دراسة حول جرائم الإبادة

قبل الكلام عن جريمة الإبادة ، ينبغي التنويه إلى أمر مهم ، وهو المشكلة التي سببتها الترجمة العربية لمصطلح هذه الجريمة (extermination) الذي تُرجِم إلى (الإبادة) مما سبب خلط بينها كإحدى صور الجرائم ضد الإنسانية وبين جريمة الإبادة الجماعية (genocide) (الواردة في المادة (6) من نظام روما ، وكان الصواب ترجمتها الى مصطلح (الإفناء) لمنع الخلط بينهما (1).

وقبل الخوض في أركان جريمة الإبادة ينبغي التمييز بينها وبين جريمة الإبادة الجماعية ، فالأولى يهدف الجناة فيها الى تصفية مجموعة من السكان بدون دافع ديني أو جنسي أو عنصري ، بل مجرد هدفهم قتل السكان أو التسبب بموتهم ، أما في الثانية فيهدف الجناة الى تصفية مجموعة معينة من السكان لدافع عنصري كالدين أو الجنس أو القومية وما الى ذلك (2).

بعد هذا التمييز السريع بين الجريمتين ، سوف نقسم هذا البحث الى ثلاثة فروع نتناول في كل فرع أحد أركان جريمة الإبادة وهي المادي والمعنوي والدولي .

الفرع الأول : الركن المادي
يتشابه الركن المادي في هذه الجريمة مع الركن المادي في جريمة القتل العمد إلى درجة كبيرة ، خاصةً أن قتل عدد من أفراد الجماعة يعتبر من الركن المادي لها ، ولا فرق ان كان القتل بالفعل أو بالامتناع فالمهم موت عدد من السكان ، لكن تختلف جريمة الإبادة عن سابقتها أن الأخيرة لا يمكن أن تُرتكب بوسائل معنوية كالإيلام النفسي أو اطلاق أخبار كاذبة مروعة ، هذا التشابه الكبير بين الجريمتين يثير صعوبة بالغة عند محاولة التمييز بينهما ، فيبدو القتل العمد أحد صور الركن المادي لها وليس جريمة مستقلة بذاتها (3). كما نصت الفقرة (2) من المادة (7) من نظام روما على صورة أخرى من صور الركن المادي لجريمة الإبادة وهي (تعمد اخضاع السكان الى ظروف معاشية القصد منها حرمان السكان من الطعام والماء والدواء بقصد إهلاك جزء منهم) (4). ومن أمثلتها احتجاز مجموعة من السكان ومنع الطعام والدواء عنهم أو محاصرة منطقة معينة وعدم السماح بدخول الإمدادات الغذائية والدوائية إليهم (). كما حصل عند قيام قوات اليمن الشمالية باحتلال اليمن الجنوبية بُعَيد اتفاق الوحدة بين البلدين (5). وكما حصل عند محاصرة القوات الحكومية السودانية للسكان في جبل (Nuba) في كردفان (6) . بل إنَّ المفهوم الواسع الذي أعطاه المتفاوضون في مؤتمر روما لهذه الجريمة من الممكن أن يشمل حتى توزيع أغذية ملوثة على السكان تسبب موت بطيء لهم أو الأصابة بأمراض أو تلف بعض الأعضاء إذ لم تشترط مذكرة أركان الجرائم الملحقة()، بنظام روما إهلاك جزءاً من السكان فعلاً بل يكفي ارغامهم على العيش في ظروف تؤدي حتماً إلى إهلاكهم كُلّاً أو جزءاً (7).

وهذا ما يجعلها متشابهة مع إحدى صور جريمة الإبادة الجماعية المنصوص عليها في المادة السادسة من النظام المذكور ()، وهذا سيدخلنا في مشكلة أخرى وهي التمييز بين جريمة الإبادة بوصفها صورة من صور الجرائم ضد الإنسانية وبين جريمة الإبادة الجماعية كجريمة مستقلة ، وحسب رأينا المتواضع لم ينجح المتفاوضون في مؤتمر روما الذي أُنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية في تحديد مفهوم واضح مستقل لجريمة الإبادة مما سيثير صعوبات في التمييز بينها وبين ما يتشابه معها من الجرائم.

الفرع الثاني : الركن المعنوي
يثير تحديد الركن المعنوي لهذه الجريمة صعوبات تتمثل بتشابهه مع نظيره في جريمة القتل العمد إذا كان الفعل المرتكب قتل أفراد من الجماعة (8). كذلك يتشابه مع نظيره في إحدى صور جريمة الإبادة الجماعية إن كان الفعل المرتكب اخضاع السكان لأحوال معيشية تؤدي حتماً إلى اهلاك جزء منهم أو جميعهم.
وعلى أية حال فالركن المعنوي هنا يتكون من العناصر العامة (العلم والإرادة) ، أي علم الجاني بأنه يرتكب جريمة وانصراف ارادته إلى ارتكابها.

فضلاً عن العناصر العامة يوجد عنصر خاص يجب توافره كي يتحقق الركن المعنوي في الجريمة ، هو علم الجاني بأنَّ سلوكه يشكل جزءاً من هجوم واسع أو منهجي موجه ضد المدنيين ، وتنصرف نيته الى ذلك بهدف إهلاك جزء من السكان أو جميعهم (9).

لكن تثار هنا صعوبةٌ من حيث كيفية التمييز بينها وبين جريمة الإبادة الجماعية (10). ويمكن التمييز بينهما من خلال البحث بالدافع على ارتكاب الجريمة ، فإن كان الدافع يستهدف جماعة بذاتها لأسباب متعلقة بالدين أو الجنس أو ما شابه كانت الجريمة إبادة جماعية ، وإن كان يستهدف أي جماعة من السكان المدنيين دون دافع معين كانت الجريمة إبادة وبالتالي تكون جريمة ضد الإنسانية (11).

الفرع الثالث : الركن الدولي
جاء النص على جريمة الإبادة لأول مرة في ميثاق المحكمة العسكرية لنورمبرغ ، لكنه خلا من تعريف لها (12). كذلك في النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بمعاقبة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة ، والذي خلا هو الآخر من تعريف لها (13). الحال نفسه كان في المحكمتين الجنائيتين الدوليتين لكل من كمبوديا وسيراليون (14).

أما النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية لراوندا فقد اشترط وجود نية تمييزية عند ارتكاب جريمة الإبادة (15)، مما سبب خلط بينها وبين جريمة الإبادة الجماعية ، وقد أدى غموض مفهوم الإبادة الى طلب بعض المفاوضين في مؤتمر روما عدم ادراج جريمة الإبادة في النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية ، فقد رأو فيها مجرد نسخ لجريمة القتل العمد ، بينما طلب جانب آخر إعطاء مزيد من التوضيح لمفهومها وقد تم ذلك بإدراج البند (ب) في الفقرة الثانية من المادة (7) من النظام الأساسي والذي نجح قليلاً بتوضيح مفهومها (16). لكن مذكرة أركان الجرائم الملحقة بنظام روما عادت وأسبغت صفة الغموض على مفهوم الإبادة (17).

ولكي تشكل الإبادة جريمة ضد الإنسانية يجب أن تُرتكَب ضمن هجوم واسع أو منهجي موجه ضد السكان المدنيين ، أي تتكرر الأفعال المكونة لها بصورة واضحة مستمرة ، كما ينبغي أن تُرتكَب ضمن سياسة دولة أو منظمة تنفيذاً لسياسة تلك الدولة (18). كالمجازر التي ارتكبتها اسرائيل بحق الشعب اللبناني في قانا عام 1996 رغم علمها بأن المكان لا يحوي سوى النساء والأطفال (19).

وفي رأينا المتواضع ، نحن نؤيد الرأي الذي طالب بعدم ادراج الإبادة ضمن الجرائم ضد الإنسانية لكونها لا تعدو أن تكون مزيجاً من جريمة القتل العمد المنصوص عليها في المادة (7 / 1 / أ) من نظام روما وبين جريمة الإبادة الجماعية المنصوص عليها في المادة السادسة منه ، ونرى من الأفضل حذفها لتشابه أركانها مع الجريمتين مارّتِي الذكر وغموضها بشكل لا يمكن توضيحه ، مما سوف يسبب صعوبات عند محاولة تطبيق النص المتعلق بها على الوقائع المرتكبة اضافةً الى صعوبة التمييز بينها وبين ما يشابهها من الجرائم ).
__________________________________________ _
“المصادر”
(1)زانا رفيق سعيد ، الجرائم ضد الإنسانية ، دار شتات للنشر والبرمجيات ، أربيل ، 2013 ، ص42 .
(2) وليم نجيب جورج نصار ، مفهوم الجرائم ضد الإنسانية ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 2008 ، ص74 .
(3) سوسن تمر خان ، الجرائم ضد الإنسانية في ضوء أحكام القانون الدولي الجنائي ، الطبعة الأولى ، منشورات الحلبي الحقوقية ، بيروت ، 2006 ، ص321 .
(4) نص البند (ب) من الفقرة (2) من المادة (7) من نظام روما على (تشمل ” الإبادة ” تعمد فرض أحوال معيشية, من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء, بقصد إهلاك جزء من السكان).
(5) عبد الفتاح بيومي حجازي ، المحكمة الجنائية الدولية ، دار الكتب القانونية، مصر ، 2009، ص513 .
(6) عبد الله أحمد أحمد ، بعض أسرار الوحدة والحرب للنظام اليمني الشمالي في تعامله مع الجنوب ، منشور على الرابط
http://www.tajaden.org/arabicweb/mod…rticle&sid=539
تاريخ الزيارة : 7 / 10 / 2014 ، الوقت : 12.35 ص
(7) Akshaya Kumar ، Extermination by Design The Case for Crimes against Humanity in Sudan’s Nuba Mountains، P.3 . 2014 .
(8) سوسن تمر خان ، مرجع سابق ، ص328 .
(9) تقول مذكرة أركان الجرائم الملحقة بنظام روما بشأن توضيحها لأركان جريمة الإبادة (أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر، بما في ذلك إجبار الضحايا على العيش في ظروف ستؤدي حتما إلى هلاك جزء من مجموعة من السكان).
(10) نصت الفقرة (ج) من المادة (6) من نظام روما على (إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً).
(11) سوسن تمر خان ، مرجع سابق ، ص330 .
(12) زانا رفيق سعيد ، مرجع سابق ، ص41 .
(13) وليم نجيب جورج نصار ، مرجع سابق ، ص77 / 78 .
(14) زانا رفيق سعيد ، المرجع السابق ، ص42 .
(15) تنظر المادة 6 الفقرة ج من ميثاق المحكمة العسكرية لنورمبرغ .
(16) تنظر المادة 5 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة الصادر عام 1993 .
(17) تنظر المادة 5 من نظام المحكمة الخاصة بكمبوديا ، كذلك تنظر المادة 2 من نظام المحكمة الخاصة بسيراليون .
(18) تنظر المادة 3 من نظام محكمة راوندا الصادر عام 1994 .
(19) سوسن تمر خان ، مرجع سابق ، ص321 / 322 .
(20) تقول مذكرة أركان الجرائم الملحقة بنظام روما الأساسي لدى عرضها أركان جريمة الإبادة
1 – أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر، بما في ذلك إجبار الضحايا على العيش في ظروف ستؤدي حتما إلى هلاك جزء من مجموعة من السكان.
2 – أن يشكل السلوك عملية قتل جماعي لأفراد مجموعة من السكان المدنيين، أو يكون جزءا من تلك العملية.
3 – أن يرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.
4 – أن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءا من ذلك الهجوم.)
(21) سلوان علي الكسّار ، مرجع سابق ، ص226 .
(22) ارتكبت القوات الإسرائيلية هذه المجزرة في 18 نيسان / أبريل 1996 في قانا كبرى بلدات مدينة صوْر في الجنوب اللبناني ، حيث قصفت المدفعية الثقيلة مقر قيادة (فيجي) التابع لقوات الطوارئ الدولية (يونيفيل) الذي كان يحتمي به قرابة 800 مدني لبناني ، وقد أدى قصف المجمع ب17 قذيفة الى سقوط أكثر من 250 شخصاً بين قتيلٍ وجريح أغلبهم من النساء والأطفال من بينهم 106 قتلى ، لتفاصيل أكثر يُنظر الرابط التالي
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85…A7%D9%86%D8%A7
تاريخ الزيارة: 15 / 10 / 2014 ، الوقت: 08.35 م

إعادة نشر بواسطة محاماة نت