كما للطبيب الحق والحرية في اختيار مرضاه مع بعض الاستثناءات، فان من حق المريض أيضاً أن يختار طبيبه، إذ يُعدّ ذلك من المبادئ الأساسية التي تحكم مهنة الطب وهذا المبدأ يأتي استناداً إلى فكرة الثقة التي تسود بين الطرفين والى كون العقد الطبي من العقود القائمة على الاعتبار الشخصي. وهذا ما أكدته تعليمات السلوك المهني للأطباء في العراق(1).في البند (رابعاً)، إذ جاء فيه ما يأتي: (للمريض الحرية المطلقة في اختيار طبيبه الذي يعالجه….) بمعنى أن للمريض الحرية والحق في اختيار الطبيب الذي يعالجه كما يُعدّ من مكملات مبدأ حرية المريض في اختيار طبيبه ما قررته جميع القوانين المقارنة من منع الأطباء من الالتجاء إلى وسائل الدعاية لأنفسهم(2). وقد يحصل في الواقع العملي لمهنة الطب أن يقوم الطبيب المتعاقد مع المريض باحلال طبيب آخر محلة لفترة مؤقتة، فهل يؤثر ذلك في حرية المريض في اختيار طبيبه؟! وهل يشترط في الطبيب الذي حلَّ محل الطبيب المتعاقد مع المريض شروط وضوابط معينة ؟! من حيث المبدأ لا يتعارض هذا الفرض مع قواعد وأخلاقيات مهنة الطب بشرط أن يكون هذا الطبيب على كفاءة وخبرة تتناسب مع كفاءة الطبيب الأصلي، ومن ثم فان هذا لا يؤثر في مبدأ حرية المريض في اختيار طبيبه، إذ بامكانه أن يستمر مع الطبيب الجديد من عدمه ويبقى المريض حراً وغير مقيد باختيار من يعالجه. وللاجابة عن السؤال الثاني المطروح ،لابد من الرجوع إلى موقف المشرع العراقي والقوانين محل المقارنة من ذلك. أما موقف المشرع العراقي في هذا الخصوص فقد نصت المادة(28/ف 5) من قانون نقابة الأطباء على ما يأتي: (5. إذا عوقب العضو بالمنع من مزاولة المهنة فلا يجوز ان يحل في عيادته زميل آخر مدة المنع) يتضح لنا من خلال هذا النص انه كأصل عام يحق للطبيب ان يحل طبيب اخر محله في عيادته لمعالجة مرضاه عوضا عنه لكن لا يجوز ذلك متى كان الطبيب قد عوقب بمنع مزاولة مهنة الطب، أي أن المشرع العراقي أجاز مسالة إحلال الطبيب آخر محله بشرط ان لا يكون الأول قد منع من مزاولة مهنة الطب ونعتقد ان هذا الشرط وحده لا يكفي لاحلال طبيب آخر محله في معالجة المرضى. في حين ان المشرع المصري اشار في المادة (17/ف ج) إلى انه: (ج. اذا كان سبب الاستدعاء سفر الطبيب المعالج، فعليه ان يتولى امر المعالجة إلى حين عودة الطبيب المعالج ثم يتخلى بعد اطلاع زميله عن تطور المرض ومعالجته له)

كما نصت المادة (23) على انه: (لايسمح لطبيب ان يدير عيادة بواسطة زميل له بصورة دائمة إلا عند الضرورة وبموافقة المجلس) في حين نصت المادة (24) على انه: (لا يجوز للطبيب ان ينيب عنه بصورة مؤقتة لمراقبة ومعالجة مرضاه إلا طبيبا مسجلا في النقابة). يتضح لنا من هذه النصوص ان المشرع المصري يلزم توافر شروط معينة يحل بموجبها الطبيب المعالج آخر محله وهي:

1. أن يكون هناك سبب للاستدعاء كسفر الطبيب المعالج أو انشغاله أو لمرضه، أي لا يجوز الاستدعاء إلا لضرورة تستوجب ذلك.

2. لابد من الحصول على موافقة مجلس النقابة.

3. يجب أن يكون الطبيب المستدعى من قبل الطبيب الأصلي مسجلاً في النقابة.

فعلى الرغم من أن المشرع المصري حدد هذه الشروط بصيغة أفضل مما هو عليه لدى مشرعنا العراقي فانه لم يأخذ بعين الاعتبار شرطاً ضرورياً هو أن يكون الطبيب المستدعى على درجة مساوية للطبيب الأصلي من حيث الاختصاص والكفاءة والمهارة. في حين أن المشرع الأردني في قانون نقابة الأطباء حدد مدة لإحلال الطبيب المستدعي محل الطبيب الأصلي، إذ نصت المادة (33) من هذا القانون على ما يأتي: (لا يسمح للطبيب أن يدير عيادة زميل له بصورة مؤقتة لمدة تزيد عن شهر واحد متصل إلا بموافقة مجلس النقابة ….). كما اشترط هذا القانون أن يكون الطبيب النائب عن الطبيب الأصلي مسجلاً في النقابة ومرخصاً بالعمل وفي الاختصاص نفسه، إذ نصت المادة (34) على ما يأتي: (لا يجوز للطبيب أن ينيب عنه بصورة مؤقتة لمراقبة ومعالجة مرضاهم إلا طبيباً مسجلاً في النقابة ومرخصاً بالعمل وفي نفس الاختصاص). فالمشرع الأردني جاء بصيغة افضل بكثير مما هو عليه الوضع لدى المشرعين العراقي والمصري لأنه حدد شروط إحلال الطبيب محل زميل آخر له تحديداً دقيقاً.

أما عن موقف المشرع اللبناني، فقد نصت المادة (2) من قانون نقابة أطباء لبنان على ما يأتي:

(2. أن الطبيب الذي يقبل بمعالجة مريض يلتزم بتأمين استمرار معالجته سواءً بنفسه أم بالتعاون مع شخص مؤهل وذلك بكل دقة وضمير حي ووفقاً لأحدث المعطيات العلمية التي ينبغي أن يتابع تطورها). فالعبارة التي جاء بها النص (أم بالتعاون مع شخص مؤهل) توحي لنا أنه بامكان الطبيب ومن حقه تقديم خدماته الطبية للمرضى بنفسه أو أن يقدمها طبيب آخر على أن يكون مؤهلاً ومواكباً للمعطيات العلمية الحديثة(3). في حين أن المشرع الجزائري نص في المادة (68) على ما يأتي: (يجب على الطبيب أو جراح الأسنان المدعو لفحص مريض يعالجه زميل آخر أن يحترم القواعد التالية: ………… إذا طلب المريض زميلاً آخر بسبب غياب طبيبه المعالج أو جراح أسنانه المعالج فعلى هذا الزميل أن يكفل العلاج طيلة الغياب ويكف عنه فور عودة الطبيب المعالج أو جراح الأسنان المعالج وأن يقدم لهذا الأخير بالاتفاق مع المريض كل المعلومات الضرورية). فالمشرع الجزائري بموجب هذا النص لم يحدد شروطاً يحل بموجبها الطبيب محل زميل آخر له فترة غيابه. في حين أن المشرع الفرنسي حدد شروطاً معينة لإحلال الطبيب محل زميل آخر له، هذا ما نصت عليه المادة (89) من قانون أخلاقيات مهنة الطب التي جاء فيها ما يأتي: (يمنع الطبيب من القيام بأدارة عيادته من خلال زميل آخر أو بواسطته إلا أنه للمجلس الإقليمي الحق في أن يفوض أحد الأطباء أو يعهد إليه مهمة إدارة عيادة زميل متوفي وذلك لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة عند اللزوم). حسناً قد فعل المشرع الفرنسي في النص على الشروط الواجب توافرها لإحلال الطبيب زميل آخر محله لمعالجة مرضاه، إلا أنه يؤخذ عليه مأخذ سلبي واحد كونه لم يتناول حالة التفويض لسفر الطبيب المعالج أو لغيابه لفترة مؤقتة مثلاً. يتضح لنا مما تقدم أن كل القوانين محل المقارنة فرضت على الطبيب الذي يروم إحلال طبيب آخر محله لمتابعة مرضاه وعلاجهم الالتزام بضوابط وشروط معينة على الرغم من التفاوت فيما بينها، وذلك تأكيداً منها على الاعتبارات التي تقوم عليها هذه المهنة الرفيعة المستوى.لذلك نأمل من مشرعنا العراقي تنظيم ذلك بنص خاص يقضي بما يأتي:

(أ. يجوز للطبيب المعالج أن يحل محله طبيباً آخر في العيادة بعد مراعاة الشروط الآتية:

1. أن لا يكون الطبيب ممنوعاً من مزاولة مهنة الطب.

2. لابد من موافقة النقابة.

3. يجب أن يكون الطبيب المستدعى مسجلاً بالنقابة ومن نفس اختصاص الطبيب الأصلي وبمستوى مهارته وكفاءته.

4. يجب أن يكون الإحلال لضرورة تستدعي ذلك ولمدة معقولة.

ب. يبقى المريض محتفظاً بحقه في المعالجة أمام الطبيب الأصلي أو أمام الطبيب الذي حل محله). ان ايراد مثل هذا النص أمر ضروري، وذلك لرفعة مهنة الطب وسموها لقيامها على الاعتبار الشخصي، لأن شخصية الطبيب محل اعتبار في العقد مع مرضاه، لذلك متى غاب الطبيب عن عيادته أو انقطع لفترة مؤقتة لابد من أن يحل محله طبيب آخر من اجل متابعة علاج مرضاه وهذا الأمر مقيد بشروط وضوابط لابد من التقيّد بها، ومع هذا يبقى المريض حراً بقبول العلاج لدى الطبيب الزميل للطبيب الذي حل محل الطبيب الأصلي من عدمه. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى حالة ما إذا توجه المريض لأول مرة إلى الطبيب الأصلي، أو كان المريض من زبائن الطبيب الأصلي فوجد طبيباً آخر محله، ولكنه بدأ يشكو من حالة مرضية جديدة، فان الاتجاه الغالب في الفقه(4). يرى أن عقداً طبياً جديداً ينشأ بين المريض والطبيب الذي توجه إليه، فالمريض يبقى محتفظاً بحقه وحريته باختيار طبيبه، إذ بمقدوره أن يرفض العلاج لدى الطبيب الجديد أو يرفض التوجه إليه أصلاً إذا علم بعدم وجود الطبيب الأصلي، وهذا يحدث كثيراً في الواقع العملي لمهنة الطب وذلك بأن يقوم الطبيب المتعاقد المعالج باحلال طبيب آخر محله لفترة مؤقتة لسفره أو لانشغاله مثلاً وهذا الإحلال مبدئياً لا يتعارض مع قواعد مهنة الطب وأخلاقياتها متى كان الطبيب الجديد على قدرة وكفاءة تتناسب مع كفاءة الطبيب الأصلي وأن لا يكون الإحلال من شأنه المساس بحرية المريض في اختيار طبيبه، فبمجرد ذهاب المريض إلى العيادة وقبوله للعلاج من الطبيب الجديد فان عقداً طبياً يربط بينهما ومع هذا لا يمكننا إغفال مسألة؛ هي أنه لم يسبق وجود عقد طبي بين المريض والطبيب الأصلي بحيث يعتبر التداوي لدى الطبيب الجديد امتداداً له. وبهذا يكون الطبيب المحيل أجنبياً عن العقد وفي حالة إصابة المريض بأي ضرر لا يمكننا مساءلة الطبيب المحيل عنه. لكن في الفروض التي يعهد فيها الطبيب الأصلي إلى طبيب زميل آخر له بمتابعة واستمرار علاج مرضاه، فان المريض يبقى محتفظا بحقه في اختيار طبيبه ،أي انه حتى في هذه الحالة لا يفرض عليه الأطباء، إنما هو حر إما بالقبول بالاستمرار بالعلاج من قبل الطبيب الجديد أو برفض ذلك ،لكن لو قبل المريض باستمرار علاجه من قبل الطبيب الجديد فلا يعني ذلك قيام عقد آخر مع الطبيب الجديد، إنما هو قبول المريض باستمرار العقد الذي ابرم مع الطبيب الأصلي وإقرار منه بان العقد لا يقوم في هذا الفرض على الاعتبار الشخصي. وعليه إذا اخطأ الطبيب في عمله سيكون المريض بالخيار إما بالرجوع على الطبيب الجديد وفقا لأحكام المسؤولية التقصيرية في مواجهة الطبيب الذي عهد إليه بالعلاج أو بالرجوع وفقا لأحكام المسؤولية العقدية عن فعل الغير في مواجهة المدين الأصلي (الطبيب الأصلي). ويرد على حرية المريض في اختيار طبيبه بعض الاستثناءات، هذا ما أكدته تعليمات السلوك المهني للأطباء في العراق(5). في البند (رابعاً) في الشق الثاني منها إذ جاء فيها: (…. إلا إذا كانت المعالجة في مؤسسة مجانية أو كانت على نفقة شركة أو مؤسسة أو منظمة ارتبط بها المريض فلا يكون له الخيار في مثل هذه الظروف إلا إذا تم على نفقته الخاصة). فهذه المادة أشارت إلى أن المريض يفقد حريته باختيار طبيبه في الأحوال التي تكون المعالجة في المؤسسات المجانية التي تقوم بتقديم خدماتها الطبية لكافة المواطنين دون مقابل، إذ يفقد المريض بهذا الفرض حق اختيار الطبيب المعالج لحالته كما يفقد ذلك في حالة الشركات أو المنظمات أو المعامل التي يكون الطبيب موظفاً فيها، فغالبية الشركات والمنظمات والمعامل تقوم بالتعاقد مع أحد الأطباء من أجل معاينة وتطبيب العاملين لديها وذلك بموجب العقد المبرم بين هذه الجهات وبين الطبيب، إذ ليس بامكان العاملين لدى هذه الجهات اختيار طبيبهم المعالج، إنما يفرض عليهم المعالجة لدى هذا الطبيب. لكن هذا لايعني أن حرية المريض في اختيار طبيبه يرد عليها هذان الاستثناءان فقط، إنما يمكن أن يضاف اليهما استثناءات أخرى كحالة المستشفيات العامة وحالة الاستعجال وحالات أخرى إلا أن الصيغة التي جاء بها النص منتقدة من الناحية القانونية، فالأولى أن تصاغ هذه المادة بصياغة وعبارات قانونية واضحة، لذا نأمل أن يكون النص بالشكل الآتي: (يجب على الطبيب أن يحترم إرادة مريضه باختيار طبيبه ويستثنى من ذلك حالة المعالجة في المؤسسات المجانية أو المعالجة في المستشفيات العامة أو توافر حالة الاستعجال). أما عن موقف المشرع المصري بهذا الخصوص فقد نصت المادة (32/أ) على مايأتي: (على الطبيب مراعاة التقاليد الطبية التالية، … أ. حرية المريض في اختيار الطبيب). وهذا النص جاء مطابقاً لموقف المشرع الأردني في المادة (13/أ) من الدستور الطبي التي جاء فيها:(على الطبيب في مجال الرعاية الطبية الخاصة مراعاة التقاليد التالية:-أ. حرية المريض في اختيار الطبيب).

كما جاء في المادة (27/ف12) من قانون الآداب الطبية اللبناني ما يشير إلى حرية المريض في اختيار طبيبه وبالصيغة الآتية: (على الطبيب أن يترك للمريض في الدرجات الخاصة حرية اختيار الجراح…). في حين أن المادة (42) من مدونة أخلاقيات الطب الجزائري نصت على أن: (للمريض حرية اختيار طبيبه أو جراح أسنانه … وينبغي للطبيب أو جراح الأسنان أن يحترم حق المريض هذا، وأن يفرض احترامه وتمثل حرية الاختيار هذه مبدأً أساسياً تقوم عليه العلاقة بين الطبيب والمريض والعلاقة بين جراح الأسنان والمريض…..). كما نصت المادة (6) من قانون أخلاقيات مهنة الطب الفرنسي لعام 2002 على أن: (على الطبيب أن يحترم حق كل شخص في اختيار طبيبه بحرية وبارادة تامة وينبغي أن يسهل له ممارسة هذا الحق).يتضح لنا من النصوص القانونية السابقة أن موقفي المشرعين المصري والأردني متطابقان من حيث إعطاء المريض الحق في اختيار طبيبه، في حين أن المشرع اللبناني أعطى للمريض الحق في اختيار طبيبه أيضاً، إلا أنه حصرَّ هذا الحق في الدرجات الخاصة، ولم يوضح المقصود بذلك؟! لكن عندما ذكر النص (الجراح) نعتقد أنه يقصد بذلك (حالة العمليات) والتي يتمتع فيها المريض بالحرية في اختيار الجراح الذي يجري له العملية، في حين أن حق المريض هذا يعدّ من أهم المبادئ التي يقوم عليها العقد الطبي، إذ أنها مظهر من مظاهر احترام إرادة المريض، والأولى هو عدم تحديد هذه الحرية بمرحلة أو حالة معينة، وهذا ما يدفعنا إلى تأييد ما جاء به المشرعان الجزائري والفرنسي.

_____________________________

– كما أشار إلى النص نفسه: مشروع دستور السلوك المهني الطبي العراقي في الفقرة (ثالثاً) منه.

2- ينظر: المادة (10) من المشرع المصري؛ والمادة (5/ ف أ) من الدستور الطبي الأردني؛ والمادة (20/ف 2/من المشرع اللبناني؛ والمادة (77) و (78) من مدونة أخلاقيات الطب الجزائري؛ والمادة (9/ف هـ) من قانون المهن الصحية اليمني؛ والمادة (19) من قانون أخلاقيات مهنة الطب الفرنسي.

3- لم ينظم المشرع اليمني هذه الحالة.

4- د. حسام الدين كامل الأهواني، مسؤولية الطبيب العقدية عن فعل الغير، المجموعة المتخصصة في المسؤولية القانونية للمهنيين، المصدر السابق، ص384.

5- كما أشار مشروع دستور السلوك المهني الطبي العراقي إلى النص نفسه في الفقرة الثالثة منه.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .