلبات والدفوع: تنقسم هذه الطلبات والدفوع إلى: الطلبات الهامة والدفوع القانونية والموضوعية وذلك ما سنوضحه فيما يلي:

5-5-4-2-1-الطلبات والدفوع القانونية: هي تلك التي تستند إلى نصوص خاصة في قانون العقوبات أو في قانون الإجراءات الجزائية وهي قابلة للحصر، وعلى ضوء ذلك نميز بين نوعين من الدفوع القانونية:

5-5-4-2-1-1- الدفوع القانونية التي تستند إلى القانون الموضوعي ممثلا في ق العقوبات و تعد جوهرية متى استوجبت – لو صحت- تبرئة المتهم أو تخفيض مسؤوليته في حالة تعلق الدفع بانتفاء أحد أركان الجريمة أو الدفع بانتفاء أحد ظروفها المشددة أو الدفع بعدم توافر أحد عناصر المساهمة الجنائية، وكذا الدفع بانتفاء عنصر من عناصر المسؤولية كالدفع بالجنون أو الإكراه مثلا، و يلحق الفقه بالدفوع القانونية المستمدة من القانون الموضوعي ، الدفع بانقضاء الدعوى الجنائية لأي سبب من أسباب الانقضاء فهو دفع موضوعي يستند إلى القانون الموضوعي في آثاره وأحكامه .

5-5-4-2-1-2- الدفوع القانونية التي تستند إلى القانون الشكلي أو الإجرائي، وتستند إلى نصوص في قانون الإجراءات الجزائية وهي كل دفع يترتب على قبوله بطلان الإجراء سواء كان نسبيا أو مطلقا، وبغض النظر أيضا عن محل البطلان سواء إجراءات الاستدلال أو التحقيق الابتدائي أو التحقيق النهائي ، ويترتب على الدفع بالبطلان النسبي على شيء مما تقدم أمام محكمة الموضوع التزامها بالرد عليه وذلك تحت طائلة البطلان ، فإذا لم يدفع به أمام محكمة الموضوع سواء كان الدفع ببطلان نسبي أو مطلق ، سقط الحق في الدفع به لأول مرة أمام محكمة النقض إذ ليس من اختصاصها النظر في دفوع جديدة مادامت تتطلب تحقيقا موضوعيا.

5-5-4-2-2-الدفوع الموضوعية: وهي الدفوع التي يتقدم بها الدفاع وتمثل كل ما يعد سندا لازما وضروريا لطلب أو دفع مقدم من أحد الخصوم في الدعوى الجنائية أو المدنية، وأوجه الدفاع الموضوعية لا حصر لها وتختلف من دعوى إلى أخرى وتدور حول نفي ثبوت الواقعة أو عدم صحة إسنادها إلى المتهم، أو حول عدم أهميتها إذا أريد بها التأثير في تقدير العقوبة فحسب، ويعد الدفع جوهريا متى أثر في الفصل في الدعوى على أي وجه كان. ومن الدفوع الموضوعية الجوهرية نذكر : الدفع بعدم توافر ركن من أركان الجريمة مثل الفعل المادي العمدي والقصد الخاص إذا كان مطلوبا ، أو علاقة السببية بين الفعل و النتيجة وكذلك الدفع بعدم ثبوت أي ركن منها في حق المتهم أو بعدم إسناده إليه أو مجرد إثارة الشك في هذا الإسناد بما يستوجب الحكم بالبراءة وكذا الدفع بعدم ثبوت ظرف مشدد قانوني من الظروف التي طلبت النيابة تطبيقها على الواقعة ،لذا يجب أن تتضمن أسباب الحكم الرد على الطلبات الهامة و الدفوع الجوهرية، و معيار الحكم على أهمية و جوهرية هذه الدفوع يتمثل في شروط يلزم توافرها لقبول الطلبات و الدفوع لتلتزم المحكمة بالرد عليها .

5-5-4-3-الشروط اللازمة لقبول الطلبات والدفوع: حتى تلتزم المحكمة بالتعرض للدفوع قبولا أو رفضا، يجب توافر شروط نجملها فيما يلي:

5-5-4-3-1-أن يكون طلبا هاما أو دفعا جوهريا: وقد سبق وبينا المقصود بذلك، وهو الدفع الذي يترتب عليه التأثير على الفصل في الدعوى كالدفع بجنون المتهم أو الدفع بتوافر حالة الدفاع الشرعي، والدفع ببطلان الاعتراف، والدفع بعدم قدرة المجني عليه على الكلام بعد إصابة، والدفع بطلب سماع أحد شهود الواقعة.

5-5-4-3-2-أن يثار الدفع أو يقدم الطلب قبل إقفال باب المرافعة أي متى كانت إجراءات المحاكمة قد استوفيت قانونا، وقررت المحكمة بعد استيفاء مرافعات أطراف الدعوى ودفاعهم إقفال باب المرافعة، فإنها لا تكون ملزمة بالرد على الطلبات والدفوع التالية لذلك لأنها بذلك تكون قد أنهت تحقيقها النهائي واستجمعت كافة العناصر. واستثناء على ذلك فإن أرادت التثبت من أمر ترى بأنه ضروري للفصل في الدعوى أو استجدت أسباب طارئة جاز أن يفتح باب المرافعة من جديد شرط أن يكون مؤثرا بالفعل ولو بصفة احتمالية في مصير الدعوى بسبب وجاهته.

5-5-4-3-3-ألا يكون صاحب الدفع أو الطلب قد تنازل عن دفعه أو طلبه لأن تنازله يعني إسقاطه فيتساوى مع عدم إثارته، ولكن هذا التنازل لا يحول بينه وبين إعادة الطلب قبل إقفال المرافعة، فإن تنازل المتهم عن طلب تأجيل سماع الشهود فذلك لا يحول دون أن يتوجه من جديد على لسان محاميه بنفس الطلب خلال مرافعته.

5-5-4-3-4-أن يكون الطلب أو الدفع جازما والطلب الجازم هو الذي يصر عليه مقدمه ويبدي إصرارا بالتمسك به في طلباته الختامية، وقد استقر قضاء النقض على ألا تلتزم المحكمة بالرد على دفع أو طلب جاء في صورة قول مرسل أو رجاء أو تفويض من المحكمة أو تساؤل، فقول المحامي مثلا بأنه يفضل انتقال المحكمة إذا أرادت أن تطمئن لمعاينة مكان الحادث يعد تفويضا للمحكمة ولا يستنتج أنه طلب جازم.

5-5-4-3-5-أن يكون الطلب أو الدفع صريحا وجديا وظاهر التعلق بموضوع الدعوى إذ لا تلتزم المحكمة بالرد على طلب مبهم غير جدي، أما معنى ظاهر التعلق بالدعوى فيقصد به أن يكون الفصل فيه مؤثرا على مصير الدعوى والفصل فيها، وإلا فالمحكمة ليست ملزمة بالرد عليه صراحة بل يجوز أن ترفضه ضمنيا.

5-5-4-3-6-أن يكون الإجراء أو الواقعة محل الدفع أحد عناصر الحكم إثباتا أو نفيا، فإن لم يعتمد عليه الحكم ولم يكن الدفع ذا أثر على الفصل في الدعوى، فلا تلزم المحكمة بالرد عليه، إذ لا قيمة لدفع المتهم ببطلان إجراء التفتيش إن كان الحكم لم يعتمد أصلا على ما أسفر عليه التفتيش، وللمحكمة أن تضم الدفوع المختلفة الى الموضوع وتصدر حكما واحدا في الدعوى برمتها دون أن يعد ذلك إخلالا بحق الدفاع.

5-5-4-4-الرد على الطلبات والدفوع: إن كانت محكمة الموضوع ملزمة بالرد على الطلبات الهامة والدفوع الجوهرية التي تتوافر فيها الشروط الأنفة الذكر، فإن تسبيب هذا الرد قد يكون بأسباب صريحة كما قد يحقق ذات الغرض بطريقة ضمنية.

5-5-4-4-1-التسبيب الصريح للرد على الطلبات الهامة والدفوع الجوهرية: إن توافر الشروط الجوهرية اللازمة لقبول الطلبات و الدفوع تجعل المحكمة ملزمة- في حالة القبول أو الرفض-بالرد عليها و هي تخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض و يعد من قبيل ذلك أن يذكر قاضي الموضوع أن لا مصلحة للخصم في الطلب أو الدفع أو أن هذا الأخير يتعلق بواقعة لم تبن عليها المحكمة حكمها، أو أن الدفع يتصل بالسلطة التقديرية للقاضي في تقدير الدليل، ولا يجب التعقيب عليها، فتلتزم المحكمة إذا ما رفضت الطلب أو الدفع المقدم إليها أن تبين العلة الموجبة لرفضه، و إغفالها له إخلال بحق الدفاع مما يبطل الحكم ، فإن دفع محامي المتهم بأن هذا الأخير كان في حالة الدفاع الشرعي و تمسك بهذا الدفع، و قضت المحكمة بإدانته دون الفصل في هذا الدفع و الرد عليه بما يدحضه فإن الدفع لكونه جوهريا من شأنه أن يهدم التهمة أو يؤثر في مسؤولية المتهم لذا فإن إغفال محكمة الموضوع التحدث عنه يجعل حكمها معيبا يقتضي البطلان. ولا يكفي في الرد على هذه الطلبات والدفوع أن تورد محكمة الموضوع مجرد أسباب، بل يجب أن تكون كافية وسائغة وأن تؤدي -بما يتوافق مع المنطق والعقل -إلى النتيجة التي انتهت إليها، ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر إلى حقيقة الدفوع والطلبات، وتمحيصها وبحثها وفقا لما هو ثابت في ملف الدعوى.

5-5-4-4-2- التسبيب الضمني للرد على الطلبات و الدفوع الجوهرية:لا تلتزم محكمة الموضوع بالرد الصريح على كل جزئية من جزئيات الدفاع الموضوعي و على كل طلب و دفع يثار أمامها، إذ يكفي أن يكون الرد مستفادا ضمنيا من أسباب الحكم بالإدانة استنادا إلى أدلة الإثبات التي أوردها و اعتمد عليها، فإذا كان الطلب الذي يتقدم به الخصم لا ينصرف مباشرة إلى نفي الفعل المكون للجريمة فالمحكمة لا تكون ملزمة بالرد صراحة على هذا الطلب، كما لا تلتزم أيضا بالرد على الدفوع غير الجوهرية التي يتقدم بها الخصوم ، بل يكفي أن يستفاد الرد ضمنيا من خلال الأدلة التي استند إليها الحكم بالإدانة ، فلا يبطل الحكم بسبب أن المحكمة لم تشر صراحة في حكمها إلى عدم أخذها بشهادة شهود النفي لأن الحكم بالإدانة في حد ذاته يفيد ذلك ضمنيا.

5-5-5- الصياغة السليمة للأسباب و البيان الواضح لها: إذا كان المشرع لم يضع صياغة محددة للحكم الجنائي على نحو يمكن معه القول بأنه حدد الموقع الطبوغرافي لكل من الديباجة و المنطوق و الأسباب، فإن هذا التصنيف و التقسيم للحكم ما هو إلا معطيات فقهية محضة، فقد تركت صياغة الحكم لحصافة القضاء ،و حسن ترتيبه لفقرات الحكم و تبويبه على نحو يكون معه واضحا بمجرد الاطلاع عليه، بالإضافة إلى دور ذلك في تسهيل مهمة محكمة النقض في مراقبة صحة تطبيق القانون ، و تطبيقا لذلك فإنه عمليا لا يكفي لصحة الحكم الصادر بالإدانة أن يبين قاضي الموضوع الواقعة و يستوفي في بيانها العناصر القانونية للجريمة التي انتهى بثبوتها و معاقبة المتهم عنها أن يبين الأدلة الكافية و السائغة التي تثبت الواقعة و تنسبها إلى المتهم و أن يرد على الطلبات الهامة و الدفوع الجوهرية التي أثيرت بشأنها من طرف الخصوم، و لكن يلزم قاضي الموضوع أيضا بأن يأتي تسطيره للأسباب في ورقة الحكم الأصلية وفق أسلوب منطقي واضح ،بحيث تأتي معبرة- على نحو يطابق أوراق الدعوى- عن مضمون إقناعه الموضوعي ومنهجه في بناء عقيدته التي انتهت به إلى الحكم الذي أصدره ،فإذا جاء هذا التعبير كافيا و سائغا فإن الحكم الذي يستند إلى هذه الأسباب يكون صحيحا سليما من شوائب التسبيب المستوجبة للبطلان أما إذا كان قاصرا غير كاف فإن الأسباب أيضا تأتي فاسدة مما يبطل الحمو بالنظر إلى الأهمية الكبيرة للصياغة السليمة للأسباب وما تؤدي إليه من تقليل في نسبة الطعون، فالواجب ليس مجرد التسبيب ولكن هو التسبيب الواضح الجدي الذي يحقق ما هدف إليه المشرع من توفير الطمأنينة للمتقاضين لدى اطلاعهم على منطوق الحكم و أسبابه سواء صدر ضدهم أو معهم.

فالتسبيب هو ترجمة لعقيدة قاضي الموضوع و لسان حال موضوعية ومصداقية هذا الاقتناع، ودليل على صحة منهجية الوصول إلى حكمه لذا وجب أن يأتي باللغة العربية السليمة ومصطلحات قانونية مع الابتعاد عن استخدام العبارات العامة، و تحري الدقة في انتقاء الألفاظ و أن تكون شاملة لجميع عناصر صحة الحكم الجنائي مع الابتعاد عن أسلوب النماذج و الصيغ المطبوعة سلفا، إذ أن لكل واقعة ظروفها الخاصة مهما بدت القضايا متشابهة، و لا يحتاج حكم البراءة عادة إلى نفس العناية التي يحتاجها حكم الإدانة في تحريره لأن هذا الأمر يتطلب بطبيعته أن تقتنع المحكمة بتوافر جميع الأركان القانونية للجريمة و ظروفها المشددة أو المخففة، فيجب أن يستفاد ذلك من عبارات الحكم صراحة أو دلالة بشكل تراه محكمة النقض بمناسبة مراقبتها للحكم كافيا بما في ذلك الأدلة التي بني عليها الحكم خاصة في الحكم بالإدانة ، و لذلك كان لتسبيب الأحكام أهمية كبرى لكونها السبيل الأوحد ليأتي الحكم مستوفيا لجميع البيانات وافيا في فحواه و غير مشوب بما يعرضه للبطلان و الإلغاء.

خاتمة

لا يسعنا أن لم بكل ما يتعلق بصياغة الأحكام، وقد حاولنا تقديم نموذج لما يجب أن تتضمنه صياغة أحكام محكمة الجنايات على سبيل التمثيل لا غير، ويبقى على الطالب مراجعة مختلف الأحكام القضائية في المجلات القضائية للمحكمة العليا ومجلة مجلس الدولة وغيرها والتعرف على مختلف أوجه الصياغة، كما يمكن الاعتماد على المرجعين التاليين لمزيد من التفاصيل:

– مقري (آمال)، الطعن بالنقض في الحكم الجنائي الصادر بالإدانة، دراسة تحليلية في التشريع الجزائري، مذكرة ماجستير، كلية الحقوق، جامعة قسنطينة، 2010-2011.

– حسن (سعد عبد اللطيف)، الحكم الجنائي الصادر بالإدانة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1989.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت