حكم محكمة جنح العجوزة – ازدراء الاديان

باسم الشعب
محكمة العجوزة
الجزئية بالجلسة العلنية المنعقدة بسراي المحكمة في يوم الخميس الموافق 26-4-2012
برئاسة السيد الأستاذ/ أحمد سميح الريحاني. “رئيس المحكمة”
وبحضور السيد الأستاذ/ محمد السويفي. “وكيل النيابة”
وبحضور السيد الأستاذ/ محمد عبد القادر. “أمين السر”

أصدرت الحكم في القضية رقم 529 لسنة 2012 جنح جزئي العجوزة
مدعي بالحق المدني فيها / عسران منصور محمد ……. بمبلغ واحد وخمسون جنيها على سبيل التعويض المدني المؤقت

ضـــــــــــد

عادل محمد إمام محمد
محمد نادر أحمد جلال
لينين فتحي عبد الله فكري الرملي
شريف سعيد حسن عرفه
وحيد حامد علي
محمد محمود فاضل

بعد سماع المرافعة الشفوية ومطالعة الأوراق//

حيث إن وقائع الدعوى تخلص فيما سلف أن ألم به قضاء محكمة العامرية الجزئية المؤرخ 13/10/2011 والذي نوجز منه القول بالقدر الكافي لحمل قضاء هذه المحكمة في أن المدعي بالحق المدني قد أقام هذه الدعوى بطريق الادعاء المباشر بموجب صحيفة أودعها قلم كتاب تلك المحكمة ، أعلن بها المدعي عليهم والسيد وكيل النيابة المختص ، طالباً في ختامها الحكم على المدعي عليهم بالعقوبة المقررة بالمادة 98 (و) من قانون العقوبات ، فضلاً عن إلزامهم بأداء مبلغ “واحد وخمسون جنيهاً”على سبيل التعويض المدني المؤقت ، فضلاًَ عن المصاريف ، والأتعاب ، والنفاذ ؛
وذلك على سندٍ من القول من أن المتهمين تعدَّوا على الإسلام والمسلمين باستغلالهم الدين في أعمالهم للترويج لأفكارٍٍ متطرفةٍ؛ بقصد إثارة الفتنة وتحقير وازدراء الدين الإسلامي عموماً ، والجماعات الإسلامية خصوصاً ؛ مما يضر بالوَحدة الوطنية ، على النحو المبين بصحيفة الدعوى ، والآتي بيانه تفصيلاً عند التطرق لبحث الركن المادي للجريمة ؛ الأمر الذي حدا به لإقامة دعواه؛ للقضاء له بطلباته سالفة البيان .
وحيث إن الدعوى قد تُدُوَّلتْ بالجلسات على النحو المبين بمحاضرها أمام تلك المحكمة ؛ فقد مَثُلَ المدعي بالحق المدني وصمَّ على طلباته وقدم حافظة مستندات أطلعَتْ عليها المحكمة وألمتْ بها .
ومَثُل وكيلاً عن المتهم الخامس ، ودفع بعدم قبول الدعوى ؛ لرفعها بغير الطريق الذي رسمه القانون ، وبعدم اختصاص المحكمة محلياً بنظر الدعوى ؛فقررت حجزها للحكم .
وبجلسة 13/10/2011 قضت المحكمة بعدَم اختصاصها محلياً بنظر الدعوى ، وبإحالتها لهذه المحكمة ؛ ونفاذًا لذلك القضاء ، فقد تُدُوَّلتْ بالجلسات أمام هذه المحكمة على النحو المبين محاضرها ، فلم يَمثُل المدعي المدني ، ومَثُل المدعَي عليهم جميعاً كلٌ بوكيله ، وقدم وكيلا المتهم الأول مذكرتين بدفاعهما وحافظتي مستندات أُطلِتْ عليها المحكمة ، ودفعَا بعدم قَبول الدعويين لرفعهما من غير ذي صفةٍ ، ولانتفاء الضرر الشخصي المباشر كما دفعَا بانقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم وبانتفاء المسئولية للمتهم الأول ، والحاضر عن المتهم الثانيٍ صحح أسم موكله، والحاضر عن المتهم الرابع صحح أسم موكله ، والحاضر عن المتهم السادس صحح أسم موكله ، وأنضم وكلاُ المهتمين جميعاً لوكيلَي المتهم الأول في دفاعهما ؛ وطلبوا معاً الفصل في الدعوى بحالتها . فقررت المحكمة حجز الدعوى للحكم لجلسة اليوم.
والمحكمة إذ تشير إلى أن المدعي بالحق المدني ليس له الحق في مباشرة الدعوى الجنائية أو التنازل عنها ؛ إذ إن النيابة العامة هي المنوط لها بمباشرة الدعوى الجنائية وحدها ؛ فهي التي لها إثبات الاتهام ، ولها أن تُخوَّل الرأي للمحكمة إذا هي رأت أدلة الثبوت غير كافية فالمستقَرٌ عليه قضاءً وفقها أن المدعي المدني لا عَلاقة له بالدعوى الجنائية ، وليس له استعمال ما تُخوَّلُه من حقوق (نقض19 فبراير 1968 ، مجموعة أحكام النقض س19 ، ص223 ، رقم40) كما أن القاعدة هي عدم تقيد المحكمة الجنائية بطلبات المدعي المدني رافع الدعوى المباشرة وهي بصدد إنزال حكم قانون العقوبات على واقعة الدعوى .(نقض 8 إبر يل 1968 ، مجموعة أحكام النقض س19 ، ص402 ، رقم 76 ).
وإن المقصود من ذلك مما تقدم أن المحكمة مقيدة بالتهمة الواردة بورقة التكليف بالحضور ، إلا أنها ليست مقيدة بالوصف الوارد بها وعليها أن تعطي الجريمة الوصف القانوني الصحيح فهي مقيدة فقط بالوقائع ، أما تكييف تلك الوقائع فهو من اختصاص المحكمة .
وحيث إن الاختصاص يسبق الموضوع ، ومن ثَمَّ الدفعُ بانقضاء الدعوى ، وعليه ؛ فإن المحكمة تستهل قضاءها بالفصل في دفع المتهمين بعدم قبول الدعويين الجنائية والمدنية ؛ لرفعهما من غير ذي صفة ولانتفاء الضرر الشخصي المباشر .
ولما كان الثابت والمستقر قضاءً وفقها على أن شروط الادعاء المباشر أربعة شروط هي :
أولاً -أن يكون الادعاء المباشر قد تم بمعرفة المضر ور من الجريمة .
ثانياً – أن يكون الادعاء متعلقاً بجريمة ، هي جنحة أو مخالفة .
ثالثاً – ألا يكون هناك تحقيق لم يزل قائماً .
رابعاً – أن تكون الدعوى الجنائية والمدنية توافرت فيهما شروط القبول أمام القضاء الجنائي.
ويستلزم القانون بالشرط الأول أن يكون مًنْ صدر منه الادعاء هو المضر ور من الجريمة ، وأن يكون قد لحقه فعلاً ضررٌ من أثر تلك الجريمة وأن يكون هذا الضرر خاصاً وشخصياً ناشئا عن الجريمة مباشرة ، ثابتاً ومؤكداً أي أن مناط إعطاء هذا الحق هْو لمن ثُبت له الحق المدني في التعويض ؛ إذ إن المشرع قد راعى في الادعاء المباشر صيانة حقوق الأفراد المدنية ؛ لأن القاعدة العامه هي أن تتولى النيابة العامة المطالبة بالعقاب عن طريق رفع الدعوى الجنائية عن طريقها إذا كان الضرر قد أصاب المجتمع الذي تنوب عنه النيابة العامة في مباشرة حق العقاب ؛ لمخالفة المتهم لأوامر الشارع ونواهيه القانونية .سواءٌ أكان الضرر مادياً أو أدبياً، وكذا سواءٌ أكانُ المضر ور شخصياً طبيعياً معنوياً . (الدكتور / مأمون سلامه – قانون الإجراءات الجنائية معلقاً عليه بالفقه وأحكام النقض – الجزء الثاني – ص637 – 644 ).
وقد أقرت محكمة النقض هذا المبدأ عندما قضت بأنه ” متى كان مناط الإباحة في تحريك الدعوى بالطريق المباشر من المدعي بالحقوق المدنية أن يكون طلب التعويض عن ضرر لحقه مباشرة من الفعل الخاطئ المكوِّن للجريمة موضوع الدعوى الجنائية ، فإذا لم يكن الضرر الذي لحق به ناشئاً عن الجريمة سقطت هذه الإباحة وأنحسر عنه وصف المضرور من الجريمة وأضحت دعواه المباشرة في شقيها الجنائي والمدني غير مقبولة … ” (نقض 9 من ديسمبر 1981 مجموعة أحكام النقض س32 ، ص1072)
وغنى عن الذكر أن المقصود من الشرط ثانياً أن يكون الادعاء متعلقاً بجريمة ، هي جنحة أو مخالفة ؛ فلا يجوز الادعاء المباشر في الجنايات .
والمقصود من الشرط الرابع – وهو أن تكون الدعوى الجنائية والمدنية توافرت فيهما شروط القبول أمام القضاء الجنائي – أن تكون الدعوى الجنائية مقبولة أمام القضاء ؛ أي توافر الشروط التي ترفعها بها النيابة كما وأن تكون الدعوى المدنية جائزة القبول ؛ أي أن تكون الشروط الخاصة بالدعوى المدنية متوافرة ؛ لكي يمكن قبولها أمام القضاء الجنائي ؛ ويترتب على ذلك أنه لا يجوز الادعاء المباشر أمام القضاء الجنائي لعدم قبول الدعوى المدنية في الأحوال الآتية :
-إذا كان الحق قد أنقضى أو سقط .
-إذا كان المدعي المدني قد رفع دعواه أمام المحاكم المدنية لسقوط حقه في الخيار بين الطريقين.
-إذا كانت إجراءات رفع الدعوى غير صحيحة ، وأخيراً ، إذا كانت قد رفعت من غير ذي صفة أو إذا تخلف شرط المصلحة .
وفي ذلك قضت محكمة النقض من “إن أساس المطالبة بالتعويض أمام القضاء الجنائي يجب أن يكون عن فعل يعاقب عليه القانون وأن يكون الضرر شخصياً ومترتباً على هذا الفعل ومتصلاً به أتصالاً سببياً مباشراً ، فإذا لم يكن الضرر حاصلاً من الجريمة ، وإنما كان نتيجة ظرف آخر ولو متصلاً بالواقعة التي تجري المحاكمة عنها أنتفت علة التبعية التي تربط الدعوى المدنية بالدعوى الجنائية ،وإذاً ، فالقلقِ والاضطراب الذي يتولد عن الجريمة لدى أحد المواطنين لا يجوز الادعاء به مدنياً أمام المحكمة الجنائية”.
(الطعن رقم 1115 – لسنة 24 ق – تاريخ الجلسة 22/02/1955 – مكتب فني 6 – رقم الجزء 2 – رقم الصفحة 545 – تم رفض هذا الطعن )
إذاً فلابد أن يكون الضرر ناشئاً عن جريمة ؛ أما إذا كان ناشئاً عن فعل ضار لا تتوافر فيه أركان الجريمة ، فلا يكون ثَّمة اختصاص للمحكمة الجنائية بنظر الدعوى المدنية ؛ فقد نصت المادة 251 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه ” لمن لحقه ضرر من الجريمة أن يقيم نفسه مدعياً بحقوق مدنية أمام المحكمة المنظورة أمامها الدعوى الجنائية في أية حالة كانت عليها الدعوى …
“فإذا أقام شخص دعوى مدنية أمام القضاء الجنائي لتعويض ضرر ادعى أنه نشأ عن جريمة نصب ، ثم تبين للقاضي أن السلوك المنسوب للمدعى عليه ليس إلا مجرد تدليس لا يرقى الطرق الاحتيالية التي تكوِّن جريمة النصب، فإن الدعوى المدنية لا تكون من اختصاص المحكمة الجنائية.(الدكتور / عبد الرءوف مهدي ، شرح القواعد العامة لإجراءات الجنائية ، ص2003 ، ص 1070 – 1077) – كما يجب لتوافر الجريمة من قيام ركنيها المادي والمعنوي ؛ وإلا تعيِّن الحكم بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى ؛ لأن الدعوى المدنية تصبح غير ناشئة عن جريمة .(الدكتور / إد وارد غالي الذهبي ، دراسات في قانون الإجراءات الجنائية ، 1991 ، ص 156).
ويستخلص من جماع ما تقدم أن المحكمة تتقيد بالوقائع المطروحة عليها بصحيفة الدعوى المباشرة ، وإنما هي المختصة – وتحت رقابة محكمة النقض – في تكييف الوقائع قانوناً ، فإذا أتضح لها أن السلوك المنسوب للمدعي عليه لا يرتقي لتكوين أركان جريمة ؛ قضت بعدم اختصاصها بنظر الدعويين ؛ إذ إن عدم اختصاصها بنظر الدعوى المدنية يستتبع بالضرورة في هذه الحالة عدم القضاء بالبراءة بل القضاء بعدم قبول الدعوى الجنائية التي لم تتوافر أركانها بالأوراق والتي أسس المدعي حقه الاستثنائي في رفعها على الدعوى المدنية .
ولّما كان بحث انطباق أركان الجريمة الجنائية على واقعات الدعوى أدعى ومقدم على بحث الصفة والمصلحة ؛ إذ إن الأخيرتين تتطلبان وجود جريمة جنائية قد شكلتها وقائع الدعوى . ومن ثِّم فإن المحكمة تستهلُّ بحثها بمدى انطباق أركان الجريمة الجنائية على واقعات الدعوى ، فلا تقوم جريمة بفعل مشروع – طبقاً لقانون العقوبات وهذا وبالضرورة يتطلب توافر الركن الشرعي للجريمة وهو خضوع الفعل لنص التجريم ويؤصل الدكتور / محمد نجيب حسني لذلك بأن الركن الشرعي طابَعاً موضوعيَّاً ، باعتباره مجرد تكييف قانوني ، وثمرة علاقة مباشرة بين قواعد القانون والفعل ، وهذه علاقة لا شأن لشخصية الجاني بها.
( الطعن رقم 41774 – لسنة 59 ق – تاريخ الجلسة 07 / 01 / 1996 – مكتب فني 47 – رقم الجزء 1 – رقم الصفحة 16 – تم قبول هذا الطعن ).ٍ
بيد أنه – وإذ تشير المحكمة إلى أنه ، وعلى عكس النظام العام الأنجلوسكسوني أو الأنجلو – أمريكي (Common law/Anglp-Saxon)
الذي يعتمد على السوابق القضائية (Preccdent Case law) باعتبارها قانوناً ، فلا يجوز للمحاكم مخالفتها .
تلتزم المحاكم في النظام اللاتيني(Civil law ) بأحكام النقض أدبياً وليس وجوباً عليها بأمر الدستور أو القانون ، حيث أورد المشرع بنص الفقرة الثانية من المادة الأولى من التقنين المدني المصري رقم 131 لسنة 1948 ، مصادر القاعدة القانونية على سبيل الحصر ، محدداً إياها بالتشريع ، ثم الشريعة الإسلامية ، وأخيراً مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة – دون النص على السوابق القضائية .
لذا؛ فإن المحكمة وإعمالاً لسلطتها هذه ، وبما لها من سلطة في الاجتهاد والتفسير لقصد المشروع بالمادة 98 (و) من قانون العقوبات ترى أن الذي يستقيم مع المنطق القانوني ، وما كفله الدستور من حريات ومن مبادئ أساسية للحقوق والواجبات والحريات المقررة بالمعاهدات الدولية والشريعة الإسلامية ، هو تجريم استخدام الدين بغرض إثارة الفتنة أو الإصرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي ؛ أي أن مناط الحماية القانونية بنص تلك المادة هو الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي ، وليس الأديان السماوية أوالطوائف المنتمية إليها .
ومن حيث المنطق القانوني ، فإنه ، وإن كان المتعارف عليه أن النص على ” أو ” تعني فرضاً أخر يفصل فيما بين ما تقدم عنها وما تأخر ، ألا أن المحكمة ترى أن النص لا يستقيم ؛ إذا أفترض أن قصد المشرع على هذا المحو وهو أعتبارها فِقرات منفصلة ينصبُّ على كلِ منها الحماية القانونية بالتجريم ، فالمحكمة ترى أن النص يجب أن يفسَّر على أنه نصُّ عامُّ ؛ أي أن يفهم في السياق الذي أتت به تلك المادة من مواد سابقة ولاحقة ومن قراءة النص كاملاً دون تجزئته ، لا باعتبار أن كلمة ” أو ” تنص على حالات مختلفة ينصب على كل فقرة منها الحماية القانونية .
فإذا نُصُّ على أن ” كل من أستغل الدين في الترويج لأفكار متطرفة … بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو أزدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية . “فجاء بكل من “تحقير” و “الطوائف المنتمية إليها” بين “أو” إلا أنه وعلى هذا النحو لا يستقيم المعنى ولا قصد الشارع إلا بإلحاقهم على ما سبقهم وما خلفهم من نص المادة وهو ما يدلل على عدم إمكانية اعتبارهما فقرتين منفصلتين ينصب على كلا منها العقاب ، بل يجب ترابط الفقرات جميعها حتى يستقيم المعنى ؛ فهو قد نص على الفتنة بأول المادة ، ثم شدد بالإشارة إلى الوحدة الوطنية بنهاية المادة ، وهي إشارة على ترابط فقرات المادة بترابط قصد المشرع من أولها وحتى نهايتها ؛ ومن ثم فلا يستقيم اعتبار أن قصد المشرع هو تجريم فعل تحقير وازدراء أحد الأديان السماوية ، دون أن يكون ذلك الفعل بقصد الإضرار بالوحدة الوطنية والفتنة ، كما لا يمكن القول بتجريم فعل تحقير وازدراء الطوائف المنتمية إليها دون الرجوع إلى الأديان السماوية أو الإضرار بالوحدة الوطنية والفتنة.
وبمعنى أخر ، فإن هذه الجريمة تحتاج إلى قصد جنائي خاص لا تقوم بدونه قوامة الإضرار بالوحدة الوطنية وصناعة الفتنة.
وإذا نظرنا إلى وضع المادة من التقنين العقابي ، وحيث جاءت تلك المادة بين مواد القسم الثاني من الباب الثاني الخاص “بالجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل ” فقد نصت المادة الأولى من القانون رقم 97 لسنة 1992 ، الجريدة الرسمية في 18 يوليو سنة 1992 العدد 29 مكرر ، على أن “يقسم الباب الثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات إلى قسمين…”

وإذ استهل هذا القسم الثاني سالف البيان بالمادة 89 مكرر ، والتي تخص بالحماية وسائل الإنتاج بقصد الإضرار بالاقتصاد القومي ثم المواد 90 و 90 مكرر و 93 والتي تخص بالحماية المباني والأملاك العامة أو المخصصة لمصالح حكومية أو للمرافق العامة أو للمؤسسات العامة أو الجمعيات المعتبرة قانونا ذات نفع عام أو الأراضي أو الأموال المملوكة للحكومة أو لجماعة من الناس ، سواء بالتخريب أو الاحتلال أو الاغتصاب أو النهب والمواد 91 و 92 والتي تخص بالحماية قيادة الجيش والشرطة ، ثم كان نص المادة98 والتي تخص بالحماية نظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية بتجريم تأسيس أو تنظيم أو إدارة جمعيات أو هيئات أو منظمات ترمي إلى سيطرة طبقة اجتماعية على غيرها من الطبقات ، أو إلى القضاء على طبقة اجتماعية أو إلى قلب نظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية .
ثم كان نص 98 أ مكرر والتي تخص بالحماية المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم الاشتراكي في الدولة ، أو الحض على كراهيتها أو الازدراء بها أو الدعوة ضد تحالف قوى الشعب العاملة ، أو التحريض على مقاومة السلطات العامة أو ترويج أو تحبيذ شيئ من ذلك ! ثثم كان نص المادة 98 ب والتي تخص بالحماية مبادئ الدستور الأساسية أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية أو لتسويد طبقة اجتماعية على غيرها من الطبقات أو للقضاء على طبقة اجتماعية ونظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية والنظم الأساسية للهيئة الاجتماعية .
ثم كان نص المادة 98 ج المؤثمة لإنشاء أو تأسيس أو تنظيم أو إدارة جمعيات أو هيئات أو أنظمة من أيّ نوع كان ذا صفة دولية أو فروعاً لها دون ترخيص من الحكومة ثم كان نص المادة 98 د التي تجرِّم تسلم أو قبول أموال أو منافع من شخص أو هيئة في خارج الجمهورية ، ثم كانت المادة 98 (و) موضوع الدعوى ثم المادة 99 التي تجرِّم حمل رئيس الجمهورية على عمل من خصائصه قانوناً أو على الامتناع عنه باستخدام العنف أو التهديد أو أية وسيلة أخرى غير مشروعة وينتهي القسم الثاني بالمادة 102 مكرر والتي تجرم إذاعة أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة إذا كان من شأن ذلك تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة .
ويستخلص من ذلك ومن نصوص المواد سالفة البيان أنها تشترك جميعاً في تجريم الأفعال التي تضر بالأمن العام ( الأمن القومي )أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة من جهة ( وهو ما وصفة المشرع “بالفتنة ” بالمواد 100 و 102 ) وهو ما نستخلص منه أن القصد العام للمشرع بنص المادة موضوع الدعوى اتجه لحماية الوحدة الوطنية ودرء الفتنة وذلك بقصد صيانة الأمن العام والمصلحة العامة ، وليس في نصه على “الدين” بهاْ إلا التنبيه على أنه وسيلة يمكن أن تستخدم في زرع تلك الفتنة ، وإنما لم يقصد حماية الأديان السماوية في حد ذاتها من التعدي عليها باستخدام ” الأفكار المتطرفة ” ، كما لم يقصد حماية الطوائف المنتمية لها من التحقير أو الازدراء ، إلا إذا كان القصد منه الفتنة ؛ ذلك بأنه لا يضير ولي الأمر وهو بصدد إيجاد أطر عامة لتنظيم المجتمع والحفاظ على النظام العام فيه أن يعتقد شخص فيما يخالف الجماعة أوما يدين به عامة الناس ، وإنما الذي يُعنى به هو نزع فتيل الأزمات والحيلولة دون احتكاك طوائف الشعب الواحد ، وترديهم في هُوّةِ التراع الطائفي المقيت . كما إن حرية الاعتقاد مكفولة ، وحرية ممارسة الشعائر الدينية أيضا ، ولكن الأخيرة تتميز بكونها يمكن أن تقيَّد بأحكام تنظيمية ؛ حفاظاً على الأمن والآداب والصحة العامة ؛ أما حرية التعبير عن الرأي في المعتقد فلا تدخل ضمن حدود التأثيم والعقاب اللذين تملكهما الدولة ؛ إلا إذا أقتضت الضرورة الحفاظَ على السلم العام ، وذلك إذا تعدت الممارسة لشعائر أو استطال الرأي – المفصح به – إلى الدومين العام فتبين أن المعبر عن راية والمعتقد في فكرة ما ، لم يعبر عنها لحسن نية وإنما بسوء قصد ؛ بنية مشاعر وتأليب الناس بعضهم على بعض إذ إنه وبالقول بمثل ذلك وباستخدام هذا المقياس الفضفاض المسمى ” بالأفكار المتطرفة ” والذي لا يبن حداً ضابطاً لما يعدُّ متطرفاً وما يعد غير متطرف ، الأمر الذي يهدد بأن ينتهي بالنظام القانوني بما يشبه محاكم التفتيش فيفتح باب التفتيش في الأفكار ، ومن ثم العقائد والحجر عليها بدعوى الهرطقة – بالمفهوم المسيحي تارة ، والردة والزندقة – بالمفهوم الإسلامي – تارة أخرى ، ويرد المجتمع بأثره إلى الظلامية والجمود ، بل وشمولية تيار فكري ديني بعينه ، يجهض جميع التطلعات بتطوير الخطاب الديني وهو ما يناقض الحرية في التعبير والاعتقاد ، تلك التي هي مقررة بالدستور والشريعة الإسلامية ذاتها ؛ وهو ما ينتهي على المستوى التطبيقي إلى تحكيم بشر من نوع خاص ، يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل ،وأنهم وحدهم الناقلون عن الله ، فالثابت شرعاً أن الله هو شارع الدين ، ومحمد هو مبلغه الأمين ، وأننا جميعاً نعكف على الاجتهاد ، ولا يمتلك أحد منا صواباً ، ولا يملك لآخر معاتبة ، طالما أن التعبير عن الرأي ناجم عن نقاء سريرة واجتهاد محمود.
ومن حيث الدستورية ، فقد نص الدستور المعطل بالمادة 40 على أنّ “المواطنون لدى القانون سواء ، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة .” وإذا نص بالمادة 46 على أنْ “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية “.
ونصه بالمادة 47 “ حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون والنقد الذاتي والنقد البنَّاء ضماناً لسلامة البناء الوطني” ؛ ذلك بأن العقوبة أساسها العدالة ، ولكنها محدودة المنفعة العامة بأشكالها وأنواعها ، فليس للمجتمع أن يعاقب بما يجاوز الحدود التي تتطلبها مصلحته . فالعقوبة لا تكون مشروعة إلا في النطاق الذي تجتمع قيه العدالة والمصلحة ؛ ومن هنا كان تنظيم الحريات الشخصية بين الفرد والمجتمع وبين الأفراد بعضهم لبعض فكانت نظريات الحق والمصلحة والتعسف في استعمال الحق ما يرسم الحدود للحريات الفردية داخل المجتمع فالحرية مكفولة مادا مت لم تفتئت على المصلحة العليا بالمجتمع ومن ثم مصلحة الأفراد ، وهنا يقوم المشرع بإصدار القوانين المنظمة لتلك الحدود ، وللقاضي إعمالها وتقديرها وَفقاً للمصلحة وعدم التعسف في استعمال الحق ولو كان مصوناً بالقانون .
وفي صدد التوازن بين الحقوق والحريات من جهة ، والمصلحة العامة من جهة أخرى ، فقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تتطلبها مصلحة أجتماعية لها اعتباراتها . (دستورية عليا في 15 يونيه 1996 القضية رقم 49 لسنة 17 ق دستورية ، مجموعة أحكام الدستورية العليا ، ج 7 ، قاعدة رقم 48 ، ص 749).
وعن ذلك تقول المحكمة الدستورية : إنّ “حرية العقيدة التي نص عليها الدستور في المادة 46 … بأن هذه الحرية في أصلها تعني ألا يحمل الشخص على القبول بعقيدة لا يؤمن بها أو التنصل من عقيدة دخل فيها أو الإعلان عنها أو ممالأة إحداها تحاملاً على غيرها سواء بإنكارها أو التهوين منها أو ازدرائها بل تتسامح الأديان فيما بينها ويكون احترامها متبادلاً . ولا يجوز كذلك في المفهوم الحق لحرية العقيدة أن يكون صونها لمن يمارسونها إضراراً بغيرها ولا تيسر الدولة – سراً أو علانية – الانضمام إلى عقيدة ترعاها إرهاقاً لآخرين من الدخول في سواها ، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقاباً لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها ، وليس لها بوجه خاص أن يكون إذكاء صراع بين الأديان تمييزاً لبعضها على البعض ، كذلك فإن حرية العقيدة لا يجوز فصلها عن حرية ممارسة شعائرها ، وهو ما حمل الدستور على أن يضم هاتين الحريتين في جملة واحدة جرت بها مادته السادسة والأربعون بما نصت عليه ؛ من أن حرية العقيدة ممارسة الشعائر الدينية مكفولتان ؛ وهو ما يعني تكاملهما ، وأنهما قسيمان لا ينفصلان وأن ثانيتهما تمثل مظاهر أولاهما باعتبارها انتقالًا بالعقيدة من مجرد الإيمان واختلاجها في الوجدان إلى التعبير عن محتواها عملا ليكون تطبيقها حيا فلا تكمن في الصدور ومن ثم ساغ القول بأن أولاهما لا قيد عليها، وأن ثانيتهما يجوز تقييدها من خلال تنظيمها توكيدا لبعض المصالح العليا التي ترتبط بها وبوجه خاص ما يتصل منها بصون النظام العام والقيم الأدبية وحماية حقوق الآخرين وحرياتهم.
(الطعن رقم 8 – لسنة 17 ق – تاريخ الجلسة18/5/1996 – مكتب فني 7 – رقم الجزء 1 – رقم الصفحة 656 – تم رفض هذا الطعن).
وان المحكمة إذ تشير بأنها لا تنفي إمكانية صدور تشريع يجرم الاعتداء علي رموز دينية لها حرمة عند أبناء الملة أو فريق من الناس إذا توافر قصد جنائي عام دون النص علي قصد خاص يتمثل في تكدير السلم العام – كما هو نصوص مواد الباب الحادي عشر الخاص بالجنح المتعلقة بالأديان – بحدود يوضحها الشارع توضيحا نافيا للجهالة لا يخالطها شك، إلا انه لا يصح اعتبار أن المنوط بالحماية القانونية هم الأشخاص المنتمون لتلك الطوائف، ذلك بأنه لا يجوز التفرقة بين المواطنين علي أساس الدين، فالمواطنون سواء أمام القانون، وفي حماية منها لطائفة دون أخري – مما لا ينطبق عليها وصف طائفة دينية – بعد تفرقة أمام القانون.
كما أن القصد ليس حماية الأفكار والعقائد ومن ثم منع مناقشتها والجدال فيها. ولا حماية العواطف المستثارة بطبيعتها إذا ما حاول أحد الاقتراب من ثوابتها الفكرية خاصة الدينية منها، وهو ما يناقض الأسس التي قامت عليها الأديان من دعوي للتفكر وتحدي ما هو ثابت من معتقدات دينية كانت راسخة لدي الشعوب التي نزلت عليها؛ حدث ذلك في فجر المسيحية والإسلام كليهما. فقال كل منهم لرسوله: »بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون« (البقرة: 170).
ومن ثم فإن الحماية ليست للأفكار، فالأفكار لا يحاربها سوي الأفكار، وليست للعواطف التي تعمل علي حماية تلك الأفكار، فالحجة بالحجة، ولا إكراه في الدين، وإنما الحماية القانونية للوحدة وتجنب الفتن، أو للحريات في ممارسة العقائد طالما لم تجرح الآداب العامة في المجتمع، فالمصلحة المحمية هي مصلحة المجتمع من حيث سلامته ولا سلامة لمجتمع إلا بالتعددية و حرية الفكر في إطارِ من السلم والتعايش المشترك، ففي الاختلاف إثراء، ولا حصانة لفكر ديني؛ وإنما الحصانة للدين ممن يستخدمونه لمآربهم الشخصية، والحساب هنا علي القصد؛ فإذا كان القصد هو مناقشة الفِكَر ونقده، حتي وان كان بطريقة لاذعة وبطبيعة الحال جارحة لأهل هذا الفكر لمكانة المعتقد الديني في النفوس، فهو ما سيعد تحقيراً أو ازدراء، فلا تجريم؛ ذلك بأن طبيعة الروحانية الدينية تستلزم بالضرورة تلازمها وبعض المسلمات (DOGMA) التي لا يتقبل فيها النقاش ولا يستحب فيها الجدال ممن يعتقدون فيها. إن محاولة صهر الناس في بوتقة عقائدية روحانية أو سياسية واحدة من قِبل الدولة أو من قبل جماعة أشبه بالحرث في البحر أو بالقبض علي الماء بأكف أيدينا؛ لأن الله جعلنا أمماً وقبائل مختلفين لنتعارف فيما بيننا، ولو أراد أن يجعلنا كلنا مؤمنين لفعل، وهو علي كل شيء قدير “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ” (يونس: 99).
أما إذا كان القصد كما سلف أن أشرنا هو الفتنة أو إعاقة ممارسة شعائره الدينية، فهنا يمكن أن يتدخل الشارع بالتجريم – كنص المادتين 160 و161 عقوبات. ومن يقل بغير ذلك فليأت بسند من القرآن أو السنة المطهرة، فلا حدَّ ولا قصاصَ علي ازدراءِ أو تحقير الدين؛ قال تعالي “يَا أَيُّهَا الَّذِينِ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيتُمْ إلَي اللِه َمرِجعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.” (المائدة: 105).
وفي مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان، تجمع الآراء علي أن الولاية والمسئولية الأولي في حماية وتعزيز حقوق الإنسان علي الصعيد الداخلي هي مستندة في المقام الأول إلي كل دولة، وفق ما التزمت به بانضمامها طواعية إلى العهود
والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وإذ تنوه المحكمة، بأنه – وفي مجال البحث في نطاق هذه الحقوق والحريات التي تناولها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية – لا يستقيم أن نلتزم في تناولنا للحقوق المدنية والسياسية بإيراد النصوص الكاملة للعهد الدولي، حيث نفضل توسيع نطاق العرض ليتسع لتناول وتأصيل مفاهيم هذه النصوص. وعليه؛ فإن كفالة حماية حق معين بذاته لا يقتصر علي مادة بعينها من العهد الدولي. بل كثيراً ما تقتضي حماية ذات الحق أو أحد الأوجه التي لا يكتمل إلا بها – الاستناد الي أكثر من مادة كلما دعت الضرورة لذلك.
وحيث إن مضمون المادة الثامنة عشرة من العهد الدولي يتصرف إلي أوسع التفسيرات لحرية الفكر والاعتقاد؛ أي حماية كافة صور الفكر والعقائد الدينية وعدم التمييز ضد أي صورة من صورها، كما يشمل ذلك حماية حق الفرد والجماعة في إقامة الشعائر التي تتفق ومعتقداتهم، فلا يجوز تقييد ذلك إلا بنص القانون وبشرط أن يكون التقييد لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة، وعموما يجب أن تكون تلك القيود في أضيق الحدود؛ وإذا كانت الدولة تعد ديناً معيناً، ديناً رسمياً لها، أو كانت غالبية السكان تعتنق ديناً معيناً، فلا يجوز المساس بالحق المكفول لمن يعتنقون دينا آخر، كما لا يجوز التمييز ضدهم في النواحي الأخري مثل الحق في تولي المناصب العامة، أو حرمانهم من المزايا التي يتمتع بها المواطنون عامة. كذلك تحمي هذه المادة من العهد الدولي حرية الآباء والأمهات والأوصياء القانونيين في تأمين التعليم الديني لأطفالهم وفق معتقداتهم.
إن حرية الرأي والتعبير عنه لمن أهم مقومات النظم الديمقراطية؛ فالانتقاص منها هو انتقاص من الحكم الديمقراطي السليم. ومفهوم المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي ينصرف إلى أن حق الفرد في اعتناق الآراء التي يختارها دون تدخل هو حق لا يقبل أي قيد أو استثناء، كما أن حرية التعبير تشمل الحق في تلقي واستقصاء ونقل المعلومات، وفي التعبير عن الرأي والفكر ونقله إلى غيره بأي صورة؛ إما شفاهه أو كتابة أو عن طريق الكلمة المطبوعة أو المسموعة أو في صورة فنية. هذا وان كانت حرية الفرد في اعتناق الرأي الذي يختاره لا تقبل بطبيعتها أي قيد؛ فإن إطلاق الحق في التعبير عن الرأي لا يعني أنه لا يحمل معه واجبات ومسئوليات معينة تسمح بفرض بعض القيود التي تستلزمها حماية مصلحة الجماعة بالكلية، علي ألا نفرغ تلك القيود الحق في التعبير من مضمونه، أي يجب أن تقتصر علي ما تقتضيه في الدول الديمقراطية حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة أو الصحة العامة أو حقوق الغير وسمعتهم.
ولذلك فإن حماية الدولة لحرية الرأي والتعبير تستلزم تنظيما قانونيا لهذا الحق يتسم بشفافية، ومعايير وشروط قبول أو رفض منح التراخيص اللازمة لذلك، وعدم فرض شروط متطلبات مرهقة، مما يؤدي عمليا إلى التضييق علي القوي السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع أو حرمانها من احدي السبل الرئيسية في ممارستها لحرية الرأي والتعبير.
تكفل المادة السابعة والعشرون من العهد الدولي حق الأقليات العرقية والدينية واللغوية في التمتع في الدول التي يعيشون فيها بثقافتهم الخاصة وحقهم كأفراد في أن يعتنقوا ويمارسوا شعائرهم الدينية وفي استخدام لغتهم الخاصة. والهدف من حماية هذه الحقوق هو الإبقاء علي التراث الثقافي بمعناه الواسع الشامل للأقليات بما يثري المجتمع بالكلية. إن تلك الحقوق الواجب كفالتها للأقليات هي حقوق تضاف إلى الحقوق الأخري التي ينص عليها العهد الدولي المكفولة للجميع بمن فيهم الأقليات.
تحدد المادة الثانية من العهد الدولي الإطار العام للالتزام القانوني للدول الأعضاء، وهي بذلك لا تختص بحق من الحقوق بعينه بل تلزم الدول بجميع سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وغيرها بحماية الحقوق والحريات التي ينص عليها العهد الدولي، وبأن تضمن ذلك لكل الأفراد المقيمين في إقليم الدولة أو الخاضعين لولايتها، وذلك دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الرأي السياسي أو غيره، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الملكية أو النسب.
جدير بالذكر أن مصر من الدول المصدقة علي العهد؛ ومن ثم فإنه – وفي مجال التزام الدول المصدقة ومفهوم المادة المذكورة – ما يعني عدم جواز احتجاج الدولة بأن تشريعاتها الداخلية لا تسمح بهذا التطبيق، فلا يجوز لها الاحتجاج بأن دستورها وقوانينها يعفيانها من التزاماتها الدولية التي ارتضتها بالانضمام طواعية إلى العهد الدولي. وينصرف ذلك الي التزام الدولة بتعديل تشريعاتها الداخلية إذا لزم الأمر؛ لتكون أكثر اتساقا مع كفالة جميع الحقوق وحماية الحريات المنصوص عليها في العهد الدولي، وكذلك اتخاذ التدابير اللازمة لإمكان الممارسة العملية الكفيلة بذلك علي أنه يحق لكل دولة أن توفر الحماية المطلوبة قانونا وعملا للحقوق والحريات بالأسلوب الذي يتفق مع إجراءاتها الدستورية.
وان من المعايير التي تؤخذ في الاعتبار لإلقاء الضوء علي مدي التزام الدولة باحترام المادة الثانية من العهد الدولي، هو إلى أي مدي تجيز الدولة للأفراد الاستناد المباشر إلى نصوص العهد الدولي أمام القضاء الداخلي. فالالتزام القانوني الذي تتضمنه المادة المذكورة له وجهان: إيجابي وآخر سلبي، فالأول يعني أنه علي الدولة أن تتخذ التدابير الإيجابية اللازمة لحماية وتعزيز الحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي والعمل علي إزالة جميع العقبات التي تعوق ممارستها بما في ذلك التدابير التشريعية والقضائية والإدارية والبرامج التعليمية؛ أما الالتزام السلبي فيتطلب من الدولة الامتناع عن انتهاك تلك الحقوق وعدم فرض أي قيود عليها تتجاوز ما تسمح به نصوص العهد الدولي، كما لا يجوز أن تفرغ القيود التنظيمية الحق من مضمونه.
وجدير بالذكر أيضا، بأنه – وعلي الرغم من أن حقوق الإنسان لم تقدم تعريفات محددة لكلٍ من “الفكر، والضمير، والديانة، والاعتقاد”، إلا أنه من المتعارف عليه الآن أن اصطلاح “الديانة أو الاعتقاد” يتضمن الملحدين وغير المؤمنين والذين لا يندرجون تحت أي ديانة.
وجديرٌ بالذكر أيضا أن مصر صوتت لصالح المادة الثامنة عشرة: لكنها أعربت عن تحفظاتها بالنسبة للحق في تغيير الدين أو العقيدة؛ متعللة بأن في ذلك ما قد يشجع البعثات التبشيرية، وهو ما يخالف سبب معارضة المملكة السعودية التي أرجعت سبب معارضتها إلى مخالفة ذلك للإسلام – في إشارة إلى الأحكام الخاصة بالردة.
ولما كان ذلك من تصديق الدولة المصرية علي المعاهدة، وهي، وإن تختلف عن العهد الدولي لحقوق الإنسان من حيث كونها تتميز بذاتها بصفة اللازم كجزء من القانون الداخلي بالتصديق عليها، فإنها…… وقد عنيت المحكمة الدستورية العليا في مصر في حكمها الصادر في 2 يناير سنة 1993 بالإشارة إلى الحقوق التي تضمنتها الاتفاقات الدولية في مقام الحديث عن الحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدولة الديمقراطية، مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان. ولما كان المستقر عليه فقها وقضاء أنه وفي مصر لا تسري المعاهدات ولا الاتفاقيات الدولية علي القانون الداخلي – علي خلاف دول أخري كفرنسا وبلجيكا – بل تكون لها قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقا للأوضاع المقررة (المادة 151 من الدستور المعطل) ومن ثم فهي تخضع للشرعية الدستورية. (د.أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، ص 47-81).
ولما كان نص المادة 98(و) يتعارض ونصوص المادتين 17 و18 من الاتفاقية الدولية – العهد الدولي للحقوق المدنية السياسية – ولما كان لكل منهما ذات المرتبة في المنظومة التدريجية القانونية المصرية، ولما كان لا شأن للرقابة الدستورية بالتناقض بين قاعدتين قانونيتين من مرتبة واحدة أو من مرتبتين مختلفتين، فلا يمتد اختصاص المحكمة الدستورية لحالات التعارض بين اللوائح والقوانين، ولا بين التشريع ذات المرتبة الواحدة (دستورية عليا في 15 يونيو سنة 1996، القضية رقم 106 سنة 18 دستورية)، (المرجع السابق، ص 188)، (د.رمزي الشاعر، رقابة دستورية القوانين، ص 185).

لما كان قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 نشر بتاريخ 5/8/1937، ومن ثم أصبح معمولا به من ذلك التاريخ، ومن ثم فهو سابق علي المعاهدة الدولية – العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمنصوص علي بدء نفاذه في 1976 طبقا لنصه في المادة 49؛ الأمر الذي يصبح معه تطبيق نصوص المعاهدة أولي لنسخها نصوص قانون العقوبات في هذا الشأن، ومن ثم فالمحكمة لها أن تمتنع عن تطبيق القانون الداخلي في حالة كونه مخالفا للالتزام الدولي اللاحق والأصلح للمتهم، أما ولما كان فهم المحكمة لنص المادة 98(و) لا يتعارض ومضمون الالتزام الدولي سالف البيان، إلا أن المحكمة تقرر بوجوب اتباعها لهذا النهج من الفهم والتفسير للمادة أعمالا منها لمبدأ المحكمة الدستورية العليا، من حيث اعتبار تلك المبادئ والأفكار من قبيل القواعد المفسرة الاسترشادية التي تستخلص منها مفاهيم سيادة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان. واعتبارها ضمن الشرعية الدستورية التي لا تستمد فقط من نصوص الدستور، وإنما من تلك المبادئ والأفكار علي حد سواء. ومن ثم لم تقف عند معني الحرية الشخصية التي كفلها الدستور. (دستورية عليا في 12 فبراير 1994 في القضية رقم 105 لسنة 12 قضائية دستورية، و2 يناير 1993 في القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية) »وواضح من هذه المعاني أن المحكمة الدستورية العليا في مصر قد اتخذت المستوي الذي تلتزم به الدول الديمقراطية في قواعدها القانونية وفي احترام حقوق المواطنين والحريات معيارا وضابطا لرقابتها الدستورية يتعلق بسلطتها في تفسير القواعد الدستورية…« (د.أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، ص 63 وما بعدها).
ومن ثم ليس بالضرورة صحيحا القول بأن مبادئ وأفكار حقوق الإنسان هي نتاج للفكر الغربي الليبرالي، وأن في ذلك ما يتناقض ومفاهيم ومصالح المجتمعات في الدول التي يدين أغلبية شعوبها بالإسلام ذلك بأنه من المستقر عليه قانونا وفقها مقارنا – وهو المبدأ الذي أخذت به المحكمة الدستورية العليا المصرية سالف البيان – إن مبادئ وأفكار مواثيق حقوق الإنسان ليست قالبا جامدا يأخذ ذات الأبعاد والشكل في كل الدول علي حد سواء، وإنما هي كعملة الاتحاد الأوروبي يختلف نقشها من دولة إلى أخري. فتحمل في كل دولة ما يميز هذه الدولة، ولكن وفي النهاية وان تغير شكلها، إلا أن قيمتها وقوتها لا يتغيران.
وأخيرا وليس آخرا، وفي تمهيد لما بعده لربط أوصال الفكرة يتعدى نطاق زيادة أرصدة أمتنا من العزة والمجد التي هي اليوم في أشد الحاجة إليهما، بل تشخيص منا لأهم مشاكل عصرنا الحاضر وانساننا العربي مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا الذي ما زال يواجهها ونحن في القرن الواحد والعشرين وفي خضم ثورة سيشهد لها تاريخ الإنسانية الحرة يوما إنها قامت بتحرير العقول والنفوس وما زال يصارعها عبدة الطاغوت والفراعين تنوه المحكمة أن من الأهمية بمكان حديث التذكير بما في الموروث الثقافي الإسلامي والمصري من رجال كانوا سباقين في حمل شعلة الحرية للإنسانية. فكان القائلون بالعدل والتوحيد والمعتزلة بصفة خاصة – في مواجهة فكر المرجئة – يدعون للاختيار والانتصار لحرية الإنسان. (محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، دار الشروق).
ومن ذات الصفحة المشرقة من التاريخ القريب كان مثالا للوطنية والنزاهة والموضوعية وحسن التقدير، رجال اشتركوا معا في تعاطفهم مع الثورة العرابية، ووقفوا بجانب ثوارها في محنتهم وضد من ادعي عليه بالمروق والزندقة وبالخروج عن طوع الحاكم. كان من هؤلاء العقلاء الشيخ رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، عبدالرحمن الكواكبي، الشيخ محمد عبده ورشيد رضا وأخيرا القاضي والمفكر قاسم أمين صاحب القول: أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل«. كما أنه صاحب المقولة التي غدت كالمثل السائر: الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب. (الحرية، كلمات، قاسم أمين، الأعمال الكاملة، دار الشروق، الطبعة الثالثة 2006، ص 149).
وحيث إنه… وعن الشريعة الإسلامية، فقد قال الله تعالي في كتابه العزيز “لا إِكْرَاهَ فِي الدَّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيَّ فَمَنْ يَكْفُرْ(البقرة: 256)، وفي قوله تعالي “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبَّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف: 29)، دلالة علي حرية العقيدة. وبالقياس فإذا كان الله قد قرر حرية العقيدة، فمن باب العقيدة هي العام والرأي الفقهي هو الخاص فلا شك أن يترتب علي ذلك أن لا إكراه علي اعتناق فكر ديني، بدعوي أنه هو الصحيح المستقيم الأورثوذوكس (orthodox)، والحجر علي تيار فكري آخر. وهو ما يعد مخالفا مقاصد الشريعة الكبري (حفظ الدين والنفس والعقل والمال، كما أضاف بعض العلماء الكرامة والحرية والعدالة) ومصالحها المرسلة، علي اعتبار أن الدين إنما جاء لتحقيق الحياة وما تحقق به من وسائل، وحفظ العقل وما يتعلق به من تعليم وحرية وتفكير وتعبير، والي جانب حفظ النفس والمال والنسب ما تقتضيه تحقيق المقاصد الحاجية والتحسينات من حقوق الإنسان فضلا عما يقتضيه كل ذلك من إقامة نظم للجماعة المسلمة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. (أبواسحاق ابراهيم بن موسي الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص5).
من ثم فإن النقد لتيار فكري ديني لا تجريم عليه؛ ولا يقدح في ذلك القول بأن هناك عقابا بالشريعة للمرتد عن دين الإسلام. ففي مسألة الردة، وهي الكفر بعد الإسلام عن وعي واختيار. فلقد نصت آيات الكتاب علي استبشاع هذه الجريمة في مواضع كثيرة وتوعدت مقترفها بأشد العذاب، من دون نص علي عقوبة محددة في الدنيا، غير أنه في السنة – وتقول “في” وليس “من” للتحفظات علي مدي قوة سنده – ما ينص علي “من غير دينه فاقتلوه” ومع ذلك، لم يختلف أهل السنة من اعتبارها جريمة غير أن جمهورهم ذهب إلى قتل مرتكبيها؛ وخالفهم البعض، وكان الخلاف دائرا حول هل الردة »جريمة عقائدية” أم أنها “جريمة سياسية تعزيرية”؛ والمحكمة تأخذ بالرأي الثاني للأسانيد الآتي بيانها.
ففي القول الأول ما يتناقض مع قوله تعالي “إنَّ الَّذِِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَا لَمْ يَكُنِ الّلُه ِلَيْغفِرَ َلهُمْ وَلا ِلَيهْدِيَهُمْ سَبِيلا” (النساء: 137)، وهو ما مفاده أنه لا سلطان علي حرية العقيدة ولا عقاب دنيوي علي الردة. ويوضح إمكانية الاختيار للإنسان بين الكفر والإيمان – ليس الجبر – من جهة. ومن جهة أخري، يدحض هذا القول منطقا، فلو كانت جريمة الكفر هي القتل، فإن في هذا غلق الباب أمام إمكانية العودة إلى الإيمان، وهو ما يتعارض وهذه الآية، ويعني غلق باب التوبة، وهو ما يتناقض مع ما هو من المعلوم من الدين أن باب التوبة مفتوح دائما.
أما الاحتجاج بالحديث “من غير دينه فاقتلوه” مردودٌ عليه خلافات – من حيث كونه حديث آحاد – غير الحديث المتواتر أو الحديث المشهور. ولا يؤخذ في أصول الدين بأحاديث الآحاد فهذه قاعدة فقهية – إلا عند السلفية – بل إن البعض لا يأخذ بها في الفروع.
كما أن تفسير المحكمة لنص المادة 98(و) موضوع هذه الدعوي يتفق والفتوي الأخيرة الصادرة من مفتي الديار المصرية، وما قرره الأزهر من أن الاستتابة للمرتد ليست محدودة بمدة وأنه قد يستتاب مدي الحياة ما دام لم يحاول بردته نشر الفساد في المجتمع والبدء بالعدوان علي الإسلام مشيرا إلى أن أعضاء المجمع اتفق معظمهم علي أنه لا يجب في الإسلام قتل المرتد لمجرد تغيير دينه؛ وإنما القتل يكون إذا أفسد في المجتمع وحاول محاربة الدين.
وفي ذلك قال الشيخ شلتوت – شيخ الأزهر السابق رحمه الله – إن قتل المرتد ليس حدا، فالحدود لاتبين من أحاديث الآحاد، بل إن الكفر نفسه ليس مستبيحا للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم، كما أن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبي الإكراه في الدين.
أي أنها كجريمة الخيانة للوطن أو الخيانة العظمي في هذه الأيام. وتضيف المحكمة أن تطبيقه من قبل أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – كان لحماية الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة ضد الخروج المسلح علي الدولة وحصار المنشقين عنها رافضي دفع الزكاة وفي غياب من جيش المدينة. وقد رفض عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تطبيقه علي أبي شجرة مكتفيا بطرده. وفي هذا الاختلاف من حيث جنوح أبي بكر إلى الصرامة وجنوح عمر إلى الهوادة لا يخالف المعهود إذا مضينا فيه إلى ما وراء الظاهر القريب فكان طبع عمر – علي خلاف لأبي بكر الذي يحب الالتزام – هو الأخذ بالاجتهاد علي حسب اختلاف الأحوال (عبقرية الصديق، عباس محمود العقاد، ص68).
وإن يكن ذلك عن أمر النبي – صلي الله عليه وسلم – وفعله لذلك – وإن صح – فإنما صدر منه عليه السلام بصفته الولي أي من موقع ولايته السياسية علي المسلمين كتعزيز أي جريمة غير مقدر عقوبتها إنما هو متروك تقديرها للإمام أو القاضي، ويستدلون علي ذلك بعفو النبي لدي دخوله مكة عن قوم ارتدوا ومنهم عبدالله بن أبي السرح الذي كان من كتبة الوحي ثم ارتد فقبل فيه شفاعة عثمان، بينما امتنع عن شفاعة آخرين، فالحدود لا تجوز فيها الشفاعة، ومن ثم فإن المحكمة ترجح الرأي الثاني الذي يستشف من موقف الأحناف والذي ذهب اليه الكثير من المحدثين مثل الإمام محمد عبده، والشيخ عبدالمتعال الصعيدي، وعبدالوهاب خلاف، وأبي زهرة، والشيخ عبدالعزيز جويش، ومن رجال القانون الدستوري فتحي عثمان، ود.عبدالحميد متولي، وعبدالحكيم حسن العيلي، ود.حسن الترابي. (راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، الجزء الأول، ص 35-80).
وهو الأمر الذي يتفق وفهم المحكمة للمادة 98(و) بأن المنوط بالحماية هو أمن واستقرار المجتمع، من جهة، ومن جهة أخري، بين أن قصد المشرع قصد خاص فنصه أن الأخص بالحماية هو الأديان السماوية فقط دون غيرها من الأديان الأخري، تنافيا مع الحق المكفول دستورا بحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، فميز بذلك أتباع الديانات السماوية عن المعتقدين بسواها من أديان. الأمر الذي يشير بوضوح إلي أن المشرع ربط الحماية القانونية هذه بقصد حماية السلم العام، لكون تلك الأديان السماوية الأكثر اتباعا، ومن ثم الأكثر تأثيرا بالمجتمع، فميز بين هذا النص ونصوص مواد الباب الحادي عشر والذي لم يفرق بين الأديان بالحماية؛ فبالمادة 160 أورد وصف “شعائر ملة” و”شعائر دين”، وبالمادة 161 “علي أحد الأديان”. كما قصد ذات المعني عند وصف أتباع تلك الديانات دون أن يخص السماوية منها فقط قال: “أبناء ملة أو فريق من الناس” ليخرج من حظرها علي أصحاب الديانات دون من لا يعتقدون في أي دين فيميز الأولين عن الآخرين.
والجدير بالذكر أن المادتين 160 و161 من الباب الحادي عشر يوضحان علي نحو ناف للجهالة طرق التعدي علي الأديان المجرمة فحصرها في التشويش علي الشعائر – حماية منه لحق الآخر في ممارسة شعائره – أو التخريب أو الكسر أو إتلاف أو تدنيس المباني الدينية أو أي رموز – لما لها من قدسية – وكذا تحريف الكتب وتقليد احتفال ديني في مكان عمومي بقصد السخرية. فمن الملحوظ أن كل هذه الأفعال المؤثمة فيها تعد علي حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لدي أصحاب الديانات الأخري، الي هذا فقد رسم المشرع الخط الفاصل بين الحريات وبعضها بتدخله بالتجريم لتلك الأفعال متماشيا مع ما كفله الدستور للمواطنين من مساواة أمام القانون بالمادة 40 من الدستور المعطل، والتي تنص علي أن »المواطنون لدي القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
أما القول بأنه “وإن كانت حرية الاعتقاد مكفولة بمقتضي الدستور إلا أن هذا لا يبيح لمن يجادل في أصول دين من الأديان أن يمتهن حرمته أو يحط من قدره أو يزدريه عن عمد منه. فإذا ما تبين أنه إنما كان ينبغي بالجدل الذي أثاره المساس بحرمة الدين والسخرية منه فليس له أن يحتمي من ذلك بحرية الاعتقاد وتوافر القصد الجنائي هنا – كما في كل الجرائم – هو من الأمور التي نستخلصها محكمة الموضوع من الوقائع والظروف المطروحة أمامها ولا يشترط في الحكم بالعقوبة أن يذكر فيه صراحة سوء نية المتهم، بل يكفي أن يكون في مجموع عباراته ما يفيد ذلك.
)الطعن رقم 653 – لسنة 11 ق – تاريخ الجلسة 27/01/1941- مكتب فني 5 ع – رقم الجزء 1- رقم الصفحة 376.(
فنختلف معه، فالمحكمة وإن تري أن تجريم السخرية من الأديان بقصد تحقيرها وعدم احترامها واجب اذا كان به ما يفتت علي حق الاعتقاد وممارسة شعائر هذا الدين أو كان بقصد درء الفتنة والحفاظ علي السلم العام إلا أن الأفعال المؤثمة يجب أن تكون موضحة علي سبيل الحصر وغير مجهولة المعني، كما كان نص المشرع في المادتين 160 و 161 أما وإذ جاءت علي غير ذلك السبيل من الحصر كما هو الحلا في نص المادة 98(و). فيجب عدم التوسع في تأويلها والاقتصار في تطبيقها علي حدود مصلحة المجتمع وليس مصلحة أفراد دون آخرين.
وكما قررت المحكمة الدستورية أنه من المقرر… أن لولي الأمر أن يشرع بما يرد الأمر المتنازع عليه إلي الله ورسوله مستلهما في ذلك أن المصالح المعبرة، هي تلك التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلافية معها، وهي بعد مصالح لا تتناهي جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها ولكنها تتحدد – مضمونا ونطاقا – علي ضوء أوضاعها المتغيرة – يؤيد ذلك أن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين كثيرا ما قرروا أحكاما متوخين بها مطلق مصالح العباد، طلبا لنفعهم أو دفعا لضرر عنهم، أو رفعا لحرجهم باعتبار أن مصالحتهم هذه تتطور علي ضوء أوضاع مجتمعاتهم وليس ثمة دليل شرعي علي اعتبارها أو إلغائها (الطعن رقم 8 – لسنة 17ق – تاريخ الجلسة 18/ 5./1996 – مكتب فني 7 – رقم الجزء 1 – رقم الصفحة 656 – تم رفض هذا الطعن(.
أما بشأن اختلاف المحكمة وتأويل نص المادة علي أنه يفرد التحريم لكل فقرة علي حدة. ومن تم تجريمها لتحفير أو ازدراء إحدي الطوائف المنتمية للأديان السماوية، فإن من الأهمية بحديث أن نفرق بين ما هو مقدس وما هو غير مقدس في الدين وهو ما وفق له المشرع في المادتين 160 و 161 إذ إنه خص بالحماية ما هو مقدس من الدين واقتصر علي ذلك فتبين أن المقدس من الدين كتبه، وشعائره، ومبانيه ورموزهن. أما وقد وضحت جميعا إلا الأخيرة وهي رموزه، فإن المحكمة تري أن الرموز الدينية هي ما ارتبط بالضرورة مع الدين تمييزا له علي غيره من الأديان ومن ذلك كتبه، ورسله، والعلامات التي تعارف تذليلها بالضرورة مع الدين تمييزا له غيره من الأديان ومن ذلك كتبه، ورسله، والعلامات التي تعارف تذليلها بالضرورة عليه كالصلب والكنيسة في المسيحية أو الهلال والمئذنة للإسلام – وان كانوا لا يعتبرون من الدين فالمئذنة لم تكن جزءا من المساجد بالعهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة، أما دون ذلك من أشخاص حفل بهم التراث والتاريخ الديني لهذا الدين فلبسوا ممن يصح إطلاق وصف رمز ديني عنيد، وذلك ل؛كونهم بشرا مثلنا، لنا الحق في الاختلاف معهم فلا يمكن إسباغ الحصانة من النقد عليهم كما أن أفكار هؤلاء لا يمكن إلباسها القداسة، ومن ثم إضفاء الحصانة من الاجتهاد والمناقشة وأتيحت والاختلاف والنقد عليها. وتكس خطورة هذا البحث في أنه – وفي الواقع العملي – أن أي اختلاف في الرأي مع اجتهاد السلف يمكن أن يفسر علي أنه مجادلة في أصول الدين، كما يمكن تفسيره علي أنه ازدراء واحتقار للدين إلي الأفكار أو أشخاص ارتبطت بذلك الدين فقد نصت المادة 49 هي الدستور المعطل علي أن تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والنفاق وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك ومن ثم يجب التمييز بين الدين والفر الديني »فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها )نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني، ص 196(.
يبقي علينا التأكيد من أن العلاقة الملازمة والتلامس الضروري بين النقد وبين والتحقير والازدراء في مسألة الدين بعد استدلالا علي صعوبة نقد الفكر الديني ومأثوراته وتراثه الذي أضحي من مقدساته في عقول أناسه وأصحابه، دون اعتبار ذلك من التحقير أو الازدراء لتلك المعتقدات. ففي مجال العلوم اللغوية كلمة نقد تأتي وفق (مقاييس اللغة) من “النون والقاف والدال أصلٌ صحيح يدلُّ” علي إبراز شيءِ وبُروزه. من ذلك: النَّقَد في الحافر، وهو تقشُّرُهُ حافرٌ نَقِدٌ: متقشِّر. والنَّقَد في الضِّرس تكسٌّره. وذلك يكون بتكشٌّف لِيطِه عنه ومن الباب: نَقْد الدِّرهم. وذلك أن يُكشف عن حالِةِ في جَودته أو غير ذلك.
وكلمة ازدراء لها مفردان ذوا صلة (غمص “لسان العرب” ) وهي من “غَمَصَه وغَمِِصَة يَغْمِصُه ويَغْمَصُه غَمْصاً واغْتَمَصَه: حَقَّرَه واسْتَصْغَره ولم يرد شيئاً، وقد غَمِصَ فلانٌ يَغْمَصُ غَمَصاً، فهو أَغْمَصُ وفي حديث مالك من مَُرارة الرَّهَاويّ: أَنه أَتى النبيَّ – صلّي الله عليه وسلّم – فقال: إِني أُوتِيتُ من الَجمالِ ما تَري فما يسُرُّني أَن أَحداً يَفْضلني بشِرَاكي فما فوقها فهل ذلك من البَغْي؟ فقال رسول الله صلّي الله عليه وسلّم : “إِنما ذلك مَنْ سَفِهَ الحقَّ وغَمَطَ الناس، وفي بعض الرواية: “وغَمَصَ الناسَ أَي احْتَقَرهم ولم يَرَهم شيئاً. “و (غمط (الصّحّاح في اللغة) وهي من “غَمِطَ النعمة بالكسر يَغْمَطُها. يقال غَمِطَ عيشه وغَمَطَهُ أيضاً بالفتح يَغْمِطُهُ. غَمْطاً بالسكين فيهما، أي بَطِرهُ وحَقَرَهُ وغَمْطُ الناس: الاحتقارُ هم والازدراءُ بهم .
وفي الحديث “إنَّما ذلك من سَقِهَ الحقَّ وغَمَطَ الناسَ”، يعني أن يرى الحقَّ سَفَهاً وجهلاً ويحتقر الناسَ.
وأغْمَطَتْ عنه الحمَّى : لغةٌ في أغْبَطَت”.
وكلمة حقر (لسان العرب) من” الَحقْرُ في كل المعاني الذِّلَّة؛ حَقَرَ يَحْقِرُ حَقْراً وحُقْرِيَّةَّ، وكذلك الاحْتِقارُ. واَلحقِيرُ: الصغير الذليل وفي الحديث: عَطَسَ عنده رجل فقال له: حَقِرْتَ ونَقِرْتَ؛ حَقِرَ إِذا صار حقيراً أي ذليلاًَ.
وتَحاَقرَتْ إليه نفسه؛ تَصاغَرَتْ. والتَّحْقِيرُ التصغيرُ. والُمَحَّقراتُ: الصغائر. وتحقير الكلمة: تصغيرها. وحَقَّرَ الكلامَ: صَغَّرَه. و(الصّحّاح في اللغة) الَحقيرُ: الصغير الذليل تقول منه: حَقُرَ بالضم حَقارَةً وحَقَرَه، واحْتَقَرَهُ، واستحقره: استصغره . وتَحاقَرَتْ إليه نفسُه: تصاغرت. والتحقيرُ التصغير. والُمحَقَّرات: الصغائر.
وكذلك لما كان الكَشْفُ لغة وفق (القاموس المحيط) من “الكَشْفُ، كالضَّرْبِ، والكاشِفةُ : الإظْهارُ، ورَفْعُ شيء عما يُواريهِ ويُغَطِّيهِ، كالتَّكْشيفِ.” ولما كان الكشف. ومن ثم النقد، هو كشف الشيء عما يواريه يتطلب نزع ذلك الذي يواريه ولما كان – في مجال نقد الخطاب الديني – هذا النزع يتطلب إبطال تلك الأفكار المنقودة ونزع القدسية عنها باعتبارها من اجتهادات البشر التي يمكن الاختلاف فيها، فهو بالضرورة تصغير لها لإنزالها من مصاف المقدسات إلي مصاف الرأي الذي لا قدسية فيه.
الأمر الذي سوف يعد بالضرورة من منظور الجمهور – إذا كان هذا الاتجاه الفكري الديني هو السائد – ليس فقط تصغيراً بل تهكمًا وازدراءً للدين، فهم لا يفرقون بين ما هو من الفكر وما هو من الدين من جهة، ولاختزال الدين في رؤيتهم الخاصة له ولو عليها إجماع من جهة أخري، إذ إن الإجماع ما هو إلا رأي. مع الإشارة إلى استحالة الإجماع عملا. (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال، أبو الوليد محمد بن رشد).
وهنا نتذكر منهج ابن رشد عندما قسم الناس إلي مستويات ثلاثة: العامة، وشملهم للمعرفة هو الوعظ والخطابة، والأسلوب الشعري وأواسط الناس، وهم سبيلهم الجدل وحجج المتكلمين. ثم الخاصة، وسبيلهم صناعة الفلسفة وبراهين العقل وانطلاًقا من هذا الوصف يقول جمال الدين الأفغاني “إن العقل لا يوافق الجماهير، و تعاليمه لا يفقهها إلا النخبة من المتوردين، والعلم علي ما به من جمال، لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء، وهي تتعطش إلي مثل أعلي، وتحب التحليق في الآفاق المظلمة السحيقة التي لا قبل للفلاسفة والعقلاء برؤيتها أو ارتيادها.. (الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، ص 102.)

وكما قال الإمام محمد عبده: “ولما كان مسرح العقل وميدانه ليس أمور الدنيا وعلومها فقط، بل وعلوم الدين أيضا، والدين الإسلامي علي وجه الخصوص، فالإيمان يقين، ولا يقين مع التحرج من النظر، وإنما اليقين بإطلاق النظر في الأكوان، طولها وعرضها حتي يصل إلي الغاية التي يطلبها دون تقيد.. فالله يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم، بدون قيد ولا حد.. والوقوف عند حد فهم العبارة مضرٌ بنا، ومناف لما كتبه أسلافنا من جوهر المقولات، والتي تركنا كتبها فراشاً للأتربة وأكلة للسوس، بينما انتفعت به أمم أخري أصبحت الآن نعم باسم النور. وحتي المعجز الخارق الذي تحدي به الإسلام خصومة وهو القرآن وحده، قد دعا الناس إلي النظر فيه بعقولهم.. فهو معجزة عرضت علي العقل وعرفته القاضي فيها وأطلقت له حق النظر في أنحائها، فالإسلام لا يعتمد علي شيء سوي الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري علي نظامه الفطري”.
(الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج 3 ص 151، 279، ج 4، ص 414).
ولما كان قول الأفغاني من أن للعلم ثمرات هي فوق إدراك العامة والجمهور، الأمر الذي يدلف بنا إلي الشق الثاني من المادة 98 (و) وما تراه المحكمة من كونه لا يحمي الطوائف الدينية لذاتها، وإنما اختص بالحماية للسلم والأمن العام، فإذا كان الفعل غير مهدد له ولا يرتقي لهذا المستوي فلا تأثيم عليه ولو أضر بمشاعر تلك الجماعة فالقول بغير ذلك يتنافى مع وما سلف أن أوضحنا من عدم قدسية تلك الجماعات ولا أفكارها قداسة الدين، كما أنه ولولا تضارب الأفكار لما نشأت الفرق الدينية، ولكان لكل منها ما يعتنقه من فكر داخل ذات الدين، فكما قال العلماء الاختلاف رحمة، وما كان ليحدث الاختلاف بين الإمام أبي حامد الغزالي (ممثلا للمدرسة الأشعرية ثم السلفية) والعلامة أبي الوليد بن رشد (ممثلا للتيار الفلسفي الإسلامي) وأهل الكلام. فعندما أصدر الأول كتابه “تهافت الفلاسفة”، والذي فيه هجوم علي الفلاسفة والمتكلمين، رد عليه ابن رشد بكتابه “تهافت التهافت” انتصاراً لدور العقل والتوفيق بينه وبين النقل؛ ذلك بتأويل النقل إذا تعارض “ظاهره” مع براهين العقل، وذلك بمؤاخاته بين الحكمة والشريعة.
إن ما نعاني منه هذه الأيام من توحيد الفكر والدين، إنما بسبب تجاهل الفروق التي صيغت في مبدأ “أنتم أعلم بشئون ديناكم” وتناسيا للإدراك الذي كان يسود اللحظات الأولي في التاريخ الإسلامي وخلال فترة نزول الوحي والنصوص؛ من أن للنصوص الدينية مجالات فاعليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخري تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، فكان المسلمون الأوائل كثيرا ما يسألون إزاء موقف معين عما إذا كان موقف النبي – صلي الله عليه وسلم – محكوماً بالوحي أم بالخبرة والعقل. بل تتعدي الإشكالية إلي أن أصبح الخطاب الديني يوحد بين النصوص الدينية وقراءته وفهمه لها مقتنعا بامتلاك الحقيقة في الخطاب الديني.
وتنوه المحكمة إلي أن سبب ذلك هو الإقصاء، الذي تم للتيارات الفكرية لحساب التيارات الحشوية النصوصية، فهو صراع قديم بين العقل والنقل انتصر فيها العقل تارة وانتصر فيها النقل أخيراً، ونحن لسنا مع الانتصارين لكون ظهور كليهما علي الآخر قد تم بالسلطة السياسية باستخدام القضاء فالتيار العقلاني – أهل الرأي – تلازم ارتفاع شأنه ومحنة الإمام أحمد بن حنبل مع السلطة، وكذا ظهور النقل- المتمثل في أهل الحديث – علي العقل – المتمثل في المعتزلة المتكلمين والفلاسفة – كان بسبب محنتهم الكبري مع السلطة أيضا. ومن ثم كان العامل الرئيسي بين ذلك الانتصار وذاك هو السياسة وأهواء الحكام، كما تدخلت العوامل الاجتماعية أحيانا أخري؛ إذ نشأت إّبان ذلك تيارات فكرية تمزج بين الاتجاهين كتيارين من تيارات أهل التوحيد والعدالة وهم المعتزلة والأشعرية (التي نشأت علي يد أبى الحسن البصري والتي لعبت دور الوسط في الفكر الإسلامي بعد أن تزحزح المعتزلة -أصحاب واصل بن عطاء- من هذا المكان الوسطي؛ كرد فعل لغلو أهل الحديث في تمسكهم بالنص، وبخاصة السلفية في عهد الإمام أحمد بن حنبل، ثم ابن تيمية وابن القيم- لتقترب من أقصي اليسار الذي كان يحتله الفلاسفة) كما ظهر التصوف الفلسفي الذي نشأ وازدهر علي يد فلاسفة من أمثال ابن عربي والحلاج والجيلاني، وأخيرا السلفي التجديدية العقلانية التنويرية (الجامعة الإسلامية) لروادها جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ عبد الحميد بن باديس، والتي جمعت بين الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول من ناحية والكلام للمعتزلة وأخذت عن الفلسفة لابن رشد والصوفية – “الفسلفية” – كوصف محمد عمارة بوصف اللغة المستخدمة وليس علم الفلسفة الإسلامية- لابن عربي.
اختلفت عدد الفرق عند المؤرخين ؛ فقل وزاد بين المؤرخين ذكرنا أعظمها تأثيراً علي فكر أهل السنة. ونحن لسنا بمقام سرد وقائع تاريخية ولكن يجدر بنا الإشارة إلي انه “ويموت الخليفة العباسي الواثق (233 هجرية) انتهي العصر الذهبي للمعتزلة، ففي عهد المتوكل العباسي (23-237 هجرية) حدث الانقلاب ضد المعتزلة ونزعتهم العقلانية فرج بأعلامهم في السجون، وأبيدت آثارهم الفكرية، إلا ما ندر منها فتقلص سلطان العقل العربي الإسلامي علي الحياة الفكرية والعامة.. وأخرج أهل الحديث الذين يقدمون الإسناد والنقل علي الدراية والعقل فتولوا أزمة الدولة. ” ثم زادت الدولة العباسية اضطهادها لهم بإصدار ما سمي “الاعتقاد القادري” وجعل علماء السنة أهل الحديث يوقعون عليه.. ليحرم فكر المعتزلة وبجرمه (د. محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، ص89-91) وهو ما يوصفه الكاتب تشبيها بليغا ” بالكهنوت الاعتقادي” المستعار من قرارات المجامع الكنسية غريبا عن روح الإسلام وطبيعته، إذ انه هو ذاته ما حدث في المسيحية بشأن ما يسمي ببدعه نسطو ر( اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، يوسف زيدان). ويبنٌ لنا أن هذه الحملة علي العقلانية في الإسلام، وأن قلت بعد تقبل الأزهر لفكرة تدريس أفكار المعتزلة وعلم الكلام بعد أن كان التلفظ باسمهم جريمة – كما حدث مع الشيخ محمد عبده والشيخ عليش لما سمع الثاني أن الأول يردد ما يسمعه بدروس جمال الدين الأفغاني عن المعتزلة فأراد قتله – ما زالت مستمرة حتي هذه الأيام؛ نتيجة ًلاستمرار الاستبداد السياسي؛ فالاستبداد الديني والسياسي “أخوان”؛ والمشكلة بينهما اتهما حاكمان ؛أحدهما في مملكة الجسم ،والآخر في مملكة القلوب” كما يقول عبد الرحمن الكواكبي.
وبينٌ لنا كذلك في هذه العلاقة التي لا تنفك، كوصفه المصلحة بين الحكم المستبد والدين الظاهري لما انتصر الحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم في الإسلام لغلاة الصوفية وبنائهم لهم التكايا (صوفية النسك في تعريف د.محمد عمارة تفريقا بينها وبين الصوفية الفلسفية).. ويضيف أن” أعظم ما يلائم مصلحة المستبد ويؤيدها أن الناس يتلقون قواعده وأحكامه بإذعان بدون بحث أو جدال، فيودون تأليف الأمة علي تلقي أوامرهم بمثل ذلك”.( عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبدال ومصارع العباد، تحقيق وتقديم د.محمد عمارة. ص29-34)
وأمثلة ذلك كثيرة فكما أوضحنا سلفا فيما جاءت للمعتزلة بسبب نزعتهم العقلانية والتي تتنافي مع الحكم الاستبدادي، خلافا لعموم المرجئة الآخرين – وهم أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت -وهم الفكر الذي مثل التخريج الفقهي لتبرير استبداد السلطة والاضطهاد والفساد والتغيير الذي طرأ علي طبيعة علاقة السلطة بالمجتمع في العصر الأموي وتخوفا من نظام الشوري إلي النظام الوراثي. الأمر الذي تطلب فصيل العمل عن الإيمان.
وخلافا لأصحاب الحديث وأهل السنة وهم جمهور الأمة وعامة أهلها، والذين قالوا إن أفعال العباد مخلوقة لله. والخير والشر بقضاء الله وقدره (فهم جبرية متوسطون)ويمتنعون عن الخوض في صراع الصحابة علي السلطة، وبرتبون الخلفاء الراشدين في الفضل ترتيبهم في تولي الخلافة، ويرون البيعة شرطاً لتولي الإمامة. براً كان أو فاجراً. وينكرون الثورة والخروج كأسلوب وسبيل لتغيير الظلم والجور. (منعا للفتنة التي حصدت الكثير من الأرواح في وقتهم هذا) ويقولون إن الرزق من الله يرزقها عباده، حلالا كانت أو حراما (علي عكس المعتزلة الذين يخصصون الزرق بما كان حلالا، دونما كان حراما).
استنادا إلي أن الإنسان خالق أفعاله ومسئول عنها دكتور محمد عمارة ، تيارات الفكر الإسلامي، ص463.
ولما كان ذلك، فإنه ومن الواضح انه لم ينحصر أثر السياسة علي تباين المواقف الدينية من العلاقة بالسلطة فيما بين أهل الرأي مدرسة العقل وبين عموم المرجئة وأهل الحديث، مدرسة النقل كالإمامة والإرجاء والتقية بعدم الخروج علي الحاكم والنهي عن العنف والثورة -عدا الوهابية منها- في مقابل حرية الإنسان واختياره وقدرته واستطاعته ومن ثم مسئوليته عن أفعاله، وإنما كان لها الأثر أيضا علي آراء تلك التيارات من قضايا أخري مثل القضاء والقدر، والجبر، وتوصف مرتكب الكبيرة، وحتي القرآن ما إذا كان مخلوقا أم لا، بل وصفات الذات الإلهية -والتمثل في تصدي أهل العدل والتوحيد ومن بعدهم المعتزلة لأفكار التشبيه والتجسد كمحاولة لعدم الوصول إلي نتيجة تعدد القديم، وفي أذهانهم اللاهوت المسيحية القائل بالحلول والتجسيد والتثليث وما زالت مواجهة الدين بالسياسة بالدين، والتي كانت بدايتها الخداع باسم الدين الذي حدث برفع المصاحف علي الرماح. وإلي هذا يجدر أهمية إيضاح هذا التلازم عند انتقالنا عن الركن المادي للجريمة.
ولا زالت البلاد تحت الحكم المستبد ومن بعد خلافة الخلفاء الراشدين وحتي الآن -إلا عن استثناءات فردية -فنجد في هذا العصر القريب ملكا يريد الخلافة ، ورئيسا للدولة يطلق علي نفسه الرئيس المؤمن ولا أوضح من ذلك مما حدث ويحدث الآن من استخدام الخطاب الديني لتوجيه الجمهور لمآرب سياسية لا صلة لها بالدين، ومن ثم فلا غريب إبان ثورة يناير خروج فتاوي تحريم الخروج علي الحاكم وتحريم الديمقراطية بدعوي أن الحياة الحزبية هي فرقة للأمة التي لا يجب أن يكون فيها إلا حزب واحد هو حزب الله، إذ تجد صداها الواسع يتردد في كتب التراث الفقهي وفي كتب التاريخ وبالثورة العرابية فهذا التيار هو الذي يملك الصدارة. وله احتكار المشهد من الخطاب الديني المعاصر، ومن ثم يتعين التوقف عند القول بأن قولا ما يخالف المستقر عليه بالإجماع -فالعالمون بالشريعة يعلمون مشكلة تعريف الإجماع – فيجب التعلم بأن في هذا الصادرة لرأي العقلانية في الإسلام لحساب رأي آخر وهو النقل والنصوصية. فالمدارس الفقهية وإن اختلفت إلا أنها تمثل بصفة عامة شقا من ميراث الفكر الإسلامي الذي انطوي علي علم الكلام والفلسفة الإسلامية وتذوق الصوفيين. فلا يجوز محاكمة أحد بدعوي أنه مرتد عن الدين ويستند في ذلك إلي إجماع الجمهور من أهل الحديث. إذ إنه لا يجوز ألبتة، منطلقا وقانونا، أن يكون هذا الفكر هو الحكم والخصم في الوقت ذاته.
وعن الاعتماد علي سلطة القوات والسلف وإهدار التيارات الفكرية من التراث الإسلامي ونعمد عمداً الإشارة إليها انتصارا لفكر الجبر وإهدارا للسبب والسببية -الذي نشأ علي يد الجبرية، ثم قال به كثير من علماء أهل الحديث/السلفيين – يقول نصر حامد أبوزيد “إن الخطاب الديني المعاصر يستند فقط إلي هذا الجانب من التراث ويتعمد تجاهل الجانب الآخر، مثل اتجاه أصحاب الطباع من المعتزلة والفلاسفة، ويتم ذلك في أحيان كثيرة بإصفاء صفة القداسة الدينية علي الاتجاه الأول ورد الاتجاه الثاني إلي تأثيرات أجنبية انحرفت عن الإسلام الحقيقي..
(نصر حامد ابوزيد، نقد الخطاب الديني 24- 34)
ولقد عرفت الشريعة الإسلامية الخلاف في الرأي في القضايا الأساسية والثانوية طوال عصرها الذهبي، وقبل تعصب كل فرقة والتفافها حول من تثق به من ذوي المكانة بينها. فاتخذته إماما لها، وحصرت الثقة العلمية فيمن ينتمي إلي جانبها من الفقهاء مع سوء ظنهم بمن عداهم؛ مما أدي إلي الاضطراب الفكري الذي كان له الأثر الأكبر في تشعب الخلافات الفقهية، حتي وقعت الجفوة بين العلماء والحكماء؛ مما كان له أيضا الأثر الكبير في إبعاد الفقه عن الحياة العامة العلمية، إلي أن أغلق باب الاجتهاد؛ بدعوي الحفاظ علي الدين وماهو من ذلك القبيل؛ ولا أدل علي أنه علم يتغير بتغير المعطيات والظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والحضارية، والسياسية، من أن الإمام الشافعي الذي أملي علي تلاميذه مذهبه في العراق في كتاب” سماه الحجة”، قد اختلف في رأيه في بعض الأمور عندما انتقل إلي مصر فأملي علي تلاميذه في مصر مذهبه الجديد في كتابه “الأم”. فلا خلاف بين المؤرخين والعلماء علي أن من أسباب نهوض الفقه الإسلامي حرية الرأي؛ كثرةُ الجدل العلمي بين الفقهاء؛ فالاختلاف والنقد والصراع والمنافسة هو نواة أي تطور، كما أن الحرية هي أساس أي إبداع. وكثيرا ما كانت المنافسة في موسم الحج بين أهل العقل/ مدرسة الرأي- و،التي كانت عاصمتها بغداد- لما كان بها من تطور حضاري وانفتاح علي الحضارات الأخري وأهل النقل/ مدرسة الحديث- والتي كانت عاصمتها بغداد- وأحيانا كانت تقع عن طريق الرسائل كما حدث في الرسائل المتبادلة بين الإمام مالك في المدينة والإمام الليث بن سعد في مصر؛ الأمر الذي أدي كثيرا إلي تسلح كل منهما بأسلحة الآخر. والمثال الأقرب إلي ذلك هو ظهور علم أصول الفقه علي يد الشافعي عقب مناظرة مع محمد بن الحسن الشيباني فكانت الغذاء الرئيس للرقي العلمي في هذه الفترة (الدكتور محمد علي محجوب، المدخل لدراسة التشريع الإسلامي، ص 125- 136).
ومن ثم فلا غريب بعد إنكار الاجتهاد وإنزال التراث الفقهي منزلة المقدس أن يطلق علي العقلانيين التنويريين الآن اسم العلمانيين، وهو الاسم الذي يراد به الوصم بالكفر والإلحاد والمروق من الدين، وكل ما يستتبع ذلك من أوصاف التبعية والعمالة والخيانة. وهو ما يفسر الشبه بين اليوم والأمس عندما دارت المعركة حول كتاب د. طه حسين “في الشعر الجاهلي” وكذا تلك التي دارت حول رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” وما العلمانية إلا محاولة لفهم الدين بمنهجية علمية، فلا تطور علميا في أي مجال من مجالات العلم، ومنها الدين دون منهجية علمية، وبطبيعة الحال فإن هذه المنهجية يجب أن تتطور بمرور الأيام والعصور بتطور عقل البشرية، ومن ثم طريقة فهمهم لهذا العلم وتجدد الأحداث والتطور الحضاري والعلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي إلا أنهم يخلطون بين العلمانية السياسية والعلمانية كمفهوم الاعتماد علي المنهج العلمي في الدين وما كانت المعركة علي رواية طه حسين إلا رفضا لفكرة قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنساني التاريخي. وبصفة عامة عن الآداب والفنون يذهب الكثير من شباب “الجماعات” إلي تحريم فنون الغناء والتشكيل والموسيقى والمسرح؛ أما الشيوخ المعتدلون فيرون أن الإسلام ليس ضد الفنون والآداب الراقية، وأن التحريم ينصب علي تلك إلي تثير الغرائز والتي “تخاطب الإنسان من جانبه الحسي” ونحن لسنا هنا بصدد مناقشة القيمة الأدبية لهذه الرواية أو تلك، فهذا أمر له مجاله وعلماؤه المختصون، ومن المؤكد أن رجال القانون وعلماء الدين ليسوا من هؤلاء؛ لكن بعض المتشددين والمحسوبين علي المعتدلين، ورغم ذلك، يصرون علي أن يقيموا أنفسهم حراسا مدافعين عن العقيدة ضد الأخطار، وعلي فرض حقيقة أن تلك الأعمال تتناقض وفهمهم للعقيدة، فهل معني ذلك أن يختزل الدين في فهمهم وتأويلهم! ثم لماذا يتم تصوير الخطر علي أنه علي العقيدة وهو في الحقيقة خطر عليهم هم وعلي فهمهم وتأويلاتهم إن الدين والعقيدة، في نفوس المصريين بطبيعته كشعب متدين أقوي من أن يهددها عمل فني، وإنما إحساسهم بضعف موقفهم الذي يستمد قوة من الظلام والجهل هو الذي صور لهم هذا.
إننا وفي نقدنا لهذا المذهب واختلافا معه في كثير من الاتجاهات لا ننكر أن السلف كانوا من أعظم الرجال في عصورهم، كما لا ننكر أن المذهب نفسه كان متفقاً مع عصره، أحيانا كثيرة. إن مضمون نقدنا في أن سلامته منذ عشرة قرون لا تعني بالضرورة سلامته في المعاصرة، ذلك لتباين الأوضاع تباينا جذريا، فالحل لن يكون دائما فيما قدره السلف، وإنما في القرآن نفسه ومباشرة فهو وحده- بإعمال العقل المستنبط لأحكامه- الذي يتسع لتحديات العصر وينتصر عليها؛ ومن ثم يجب العودة إلي القرآن وإعمال العقل فيه وفي إعادة التفكر بطريقة علمية، متحللين من الموروثات التي قيدنا أنفسنا طويلا بعدم فكها عن رقابنا إلا عن الاسترشاد بها، عدم الزج بالدين في الصراعات السياسية، فكما قال علي كرم الله وجهه “لا تحدثوا بالقرآن، فإنه حمال أوجه”.
فلا اختلاف من أن محمد بن عبد الوهاب، ومن قبله الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية، كانوا مجددين للدين، وبأنهم كان لهم الفضل الكبير في محاربة البدع وإعادة الوعي بالدين الصحيح، إلا أنه وإن كان ذلك، ما كان ليتأتى في ذلك العصر إلا بالحروب والقتال، كما هو الحال بشأن الدعوة إلي الإسلام في فجر الدولة الإسلامية والذي تطلب الفتوحات، أما الآن، وفي ظل حرية الرأي والعقيدة، لا يمكن لأحد أن يدعي عدم استطاعته الدعوة إلي الإسلام في خارج مصر أو في داخلها. ولما كانت الدعوة للدين مكفولة، فمن باب أولي الدعوة لإصلاح الدين، هي أيضا مباحة ولا قيود عليها، وليس ثمة داع لقتال ولا لجبر باستخدام القانون ابتغاء فرض رؤية جماعة دينية أو غير دينية، أغلبية كانت أو أقلية، علي جماعة أخري، فالسياسة والأغلبية والمصلحة من المتغيرات.
ولقد سبق أن أوضحنا كيف كانت حرية الرأي والإبداع والتفكر العلمي سببا في ازدهار الفقه الإسلامي والمجتمع، وكيف كانت لمدرسة الرأي والعقلانيين المعتزلة الأثر البالغ في التطور العلمي والثقافي للدولة الإسلامية في عصرها الذهبي، ومن ثم يجب التقييد كل التقييد عند وضع القيود علي تلك الحريات لما له من أثر في كبح مسيرة التقدم في أي مجتمع. وما ثمة خلاف بين العلماء والمؤرخين علي أن أصحاب الفضل في انتصار الإسلام في مواجهة الحضارات الأخري، وما كان من نشره داخل أراضيه وفي بقاع لم يدخلها جيش الإسلام، هم أصحاب علم الكلام والفلسفة، لاعتمادهم رد الحجة بالحجة باستخدام العقل والمنطق والفلسفة، فقد كانت صناعة الكتب منتشرة في كل أنحاء العالم الإسلامي، وكانت الحضارة الإسلامية تدور حول الكتب: حيث توجد المكتبات الملكية والعامة والخاصة في كل مكان. وحيث كانت تجارة الكتب ومهنة النساخة رائجة، وكان يقتنيها كل طبقات المجتمع الإسلامي الذين كانوا يقبلون عليها إقبالا منقطع النظير. وبسبب من صناعة الورق بدمشق وسمرقند وبغداد. كان هذا الرواج ولقد كانت المكتبات تتيح فرص الاستعارة الخارجية، وكانت منتشرة في كل الولايات والمدن الإسلامية بدمشق والقاهرة وحلب وإيران ووسط آسيا وبلاد الرافدين والأندلس وشمال أفريقيا، وشبكات المكتبات قد وصلت في كل مكان بالعالم الإسلامي، فالفكر الإقصائي الشمولي لا يوحد، بل يفرق، علي عكس الفكر المنفتح الذي يستطيع أن يستوعب الاختلافات الفكرية التي هي موجودة طالما وجدت البشرية. (الحضارات، (2003) لبيب عبد الساتر. دار المشرق: بيروت).
أما وإذ وضحت المحكمة عقيدتها من نص المادة 98 (و) من قانون العقوبات، بعد أن أولت قصد الشارع وهدفه من وضع تلك المادة في محاولة للوصول إلي فهم نطاق التحريم، بما يتفق والمبادئ الدستورية ومبادئ الحريات والشريعة الإسلامية من مقاصدها الكلية ومصالحها المرسلة، وحيث تطرق بنا هذا البحث إلي التوصل إلي أن هذه الجريمة تتطلب قصدا جنائيا خاصا، وهو إحداث الفتنة وتكدير السلم والأمن العام، وإن كان المعتاد في الفقه القانوني أن الركن المادي للجريمة يسبق في البحث في توافر أركانه الركن المعنوي، إلا أن التطرق للأخير بقدر أكبر فيما سلف من أسباب الحكم، إنما كان بحكم ما فرضته عليها مقتضيات المنهجية في البحث.
أما عن مدي انطباق وقائع الدعوي علي الركن المادي للجريمة، وعن وقائع الدعوي، كما حددها المدعي بالحق المدني بصحيفة افتتاح الدعوي والتي انتهي فيها بطلب الحكم علي المدعي عليهم بالعقوبة المنصوص عليها بالمادة 98 (و) من قانون العقوبات. من أنهم تعدوا علي الإسلام والمسلمين، باستغلالهم الدين في أعمالهم، بالترويج لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة وتحقير وازدراء الدين الإسلامي عموما والجماعات الإسلامية خصوصا، مما يضر بالوحدة الوطنية، وبإلزامهم متضامنين بأداء مبلغ واحد وخمسين جنيها علي سبيل التعويض المدني المؤقت والمصاريف والأتعاب والنفاذ، وذلك تأسيسا علي أن ما قدمه المدعي عليهم بأعمالهم الفنية من أفلام: الإرهاب والكباب، طيور الظلام، مرجان أحمد مرجان، حسن ومرقص، ومسرحية الزعيم، ومسلسل الجماعة، وبما انطوي علي ذلك من ازدراء للدين الإسلامي عموما والجماعات الإسلامية خصوصا، والإخوان المسلمون في المسلسل الأخير، وهو الأمر الذي ستوضحه المحكمة تفصيلا بعد إجمال، فقد أضفي المدعي هذا الوصف تفصيلا علي الأعمال الفنية الآتية: مسرحية الزعيم لما تضمنته من استخدام لحن أنشودة “أسماء الله الحسني” علي كلمات أخري كما هو وارد تفصيلا بالصحيفة.
ثانيا: تقليده للشيخ محمد متولي الشعراوي في فيلم “الواد محروس بتاع الوزير” لكونه اندرج علي استهزاء “بمظهر” من مظاهر الدين الإسلامي.
ثالثا: تطاوله علي الذات الإلهية -كوصفه- بقوله “كيف أرشي الله”، وعلي الزيّ والهيئة التي يرتضيها رجال الدين علي النحو الذي أظهر به الملتحين والمنقبات بفيلم “مرجان أحمد مرجان”.
رابعا: قوله “احنا طلعنا الفضاء ولسه فيه ناس بتقول ندخل الحمام بالرجل الشمال ولا اليمين” وهو ما به استهزاء بشخص النبي وبفعله، وذلك بفيلم “الإرهابي”.
والمحكمة إذ تنوه، بادئ ذي بدء، بأن ادعاء المدعي، وحسبما هو مبين بصحيفة دعواه، قد انطوي علي شقين أساسيين، هما ازدراء الدين الإسلامي من جهة، وتحقير المسلمين عموما والجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون بصفة خاصة، تفرقة منا بين الدين والفكر الديني من جهة، وبين ماهو مقدس وماهو غير مقدس من جهة أخري، كما سلف أن بينت المحكمة.
فأما فيما انطوي بادعاء المدعي من ازدراء الدين الإسلامي، وعن (أولا) فإن استخدام لحن أنشودة “أسماء الله الحسني”، فمن المعلوم أن اللحن الموسيقي وبصفته عملا فنيا من صنع البشر، فهو أمر ليس من الدين في شيء. وتضيف المحكمة، بأنه إذا ما كان هذا اللحن قد استخدم في كلمات أخري. فإن أول ما يتطرق للذهن ليس التحقير من أسماء الله الحسني بحال، وإنما لخدمة العمل الدرامي في بيان أن شخصية الزعيم قد أضفت علي نفسها قداسة الصفات الإلهية، وهو وصف لكل فرعون اعتبر مصر وخيراتها له هو، وليس لشعبها، فقادته هذه الأثرة وهذا الاستبداد إلي الظلم والطغيان اللذين جعلاه يدعي الإلوهية ويقول: “ما علمت لكم من إله غيري”- (القصص: 38).
أما عن الاتهام، موضوع البند (ثانيا)، وبشأن تقليده للشيخ محمد متولي الشعراوي في فيلم “الواد محروس بتاع الوزير” لكونه اندرج علي استهزاء “بمظهر” من مظاهر الدين الإسلامي، فالمحكمة تحيل إلي ما تقدم بأسبابها من أنه، كما سلف وأوضحت، من الخطأ الفادح إضفاء صفة القداسة الدينية علي رجال الدين أو علي فكرهم وتضيف المحكمة: بأن ما توصل إليه المدعي من كون المشار إليه في هذا المشهد هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، هو تأويل المدعي الخاص، ونتيجة لاجتهاده الشخصي، ومن ثم فهو الأمر الذي لا يمكن تعميمه باعتباره الحقيقة المجردة.
أما عما انطوي عليه الاتهام بالبند (ثالثا)، وبشأن تطاوله علي الذات الإلهية- حسب وصفه- بقوله: “كيف أرشي الله”، فإن المحكمة لا تري في ذلك تطاولاً علي الله في شيء، إذ إن في هذه اللغة من الوضوح ما يدلل علي إنكاره لإمكانية حدوث ذلك وتضيف المحكمة: ولو أنه ليس بمقام البحث، بأنه لا يوجد ما يمنع إظهار شخصية لا نؤمن بالله في ثمة عمل فني ما فالقول بغير ذلك ينافي الواقع في المجتمع من وجود المؤمنين وغير المؤمنين.
وفيما انطوي عليه الاتهام بالبند (رابعا) وبشأن قوله: “احنا طلعنا الفضاء ولسه في ناس بتقول ندخل الحمام بالرجل الشمال ولا اليمين” وهو ما -يري المدعي- أن به استهزاء بفعل النبي – صلي الله عليه وسلم- ومن ثم بشخصه الكريم، وذلك بفيلم “الإرهابي” والمحكمة تقرر بأنه لَم يَثْبُت ذلك بحديث، ولا كان من السنن المؤكدة فهو اجتهادٌ من العلماء. فلم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام الأمر بِدُخُول الْخلاء بالشِّمَال، والْخُرُوج مِنه باليمين، إلاَّ أن العلماء استَحبُّوا ذلك لِعُموم حديث عائشة رضي الله عنها “كان النبي صلي الله عليه وسلم يُعجبه التيمن في تنعله، وترجّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه” رواه البخاري ومسلم” وعموم حديث حفصة رضي الله عنها: ” كان النبي صلي الله عليه وسلم يَجْعَل يَمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويَجْعَل شِمَاله لِمَا سِوي ذلك”. رواه أحمد وأبو داود.
كذلك دُخُول المسجد لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمَر بِالدُّخول باليَمني والْخُرُوج بالُيسري. قال البخاري باب التيمن في دخول المسجد وغيره “وكان ابن عمر يَبدأ بِرِجْلِه اليمني، فإذا خَرج بَدأ بِرِجْلِه اليسري”. ثم أوْرَد حديث عائشة الْمُتَقَدِّم في استحباب التَّيَمُّن. ولما كان ذلك ما تقدم، فإنه لا يجوز اعتبار الاختلاف مع هذا القول من قبيل الاستهزاء بأفعال أو بشخص النبي.
كما نستشهد في هذا المقام بقول المحكمة الدستورية: “إن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، تطويرً لقواعد علمية تكون في مضمونها أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم وأكفل لمصالحهم الحقيقية التي تشرع الأحكام لتحقيقها وبما بلائمها مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض وانغلاقها علي نفسها ليس مقبولاً ولا مطلوبا، ذلك أنها لا تمنح أقوال أحد من الفقهاء في شأن من شئونها قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها، فالآراء الاجتهادية في المسائل المختلف عليها ليست في ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعا ثابتا متقررا، لا يجوز أن ينقص وإلا كان ذلك نهيا عن التأمل والتبصر في دين الله تعالي. وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد، بل إن من الصحابة من تردد في الفتيا تهيباً.
ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره وربما كان أضعف الآراء سندا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفا لآراء استقر عليها العمل زمنا، وتلك هي الشريعة الإسلامية في أصولها ومنابتها متطورة بالضرورة نابذة الجمود لا يتقيد الاجتهاد فيها- وفيما لا نص عليه – بغير ضوابطها الكلية، وبما لا يعطل مقاصدها التي ينافيها أن يتقيد ولي الأمر في شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور لآراء بذاتها لا يريم عنها أو أن يقعد باجتهاده عن لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعا قد جاوزتها.
(الطعن رقم 8 – لسنة 17 ق- تاريخ الجلسة 18/05/1996- مكتب فني 7- رقم الجزء 1- رقم الصفحة 656- تم رفض هذا الطعن).
أما عن الشق الثاني من ادعاء المدعي. وهو تحقير المسلمين عموما والجماعات الإسلامية وجماعة الأخوان المسلمون بصفة خاصة، والمتمثل في تهكمه علي الزي والهيئة التي يرتضيها رجال الدين علي النحو الذي أظهر به الملتحين والمنقبات بفيلم “مرجان احمد مرجان”، وكذا بفيلم “الإرهابي” – وعلي حد قول المدعي- إظهار شخصية “الإرهابي المسلم” بأنه “شخصية مزدوجة لا يصلي، وبأنه أعجب بالخمر رغبة في ارتكاب الزنا، وهو ما يقابله في نص المادة موضوع الدعوي “الطوائف المنتمية لها”. ومن ثم فإن المحكمة تحيل إلي ما سلف أن أوضحته من عدم جواز تفسير نص المشرع علي أساس أن قصده قد اتجه إلي إسباغ الحماية القانونية علي جماعة دينية لمخالفة ذلك الواقع علي النحو سالف البيان.
وإذ تشير المحكمة في البدء بوجوب التفرقة بين ما إذا كان النقد المدعي بوقوعه تحت تأثيم القانون قد وقع علي المرتدين لهذا اليأس بصفة عامة أو أنه قد وقع علي أعضاء تلك الجماعات باعتباره قد وقع علي أعضائها، فإن ما كان بشأن الجماعات الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمون يستوجب التفرقة بين شقين هما أولا- التنظيم السياسي، وثانيا – المشروع الفكري الديني. أما عن الأول، فهو أمر من أمور السياسة، فلا حصانة له من النقد؛ خاصة وأنهما أصبحا طرفاً في المنظومة السياسية للبلاد بإنشائهم أحزابا سياسية اشتركت بالفعل في الصراع السياسي، ومن ثم القول بإسباغ الحماية عليهم، من منطلق ارتدائهم للزي الموصوف بالإسلامي، فهذا خرق لمبدأ المساواة بين الأحزاب السياسية، بإعطائهم ميزة فوق الأحزاب غير الدينية، أما عن المشروع الفكري، فله شقان، الفكرة الدينية وهي من الرأي، ومن ثم، فلا يصح إضفاء القداسة عليها، والفكرة السياسية التي ينطبق علي ما انطبق علي التنظيم.
والجدير بالذكر إن المشروع الفكري السياسي الديني للجماعات- في فترة ما قبل المراجعات – والإخوان المسلمون – في الفترة المتمثل في مجموعة النظام الخاص وامتداداته في تنظيم 1965 الذي كان قد ارتبط بسيد قطب ومن انضم بعد عام 1954 مع بداية المحنة – كان لا يستبعد استخدام القوة أو العنف بل قام عليهما في حالة الجماعات الإسلامية، وهو الأمر المعلوم للجميع وبشهاداتهم فيما يسمي بالمراجعات. (عبد المنعم أبو الفتوح، شاهد علي تاريخ الحركة الإسلامية في مصر 1970- 1984).
أما القول بأن المدعي عليهم قد أخرجوا شخصية الإرهابي بشكل غير منصف دون الإلمام بجميع الأسباب التي التي أدت به إلي الوصول لذلك، وبشكل أساء إليهم، فلا تزر وازرة وزر أخري، إلا أن المسئول الأول عن دراسة تلك الأسباب ومراجعة الأفكار، التي أدت إلي حدوث ذلك، إنما هم الجماعات أنفسهم، وهو ما قاموا به فعلا في وقت لاحق. أما القول بأن المدعي عليهم لم يوفقوا في إظهار حقيقة الشخصية ومسببات المشكلة الاجتماعية، فذا ليس مناطه العقاب القانوني، وإنما النقد الفني والأعمال الفنية الدرامية، علي خلاف التوثيقية منها، ليس من شأنها الإلمام بالحقيقة، وليس من دورها تقديم الحلول.

والعمل الفني فيلما كان أومسلسلا أو مسرحا، عادة ما يبدأ بعمل أدبي، قصة أو رواية أو مسرحية ومن المعلوم للعالمين أن المدارس الأدبية العالمية قد تطورت واختلفت بتطور البشرية وما أحاط بها من ظروف اجتماعية ودينية واقتصادية وثقافية مختلفة عبر العصور، فكان الملاحظ مخالفة كل مدرسة للمدرسة اللاحقة عليها اختلاف التناقض، ومن ثم تغير تعريف الهدف من وراء الأدب ووظيفته، حتي إن النقاد والدارسين قد اتفقوا علي أن ذلك من الأمور الخلافية. وفي المدرسة الأدبية التي نعايشها الآن وهي “ما بعد الحداثة” نجد أن المتفق عليه هو عدم وجود قواعد للعمل الأدبي، ومن ثم اصبح العمل الأدبي عالمياً ليس له ثمة علاقة بإعطاء الدروس عن إظهار محاسن الأخلاق الحميدة أو تقديم المثالب، كما طالب أفلاطون من أن يكون الأدب مقدماً للمثل الطيبة والقدرة الحسنة، وهو الأمر الذي عارضه فيه أرسطو. وما علي الأدب حاليا أن يقدم الحقيقة والواقع كما كان إبان المدرسة الواقعية (Realism).
أما عن الادعاء بتهكمهم علي الزي والهيئة اللذين يرتضيهما رجال الدين علي النحو الذي اظهرا به الملتحين والمنقبات، فإن المدعي علي علم بأن الموجه له النقد هنا هم الجماعات الإسلامية، وليس للنقاب أو اللحية. إذ ربط المدعي في قوله بصحيفة دعواه ما بين انتقاد هذا المظهر وانتقاد الجماعات، وهو ما يعد إقراراً منه بهذا كما أنه ولئن كان نقدا لهذا الزي فهو من منطلق الانتقاد الاجتماعي ومعالجة لقضية الهوية التي تناولتها أعمال فنية كثيرة في محاولة للتأكيد علي الأصالة.
ودفاعا عنها في مواجهة الثقافات الوافدة أو الدخيلة، لما في هذا الزي من ارتباط ببيئات وهويات مختلفة، ومن تلك الأعمال ما وجه الانتقاد لبيئته الأصيلة في محاولة لتغييرها. ولقد تناولت أعمال أدبية كثيرة مشكلة الهوية بطرق مختلفة ومن أشهر تلك الأعمال «أشياء تتساقط» للأديب شينوا أتشيبي، “قنديل أم هاشم” ليحيي حقي ، “عصفور من الشرق” توفيق الحكيم، “موسم الهجرة إلي الشمال” للطيب صالح . ولا يقدم في ذلك الاختلاف وقراءة المحكمة لهذه الأعمال لا سيما أن الأعمال الفنية من خيال المبدع، ولا عقاب علي خيال، ومن ثم فلا يمكن لأحد الادعاء أن قراءته هو هي الحقيقة المطلقة وقصد الأديب الأوحد.
وبصفة عامة، فإن المحكمة تنوه – وبشأن ليس الرجل والمرأة في الإسلام – إلي أن المبدأ هو أن “لباس الرجل أو المرأة أمر عادي باق علي أصل الإباحة. ما لم يكن ممنوعاً بالنص أو يقترن به معني يقصد الشرع إلي التخلي عنه.
التماس الرجل خاتما أو سوارا من حديد أو نحاس منهي عنه في الإسلام السلسلة والنظارة والساعة من نحاس أو حديد ليست من باب الحلية، فهي علي أصل الإباحة ما لم يقارن لبسها ما يحرم أو يكره شرعا التماس الرجل خاتما من ورق أو فضة وكان دون المثقال جائز شرعا”.
(المفتي علام نصار، ذو القعدة 1370 هجرية – 22 أغسطس 1951 م المصدر: موقع وزارة الأوقاف المصرية الإلكتروني)
وفي هذا نذكر وتسترشد المحكمة بحكم المحكمة الدستورية إذ قضت بأن:
الشريعة الإسلامية – في تهذيبها للنفس البشرية وتقويمها للشخصية الفردية – لا تقرر إلا جوهر الأحكام التي تكفل بها للعقيدة إطاراَ يحميها ولأفعال المكلفين ما يكون ملتئما مع مصالحهم المعتبرة فلا يبغونها عوجا، ولا يحيدون أبدا عن الطريق إلي ربهم تعالي، بل يكون سلوكهم أطهر لقلوبهم وأدعي لتقواهم، وفي هذا الإطار أعلي الإسلام قدر المرأة وحضها علي صون عفافها وأمرها بستر بدنها عن المهانة والابتذال لتسمو المرأة بنفسها عن كل ما يشبها أو ينال من حياتها وعلي الأخص من خلال تبرجها أو لينها في القول أو تكسر مشيتها أو من خلال إظهارها محاسنها إغواء لغيرهم أو بإبدائها ما يكون خافيا من زينتها، وليس لها شرعا أن تطلق إرادتها في اختيارها لزيها ولا أن نقيم اختيارها هذا بهواها ولا أن ندعي تعلق زيها بداخلها بل يتعين أن يستقيم كيانها وأن يكون لباسها ورسمها عونا لها علي القيام بمسئولياتها في مجال عمارة الأرض وبمراعاة أن هيئة ثيابها ورسمها لا تضبطها نصوص مقطوع بها سواء في ثبوتها أو دلالتها لتكون من المسائل الاختلافية التي لا يتعلق الاجتهاد فيها بل يظل مفتوحاً في إطار ضابط عام حددته النصوص القرآنية ذاتها إذ يقول تعالي: “وليضربن بخمرهن علي جيوبهن” “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها” ” يدنين عليهن من جلابيبهن” و”لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ” “ ليخرج لباس المرأة بذلك عن أن يكون من الأمور التعبدية التي لا تبديل فيها، بل يكون لولي الأمر السلطة الكاملة التي يشرع بها الأحكام العملية في نطاقها تحديداً هيئة ردائها أو ثيابها علي ضوء ما يكون سائداً في مجتمعها بين الناس مما يعتبر صحيحاً من عاداتهم وأعرافهم التي لا يصادم مفهومها نصاً قطعيا بل يكون مضمونها متغيرا بتغير الزمان والمكان وإن كان ضابطها أن تحقق الستر بمفهومه الشرعي ليكون لباس المرأة تعبيراً عن عقيدتها.
إن تنازع الفقهاء فيما بينهم في مجال تأويل النصوص القرآنية وما نقل عن الرسول من أحاديثه صحيحها وضعيفها وإن آل إلي تباين الآراء في شأن لباس المرأة وما ينبغي ستره من بدنها إلا أن الشريعة الإسلامية – في جوهر أحكامها وبمراعاة مقاصدها – تتوخي من ضبطها لثيابها، أن تعلي قدرتها، ولا تجعل للحيوانية مدخلاً إليها ليكون سلوكها رفيعا لا ابتذال فيه ولا اختيال وبما لا يوقعها في الحرج إذا اعتبر بدنها كله عورة مع حاجتها إلي تلقي العلوم علي اختلافها وإلي الخروج لمباشرة ما يلزمها عن الأعمال التي تختلط فيها بالآخرين وليس متصورا بالتالي أن تموج الحياة بكل مظاهرها من حولها وأن يطلب منها علي وجه الاقتضاء أن تكون شبحا مكسواً بالسواد أو بغيره، بل يتعين أن يكون لباسها شرعاً قرين تقواها، وبما لا يعطل حركتها في الحياة. فلا يكون محددا لجمال صورتها ولا حائلاً دون يقظتها ومباشرتها لصور النشاط التي تفرضها حاجتها ويقتضيها خير مجتمعها، بل موازنا بين الأمرين ومحدداً علي ضوء الضرورة وبمراعاة ما يعتبر عادة وعرفاً صحيحين ولا يجوز بالتالي أن يكون لباسها مجاوزا حد الاعتدال ولا احتجابا لكل بدنها ليضيق عليها اعتسافاً فلا يكشفان مصداقا لقوله تعالي: “وليضربن بخمرهن علي جيوبهن” واقترانا بقوله جل شأنه بأن ” يدنين عليهن من جلابيبهن” فلا يبدو من ظاهر زينتها إلا ما لا يعد عورة وهما وجهها وكفاها بل وقدماها عند بعض الفقهاء ابتلاء بإبدائهما علي حد قول الحنفية ودون أن يضربن بأرجلهن “ليعلم ما يخفين من زينتهن” وقد دعا الله تعالي الناس جميعا أن يأخذوا زينتهم ولا يسرفوا وهو ما يعني أن التزامها حد الاعتدال يقتضي ألا تصفها ثيابها ولا تشى بما تحتها من ملامح أنوثتها فلا يكون تنقبها مطلوباً منها شرعا طلباً جازماً ولا سترها لزينتها شكلاً مجردا من المضمون بل يتعين أن يكون مظهرها منبئا عن عفافها ميسراً لإسهامها المشروع فيما يعنيها علي شئون حياتها ويكون نائياً بها عن الابتذال فلا يقتحمها رجال استمالتهم إليها بمظاهر جسدها مما يقودها إلي الإثم انحرافا وينال قدرها ومكانتها. تحريم أمر أو شأن من الشئون لا يتعلق بما هو محتمل بل بما يكون معلوما بنص قطعي وإلا ظل محمولاً علي أصل الحل؛ وكان لا دليل من النصوص القرآنية ولا من سنتنا الحميدة علي أن لباس المرأة يتعين شرعا أن يكون احتجابا كاملا متخذا نقابا محيطا بها منسدلا عليها لا يظهر منها إلا عينها وحجريهما فإن إلزامها إخفاء وجهها وكفيها وقدميها عند البعض لا يكون تأويلا مقبولاً ولا معلوماً من الدين بالضرورة تلك أن معني العورة المتفق عليها لا يتصل بهذه الأجزاء من بدنها بل إن كشفها لوجهها أعون علي اتصالها بأخلاط من الناس يعرفونها ويفرضون نوعا من الرقابة علي سلوكها وهو كذلك أكفل لحياتها وغضها من بصرها وأصون لنفسيتها وأدعي لرفع الحرج عنها. وما ارتآه من أن كل شيء من المرأة عورة حتي ظفرها مردود بأن مالكاً وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل في رواية عنه والمشهور عند الشافعية لا يرون ذلك. والرسول عليه السلاح يصرح بأن بلوغ المرأة الحيض يقتضيها أن يكون ثوبها ساتراً لبدنها عدا وجهها وكفيها “الطعن رقم 8 – لسنة 17 ق – تاريخ جلسة 18/5/1996 – مكتب فني 7 – رقم الجزء 1 – رقم الصفحة 656 – تم رفض هذا الطعن”.
ومن ثم ولما كان من جماع ما تقدم؛ يتبين أن لباس الرجال والمرأة يخرج عن أن يكون من الأمور التعبدية التي لا تبديل فيها، ومن ثم فلا يجوز إقرانه بالدين وإسباغ القدسية عليه بوصفه جزءاً من الدين. لا سيما ما كان من تنازع الفقهاء فيما بينهم في مجال تأويل الكثير من النصوص القرآنية ، وما هي ناسخ وما هو منسوخ، وما هو عام وما هو خاص (قطعية الثبوت غير قطعية الدلالة) وما نقل عن الرسول من أحاديثه صحيحها وضعيفها (قطعية الدلالة غير قطعية الثبوت)، يخرج كل منهما مما هو من المعلوم من الدين بالضرورة . فأما ما هو دون النصوص قطعية الثبوت والدلالة فلا مندوحة ولا تثريب من إعمال الاجتهاد فيه، وهو الذي ينطبق علي حكم اللحية، وإذا كان ذلك – ما قررته المحكمة الدستورية – فإنه يتفق وما يكاد أن يتفق عليه علماء الإسلام علي أنه لا مجال للرأي أو الاجتهاد إذا ما وجدت النصوص “قطعية الثبوت والدلالة” كما أن الأكثرين يضيفون في أمور العبادة شرط أن تكون هذه النصوص «متواترة» أيضا، ولا يقبلون أحاديث الأحاد، وهو ما يختلف معهم فيه علماء السلفية.
إلا أنه يجدر الإشارة هنا إلي أن هناك من الأحكام التي قررتها نصوص من القرآن والسنة والقياس والجماع سواء في العهد النبوي أو عهد الخلفاء، وجاء الرأي فغير الحكم لنغير المصالح بتغير الواقع، وهو ما جاء بقول أعلام السلفية الإمام أحمد إلي ابن القيم، فقرر الأخير بأن “الفتاوي والأحكام تتغير وتختلف بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد” (أعلام الموقعين، ج 3 ، ص 3) ومن أمثلة تلك الوقائع حد السارق عام الرمادة، السنة النبوية القولية والفعلية من الطلاق بلفظ الثلاث باعتباره طلقة واحدة، فرأي عمر بن الخطاب أن يغير الفتوي والحكم بجعله ثلاثاً للمصلحة، وكذا بيع الأمهات للأولاد، ومنع عمر ذلك، وهو ما كان سنة قبلا، ومن جميع ذلك تضيف المحكمة علي ما تقدم من أن ليس كل ما هو “قطعي الثبوت والدلالة” من الضروري أن يكون من “ما هو من الدين بالضرورة”.
أما فيما يتصل بأمر اللحية، فمن الفكر الأصولي ذاته ما سوف تستند إليه المحكمة، قال العلماء ثلاثة أقوال هي: تحريم حلق اللحية، كراهة حلق اللحية، وإباحة حلق اللحية، وقد وردت رواياتٌ خمسٌ في ترْك اللحْية، وكلها علي اختلافها في ألفاظها تدلُّ علي تركها علي حالها، أما، ولما كانت أدلة القائلين بالتحريم، ما رواه البخاري قي صحيحه عن ابن عمر عن النبي قال : “خالِفُوا الُشركينَ ، ووَفّرُا اللِّحى ، واخْفُوا الشوارب . ” وما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر عن النبي قال: “احْفُوا الشوارِبَ واعْفُو اللِّحَي” فقالوا إن توفيرها مأمور به، والأصل في الأمر أن يكون للوجوب إلا لصارفِِ يَصْرِفُهُ عنه، ولا يُوجد هذا الصارف، كما أن مُخالفة المشركين واجبةٌ والنتيجة أن إعفاء اللحْية واجبٌ.
وذهب فريقٌ آخر إلي القول بأن إعفاء اللحية سُنَّة يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، وحلْقها مكروه وليس بحرام، ولا يُعَدُّ مِن الكبائر، ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة عن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال:
“عشْرٌ مِن الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحْية، والسواك، واستنشاق الماء، وقصُّ الأظفار، وغسْل البراجمِ “البراجم: مَفاصل الأصابع من ظهر الكف” ونَتْفُ الإبِط وحلق العانَة، وانتقاص الماء “أي الاستنجاء” قال مصعب: “ونسيت ُالعاشرة إلا أن تكون الَمضمضة”. ومن ثم فإن الحديث أفاد أن إعفاء اللحية من السُنَن والَمندوبات الَمرغوب فيها، إذا كل ما نص عليه من السُنَن العادية وبأن الأمر بمُخالفة الُمشركين لا يتعين أن يكون للوُجوب، فلو كانت كلُّ مُخالفةِِ لهم مُحتَّمة لتحتَّم صْبغ الشعر الذي وَرَدَ فيه حديث الجماعة “إن اليهود والنصارى لا يَصبغون فخَالِفُوهم” . (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي) مع إجماع السلف علي عدم وُجوب صْبغ الشعر، فقد صَبغ بعض الصحابة، ولم يصبغ البعض الآخر كما قال ابن حجر في فتح الباري.
وعزَّزوا رأيهم بما جاء في كتاب نهج البلاغة، سُئل عليُّ – كرَّم الله وجهه – عن قول الرسول – صلي الله عليه وسلم – “غِّيروا الشَّيْب ولا تَشَبَّهُوا باليهود”. فقال إنما قال النبي ذلك والدِّينُ قُلُّ، فأما الآن وقد اتَّسع نطاقه، وضرب بجرانه فامرؤٌ وما يَختار. ومن أجل هذا قال بعض العلماء لو قيل في اللحْية ما قيل في الصبْغ مِن عدم الخُروج علي عرف أهل البلد لكان أولَى، بل لو تركت هذه المسألة وما أشبهها لظُروف الشخص وتقديره لَما كان في ذلك بأس.
وإذ نضيف بأنه، وقد قيل لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة – وقد رُؤى لابساً نَعْلَيْنِ مَخْصُوفيْن بمَسامير” إن فلاناَ وفلاناً من العلماء كرِهَا ذلك؛ لأن فيه تَشَبُّهََا بالرهبان!” فقال: “كان رسول الله يلبسُ النعال التي لها شعْر، وإنها من لبس الرهبان”.
ومن ثم جرىَ علي لسان العلماء القول: إن كثيراً مَّما ورَد عن الرسول – صلي الله عليه وسلم – في مثل هذه الخِصال يُفيد أن الأمر كما يكون للوُجوب يكون لُمجرد الإرشاد إلي ما هو الأفضل، وأن مُشابهة الُمخالفين في الدِّين إنما تَحرُم فيما يُقصد فيه الشبه بشيء من خصائصهم الدينية، أمَّا مُجرَّد المشابهة فيما تجرى به العادات والأعراف العامة فإنه لا بأْس بها ولا كراهة فيها ولا حُرمة.
ولما كان ذلك وكانت القاعدة الأصولية “أن الأحكام تدور وجوداً وعدماً مع عللها” و”ما اختلاف فيه إلا إنكار فيه”، و”ما يتطرق إليه الاحتمال يسقط به الاستدلال” والمأثور عن النبي والصحابة والسلف قبول الاختلاف في أمور كثيرة كقصة صلاة العصر في بني قريظة وكذلك” ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة علي أصولها فبإذن الله ” . قول عمر بن عبد العزيز “اختلاف الأمة رحمة” وامتناع مالك عن جمع الناس علي مذهب أو رأي واحد، وقول الشافعي : “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” وقول أبي حنيفة وأحمد: ” إذا وافق قولي الحديث وإلا فاضربوا به عرض الحائط” ، وإذاً ، فالخلاف الفقهي أمر مقرر في الشريعة والتاريخ الإسلامي وفي عهد النبوة، ورافض هذا الاختلاف مبتدع في الدين بدعة أصلية، ومن ثم فإن اللحية أو حلقها من الأمور المختلف فيها – كما تقدم – ولذلك لا يجوز أن ينكر علي من أخذ بالآراء الفقهية الأخري أو رميه بالفسق أو الابتداع أو غيره؛ لأنه يلزمه بذلك أن يرمي الصحابة والتابعين الذين أطالوا شواربهم أو حلقوها تماما أو تركوا الصبغ أو صلوا حفاة بأنهم مبتدعون أو واقعون في الحرام، وهذا خطر عظيم يقع فيه من لم يحيطوا بعموم المسائل والله تعالي أعلي وأعلم.
ولما كانت علة الحديث – في عقيدة المحكمة – هو مخالفة المشركين وأصحاب الديانات الأخري في دينهم، ولما كان – وفي عصر النبوة – ما يتطلب إعفاء اللحية؛ إلا أن الأوضاع الاجتماعية قد تغيرت بتغير الزمان، لا سيما المكان، فإن أصحاب الديانات جميعا ومنها الإسلام لا يطلقون اللحية إلا القليل منهم ورجال الدين في جميع الديانات السماوية بل وبعض من غير السماوية يطلقون اللحية – مثل السيخ – الأمر الذي نري معه انتفاء العلة إعمالا لحكمة علي – كرَّم الله وجهه – في قوله عن صبغ الشعر “إنما قال النبي ذلك والدِّين ُقُلِّ، فأما الآن وقد اتَّسع نطاقه، وضرب بجرانه فامرؤٌ وما يَختار”.
ولما كان ما تقدم، فإن لباس الرجال والمرأة يخرج عن أن يكون من الأمور التعبدية التي لا تبديل فيها؛ ومن ثم فلا يجوز إقرانه بالدين وإسباغ القدسية عليه بوصفه جزءاً من الدين؛ إذ إن اللباس واللحية يرتبطان في حكمهما الشرعي بواقع المجتمع والزمان اللذين يعيش فيهما الفرد، الأمر الذي لا ينطبق معه عليهم نص المادة 98 “و” التي خصت بالذكر الدين والتي سبق أن عرفناه بما هو من الدين بالضرورة.
ومن ثم لا ينصب ذلك الوصف أيضا علي الطوائف المنتمية لتلك الأديان، إذ بني الثانية علي الأولي وترتب تعريفها علي تعريفهم، ومن ثم فإن وقائع الدعوى، وعلي هذا النحو السالف سرده، تضحي غير منطبقة والنص القانوني للمادة 98 “و” عقوبات، فهي، وعلي هذا النحو لا تشكل ركن الجريمة المادي. ولما كان السلوك المنسوب للمدعي عليهم ليس إلا مجرد نقد لفئة أو جماعة لا صلة له – وعلي النحو السالف البيان – من الجريمة المنصوص عليها بنص المادة 98 “و” ؛ ولا يشكل جرماً جنائياً، الأمر الذي تكون معه الأوراق قد خلت من ثمة جريمة، وإذا كان اللجوء إلي طريق الادعاء المباشر يتطلب شرط توافر أركان جريمة جنائية جنحة كانت أو مخالفة بالأوراق، وإلا تعين الحكم بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى ؛ لأن الدعوى المدنية تصبح غير ناشئة عن جريمة. ومن ثم فإن الدعوى المدنية لا تكون من اختصاص المحكمة الجنائية كما أنه، ولما كان الثابت أن عدم قبول أيِّ من الدعويين يترتب عليه عدم قبول الأخري إلا في استثناءات لا محل لها من هذه الدعوى، الأمر الذي يضحي – وتأسيساً علي جماع ما تقدم وما سلف عنه – يتعين علي المحكمة القضاء بعدم قبول الدعويين المدنية والجنائية علي النحو الوارد بالمنطوق. ومن ثم فلا محل لبحث أيا من دفوع المدعي عليهم.
أما عن المصروفات والأتعاب فإن المحكمة تلزم بها المدعي لخسرانه الدعوى عملا بنص المادة 184/1 من قانون المرافعات والمادة الأولي من القانون 10 لسنة 2002 المعدلة لأحكام القانون رقم 17 لسنة 1983 بشأن المحاماة فلهذه الأسباب.

حكمت المحكمة:
بعدم قبول الدعويين المدنية والجنائية لعدم الجريمة، وألزمت المدعي بالمصروفات وخمسين جنيها أتعاب المحاماة.