دراسة قانونية: الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقية

بقلم جميلة الطبيب بنعيسيّة محرّر أول للعقود بالإدارة الجهوية للملكية العقارية

المقدّمة
اكتست العقارات منذ العصور القديمة أهمية بالغة بالنسبة للأفراد والجماعات وقد سعى الإنسان إلى حوزها واكتسابها لأنها تجسّد أهمّ مظاهر الملك والترف ومن أبرز العناصر المكونة للمال خاصّة قبل بداية الثورة الصناعية حيث كانت الأرض أهمّ مصدر للثروة ومجالا خصبا لاستثمار الأموال وتشغيل اليد العاملة. ومازالت العقارات إلى يومنا هذا تحافظ على قيمتها الاقتصاديّة والاجتماعية وتمثل ملكيتها الغاية التي يسعى إليها كل فرد من أفراد المجتمع.

ولقد اعتنت التشاريع في الماضي والحاضر بمسالة الملكية واستنبطت الطرق والأنظمة الهادفة إلى إقرارها على دعائم ثابتة وأحاطتها بالضمانات الكفيلة لاستمرارها وردع كل اعتداء موجه نحوها. فالملكية والحيازة أمران متلازمان لا يستقيم الكون بدونهما إذ وجدت الملكية منذ وجدت الحياة وتعرضت لها الأديان والعقائد، والملك في لغة العرب حيازة الإنسان للمال مع الاستبداد به أي الانفراد بالتصرف فيه.
والمشرّع التونسي كغيره من المشرعين يعير أهميّة ذات بال لحوز العقارات باعتبارها مظهرا من مظاهر المحافظة على الملكية ودليلا بارزا على مدى اهتمام الفرد والمجتمع للقيم الاقتصادية المعلقة على استغلال العقارات مهما كان نوع ذلك الاستغلال.

وهذه الأهمية تعود في الحقيقة إلى عهد بعيد جدا إذ أنّ المحافظة على الثروة العقارية تعود جذورها إلى القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم كما لم يكن الفقه الإسلامي ليغفل عن هذا المبدأ إذ خصّه بمكانة بارزة فحث على العمل في الأرض وإحيائها والانتفاع بما فيها من ثروات[1] فلقد جاء في الحديث النبوي الشريف “من أحيا أرضا ميتة فهي له”.

والسؤال الذي يطرح لماذا يعتني المشرع بحماية هذه الحال الواقعية؟ هل يجوز اعتبار أنّ الحوز لا يؤدي إلى أيّ أثر قانوني سوى حماية الغير الذي يتعاقد مع الحائز باعتباره ظاهريا مالكا للمال الذي يتصرف فيه وذلك تأسيسا على نظرية الهيئة الظاهرة؟

لقد اعتنى المشرّع بحماية الحائز واسند آثارا قانونية للحوز وذلك لأنه في كل مجتمع منظم يسير سيرا عاديا يكون الحوز في الغالب بيد المالك الحقيقي، لذلك رأى المشرع أنّه من اللازم حماية ذلك الحوز بإحداث الدعاوي الحوزية إلاّ أنّ الأمر لا يكون كذلك دائما إذ من الجائز أن تكون الملكية بيد شخص آخر غير الحائز، ومثال ذلك الإنسان الذي ابتاع عقارا من آخر ليس له وتصرف فيه، فذلك الإنسان يعد حائزا لا مالكا. وفي هذه الصورة يتمتع الحائز بوجه غير مشروع بحماية الحوز.

الأسباب
وأول الأسباب التي جعلت المشرع يحمي الحوز هي أنّ الحوز يعدّ سببا من اسباب اكتساب الملكية إذا ما توفرت شروطه القانونية المنصوص عليها بالفصول 38 وما بعده من م.ح.ع ولذلك كان من الضروري التدخل لحمايته باعتبار أنه في حماية الحوز حماية لحق الملكية. وثاني الأسباب التي جعلت المشرع يحمي الحوز هي أمنية، ذلك أنّ النيل من الحوز من شأنه أن يعكّر من صفو الأمن عليه ففي حماية الحائز وجعله في مأمن من وقوع الاعتداء إقرارا للأمن العام الذي يخشى تعكيره باستمرار لو سمح بافتكاك الحوز بدعوى أنّ الحائر غير مالك. فالواجب أن لا يقتص الإنسان لنفسه بنفسه وأن يحترم الحالة الواقعية ويترك الأمر للقاضي.

أما ثالث الأسبــاب لحماية الحوز فإنه يرجع الى نظرية هامّة وهي نظرية الظاهـــر La théorie de l’apparenceإذ أنّ الوضعيات الظاهرة تنشئ بعض الحقوق والالتزامات سواء لمن يمارسها أو لمن يتعامل معها ولذلك وجبت المحافظة على هذه الوضعيات وحمايتها ولو بصفة مؤقتة في انتظار إقرارها أو إلغائها، وهذا ما تهدف إليه الدعوى الحوزية التي أقرّها للمشرع لحماية مؤسسة الحوز. وهي حماية لم تكن معزولة عن محيطها التشريعي والواقعي بل إنها تجد سندها في نظرية الملكية وظيفة اجتماعيّة والتي تعتبر أنّ الملكية ليست إلاّ واجبا اجتماعيا يؤديه المالك نحو مجتمعه بالتصرف في ملكه كما يحث المجتمع على احترام ذلك الحق طالما استمرّ الفرد في تصرفه في ملكه منسجما مع المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمجموع الأمة وهو ما يمكن الحائز من الاستمرار على التصرف في العقار طالما كان قائما بواجباته في استغلال العقار لمصلحة المجتمع ويبيح بالتالي عزل المالك الحقيقي عن ملكه كلما كان متقاعسا في القيام بواجباته المترتبة عن حق الملكية.

وتتمثل الحماية الأساسية للملكية والحوز في حمايتها عدليا بواسطة الدعوى الاستحقاقية والدعوة الحوزية اللتين خصهما المشرع بعدّة أحكام تضمنتها كل من م.م.م.ت، ومن .م.ح.ع وقد جعل من الدعوى الحوزية وسيلة قضائية خولها القانون للحائز لعقار أو حق عيني على عقار لطلب كف شغبه الحالي أو المستقبلي. كما جعل المشرع من الدعوى الاستحقاقيّة تلك الدعوى التي يمكن أن يرفعها كل شخص يرمي الى إثبات ملكيته على حق عيني.

ولقد تولى المشرع التونسي تعريف الدعوى الحوزية بالفصل 51 من م.م.م.ت بما يلي “توصف بدعوى حوزيّة القضية التي خول القانون القيام بها لحائز عقار أو حق عيني على عقار وذلك بقصد استرجاع الحوز أو إستبقائه أو تعطيل أشغال”. يتبين من الفصلين 51 و52 من م.م.م.ت أن الدعاوى الحوزية ثلاثة أنواع هي دعوى كف الشغب ودعوى تعطيل أشغال ودعوى استرجاع الحوز المفتك بالقوة.

[1] ـ عمر بوقديدة :الدعوى الحوزية” .
دعوى كف الشغب:
إنّ الشغب هو كل واقعة مادية أو قانونية تتضمن مباشرة أو بطريق غير مباشر إدعاء يتعارض مع حيازة الحائز وهو ما نص عليه الفصل 53 من م.م.م.ت عندما اقتضى أنّ “الشغب في هذا الموضوع هو كل أمر ينجرّ منه رأسا ومن نفسه أو بطريق الاستنتاج دعوى مخالفة لحوز الغير” ويكون الشغب ماديا عندما يتعارض مع الحائز ومن امثلة ذلك زراعة الأرض في حين أنّ الشغب القانوني هو كل عمل قانوني غير مصحوب بعمل مادي إلاّ أنه يتضمن إدعاء يعارض حيازة الحائز ومن امثلة ذلك إرسال إنذار إلى متسوغ عقار بعدم دفع معينات الكراء للمسوغ بل له بوصفه المالك الحقيقي. لذلك فإنّ الأعمال المادية أو القانونية المذكورة لا تمثل شغبا إلاّ اذا تضمنت إدعاء حيازة أو حق حيازة يتعارض مع حيازة الحائز ولذلك إذا لم تتضمن مثل هذا الإدعاء فلا تكفي لنشأة دعوى كف الشغب.

دعوى تعطيل الأشغال:
هي الدعوى التي خولها المُشرّع لكلّ شخص له مصلحة في وقف أعمال شرع في تنفيذها الغير ومن شأنها لو تمت أن تكون له شغبا وتكون بذلك هذه الدعوى وقائية وحمائية.

دعوى استرداد الحوز المفتك بالقوّة:
تفرض دعوى الاسترداد قيام الغير بافتكاك حوز العقار من المتصرف فيه باستعمال القوة، وفي هذه الحالة للحائز القيام بهذه الدعوى لاسترجاع عقاره كما يمكنه القيام بدعوى جزائية على أساس الفصل 255 من المجلة الجنائية المتعلق بزجر جنحة افتكاك الحوز بالقوة.

أمّا في خصوص الدعوى الاستحقاقية فإنّ الفقرة الثانية من الفصل 20 من م.م.م.ت نصت على أنه “توصف بدعوى إستحقاقية الدعاوي التي تستند إلى حق عيني عقاري” فهي الدعوى التي يرجى منها حماية الحقوق العينية الواردة بالفصل 12 من م.ح.ع وقد خصّ القانون التونسي الدعوى الاستحقاقية بالعقار دون المنقول الذي أفرد له دعوى يطلق عليها دعوى استحقاق المنقول[2].

وهكذا يتضح أنّ من كل من الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقية تصنف ضمن الدعاوى العينية العقارية والمراد بها الدعاوى التي يلتجئ إليها مالك العقار أو صاحب الحق العيني عليه بطلب تقرير حقه في وجه من ينازعه فيه أو يعتدي عليه. لذلك فإنّ كل من الدعويين تسلط على العقارات وعلى الحقوق الموظفة عليها وهي الحقوق التي قام بتعدادها الفصل 12 من م.ح.ع على وجه الحصر.

ويبرز التشابه أيضا بين الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقية في اتحادهما من حيث الاختصاص الترابي فالقاضي المختص بالنظر ترابيا في كل من الدعويين هو القاضي الذي يوجد بدائرته عقار النزاع طبقا للمبدأ العام المتعلق بالاختصاص في مادّة العقارات والمضمن بالفصل 38 من م.م.م.ت[3].

كما يبرز التقاء الدعويين في كون الحوز إذا ما توفرت فيه شروط معينة فإنه يؤدي الى الاستحقاق إذ أنه من آثار تفاعل الحوز مع مرور الزمن اكتساب الملكية. فحوز العقار خلال مدّة معينة بنية تملكه قرينة قانونية على ملكية الحائز له طبق الفصل 45 من م.ح.ع الذي ورد به “من حاز عقارا أو حقا عينا على عقار مدّة خمسة عشر عاما بصفة مالك حوزا بدون شغب مشاهدا مستمرا وبدون انقطاع ولا التباس فيه كانت ملكية العقار أو الحق العيني بوجه التقادم” إلاّ أنّ الحوز الذي يقـوم كأساس لكسب الملكية يجب أن يكون خاليا من العيوب صحيحا ولقد نصّ الفصل 54 من م.م.م.ت في فقرته الثانية “إذا كان الحوز مستمرا بدون التباس ولا انقطاع ولا شغب مشاهدا بصفة…”.

لذلك فإنّ الحوز إذا خلا من العيوب واستمر مدّة معينة أصبح الحائز مالكا لما يحوزه فاكتساب الملكية بالتقادم أثر من آثار تفاعل الحوز مع مرور الزمن.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنّه رغم التشابه الموجود بين الدعويين من حيث الموضوع فكلّ من الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقية تصنف ضمن الدعاوى العينية العقارية المسلطة على العقارات وفي مسألة الاختصاص الترابي لكل منهما، وفي كون الحوز إذا ما توفرت فيه شروط معينة يؤدي إلى الاستحقاق فإنه لا يمكن أن يحجب عنا الاختلافات الجوهرية بين الدعويين في عدّة جوانب ويتجلى ذلك في المبنى والطبيعة القانونية لكل واحدة.

[2] ـ حول تعريف الدعوى الاستحقاقية الوارد بالفصل 20 من م.م.م.ت مال بعنوان القاضي السيد محمد الحبيب الشريف دورة تكوينية حول الاستحقاق منظمة بين المعهد الأعلى للقضاء ومحكمة سوسة الابتدائية بتاريخ 23 و24 نوفمبر 1990.

[3] ـ ينص الفصل 38 من م.م.م.ت على ما يلي “ترفع للمحكمة التي بدائرتها العقار… ثانيا: الدعاوى الحوزية . ثالثا: الدعاوى الاستحقاقية”.

أولا: من حيث المبنى القانوني:
إنّ الحماية القانونية التي منحها المشرع للحائز وخوله القيام بالدعوى الحوزية لطلب الحماية تستند على مجرد التصرف الفعلي في العقار لمدة معينة وعلى هذا الأساس يتمتع الحائز الفعلي بحماية ولو لم يكن مالكا وحتى ضد المالك الحقيقي، وبالتالي إنّ المتمتع بالحماية في الدعوى الحوزية هو المتصرف الفعلي الذي يمكنه أن يكون غير مالك وللمالك طرق ووسائل أخرى لطلب الحماية واسترجاع حقه.

ثانيا: من حيث الطبيعة القانونية:
تختلف الدعويين من حيث الطبيعة القانونية فالحوز قرينة بسيطة على الملكية ولهذا ليس المقصود من الدعوى الحوزية إثبات حق الملكية وإنما المقصود منها هو حماية تلك الوضعية الفعلية التي اكتسبها الحائز بينما تهدف الدعوى الاستحقاقية إلى إثبات الملكية على العقار بأحد أسباب كسب الملكية المنصوص عليها بالفصل 22 من م.ح.ع وهي العقد والميراث والحيازة المكسبة.

ولئن كانت الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقية تختلفان في عديد الجوانب الهامة فإنّ الفقهاء اعتادوا عند دراسة إحدى الدعويين مقارنتها بالأخرى لإبراز ما تمتاز به كل منهما من خصائص.
فالدعوى الاستحقاقية هي الدعوى التي ترمي الى إثبات الملكية على حق عيني وتقع ممارستها في أيّ وقت يراه المدعي صالحا، لأنه ليس مرتبطا بأجل محدد يزول بفواته حقه في استرجاع ملكه، وخلافا للدعوى الشخصية التي تزول بمرور الزمن فإنّ حق الملكية لا يسقط نتيجة عدم استعماله مهما طالت المدّة التي لم يمارس خلالها المالك حوزه للعقار.

أما الدعاوى الحوزية فإنّها تختص بآجال ضيقة جعلها المشرع شرطا أساسيا للانتفاع بالحماية القانونية وبالتالي يجب إثارة الدعوى خلال سنة من وقوع الشغب.

وأخيرا يجب ملاحظة أنّ اختلاف المبنى القانوني لكل من الدعويين ينعكس على شروط ممارسة كل دعوى وآثارها: فالدعوى الاستحقاقية غايتها حماية حق الملكية وإقرارها بصفة نهائية وتبعا لذلك يتطلب الحكم فيها الإدلاء بحجج ثابتة، أو قرائن قوية ومتضافرة في حالة عدم وجود الكتائب الرسمية لتتمكن المحكمة من ترجيح كفة أحد الخصوم، ويكون أثر الحكم في الدعوى إسناد أصل الحق الى صاحبه وإقراره بصفة نهائية وثابتة.
أمّا الدعوى الحوزية فمبناها الأساسي حماية الحوز ولذلك يقع الاكتفاء عند النظر فيها على المستندات الواقعية كالمعاينة والشهادة التي تكرس الوضع الظاهر ولا تغوص في أصل الحق ويكون أثر الحكم فيها إبقاء الحائز على حوزه أو إرجاعه إليه إذا انتزع منه بصفة وقتية إلى أن تتضح مسألة الملكية. هذا ما جعل عديد الفقهاء[4] يعتبرون أنّ الدعوى الحوزية دعوى وقتية والحكم الصادر فيها وقتي كذلك، ولا يعتبر قضاء موضوعيا ضرورة أنّ القاضي لا يعتدّ بأصل لحق ولا يفصل فيه.

ولقد أثار موضوع الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقيّة جدلا كبيرا بين الفقه وفقه القضاء إذ تعددت الآراء واختلفت حول علاقة الدعويين ببعضهما والآثار المترتبة عنهما تلك هي الفائدة النظرية لموضوعنا والتي لا يجب أن تحجب عنا الأهمية العلمية للموضوع المتمثلة أساسا في فهم جزئيات كلا الدعويين وتوضيح مجال الحماية المقصودة من كل واحدة منهما واستثنائها وشروط القيام بهما وجميع مراحلهما الاجرائيّة وهي مسائل دقيقة يتطلب النظر في شأنها وخاصّة توحيد الآراء حولها لتعلقها بحقوق المتقاضين وهو ما يعني ضرورة البحث في مسألة الأحكام المنظمة لكل من الدعوى الحوزية والدعوى الاستحقاقية وما هي النتائج المترتبة عن هذا الاختلاف.

ويستخلص من كل ما تقدم أنّ الدعوى الحوزية تختلف عن الدعوى الاستحقاقية في عديد الجوانب ويترتب عن هذا الاختلاف نتائج معينة. لذا سنعرض في (الجزء الاول) إلى اختلاف الدعوى الحوزية عن الدعوى الاستحقاقية وفي (الجزء الثاني) الى نتائج ذلك الاختلاف.

ـ الجزء الأول:اختلاف الدعوى الحوزية عن الدعوى الاستحقاقية
ـ الجزء الثاني:نتائج اختلاف الدعوى الحوزية عن الدعوى الاستحقاقيّة.
الجزء الأوّل
اختلاف الدعوى الحوزية عن الدعوى الاستحقاقيّة
تختلف الدعوى الحوزية عن الدعوى الاستحقاقية اختلافا جوهريا ويتجلى ذلك في عدّة جوانب إلاّ أنّ ذلك لا يحول دون انتهاج مسلك عام نتمكن من خلاله التعرض في فصل أول إلى اختلاف الدعويين من حيث شروط القيام ودراسة ذلك سيقودنا حتما الى التطرق في فصل ثان الى اختلاف الدعويين من حيث إجراءات القيام ومرجع النظر.

الفصل الأول: من حيث شروط القيام:
لئن كان القيام بكلا الدعويين خاضعا للشروط العامة التي يقتضيه القانون والمنصوص عليها بالفصل 19 من م.م.م.ت من أهلية وصفة ومصلحة، فكل شخص يريد أن يقوم بالدعوى الحوزية أو الاستحقاقية لا يكون قيامه صحيحا إلاّ إذا كان ممن له مصلحة في القيام وممن له الصفة القانونية لدى القائم بها إلى جانب الأهلية التي تخول له الدفاع عن مصالحه وحقوقه لدى القضاء. وبالإضافة إلى هذه الشروط العامّة التي يجب توفرها في كلا الدعويين، هناك شروطا خاصّة لكل منهما تختلف عن الأخرى . ففيما يتعلق بالدعوى الحوزية هناك شروطا عامّة للقيام بها وبالإضافة إلى هاته الشروط العامّة هناك شروطا خاصّة بكل نوع منها. وبتوفر تلك الشروط يمكن للحائز أن يمارس حقه في الحماية الحوزية عن طريق الدعوى الحوزية لذلك سنتعرض تباعا في فقرة أولى إلى الشروط العامة للقيام بالدعوى الحوزية إلى الشروط الخاصة للدعوى الحوزية في فقرة ثانية وأخيرا إلى شروط القيام بالدعوى الإستحقاقية في فقرة ثالثة.

[4] ـ أحمد أبو الوفاء “أصول المرافعات المدنية والتجارية” ص 180 .
الفقرة الأولى
الشروط العامة للقيام بالدعوى الحوزيّة:
اقتضى الفصل 51 من م.م.م.ت أنه “توصف بدعوى حوزية القضية التي خول القانون القيام بها لحائز عقار أو حق عيني عقاري وذلك بقصد استرجاع الحوز أو استبقائه تعطيل أشغال”. يستخلص من الفصل المذكور أنّ المشرع حدّد ثلاثة شروط لقبول الدعوى الحوزية وهي أن يتمّ القيام من قبل الحائز (أولا) وأن يكون موضوع الدعوى عقارا أو حقا عينيا (ثانيا) وأن يكون الهدف هو حماية الحوز (ثالثا).

أولا : الحائز
إنّ الحوز موضوع الحماية القانونية هو الذي يتوفر فيه العنصر المادي والعنصر المعنوي بحيث من المفروض أن يكون الحائز هو من كان واضعا يده على العار ومصرفا فيه تصرف المالك في ملكه.
ولقد تبنى المشرع التونسي هذه النظرية حيث خول القيام بالدعوى الحوزية لمن كان حائزا لعقار أو حق عيني عقاري وهو ما يفهم منه وجوب توفر العنصر المادي في الحوز[5] لكن بشرط أن يتصرف الحائز في العقار بصفة مالك[6] وهو ما يجعل العنصر المعنوي شرطا لازما لصحة القيام بدعوى حوزية ومتى توفر العنصران في شخص واحد جاز له القيام بجميع أنواع الدعاوى الحوزية.

غير أنه في بعض الأحيان قد يحدث أن لا يتوفر في المعني بالأمر إلا العنصر المادي فيعتبر أصحاب النظرية المادية أنّ الحائز يستحق الحماية ويعتبر أصحاب النظرية الشخصية أنه لا يستحقها لأنه مجرّد حائز عرضي.
للقيام بالدعوى الحوزيّة لا بدّ أن تتوفر في القائم بالدعوى صفة الحائز وهذه الصفة تستمدّ أساسا من حوز الشخص للعقار أو الحق العيني العقاري حسب مواصفات معينة وشروط خاصّة يجب توفرها فيه لينكن حمايته بالدعوى الحوزية.

أ ـ خصائص الحوز:
اقتضى الفصل 54 من م.م.م.ت فيما يتعلق بخصائص الحوز ما يلي” “إذا كان الحوز مستمرّا بدون التباس ولا انقطاع ولا شغب مشاهدا بصفة مالك”. يتبين لنا من هذا النصّ أنّ الحوز ليكون محل حماية قضائية يجب أن تتوفر فيه شروط الاستمرار وانعدام الشغب وبصفة مالك سنتعرض إليها بأكثر تدقيق.
1 ـ استمرار الحوز: إنّ الهدف من هذا الشرط هو حرص المشرع على أن يكون الحائز مباشرا لحوزه بصفة متواصلة، وذلك لا يعني الحضور كامل الوقت بل الممارسة للتصرف حسب طبيعة العقار. فحوز عقار فلاحي يكون مستمرا إذا كان الحائز مواظبا على حراثتها في موسم الحرث وساهرا على جني ثمارها في موسمها الطبيعي[7].

2ـ عدم التباس الحوز: يقتضي هذا الشرط أن يكون الحوز واضحا لا غموض فيه بحيث يكون المتصرف في العقار يشغله لحسابه الخاص دون أن يترك مجالا لتسرب الشك أنّه يحوز نيابة عن غيره. وقد ذهب فه القضاء في بعض القرارات إلى عدم قبول دعوى الشريك على الشياع الذي يدعي التصرف والحوز لخاصة نفسه على أساس أن هناك التباسا في حوزه ولاشتراك الملكية بينه وبين بقية المستحقين.
3 ـ الحوز غير المنقطع والخالي من الشغب: يفترض هذا الشرط أن يكون الحائز قد تصرف في العقار المدّة القانونية تصرفا هادئا وبالتالي لا يجب أن يكون قد أدى إلى إحداث الشغب من قبل خصمه أو حتى من قبل الغير لأنّ ذلك من شأنه أن يؤثر على الأجل الذي حاز خلاله العقار وعلى طبيعة الحوز نفسه.
ويمكن أن يكون الشغب الذي يحدثه الخصم أو الغير من قبل الشغب المادي أو الشغب القانوني كأن يقوم عليه بدعوى حوزية أو بدعوى استحقاقية[8].

4 ـ الحوز المشاهد: يقصد بهذا الشرط إبراز الحائز للعموم حتى يكون تصرفه في العقار تصرفا فعليا وظاهرا وهذا يكسبه حجّة لفائدته إزاء الغير يعارضه في حوزه.
5ـ الحوز بصفة مالك: من المعلوم أنّ الدعوى الحوزية تقبل من الحائز بصرف النظر عن صفته كمالك أولا إذا ما توفرت فيه الشروط القانونية لأنه لو اشترطنا وجوب توفر صفة المالك لدى الحائز لأصبحت الدعوى الحوزية لا معنى لها ولا تبقى إلاّ إمكانية الدعوى الاستحقاقية، في حين أنّ المشرع يحرص على حماية الحائز حتى ولو لم يكن مالكا للعقار. وإن ظهر الحائز في مظهر المالك عند تصرفه في العقار وهذا دليل آخر على تبني المشرع للنظرية الشخصية للحوز التي توجب توفر الركنين المادي والمعنوي[9].

ب ـ أجل القيام بالدعوى الحوزية:
يعتبر أجل رفع الدعوى الحوزية الذي تضمنه الفصل 54 من م.م.م.ت[10] شرطا مميزا للقيام بالدعوى الحوزية وهذا الأجل يتمثل في أن الطالب ملزم برفع دعواه في أجل العام من تاريخ وقوع الشغب وإلاّ سقط حقه وقد نصّ الفصل 54 على أنّ شروط القيام بالدعوى الحوزية يستوجب عدم سكوت القائم بها مدة عام من بعد وقوع الشغب أو افتكاك الحوز بالقوة أو إتمام الأشغال[11].
ويستنتج من ذلك أنّ المشرّع قد فرق بين المدّة القانونية للحوز التي تخول القيام بالدعوى الحوزية والتمتع بالحماية القضائيّة وبين أجل سقوط القيام بالدعوى الحوزية كما أنّ صورة إفتكاك الحوز بالقوة هي مستثناة من الحالات العامّة للدعاوى الحوزية.

1ـ مدّة الحوز:
باستثناء صورة افتكاك الحوز بالقوة فإنّ القيام بالدعوى الحوزية لا يكون مقبولا إلاّ إذا أثبت المدعي أنه حاز العقار مدّة عام على الأقل قبل مشاغبته في حوزه. وأجل العام من شأنه إجبار الحائز على التصرف الفعلي في العقار. إلاّ لأنّ ذلك لا يعني أن يكون التصرف شخصيا بل بإمكان الحائز أن يضمّ لحوزه حوز الغير إذا كان هذا بغير خلف له، باعتبار أنّ ذلك لا يؤثر على صفة الاستقرار في الحوز. وإثبات الحوز السنوي يمكن إثباته بجميع وسائل الإثبات وغالبا ما يقع الاعتماد على البينة بالشهادة أو على إقرار الخصم بحوز المدعي[12].
[5] ـ وهو ما أوجبه الفصل 51 من م.م.م.ت عندما تحدّث عن العنصر المادي.
[6] ـ هذا ما اشترطه الفصل 54 من م.م.م.ت عندما اشترط توفر العنصر المعنوي عندما أوجب أن يكون التصرف تصرف المالك في ملكه.

[7] ـ قرار تعقيبي مدني عـ3504ـدد مؤرخ في 12/02/1981، نشرية محكمة التعقيب 1981، ق م، ج1، ص56.
[8] ـ قرار تعقيبي مدني عـ11015ـدد مؤرخ في 18/03/1976، ن 1976، ق م ج1، ص 150.
[9] ـ قرار تعقيبي مدني عـ3591ـدد مؤرخ في 17/05/1995، ن 1995، ص18.
ـ قرار تعقيبي مدني عـ19804ـدد مؤرخ في 10/10/1990، ن 1990، ص 46.
ـ قرار تعقيبي مدني عـ23076ـدد مؤرخ في 12/03/1991، ن 1991، ص 88.
ـ قرار تعقيبي مدني عـ41963ـدد مؤرخ في 25/09/1996، ن 1996، ص 124.
[10] ـ ينص الفصل 54 من م.م.م.ت على أنه “فيما عدا صورة افتكاك الحوز بالقوة فإنّ القيام بدعوى الحوز لا يقبل إلاّ إذا كان الطالب حائزا منذ عام على الأقل حال وقوع الشغب أو افتكاك الحوز أو إتمام الأشغال التي من شأنها أن ينجرّ عنها شغب ولم يسكت مدّة عام من بعد وقوع الشغب أو افتكاك الحوز من يده أو إتمام الأشغال”….

[11] ـ قرار تعقيبي مدني عـ15353ـدد مؤرخ في 11/12/1986، ن 1986، ق م، ج2، ص 102.
[12] ـ قرار تعقيبي مدني عـ16892ـدد مؤرخ في 14/03/1989، ق ت 4/1991، ص 65.

1 ـ حقوق الارتفاق:
تنقسم حقوق الارتفاق بحسب منشئها إلى حقوق ارتفاق طبيعية وحقوق ارتفاق قانونية كالحق في عدم الغراسة على مسافة معينة من الحدود مراعاة لمصلحة الأجوار وحق الكشف على ملك الجار طبق القانون، وأخيرا حقوق ارتفاق اتفاقية يكونها الأفراد فيما بينهم.
ويمكن القول بأنّ جميع الحقوق الارتفاقية الطبيعية والقانونية يمكن حمايتها بإجراءات الدعوى الحوزية إذا ما توفرت لحائزها شروط الفصلين 52 و54 من م.م.م.ت[19].
وبالنسبة بحقوق الارتفاق الاتفاقية فإنّ هته الحقوق تنشأ بموجب كتب لا يشترط في تحريره شكليات معينة وغاية ما يشترط فيه أن يكون صادرا عن مالك العقار الموظف عليه الحق. ومتى وقع حوز الحق في المدّة القانونية يمكن ممارسة الدعوى الحوزية لردّ الشغب الحاصل في الانتفاع بذلك الحق.
وفي صورة نشوء الحق الارتفاقي عن تخصيص مالك عقارين لمنفعة على عقار لفائدة آخر يمكن لمن ينجرّ له العقار المنتفع بذلك الحق أن يتمسك به ويبقى قائما دون حاجة إلى أيّ كتب يمكن إثبات ذلك بشهادة الشهود أو بالآثار المادية أو بالبحث العيني. وفي صورة قيام الحوز القانوني لفائدة مالك العقار المنتفع فإنه يمكن ممارسة الدعوى الحوزية لحماية هذا الحق.

2ـ الحقوق العينية الأخرى:
*حق الملكية: لا جدال في أنّ حق الملكية يخول لصاحبه القيام بالدعوى الحوزية ضدّ كل من شاغبه لحماية الحق الذي يوجد في حوزه.
*حق الانتفاع والاستعمال والسكنى: إنّ الحائز بموجب هذا الحقوق يمكنه القيام بالدعوى الحوزية لحماية حقه ضدّ الغير الذي قد يحول دون انتفاعه من العقار وذلك سواء بنفسه أو بمؤازرة مالك العقار.
*الامتياز والرهن العقاري: الامتياز هو حق للدائن يمنحه القانون لتفضيل صاحب الامتياز على بقية الدائنين في الخلاص وإذا كان للامتياز صبغة عينية في صورة تعلقه بعقار فإنّ له صبغة شخصية نظرا للاتفاق المكون له وبالتالي فإنّ الأحكام القانونية والبنود الاتفاقية كفيلة لحماية الامتياز دون حاجة إلى حمايته بالدعوى الحوزية.
أمّا الرهن العقاري فهو ذلك الحق المخول للدائن المرتهن بأن يطلب بيع العقار المرهون لفائدته في صورة عدم الوفاء بالدين ومن الصعب تصور قيام الدائن بالدعوى الحوزية لحماية حقه.

ثالثا: هدف الدعوى الحوزية حماية الحوز
يستشف من الفصل 52 من م.م.م.ت أنّ الهدف من ممارسة الدعوى الحوزية يكون كف شغب الغير أو تعطيل الأشغال أو استرجاع الحوز إذا تم افتكاكه عن طريق القوة. إنّ المشرع أفرد لكل غاية من هذه الغايات دعوى خاصّة وقد قصد من وراد ذلك إكساب الدعوى الحوزية نجاعة في حماية الحوز من كل مظاهر التعدي والمشاغبة وسعي من أجل توفير الاستقرار اللازم والأمان لكل من حاز عقارا عن حسن نية وعمل على الانتفاع من ثماره.

إنّ المتأمل في أحكام الدعوى الحوزية يلاحظ أن هذه الدعوى قد صيغت لحماية وضعية مادية وقتية في انتظار الخوض في أصل الحق ومناقشته والبحث في جديته من عدمها وإنما تكتفي بمراقبة مدى احترام هذه الوضعية الواقعية من طرف المتعاملين معها سواء كانوا مالكين حقيقيين أو لم يكونوا فجل الأحكام تؤكد على ضرورة حماية الحوز دون الالتفات إلى حق الملكية واعتبر بعض الفقهاء ومنهم [20]Elisabeth Michelet” إنّ حماية غير المالك ليست بلا شك الهدف من وراء الحماية الحوزية ولكنها النتيجة الحتمية لها”.

وهو ما يعني أنّ الحماية الحوزية لا تهدف إلى إنشاء حق للحائز غير المالك على العقار الذي يدعي حيازته وإنما تهدف إلى حماية الحوز وحماية غير المالك ما هي إلاّ نتيجة عرضية فحسب. وهو ما يؤدي بنا إلى القول بأنّ الحماية الحوزية لا تنشئ أيّ حق للحائز على العقار أو الحق العيني على العقار فالمستفيد من حكم حوزي لا يمكنه الاحتجاج به للاستدلال على حقه الملكية للعقار موضوع الحوز أو لإنشاء حق عيني على ذلك العقار.
تلك هي إذا الشروط العامة للقيام بالدعوى الحوزية فما هي الشروط الخاصة للقيام بها؟

الفقرة الثانية
الشروط الخاصة للقيام بالدعوى الحوزيّة
لقد سبقت الإشارة إلى أنّ الدعوى الحوزية تنقسم إلى أنواع ثلاثة: دعوى كف الشغب ودعوى تعطيل الأشغال ودعوى استرجاع الحوز المفتك بالقوة، ولا يفوتنا أن نلاحظ بأنه إلى جانب الشروط العامة التي تخضع إليها الدعوى الحوزية فإنّها تخضع كذلك إلى شروط خاصّة تنفرد بها كل دعوى حسب نوعها عن الأخرى.

أولا: الشروط الخاصّة بدعوى كف الشغب:
علاوة على الشروط العامة الواجب توافرها لقبول الدعوى الحوزية لا بدّ أن يرتكز القيام بدعوى كف الشغب على وجود شغب سواء كان ماديا أو قانونيا من الغير وهذا الشغب يجب أن يكون قد حصل بالفعل أي قائما في الحال.
إنّ المقصود من وضع هذا الشرط هو التوصل على التمييز بين دعوى كف الشغب التي تستوجب أن تكون المضرّة قد حصلت بالفعل ودعوى تعطيل أشغال التي لا تستلزم حصول ضرر فعلي بطبيعة الشغب الذي تم تعريفه بكونه كل عمل إرادي فيه معارضة لحوز الحائز، ويكون الشغب ماديا أو قانونيا.

ثانيا: الشروط الخاصّة بدعوى تعطيل أشغال:
تفترض هذه الدعوى زيادة على الشروط العامة مجرد شروع الغير في أشغال من شأنها لو أنجزت أن يتكون منها شغب للحائز، مثال ذلك كأن يشرع الجار في إقامة جدار على أرضه من شأنه لو تم بناؤه أن يحجب الرؤية والهواء أو الشمس على الجار الآخر ولا تكون هذه الدعوى مقبولة إلاّ إذا تبين أنّ الأشغال مصدر الضرر لم يقع إتمامها عند القيام بها ويمكن تأسيسها على الضرر المحتمل وقوعه في المستقبل.

ثالثا: الشروط الخاصّة بدعوى استرداد الحوز المفتك بالقوة:
تتميز هذه الدعوى عن بقية الدعاوى الأخرى بشرط استعمال القوة من قبل الغير لافتكاك الحوز من صاحبه ويجدر التساؤل هنا عما إذا كان من الضروري اشتراط استعمال القوة في مفهومها المادي؟ حيث رأى فقه القضاء إجابة على هذا التساؤل أن يكون استعمال القوة استعمالا ماديا ومباشرا وأنّ كلّ أعمال الإكراه التي تؤثر على إرادة الحائز تعتبر من قبل استعمال القوة[21].
[19] ـ عبد الله الهلالي م.ق.ت عـ3ـدد لسنة 1970، ص14.
[20] ـ Elisabeth Michelet : La règle de non cumul du possession et du pétitoire Thèse Paris p80.
[21] ـ قرار تعقيبي جزائي عـ15934ـدد مؤرخ في 19/02/1986 ،
ن 1986، ق ج 1ص 50.

الفقرة الثالثة
شروط القيام بالدعوى الاستحقاقية [22]
إذا كان القيام بالدعوى الحوزية لا يقتضي سوى أن يثبت المدعي ونّ حيازته مستوفاة لشروطها السالفة الذكر فإنّ القيام بالدعوى الاستحقاقية تستوجب أن يثبت المدعي ملكيته للشيء وهذا الإثبات صعب واشدّ مشقة بكثير من إثبات مجرد الحيازة.
إنّ كل دعوى استحقاقية تخضع وجوبا إلى بيان السبب القانوني الذي تستند إليه وقد نص الفصل 22 من م.ح.ع في هذا الشأن على أنه “تكتسب الملكية بالعقد والميراث والتقادم والالتصاق…”.

والملاحظ أنّ المشرع التونسي قد عدّد في هذا الفصل أسباب المطالبة باستحقاق ملكية العقار والمنقول دون أن يرتبها، وقد أورد بمجلة الحقوق العينية تدقيقا بالنسبة للاستيلاء (الفصول من 23 إل 26 م.ح.ع) والالتصاق (الفصول من 27 إلى 37 م.ح.ع) والتقادم (الفصول من 38 إلى 52 م.ح.ع) أما العقد فقد نظمت جل أحكامه مجلة الالتزامات والعقود (عقود البيع والصلح…) ومجلة الأحوال الشخصية (عقد الهبة والوصية…) أمّا الميراث فإنّ الأحكام التي تنظمه موزعة بين مجلة الالتزامات والعقود ومجلة الحقوق العينية ومجلة الأحوال الشخصية.

أوّلا: العقد وسيلة إثبات يقينية للقيام بالدعوى استحقاقية 22
العقد هو اتفاق بين إرادتين فأكثر لإنشاء رابطة قانونية مع تعيين شروطها وآثارها[23]. وأهمّ العقود الناقلة للملكية والتي يحتجّ بها لدى المحاكم حين القيام بالدعوى الاستحقاقية هي:

1 ـ البيع: يعدّ عقد البيع مبدئيا عقدا رضائيا، إلاّ أنّ البيع العقاري يخضع إلى قواعد استثنائيّة وردت صلب الفصل 581 من م.إ.ع الذي أوضح أنه “إذا كان موضوع البيع عقارا أو حقوقا عقارية أو غيرها مما يمكن رهنه يجب أن يكون بيعها كتابة بحجة ثابتة التاريخ قانونا ولا يجوز الاحتجاج بالعقد على الغير إلاّ إذا سجل بقباضة المالية مع مراعاة الأحكام الخاصة بالعقارات المسجلة”.

2 ـ الهبة: الهبة عقد بمقتضاه يملك شخص لآخر مالا بدون عوض[24] فالهبة هي إذا من العقود الناقلة للملكية من الواهب إلى الموهوب له. واشترط الفصل 204 م.أش بكلّ وضوح أنه لا تصح الهبة إلاّ بحجة رسمية.
3 ـ الوصيـة: الوصية هي تصرف منفرد عرفه الفصل 171 من م.أ.ش بأنه “تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع سواء كان عينا أو منفعة. والوصية لا تثبت إلاّ بحجة رسمية أو بكتب محرر من الموصى”.
4 ـ المقاسمة: يعد عقد المقاسمة أيضا من العقود الناقلة للملكية والتي يحتج بها لدى المحاكم للقيام بالدعوى الاستحاقية على معنى الفصول 116 و117 و123 من م.ح.ع

ثانيا: مرور الزمن ضروري للقيام بالدعوى الاستحقاقية:
إنّ الحوز إذا خلا من العيوب واستمر مدّة معينة أصبح الحائز مالكا لما يحوزه. فالتقادم المكسب يعتبر دليلا عمليا على الملكية، إلاّ أنّ التمسك به لا يؤدي إلى كسب الحق إلاّ إذا ما اثبت واضع اليد الحيازة الصحيحة المستوفية لعنصريها المادي والمعنوي والخالية من العيوب واستمرارها مدّة التقادم دون تعليق ولا انقطاع. فالمشرع التونسي يضع قرينة قانونية تعفي الحائز من إثبات ملكيته والاكتفاء بإثبات الحيازة القانونية. فهدف المشرع هو المحافظة على استقرار وضع الحائز وإعطائه مركزا متميزا في دعوى الاستحقاق التي قد يرفعها ضد الغير.
وقبل التعرض إلى الشروط الواجب توفرها في مرور الزمن لينتج آثاره كسبب مكسب للملكية وجب الإشارة إلى الاختلاف الوارد بين الفصلين 38 و45 من م.ح.ع فالفصل 38 يكتفي بالحيازة المادية فقط في حين يشترط الفصل 45 الحيازة بصفة مالك.

يفترض التقادم المكسب قيام حوز له مميزات، كما يفترض انقضاء مدة من الزمن. فالحوز لا يكتسب صبغته القانونية الصالحة للمعارضة إلاّ إذا اجتمع فيه الركنان الأصليان له: اليد المفيدة للتصرف المادي والملكية وشبهها التي لا يوجد ما ينافيها وهي ركنه الاعتباري أو المعنوي “هكذا حيثت محكمة التعقيب في قرارها تحت عدد 5557 المؤرخ في 20 ديسمبر [25]1949 بأن أكملت النقصان الوارد بالفصل 38 من م.ح.ع وحسمت “التناقض” بينه وبين الفصل 45 من م.ح.ع

وهكذا يتضح أنّ الحوز يجب أن يتوفر فيه ركنان:
1 ـ ركن مادي: وهو وضع اليد الفعلي على الشيء أو الحق فتكون للحائز السلطة التي تخول له إجراء الأعمال المادية التي يستطيع مباشرتها من له حق على الشيء ومن بين الأعمال المادية نورد على سبيل المثال زراعة الأرض والسكنى وهذه الأعمال يبشرها الحائز بنفسه أو بواسطة شخص آخر.
وبالرجوع إلى الفصل 38 من م.ح.ع نجده لا يتحدث في تعريفه للحوز إلاّ عن الأعمال المادية وذلك ما يفهم من خلال عبارة السيطرة الفعلية. ويمكن القول أنّ الأعمال القانونية لا تدخل في نطاق ما سميناه بالركن المادي وهو ما قضى به فقه القضاء الفرنسي [26].

فيما يتعلق بالركن المادي بأنّ أقصى الأعمال القانونية كالبيع والهبة واعتبر أنّ مثل هذه الأعمال لا تكتفي وحدها لتوفر هذا الركن وذلك لأنّ هذه التصرفات يمن أن تقع من شخص غير حائز.
إلاّ أنّ توفر الركن المادي وحده لا يهيّأ السبيل لكسب الحق إلاّ إذا اقترن بالركن المعنوي.
[22] ـ هذا ما أكدته محكمة التعقيب في قرارها عـ49058ـدد المؤرخ في 02/02/1998، نشرية محكمة التعقيب القسم المدني لعام 1998،
ج 2. ص276.
ـ قرار تعقيبي مدني عـ48804ـدد مؤرخ في 26/01/1998، ن القسم المدني لعام 1998. ج2. ص 292 والذي جاء به “أن طرق
اكتساب الملكية منصوص عليها لفصل 22 من م.ح.ع على سبيل الحصر وهي العقد والميراث والتقادم والالتصاق ومفعول القانوني… فلا مجال للمجادلة بأنّ التقادم هو الوجه الأول بالاعتبار على غيره من بقية أسباب اكتساب الملكية ما دام القانون حول اكتسابها بالعقد أيضا وعلى وجه الاستقلال.

[23] ـ محمد الزين النظرية العامة للالتزامات 1 العقد تونس 1993 عـ33ـدد ص35.
[24] ـ الفصل 200 من م.أ.ش
[25] ـ قرار تعقيبي مدني عـ5557ـدد مؤرخ في 20/12/1949. م.ق.ت لسنة 1949 ص 53
[26] ـ قرار تعقيبي فرنسي مؤرخ في 14/11/1910 ، دالوز 1912 ج الأول ص 483.
هذا الركن نص عليه صراحة الفصل 45 من م.ح.ع الذيجاء به «من حاز عقارا أو حقا عينا على عقار مدّة خمسة عشرة عاما بصفة مالك».

ولا يتوفر الركن المعنوي إلاّ إذا قصد الحائز استعمال الشيء لحق نفسه فإذا كان الأمر يتعلق بحق ملكية، فيجب أن يتوفر لدى الحائز قصد استعمال هذا الحق فيستعمل العين ويستغلها ويتصرف فيها كما يفعل المالك الحقيقي للشيء والعبرة بنيّة استعمال الحائز للشيء لحسابه الخاص.
وقد بررت في هذا المجال نظريتان: نظرية شخصية رائدها الفقيه سافيني وهي التي تولى العنصر المعنوي أهمية كبرى.

ونظرية مادية ومن أنصارها الفقيه اهرنج الذي يدمج الإرادة في السيطرة المادية ويكون بذلك وجود العنصر المادي قرينة على وجود العنصر المعنوي ويبقى السؤال مطروحا بالنسبة الى معرفة موقف المشرع التونسي من هذين الاتجاهين.
لقد اعتمد المشرّع التونسي النظرية الشخصية باعتبار أنه اشترط صلب الفصل 45 من م.ح.ع الحيازة بصفة مالك«Possession à titre de propriétaire» ولنا أن نتساءل عن المغزى من توفر مثل هذا الشرط؟
إنّ إقرار فكرة الملكية وظيفة اجتماعية أوجبت توفر عنصر القصد لدى الحائز وذلك لأنّ الشخص الذي يحوز الشيء بصفة مالك يستغل موضوع الحيازة استغلال يعود عليه بمنفعة فيكون بذلك حريصا على مزيد العمل والإنتاج وبالتالي تحقيق المصلحة العامة وفي هذا السياق لاحظ السيد محمد الحبيب بودن في مقال له[27] إنّ المشرّع لم يشترط إثبات هذا الاستغلال وهذا لا يتماشى مع فكرة الملكية وظيفة اجتماعية لأنّ الفصل 45 من م.ح.ع لم يوجب توفر سوى الحيازة. في حين كان على المشرع اشترط إثبات الحائز حسن استغلاله للأرض ذلك أنّ الحيازة لا تعني بالضرورة الاستغلال فيجب على المشرع بناءا على ذلك أن ينقح هذا الفصل بما يتماشى مع فكرة الملكية وظيفة اجتماعية وبالتالي مع روح التشريع العام.

ولا يكتسب الحق بالتقادم بناء على ما تقدم إلاّ إذا كانت الحيازة مستوفية لعنصريها المادي والمعنوي ولكن لا بد أيضا ان تكون خالية من العيوب أي أن تكون حيازة قانونية.
ويكون الحوز معيبا إذا ما فقد الميزات التي ضبطها المشرع لقيام حوز فاعل ومنتج لآثار قانونية وقد اشترط الفصل 45 من م.ح.ع بأنه يجب أن يكون الحوز بدون شغب مشاهدا مستمرا ودون انقطاع ولا التباس.
إلاّ أنّ توفر حوز مستوفي لجميع عناصره ـ مادي ومعنوي وخال من العيوب ـ لا يكفي لكسب الحق بالتقادم بل لا بد من استمرار وضع اليد مدّة معينة. والمتأمل في مجلة الحقوق العينية يلاحظ أنّ المشرع وضع ثلاث مدد لتحقق التقادم المكسب، مدة أولى يمكن تسميتها بالأصلية ومدّة ثانية وهي مدة مرفعة ومدة ثالثة وهي مدة منخفضة.

1)المدة الأصلية: نص الفصل 45 من م.ح.ع صراحة على انقضاء أجل خمسة عشر عاما لينتج الحوز اثره ويقوم التقادم ليكتسب الحائز ملكية العقار أو الحق العيني.
2)المدّة المرفعة: اقتضى الفصل 47 من م.ح.ع على أن «ترفع مدة التقادم الى ثلاثين عاما فيما بين الورثة والشركاء».
3)المدّة المنخفضة: نص الفصل 46 من م.ح.ع»تخفض مدّة التقادم إلى عشر سنوات إذا أنجز الحوز بحسن نية وبمقتضى عمل قانوني من شأنه أن تنتقل به الملكية لو صدر ممن له الحق، والعبرة في حسن النية بوقت تلقي الحق». إلاّ أنه لا يمكن التمسك به إلاّ عند توفر شرط حسن النية وشرط العمل القانوني.
مفهوم حسن النيّـة: لم يعرف المشرع التونسي حسن النية وذلك على خلاف المشرع المصري الذي نص صلب المادة 965 من القانون المدني المصري على أنه «يعد حسن النية من يحوز الحق وهو يجهل أنه يعتدي على حق الغير وحسن النية مفترض دائما ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك».

وفي غياب تعريف تشريعي لمفهوم حسن النية تدخل فقه القضاء التونسي لإبراز معالم هذا المفهوم في أحد قراراته[28] بأن اعتبر بأنّ الحائز بشبهة حائز عن حسن نية وهو تعريف مستمد من الفصل 44 من م.ح.ع الذي نص على أنّ الحائز بشبهة هو الحائز بوجه لا يعلم عيبه ويمكن القول أنّ الحائز يكون حسن النية إذا لم يعلم بأنه يعتدي على ملك الغير.

أمّا العمل القانوني فالمقصود به صلب الفصل 46 من م.ح.ع هو التصرف الناقل للملكية كالبيع والهبة والوصية وعلاوة على هذا الشرط ـ تصرف ناقل للملكية ـ يجب أن يكون هذا الأخير صادرا عن غير مالك.
4)آثار مرور الزمن: إنّ حقّ الملكية المكتسب بمرور الزمن المكسب للملكية لا يكسب بالتقادم من تلقاء نفسه بل لا بدّ للحائز المقام ضدّه بالدعوى الاستحقاقية أن يتمسك به إذ أنّه لا يجوز للمحكمة أن تقضي بالتقادم من تلقاء نفسها بل يجب أن يتمسك بهذا الحائز[29]. وهنا يكون التقادم دفعا يدفع به الحائز دعوى المالك الذي قام ضده بدعوى الاستحقاق.

وتمسك الحائز بالتقادم يجب أن يكون طلبا قائما بذاته ويجب أن يقع التمسك به أماممحكمة الموضوع. فإذا تمسك بالتقادم المكسب أمام محكمة الدرجة الأولى قضت له بذلك فيكفي في الاستئناف أن يطلب تأييد الحكم الابتدائي حتى يعتبر متمسكا بالتقادم. أمّا إذا تمسك بالتقادم أمام محكمة أول درجة وكسب الدعوى دون نظر إلى تقادم فإنّه يجب في الاستئناف أن يتمسك بالتقادم المكسب من جديد.
والتقادم المكسب لا يكون دفعا فقط بل يمكن أن يكون اساسا لرفع الدعوى الاستحقاقية من طرف الحائز المتمسك بالتقادم المكسب. والذي خرج العقار من حيازته فإنه يستطيع أن يرفع دعوى الاستحقاق على من آلت إليه الحيازة.

[27] ـ محمد الحبيب بودن: الملكية وظيفة اجتماعية م.ق.ت عـ6ـدد لسنة 1975 ص 198.
[28] ـ قرار تعقيبي مدني عـ7161ـدد مؤرخ في 10/03/1963 ن 1963 ،ج1، ص 185.
[29] ـ هذا ما استقرّ عليه فقه القضاء التونسي : قرار تعقيبي مدني صادر في 27/6/1974 النشرية 1974 ج2 ص11.
ـ قرار تعقيبي مدني صادر في 22/04/1976 النشرية 1976 جزء 2 ص 13

ثالثا: الالتصاق:
كما يعتبر من الوسائل اليقينية الالتصاق المكسب للملكية وتتعلق الحالة الأولى بالقرينة المنصوص عليها بالفصل 34 من م.ح.ع والتي مفادها أنّ البناءات والمغروسات الموجودة بأرض ما أو في باطنها تعتبر أنّ مالك الأرض قد أقامها على نفقته وأنّها ملك له ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك.
كذلك ما اقتضاه الفصل 37 من نفس المجلة في خصوص تمليك مالك الأرض الجزء اليسير بأرض ملاصقة إذا تجاوز البناء به عن حسن نية. وفي كلتا الحالتين يخاطب النص مالك الأرض الذي يجب أن يثبت تلك الصفة حتى يتحصل على ملكية البناء أو الجزء اليسير من الأرض الملاصقة فإذا أثبت أنّه مالك الأصل فإنّ ملكيته لما التصق به تكون ملكية يقينية ما لم يتوصل خصمه إلى دحضهـا.

رابعا: استحقاق العقار بموجب الإدراج بالسجل العقاري:
إنّ استحقاق العقار بموجب الإدراج بالسجل العقاري مبني على أساس أنّ حجّة الإدراج بالسجل العقاري لحق الملكية يعتبر حجّة قاطعة لصالح كل من أدلى بشهادة ملكية في هذا الغرض. والإدراج بالسجل العقاري يعتبر دليلا حاسما وقاطعا وبناء على ذلك فمتى سجل عقار باسم شخص معين كان هذا الشخص هو المالك دون سواه.

ولقد نص الفصل 305 من م.ح.ع على أنّ «كل حق عيني لا يتكون إلاّ بترسيمه بالسجل العقاري وابتداء من تاريخ ذلك الترسيم» كما أنّ الفصل 308 من نفس المجلة نص على أنّ «الحق غير المرسم يعتبر لاغيا». وبناءعلى ذلك فإنّ الدعوى الاستحقاقية المتعلقة بعقار مسجل يقع البت فيها على أساس ما تضمنته شهادة الملكية المتعلقة بعقار النزاع تحمل اسم المدعي مثلا فإنّ المحكمة تحكم لفائدته باستحقاق العقار محل النزاع دون اعتبار أي وثيقة أخرى[30]. إلاّ أنّ ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أنّ الإدراج بالسجل العقاري لم يشمل جميع العقارات بتونس وبناء على ذلك فإنّ وسيلة الإثبات هذه لا يتمتع بها جل المتقاضين الشيء الذي يجعلها لا تحل مشكل الإثبات في الدعوى الاستحقاقية بصفة شاملة.

الفصل الثاني: الاختلاف من حيث إجراءات القيام ومرجع النظر
إنّ اختلاف الدعوى الحوزية عن الدعوى الاستحقاقية لا ينحصر في اختلافهما في شروط القيام فقط بل إنّ الدعويين تختلفان كذلك من حيث إجراءات القيام ومن حيث مرجع النظر.

الفقرة الأولى
الاختلاف من حيث إجراءات القيام
تجدر الملاحظة وأنّ هذه الإجراءات بقدر ما تتسم بالسهولة والتبسيط بالنسبة للدعوى الحوزية فإنّ هذه الإجراءات أكثر تشعبا فيم يخص الدعوى الاستحقاقية.

لعلّ الطابع المبسط لرفع الدعوى الحوزية هو الذي يميزها عن الدعوة الإستحقاقية من هذه الناحية إذ أن الدعوة الحوزية ترفع بمجرد عريضة كتابية يسلمها الطالب أو من يمثله لكاتبة المحكمة مشفوعة بما يفيد خلاص المعاليم القانونية ومصحوبة بالمؤيدات التي يستند إليها المدعي في دعواه وتكون هذه العريضة مشتملة على اسم ولق ومهنة ومقر كل من الطالب والمطلوب وعند الاقتضاء عدد الترسيم بالسجل التجاري ومكانه واسم من يمثله إن وجد ولقبه ومهنته ومقره.

وإذا كان الطالب أو المطلوب شخصا معنويا فيجب أن تشتمل العريضة على اسمه ومقره الاجتماعي وشكله القانوني إن كان شركة وعدد ترسيمه بالسجل التجاري ومكانه كما يجب أن تشتمل عريضة الدعوى على موضوع الدعوى وطلبات المدعي. وتتولى كتابة محكمة الناحية تقييد تلك العريضة بدفاترها المعدة لذلك مع التنصيص على تاريخ تقييدها لما لذلك من أهمية في مراقبة احترام آجال القيام بالدعوى الحوزية وهو أجل سنة من تاريخ وقوع الشغب مثلما وقع بيانه سابقا ويتولى كاتب المحكمة عرض الملف على القاضي الذي يعين لها جلسة ويأذن الكاتب باستدعاء الخصوم بالطريقة الإدارية أو بواسطة أحد أعوان المحكمة[31].

وكلّ هذه الإجراءات يمكن للمتقاضي أن يقوم بها بنفسه دون اللجوء إلى محامي، ونستنتج ذلك مما تضمنه الفصل 49 من م.م.م.ت الذي نصّ في هذا المجال وأنّ الخصوم يحضروا بأنفسهم أو بواسطة محام لدى حاكم الناحية في اليوم المعين بالاستدعاء للجلسة وهذه الآجال مقتضبة جدا إذا ما قارناها بآجال الاستدعاء الخاصة بالدعوى الاستحقاقية، فسواء تم الاستدعاء بالطريقة الإدارية أو بواسطة عدل تنفيذ إذا ما اضطرّ المتقاضي إلى استدعاء خصمه بواسطة عدل منفذ فإنّه لا بدّ من احترامآجال الجلسة.

بينما في صورة رفع الدعوى الاستحقاقية فإنّ هاته الدعوى لا يمكن رفعها من طرف المتقاضي وحده بل يجب أن ترفع بواسطة محام لدى الاستئناف الذي يتولى تحريرها ويبلغ نظيرا منها مصحوبا بالنسخ من المؤيدات للمطلوب بواسطة عدل منفذ ويجب أن يبين بعريضة الدعوى اسم الخصم ولقبه وحرفته ومقره وصفته وعند الاقتضاء عدد الترسيم بالسجل التجاري ومكانه ووقائع الدعوى وأدلتها وطلبات المدعي وأسانيدها القانونيّة والمحكمة والواقع الاستدعاء للحضور لديها وتاريخ الحضور سنة وشهرا ويوما وساعة وإن كان الخصم شخصا معنويا يجب أن يشتمل المحضر على اسمه ومقره الاجتماعي وشكله القانوني إن كان شركة وعدد ترسيمه بالسجل التجاري ومكانه. كما يجب أن تتضمن العريضة التنبيه على المستدعي بتقديم جوابه كتابيا مصحوبا بالمؤيدات بواسطة محام بالجلسة المعينة لها القضية وإلاّ فإنّ المحكمة تنظر فيها حسب أوراقها.

ولا يمكن أن يقلّ ميعاد الحضور عن واحد وعشرين يوما إذا كان للخصم مقرّ بالتراب التونسي وعن ستين يوما إذا كان مقره بالخارج[32]. وعلى محامي المدعي أن يقدم لكتابة المحكمة قبل تاريخ الجلسة بسبعة أيام اصل العريضة المبلغة للمدعى عليه مصحوبة بالمؤيدات وكشف في نظيرين يتضمن بيانها يوقعه الكاتب ويرجع له احدهما إثباتا لتوصله بها ويتولى كاتب المحكمة تقييد القضية بالدفتر المخصص لها بعد التحقق من خلاص المعاليم ثم يرسمها بجدول الجلسة المعينة لها ويعرضها على رئيس المحكمة لتعيين القاضي المقرر.

إنّ ما يمكن ملاحظته بخصوص ما تمتاز به الدعوى الحوزية من تبسيط في إجراءات رفعها وما تمتاز به الدعوى الاستحقاقية من شكليات خاصّة هو أنّ خاصيات كل منهما تفسر في الحقيقة بتبسيط القيام لدى محكمة الناحية بالنسبة لجميع الدعاوى المدنية الأخرى المرفوعة لدى حاكم الناحية هذا إلى جانب ما تمتاز بهإجراءات القيام بالدعاوى المدنية بصفة عامة لدى المحكمة الابتدائية من تشعب وصعوبة بخصوص شكليات رفعها.
[30]ـ قرار تعقيبي مدني عـ13536ـدد الصادر بتاريخ 5/12/1985 نشرية محكمة التعقيب ق.م سنة 1986 ج2.
[31]ـ الفصل 43 من م.م.م.ت المنقح بالقانون عـ82ـدد لسنة 2002 المؤرخ في 3 أوت 2002.
[32]ـ الفصل 70 جديد من م.م.م.ت المنقح بالقانون عـ82ـدد لسنة 2002 المؤرخ في 03/08/2002.

الفقرة الأولى
تحجير الجمع على الخصوم
ينطبق هذا المبدأ على الطالب في الدعوى الاستحقاقية وعلى المطلوب في الدعوى الحوزية.

أولا: مبدأ عدم الجمع بين الدعويين يلزم الطالب في الدعوى الاستحقاقيّة:
نصّت الفقرة الأولى من الفصل 58 من م.م.م.ت على ما يلي «القائم بدعوى الاستحقاق لا يقبل منه القيام بدعوى الحوز على أساس الشغب أو افتكاك حوز متقدمين عن قيامه بدعوى الإستحقاق» ويستخلص من الفقرة المذكورة الاستنتاجات التالية:

الاستنتاج الأول:
إنّ المشرع حجر صراحة على من قام بدعوى استحقاقية القيام بعد ذلك بدعوى حوزية.
ويفترض تطبيق ذلك من الناحية الواقعية أن تعمد الغير الى مشاغبة المدعي في الدعوى الاستحقاقية فيقوم هذا الأخير مباشرة أمام المحكمة الابتدائيّة قصد إثبات ملكيته على العقار وتمكينه منه بدل أن يقوم بدعوى حوزية أمام حاكم الناحية قصد استبقائه على حوزه أو الاعتراف به لفائدته وكف شغب هذا الأخير وفي هذه الحالة ينطبق عليه التحجير الوارد بالفقرة الأولى من الفصل 58 بحيث لا حق له في القيام بعد ذلك بالدعوى الحوزية وهو ما استقرّ عليه فقه القضاء الفرنسي. إلاّ أنّ العدول لا يعدّ إقرارا بأنّ حيازة العقار راجعة لخصمه أو تسليما منه بعدم الاعتداد بالحيازة ويمكنه حتى الاستناد على الحيازة المكسبة لإثبات ملكيته.

الاستنتاج الثاني:
إنّ هذا التحجير لا ينطبق إلاّ على المدعي في دعوى استحقاقية أما المطلوب فيها فيحتفظ بحقه في القيام بدعوى الحوزية سواء كان الشغب متقدما أو متأخرا عن نشر الدعوى الاستحقاقية.

الاستناج الثالث:
يجوز للقائم بالدعوى الاستحقاقية القيام بدعوى حوزية إذا كان الشغب أو افتكاك الحوز قد وقعا بعد نشر القضية الاستحقاقية لقيامه فالمدعي في الدعوى الاستحقاقية لا يحرم من القيام بدعوى حوزية إذا كان الشغب لاحقا لقيامه بدليل أنّ الفصل 58 من م.م.م.ت حصر التحجير عندما يكون الشغب متقدما للقيام بالاستحقاق ولو أراد المشرع خلاف ذلك لترك النص مطلقا، أمّا وقد حصره في الشغب المتقدم فلقد أراد عدم حرمان المعتدي عليه من الحماية الحوزية التي تمتاز بالسرعة والنجاعة ما دام قيامه بالدعوى الاستحقاقية لم يكن اختيارا من باب تفضيلها عن الدعوى الحوزية.

ثانيا: مبدأ عدم الجمع بين الدعويين يلزم المطلوب في الدعوى الحوزية:
ورد هذا المبدأ في الفقرتين الثانية والثالثة من الفصل 58 من م.م.م.ت فد نصت الفقرة الثانية على ما يلي: «ودعوى الاستحقاق التي رفعها المقام عليه بدعوى الحوز قبل القيام عليه بهذه الدعوى لا تأثير لها على دعوى الحوز ومن وقع القيام عليه بدعوى الحوز لا يمكنه القيام بدعوى استحقاقية إلاّ بعد البتّ في دعوى الحوز..».

تقتضي هذه الفقرة قيام أحد الطرفين بدعوى استحقاقية أولا ثم قيام خصمه (المطلوب في تلك الدعوى) بدعوى حوزية ضده فقد قرر المشرع أنّ الدعوى الحوزية لا تتأثر بذلك القيام ويقع النظر فيها رغم وجود قضية استحقاقية بين نفس الأطراف[37] ويستخلص من الفقرة المذكورة أنّ القيام بدعوى استحقاقية لا يمنع الطرف الآخر من القيام بدعوى حوزية ولا مجال لتطبيق مبدأ عدم الجمع بين الدعويين في هذه الصورة. ويمكن تبرير ذلك بعدم معارضة الطالب في الدعوى الحوزية بالعدول الضمني عنها مثلما هو الحال.

بالنسبة للفقرة الأولى من الفصل 58 ذلك أنه ليس هو القائم بالدعوى الاستحقاقية ولا يرجع اختيار المبادرة بها عوضا عن الدعوى الحوزية لأنّه لا يمسك بزمامها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ اضطرار المطلوب في الدعوى الاستحقاقية القيام بدعوى حوزية لا يمكن أن يفسر إلاّ بوجود الحوز تحت يده وبقيام خصمه بمشاغبته فيه ومن المفروض أن لا يسكت هذا الاعتداء لمجرد أن المشاغب سبق أن قام بدعوى استحقاقيّة.

وأما الفقرة الثالثة والأخيرة من الفصل 58 فقد تضمّنت ما يلي:» ومن وقع القيام عليه بدعوى الحوز لا يمكنه القيام بدعوى استحقاقية إلاّ بعد البتّ في دعوى الحوز وليس له في صورة صدور الحكم ضده في الدعوى المذكورة ان يقوم بدعوى استحقاقية إلاّ بعد أن يذعن لما اقتضاه ذلك الحكم».
ويفهم من هذه الفقرة أنه يحجر على المطلوب في الدعوى الحوزية القيام بدعوى استحقاقيّة طالما لم يصدر الحكم الحوزي بعد وطالما لم يذعن لمنطوقه في صورة صدوره ضدّه.[38] والغاية من هذا المنع هو الحيلولة دون ما عسى أن يقوم به المشاغب من مناورات قصد ربح الوقت والإبقاء على العقار تحت تصرفه أطول مدة ممكنة فلو كان من الجائز أن يتعطل النظر في الدعوى الحوزية بسبب نشر القضية الاستحقاقية لعمد كل مشاغب يقع القيام عليه بدعوى حوزية الى القيام بدعوى استحقاقية حتى يحول دون صدور حكم بكف شغبه مدّة أقصر نسبيا باعتبار أنّ فصل القضية الاستحقاقية يستغرق مدّة طويلة أكثر مما تستغرقه الدعوى الحوزية.
وعلى كل حال فمن العدل والإنصاف وقف الاعتداء الحاصل من الغير على حوز الحائز وإرجاع الحوز إليه حماية له ومحافظة على الوضعيات المكتسبة والنظام العام.

لقد اقتضى سير الدعوى الحوزية تحجير الجمع بين الحوز والاستحقاق على طرفي النزاع في مرحلة أولى فإنه من الواجب على القاضي في مرحلة ثانية أن يتقيد هو الآخر بهذا التحجير عند فصله للدعوى الحوزية.
[37] ـ قرار تعقيبي مدني عـ339ـدد مؤرخ في 7/02/1961 م.ق.ت 1961، ج، ص 30.
[38]ـ قرار تعقيبي مدني عـ49223ـدد مؤرخ في 27/01/1998، ن1998، ج1، ص 182.
نشر بجريدة الصباح من 09 فيفري 2016 الى غاية 21 فيفري 2016 في 9 أجزاء
_____________