ممارسة الموظف العام للحريات السياسية :

إذا كان من حق المواطن ممارسة الحريات التي يخولها له دستور وقوانين البلاد فمن الطبيعي القول كذلك ان من حق الموظف العام بصفته مواطناً ممارسة هذه الحريات. ولكن هذا المواطن له صفة أخرى هي كونه موظفاً عاماً . فهل يستطيع ان يمارس هذه الحريات بصورة تامة كما لو كان مواطناً بصرف النظر عن صفته الأخرى كموظف عام ، أم ان الصفة الأخيرة تفرض عليه بعض القيود في سلوكه وتصرفاته وكذلك في طريقة ومدى ممارسته لهذه الحريات التي يقررها الدستور(1). فالموظف العام ابتداءً هو مواطن له ما لغيره مثل سائر المواطنين بالدولة من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات والتزامات . ولكنه يمارس هذه الحقوق ويؤدي تلك الواجبات مقيداً بمراعاة مقتضيات المركز الوظيفي الذي تسنده إليه الدول كي يستطيع تحقيق الأهداف التي تعمل دولته على بلوغها. فمدى الحريات التي يعترف بها للموظف العام تختلف من دولة إلى أخرى تبعاً لاختلاف النظام السياسي الذي تعتنقه هذه الدولة أو تلك. فالدول ذات النظم غير الديمقراطية مثلاً تتطلب عادة تطابقاً تاماً بين الأفكار السياسية للموظف العام وتلك التي يعتنقها النظام الحاكم وتعتبر فلسفة لدستوره. كما أنها لا تسمح لهؤلاء الموظفين بحق الاختلاف معها في الرأي .

أما الدول ذات النظم الديمقراطية فتسمح لموظفيها بقدر كبير من الحريات السياسية . إذ تعتبر هذه الدول ان الموظف هو أولا مواطن حر يجب الاعتراف له بممارسة حقوقه السياسية. ويذهب البعض إلى القول انه حتى في النظم الديمقراطية فان الموظف بسبب صفته الوظيفية يتعين ان يمارس الحريات التي كفلها الدستور للمواطن بصورة أضيق من تلك التي يتمتع بها المواطن . وهذه نتيجة لاختلاف العلاقات التي تربط بين المواطنين والموظفين. ففي ظل هذه العلاقة بين الدولة والموظف هناك منافع متبادلة بين الطرفين ، فالموظف يستفيد من الوظيفة التي توفرها له الدولة مقابل الالتزامات التي يفرضها عليه نظام الوظيفة العامة أمراً اختيارياً ، إذ لا يملك أحد أساسا إجبار المواطن على الانضمام إلى سلك الخدمة العامة . فان مجرد قبوله الخدمة والانضمام إلى الجهاز الوظيفي يفرض عليه بعض الالتزامات التي تفوق التزامات المواطن(2).

ونحن لا نتفق مع ما ذهب إليه الرأي السابق ونقول ان الحقوق والحريات المدرجة في صلب الوثيقة الدستورية ومنها الحريات السياسية قد وجدت وتم اعتمادها وقبولها وصيغت على شكل نصوص واحكام دستورية تأثرت تلك الدساتير بما هو عليه في الإعلانات والمواثيق الدولية التي كفلت هذه الحقوق لكل المواطنين على حد سواء دون تمييز بينهم ومن ضمنها اعتناق الآراء السياسية. كما سنلاحظ ذلك لاحقاً ، وان الموظف هو مواطن بالأصل ووجدت هذه الحقوق والحريات ضمانة وتعزيزاً للمبدأ الديمقراطي على مختلف الأصعدة في الحياة سواء كانت الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية نتيجة للنقد البناء وتلافي الأخطاء التي يمكن ان تقع . إذن هي تعتبر درجة حماية أو وقاية لانحراف السلطة الحاكمة وخرقها للمبادئ والقواعد الدستورية . وبالتالي تعتبر انتهاكا لمبدأ المشروعية الذي يستلزم ان يكون أمام عيون السلطة الحاكمة على الدوام ، وعدم تحول تلك السلطة إلى سلطة مغتصبة ديكتاتورية وبالتالي تفقد صفتها الشرعية لفقدان قبول ورضا الشعب. فممارسة الموظف لتلك الحريات هو تعزيز للمبدأ الديمقراطي وسيادة القانون .

كما ان الرأي السابق ذكره فان هناك منافع متبادلة ما بين الموظف والدولة . ونقول ان توفير العمل وتكافؤ الفرص ما بين المواطنين في الحصول على وظيفة في الدولة هو واجب على الدولة التي تنتهج الاتجاه الاشتراكي ومن صميم مسؤولياتها. أما في الدول ذات النهج الرأسمالي ” الليبرالي ” فإننا نقول إذا كانت الحرية التي تنص عليها معظم المواثيق والإعلانات الدولية ، وما كان من الثورات التي حدثت في العالم تتسابق الأمم إلى تحقيقها وتوفيرها لمواطنيها وما تضمنته دساتير تلك الدول . فان أبهى صورة للديمقراطية تكون في إعطاء كل الحقوق والحريات التي للإنسان ومنها الحريات السياسية كذلك للموظف . ولكن في فصل للعمل السياسي عنه عن العمل الإداري في الوظيفة العامة ، واتباع الحياد الوظيفي على اعتبار ان العمل الحزبي شيء والعمل الوظيفي شيء آخر ، وكيفية تعزيز ذلك تحقيقاً للمساواة ما بين المواطنين في تولي الوظيفة العامة.

الجهود الدولية في حرية الرأي :

وقد ورد تأكيد عدم التمييز بين المواطنين بسبب آرائهم السياسية في تولي الوظائف العامة في كثير من المواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان . فيقضي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة ان على كل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز بسبب العنصر أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر(3).كما نصت اتفاقية العمل الدولية المرقمة (111) والموقعة في 4 يونيو 1958 في ديباجتها على ان ” إعلان فلادليفيا يؤكد لجميع البشر أياً كان عرقهم أو معتقداتهم أو جنسهم الحق في العمل من اجل رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص. وان التمييز يمثل انتهاكاً للحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ” وجاء في الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية تأكيد أهمية المساواة في الحقوق دون تمييز بسبب 000 أو الرأي السياسي.

وفي موضع آخر نصت على الحق في حرية الفكر 000 الخ(4). كما قررت اتفاقية مؤتمر العمل الدولية المرقمة 122 الموقعة في 17 يونيو 1964 في ديباجتها على ان ” 000 في ضوء الهدف الأساسي الذي ينص على ان لجميع البشر أياً كان عرقهم أو معتقداتهم أو جنسهم الحق في العمل من اجل تحقيق رفاههم المادي والروحي وفي ظل ظروف تسودها الحرية 000 ” . كما نصت الاتفاقية ” ان علـى كل دولة عضو ان تعلـن وتتابع أ. 0000 ب.000 جـ. ان يتاح لكل عامل حرية اختيار العمل وان توفر له افضل فرصة ممكنة لشغل الوظيفة التي تناسب قدراته ومؤهلاته وان يستخدم مهاراته ومواهبه فيه بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي “(5).

___________________________

1- Gilmea (J.P.) Fonction naive et politique، Le ، Loyalisme administrative ، R.I.S.A. 1966.p.321.

وبنفس المعنى يراجع Auby (J.M)، Ader (R)، Droit public، Sirey، 7e ed، 1979 ، Paris، p 130.

2- د. حسين درويش / علاقة الموظف بالإدارة بين الدائمية والتعاقدية – دراسة في الفقه والقضاء الفرنسي والمصري ، بحث منشور في مجلة المحاماة ، العددان الثالث والرابع ، مارس وابريل ، 1991 ، مصر ، ص71-77.

3- المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948.

4- المادة 2/1 والمادة 18/1 من الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية.

5- المادة الأولى من اتفاقية العمل الدولية رقم 122 في 1964.

المؤلف : مصطفى سالم مصطفى النجفي
الكتاب أو المصدر : المساواة ودورها في تولي الوظائف العامة

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .