بحث قانوني ودراسة في حق المدعي المدني في اختيار أحد الطريقين المدني أو الجنائي: المادة (239) جنايات

موضوع البحث

1 – إذا أودع شخص آخر شيئًا وطالب صاحب الوديعة بوديعته أمام المحكمة المدنية، فهل يجوز له بعد ذلك أن يلجأ إلى القضاء الجنائي إذا ظهر له أن المودع لديه بدد الوديعة؟
2 – وإذا رفع شخص على وكيله دعوى مدنية يطلب منه فيها أن يقدم له حسابًا عن عمل أداه، فهل يجوز له بعد ذلك أن يدعي مدنيًا أمام المحكمة الجنائية ليطالب بمبلغ يزعم أن وكيله بدده؟
3 – مثلان نضربهما لأنهما موضوع بحث هذه الكلمة التي نريد أن نتناول فيها المادة (239) من قانون تحقيق الجنايات التي تنص على أنه: (إذا رفع أحد طلبه إلى المحكمة مدنية كانت أو تجارية لا يجوز له أن يرفعه إلى محكمة جنائية بصفة مدعٍ بحقوق مدنية).
ويستلزم هذا أن نأتي أولاً بأصل القاعدة ومميزاتها ثم نتبعه بشروط تطبيقها.

أولاً: أصل القاعدة ومنشؤها

( أ ) – في القانون الفرنسي القديم :
4 – يعبر عن القاعدة باللاتينية.

(Electâ unâ viâ, non datur recursus ad alteram.

ومعناها أن اختيار أحد الطريقين يمنع الرجوع إلي الطريق الآخر.
وقد نشأت في القضاء الفرنسي القديم وكان الكتَّاب إذ ذاك يعتبرونها موجودة في القوانين الرومانية، وقالوا أن الذي وضعها هم شراح القانون الروماني Digeste كنتيجة ضمنية لعدة نصوص يظهر أنهم اتخذوها أساسًا لأبحاثهم، وظهر أنه يستنتج من هذه القوانين المختلفة أنه عند وجود عدة دعاوى فإن استعمال إحداها يسقط الحق في استعمال الدعاوى الأخرى:

(In concursu actionum alternativo, si actio semel in judicium sit deducta, statim submovetur altera.)

راجع تعليقات برونمان Brunemann – فستان هيلي تحقيق الجنايات ج 2 ص 64 حاشية 3.
5 – وعللها كتاب القانون القديم والشراح بأنه إذا كان يسمح لشخص باختيار إحدى الدعاوى التي منحت له فيعتبر كأنه تنازل عن الأخرى.
6 – وطبقت المحاكم في العهد القديم هذه القاعدة في المسائل الجنائية، فقد قضى بحكمين صادرين من محكمة برلمان باريز في 3 إبريل سنة 1860 و 2 أغسطس سنة 1706 بأن:
(من اتخذ الطريق المدني لا يجوز له بعد ذلك أن يعود إلى الطريق الجنائي بالنسبة لنفس الموضوع ما لم يكن ذلك لسبب جديد) – راجع يوس Jousse في التحقيق الجنائي ج 3 ص 11.
7 – وهذه القاعدة التي وضعها المتشرعون كانت متبعة بوجه عام – فاريناسياس 100 ن 131 وأخذوا منها، حتى كنتيجة لها، أنه إذا كان الخصم قد سلك الطريق الجنائي، فإنه يجب لنفس السبب أن يعتبر محرومًا من التقاضي بالطريق المدني بعد ذلك ما لم يكن قد احتفظ لنفسه بهذا الحق – يوس ج 3 ص 12.
8 – وهذا القضاء الأخير يستند بصفة خاصة على المادة الثانية من الفصل الثامن عشر من الأمر الصادر في عام 1667 وهي التي أيدت القاعدة في دعاوى وضع اليد actions possessoires إذ تنص على أن:
(من رفعت يده بالإكراه ووسائل العنف، يجوز له أن يرفع دعوى استرداد الحيازة بطريق القضاء المدني العادي أو بالطريق الجنائي الغير عادي، وإذا كان قد اختار إحدى هاتين الدعويين فلا يجوز له استعمال الأخرى، إلا إذا كان قد حفظ لنفسه الحق في رفع الدعوى المدنية عند صدور الحكم في الدعوى الغير عادية)

(Celui qui aura èté déposséde par violence ou voie de fait pourra demander la réintégrande par actin civile et ordinaire, ou extraordinairement par action criminelle; et, s’il a choisi l’une de ces deux actious, ilne pourra se servir de l’autre, si ce n’est qu’en prononcant sur l’extraordinaire on lui eût réservè l’action civile).

على أن هذا المبدأ لم يكن يطبق إذا كانت الدعويان غير مبنيتين على واقعة واحدة وإنما على وقائع مختلفة ex novo delicto superveniente أو إذا كانت الدعوى مرفوعة على شخص آخر ولو كانت عن نفس الواقعة – يوس ج 3 ص 13.
أي أن هذه القاعدة لم تكن تطبق عند اختلاف موضوع الدعويين أو اختلاف الأشخاص ولو اتحد موضوع الدعويين.

(ب) القانون الفرنسي الحديث:
9 – كان هذا شأن القاعدة في القانون الفرنسي القديم فلنبحث الآن عن شأنها في القانون الحديث.
يلاحظ الأستاذ ميرلان Merlin بأن تلك القاعدة لم تدون بعبارة عامة وملزمة في أي قانون من القوانين، ولا يجوز أن نستنتجها كما يقول أحد الشراح (مانجان في الدعوى العمومية ج 1 ص 67) من نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات التي توجب إيقاف الحكم في الدعوى المدنية من المحاكم المدنية حتى يفصل في الدعوى العمومية، فيجب إذن اعتبارها مبدأ عامًا لا تستند في قوتها إلا إلى قوة الأسباب التي بنيت عليها.
10 – وقد شرحها الرئيس باري Barris بما يأتي:
(يعتبر كقاعدة عامة أمام المحاكم: أن المدعي المدني الذي له الحق في اختيار إما الطريق المدني أو الجنائي، لا يقبل منه الرجوع عما اختاره، وأنه باختياره أحد هذين الطريقين يسقط حقه في الآخر، وهذا المبدأ وضع في التشريع القديم وقد أدخله القضاء في التشريع الحديث، وهو مؤسس على مبادئ الإنسانية والعدالة التي لا تسمح بأن يؤخذ المتهم من قضاء إلى آخر، وأن يوقف القضاء الذي اتخذ اختيارًا لأنه يخشى أن يحكم في صالح المتهم وإضرارًا بطلبات المدعي).
(ومن الثابت كما يلاحظ المسيو باري وكما سنراه فيما بعد، أن المبدأ قد أيده القضاء الحديث ومن المؤكد أيضًا أن وجه تطبيقه بنى على قواعد العدالة التي تعطيه كل قوته، ولكن يظهر أن القاضي المذكور قد خرج بالمبدأ عن حدوده الحقيقية.
– راجع فوستان هيلي في تحقيق الجنايات (ج 2 ص 65 – 66).

11 – على أنه ولو أن هذه القاعدة لم ينص عليها في القانون الحديث بنص عام وصريح وإنما اتفق الشراح على القول بوجوب العمل بها كنتيجة قانونية للأسباب التي من أجلها وجدت في القانون القديم، فإنه يظهر أن هناك نصًا وحيدًا يشير إلى هذه القاعدة وهو الفقرة الخامسة من المادة الخامسة من قانون 25 مايو سنة 1838 الخاص بقضاة المصالحات حيث تنص هذه المادة على اختصاص هؤلاء القضاة في الدعاوى المدنية في مسائل القذف والسب بغير طريق النشر لو كانت الأخصام لم يسبق لها أن قدمت الدعوى إلى المحاكم الجنائية – مختصر جارو في العقوبات ع 388 ولابورد ع 742.

12 – إلا أن هذا النص غير عام ولا يمكن أن يقال عنه أنه منشأ وجود القاعدة في القانون الفرنسي الحديث خصوصًا وإن المحاكم الفرنسية كانت تحكم به قبل وجود قانون سنة 1838 السالف الذكر.
فقد حكمت محكمة النقض بأن الخصم الذي (لكي يسترد البضائع التي أودعها عند آخر) قد رفع دعوى أمام المحاكم المدنية، لا يجوز له بعد ذلك أن يرفع دعوى جنائية.

وجاء في حيثيات هذا الحكم:
(حيث إن التكليف بالحضور أمام المحكمة المدنية الذي سبقه محضر صلح ثبت منه عدم وجود واقعة جديدة تثبت خيانة الوديعة، وأن المدعي بناءً على هذا قد اختار الطريق المدني وهو عالم تمام العلم بالظروف، وأن الحكم الذي قضى بدم قبول الدعوى الجنائية منه لنفس الواقعة، لم يخرج عن تطبيق المبادئ الواجبة في الموضوع – نقض 11 فبراير سنة 1838 سيريه 32 – 1 – 666.)
وفي حالة أخرى قضت محكمة النقض بأنه بعد رفع دعوى وضع اليد أمام المحاكم المدنية لا يجوز للمشتكي، بسبب الواقعة نفسها، أن يرفع الأمر لمحكمة الجنح بطلب العقاب على جريمة ما – نقض 9 مايو سنة 828 سيريه 2 – 1 – 148.

13 – ولما كانت هذه القاعدة غير مبنية على نص صريح في القانون اختلف علماء القانون بفرنسا في تحديد نطاقها وانقسموا في ذلك إلى ثلاثة آراء:

فقال فريق أن هذه القاعدة لا يمكن تطبيقها إلا في الحالات التي ينص عليها القانون صراحة.
– ولا نص في القانون – راجع سوردا في المسؤولية (جـ 1 ن 282) – لسلييه في اختصاص ونظام المحاكم الجنائية ن 1174.

14 – وقال فريق آخر بوجوب اتباع هذه القاعدة في جميع الأحوال رغم عدم النص عليها بمعنى أن من اختار الطريق المدني لا يمكنه الرجوع إلى الطريق الجنائي ومن اختار الطريق الجنائي لا يمكنه الرجوع إلى الطريق المدني، لأنه لا يجوز عدلاً وضع المتهم تحت أهواء المدعي ينقله من اختصاص لآخر كلما رأى ذلك من مصلحته – جارو مختصر العقوبات ع 388 – لابوردع 742 – لجرافراند جـ 1 ع 69 – هوفمان جـ 1 ن 112 وما بعدها – فللي ص 265 – مانجان جـ 1 ن 37 – كارنوج 1 شرحًا على المادة الثالثة.

15 – ويرى فريق ثالث التمييز بين ما إذا كان المدعي قد اختار أولاً الطريق المدني أو الطريق الجنائي.
فإذا كان قد رفع دعواه أولاً أمام القضاء المدني فإنه من الواجب أن نفترض تنازله عن الطريق الجنائي أي ليس له أن يترك دعواه أمام المحكمة المدنية، ليرفعها ثانية أمام المحكمة الجنائية، إذ لا يصح عدلاً أن يؤخذ المتهم فجأة من محكمة إلى أخرى، ولا يجب ترك القضاء الذي بدأ بنظر الدعوى، وقد كان المدعي حرًا في اختياره فكان عليه أن يتحرى الطريق الأصوب وعليه يكون اختياره للقضاء المدني اختيارًا نهائيًا semel optare possumus، وفضلاً عن ذلك فإن رفع الدعوى ثانية إلى المحكمة الجنائية فيه تشديد على المتهم إذ يكون له خصمان يتعاونان على إثبات التهمة ضده بدل خصم واحد، مع أن قاعدة (اختيار أحد الطريقين) لم تشرع إلا في صالح المتهم، ورفع الدعوى أمام المحكمة المدنية يجعله في مركز أحسن من رفعها عليه أمام المحكمة الجنائية، والقضاء مجمع على هذا، ومن ذلك حكم النقض الصادر في 11 فبراير سنة 1832 السابق ذكره، ومن ذلك أيضًا حكم النقض الذي صدر في قضية اتهم فيها شخص أمام محكمة المخالفات بناءً على طلب النيابة العمومية لإتلافه منقولات مملوكة للغير، وكان الشخص الذي لحقه الضرر والذي كان قد سبق ورفع دعوى أمام المحكمة المدنية يطالب بتعويضات، قد دخل أمام محكمة المخالفات خصمًا ثالثًا، فقضت محكمة النقض بعدم قبول هذا التدخل لعدم صحته وقالت في ذلك:

(حيث إنه واضح أن المدعي باتخاذه الطريق المدني قد تنازل عن الطريق الجنائي وأن تدخله أصبح غير مقبول وأن المادة (8) من قانون 3 بروميير سنة 4 (المادة (3) من قانون

تحقيق الجنايات الفرنسي) تلزمه بأن ينتظر الفصل في الدعوى العمومية ليستمر بعد ذلك في دعواه المدنية التي أوقفت – نقض 18 مارس سنة 12 المجلة ن 172).

(ويلاحظ أن لهذه القاعدة استثناءً سنتناوله عند الكلام على شروط تطبيق المادة (239)، أما إذا كان المدعي قد رفع دعواه إلى المحكمة الجنائية فله أن يتركها في أي وقت شاء ليعود ويرفعها ثانية أمام المحكمة المدنية لأن في ذلك تخفيف على المتهم فليس له أن يتظلم – من هذا الرأي فوستان هيلي جـ 2 ن 617 وما بعدها – وميرلان تحت لفظ خيار فقرة 1 ن (1)، (2) – ولبواتفان مادة (3) ن 18 – وجارو جـ 1 ن 1083 ولكنه في الملخص ص (577) يؤيد الرأي الأول.

16 – وعلى هذا الرأي سارت المحاكم في فرنسا فقضت بأن من اختار الطريق المدني لا يمكنه العدول عنه والرجوع إلى الطريق الجنائي بالنسبة لنفس الموضوع ونفس الوقائع – راجع حكم محكمة باريز في 4 ديسمبر سنة 1874 سيراي 75 – 2 – 169 والباندكت 75 – 693.
وبأن من اختار الطريق الجنائي يمكنه أن يتنازل عن دعواه ويعود إلى الطريق المدني في أي وقت شاء – حكم محكمة مونبلييه في 10 مايو سنة 1875 داللوز 76 – 2 – 107.
وكذلك لا يمكن التمسك بهذه القاعدة لو كانت المحكمة الأولى قد أصدرت حكمًا نهائيًا – النقض الفرنسية الصادر في 20 ديسمبر سنة 1884 سيراي 1888 – 4441.

(جـ) القانون المصري:
17 – أخذ القانون المصري بهذا الرأي الأخير وقرر المشرع هذه القاعدة بنص صريح في قانون سنة 1883 (راجع المادة (246)) ونقلت هذه المادة إلى القانون الجديد فأصبحت المادة (239) جنايات ونصها (إذا رفع أحد طلبه إلى المحكمة، مدنية كانت أو تجارية لا يجوز له أن يرفعه إلى محكمة جنائية بصفة مدعٍ بحقوق مدنية).
18 – ويظهر أن المشرع أراد في سنة 1883 أن يتبع المبدأ الذي كانت قد قررته المحاكم الفرنسية التي تقضي بأن التحويل من الطريق المدني إلى الجنائي غير جائز ولكن العكس جائز أي أنه يمكن لمن يكون قد ادعى مدنيًا أمام المحكمة الجنائية أن يترك دعواه ويعود إلى الطريق المدني متى شاء.
والواقع أن هذا المذهب لا غبار عليه لأن فيه تشجيع على العود إلى الطريق الاعتيادي لرفع الدعاوى أي إلى الطريق المدني.
هذا فضلاً عن أنه يؤخذ من المادة (239) جواز العكس أي جواز رفع الدعوى أمام المحكمة المدنية بعد رفعها إلى المحكمة الجنائية – دسوق 14 أكتوبر سنة 1901 المجموعة الأهلية س 3 ص112 وأول سبتمبر سنة 1918 الشرائع س 5 ص 466 وطنطا استئنافيًا 4 مارس سنة 908 المجموعة الأهلية (س 9 ص 270).
19 – وتكون القاعدة حينئذ أن انتقال الدعوى المدنية من المحاكم الجنائية إلى المحاكم المدنية جائز بخلاف العكس فإن مجرد رفع الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية يسقط حق رفعها إلى المحاكم الجنائية، ولكن إذا كان التجاء المدعي المدني للمحاكم المدنية يمنعه من الالتجاء ثانيًا إلى المحاكم الجنائية فإنه لا يمنعه من التبليغ عن الجريمة للنيابة العمومية وإن كانت دعواه لا زالت قائمة أمام المحاكم المدنية كما لا يمنع النيابة العمومية من تحريك الدعوى العمومية بناءً على هذا البلاغ – العرابي بك ج1 ص 166 وهو يحيل في الحاشية على فللي ص 215 هامش 6 ولبواتفان مادة (3 ن 20) و (21).
20 – ولقد قال بعضهم أن المدعى المدني لا يتحول عن الطريق الجنائي إلى الطريق المدني إلا متى رأى أن فرصة الكسب غير سانحة له أمام هذا الطريق فيعيد رفعها أمام الطريق المدني عله يكسب دعواه ولذلك يرى عدم مساعدة المدني على ذلك – جرانمولان في تحقيق الجنايات (ج 1 ص 82 ن 133) في آخرها.

21 – ويستند جرانمولان في رأيه هذا على أن قاعدة (اختيار أحد الطريقين (eleetâ unâ viâ..etc مأخوذة عن القانون الفرنسي القديم حيث كانت مطلقة وعلى أن رفع الدعوى من المجني عليه أمام المحكمة الجنائية يعتبر بمثابة عقد قضائي contrat judiciaire لا يجوز نقضه بمطلق إرادة من جانب واحد وهي إرادة المدعي – المرجع السابق حاشية 2.

22 – إلا أنه يلاحظ على هذا الرأي أنه وإن كان أصل قاعدة اختيار أحد الطريقين القانون الفرنسي القديم إلا أن منشؤها في القانون المصري هو المادة (239) جنايات ونصها صريح والعكس فيها جائز، ويظهر من نص المادة المذكورة أن المشرع المصري أراد أن لا يتبع القاعدة بالتوسع المسموح به في القانون الفرنسي القديم فحصر أثرها صراحة وجعلها لا تنطبق إلا على حالة التحول من المحاكم المدنية إلى المحاكم الجنائية.

أما القول بأن رفع الدعوى يوجد عقدًا قضائيًا لا يملك أحد طرفيه نقضه بمطلق إرادته فلا محل للتمسك به لأن قواعد الإجراءات الجنائية مبناها النظام العام ولا يجوز للأخصام الاتفاق على ما يخالفها، ولو فرضنا أن هذه القاعدة ليست من القواعد المبنية على النظام العام لتعلقها بالدعوى المدنية فإن قبول التقاضي أمام الجهة الجنائية لا يعتبر تعاقدًا ولا شبه تعاقد لأن التعاقد لا يتم إلا بتوافق الإرادتين وفي هذه الحالة لا دخل لإرادة المتهم في إقامة الدعوى المدنية لا أمام المحاكم المدنية ولا أمام المحاكم الجنائية بل هي راجعة إلى مطلق اختيار المجني عليه بالقيود التي نص عليها القانون.

كذلك لا يظن أن المدعي المدني يترك دعواه أمام المحاكم الجنائية ويعود إلى رفعها أمام المحاكم المدنية إذا رأى أن فرصة كسب الدعوى غير سانحة له أمام المحاكم الجنائية وذلك لأن الإجراءات الجنائية تستغرق في الواقع زمنًا أقل من الإجراءات أمام المحاكم المدنية فيترتب على هذا أن القاضي الجنائي يفصل في الدعوى الجنائية غالبًا قبل أن يفصل القاضي المدني في الدعوى المدنية، وعلى حسب القواعد المعمول بها يتقيد القاضي المدني بما حكم به القاضي الجنائي في نفس الموضوع فلا يكون قد كسب المدعى بالحقوق المدنية شيئًا من تحوله من الطريق الجنائي إلى الطريق المدني – راجع نشأت بك في تحقيق الجنايات (ج 1 ن 511 ص 369 و 370) وطنطا استئنافي في 4 مارس سنة 1908 المجموعة الأهلية (س9 ع 114 ص 271) – ودسوق 14 أكتوبر سنة 1901 المجموعة الأهلية (س 3 ص 112 ع 37).

وفضلاً عما تقدم فإن علماء القانون اتفقوا على أنه متى كان تنازل المدعي بالحق المدني عن الاستمرار في دعواه أمام المحاكم الجنائية ناشئًا عن عدم ميسرته وعجزه عن دفع الرسوم المطلوبة منه ولم يبدِ طلبات في الدعوى فله الحق في أن يلتجئ إلى المحاكم المدنية للمطالبة بحقوقه لأن المحاكم المدنية هي الأصل في الاختصاص – شرح داللوز (فهرست) (ج 28 ص 176).

وأخيرًا يجب أن نقرر أن ترك المدعي للدعوى الجنائية والتجائه إلى القضاء المدني في صالح المتهم ولذلك يجب أن لا يمنع المدعي من ترك الطريق الجنائي في أي وقت والعودة إلى الطريق المدني

ثانيًا: مميزات قاعدة اختيار أحد الطريقين
Distiction de la règle (electâ unâ viâ… etc.)

( أ ) التفرقة بينها وبين قاعدة تعليق الدعاوى litispendance:
23 – يجب التفرقة بين قاعدة (اختيار أحد الطريقين) وقاعدة (تعليق الدعاوى) لأن هذه الأخيرة يفترض فيها رفع نزاع مخصوص بين نفس الخصوم أمام محكمتين مختصتين بالفصل فيه فيقتضي الحال أن توقف إحدى المحكمتين الدعوى المرفوعة أمامها إلى أن تفصل الأخرى في النزاع، أما قاعدة اختيار أحد الطريقين فعلى العكس منها إذ يفترض فيها تنازل المدعى عن طلبه الذي رفعه أمام القضاء الأول بقصد رفعه أمام قضاء ثانٍ – راجع جرانمولان في تحقيق الجنايات (ج 1 ن 135 ص 83 – 84 – لابورد ن 744).

(ب) التفرقة بينها وبين قاعدة قوة الشيء المحكوم فيه:
24 – وأهم من ذلك يجب عدم الخلط بين قاعدة (اختيار أحد الطريقين) وقاعدة (قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا) فإن المدعى المدني في الحالة الأولى يتنازل عن دعواه أمام إحدى جهتي القضاء قبل صدور الحكم فيها ليعود فيرفعها أمام الجهة الأخرى، أما إذا كان قد صدر فيها حكم نهائي وأراد أن يرفعها من جديد أمام جهة القضاء الأخرى فإن للمتهم أن يدفع بسبق صدور حكم نهائي في الموضوع لا بالمادة (239) – راجع جرانمولان (ج 1 ص 84 ن 536) – وحكم محكمة المنصورة في 23 إبريل سنة 1894 القضاء سنة 1896 ص 231 – ونقض 13 فبراير سنة 1909 المجموعة الأهلية (س 10 ع 271 ص 167).

ثالثًا: شروط تطبيق القاعدة

25 – بحثنًا فيما تقدم قاعدة (اختيار أحد الطريقين) إلا أننا حتى اللحظة لم نشرحها إلا بصفة مطلقة لأن لتطبيق القاعدة شروطًا يجب أن تتوافر حتى يصح القول بعدم قبول الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية لسبق رفعها أمام المحاكم المدنية:

الشرط الأول:
26 – يجب أولاً أن تكون الدعوى التي رفعت أمام إحدى الجهتين القضائيتين هي بعينها التي رفعت أمام الجهة الأخرى بمعنى أن تكون عن نفس الموضوع le même object ولنفس السبب la même cause، وأن تكون بين الخصوم أنفسهم entre les mêms parties، فإذا انعدم واحد من هذه الثلاثة أصبح هناك دعويان مختلفتان، وأصبح المدعي حرًا، بعد أن قدم إحداهما إلى القضاء المدني، أن يقدم الأخرى إلى القضاء الجنائي – جارو (ج 1 ن 184 ص 399) – فستان هيلي ج 4 ن 1716 – 1717 – مانجان (ج 1 ن 18) – فللي ص 215 – لبواتفان مادة (3 ن 24 ولكن في أي الأحوال يحصل الاختلاف في الموضوع وفي السبب وفي الخصوم؟
ضرب لنا القضاء أمثلة عدة في هذا، ونبدأ هنا بقضاء المحاكم الفرنسية ثم نتبعه بقضاء المحاكم المصرية.

( أ ) القضاء الفرنسي:
27 – فإذا رفع الزوج دعوى الطلاق أو الحيلولة séparation de corps أمام المحكمة المدنية وذلك بسبب زنا زوجته (وهذا في الشرائع المسيحية) فإن لهذا الزوج الحق أيضًا في رفع الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية بسبب الجريمة نفسها لتحكم بالتعويض وبالعقوبة التي تطلبها النيابة العمومية – نقض 22 يونيه سنة 1850 سيريه 50 – 1 – 629 وداللوز 50 – 1 – 208.
28 – وإذا بدد شريك بعض أموال الشركة وترتب على ذلك أن رفع الشريك الآخر دعوى مدنية على شريكه المبدد يطلب فسخ الشركة، ورفع أيضًا دعوى أمام المحكمة الجنائية يطلب تعويضًا مقابل نصيبه فيما بدده شريكه، فإن دعوى الفسخ أمام المحكمة المدنية لا تمنع من نظر دعوى التعويض أمام المحاكم الجنائية – نقض أول إبريل سنة 1865 و 6 يوليه سنة 1878.
29 – وفي قضية أخرى أوقع دائن حجز ما للمدين لدى الغير على أموال من حق مدينه، وعند المطالبة بتثبيت الحجز طلب أن يحكم له برد مبلغ كان مدينه قد استلمه نيابة عنه بصفته وكيلاً، وكان هذا أمام المحكمة المدنية.
بعد ذلك رفع الدائن المذكور دعوى خيانة أمانة أمام المحكمة الجنائية عن هذا المبلغ الأخير الذي استلمه عنه مدينه بصفته وكيلاً.
هنا تساءلت محكمة النقض: هل الدعوى الجنائية مقبولة؟ ثم أليس الغرض من هذه المطالبة المزدوجة أمام المحكمتين المدنية والجنائية رد المبالغ التي سلمت للمدين بصفته وكيلاً عن الدائن ؟

انتهت محكمة النقض في ذلك إلى أن مبدأ (اختيار أحد الطريقين) لا يمكن تطبيقه إلا في حالة ما إذا كان الطلبان الموجهان من شخص واحد وإلى نفس الخصوم متحدين في السبب، وفي الموضوع، وأن الحالة المعروضة عليها، وهي رفع دعوى الجنحة بعد الدعوى المدنية أساسها فعل جديد un fait nouveau وهو تبديد مبالغ بعد قبضها الأمر الذي يقع تحت طائلة قانون العقوبات وأن الغرض منها هو دفع المبلغ المبدد ولو من طريق الإكراه البدني على سبيل تعويض الجريمة بخلاف التعويضات التي للمحكمة أن تقضي بها، وعلى ذلك فليس بين الدعوى المدنية والدعوى الجنائية اتحاد في الطلب identité de démandes فالدعوى الجنائية مقبولة – نقض 16 أغسطس سنة 1851 المجلة ن 341.

30 – وحدث أن تعهد شخص تحت شرط جزائي بعدم تقليد بعض قوالب معينة moulages ولكنه مع ذلك قلدها، فهنا دعويان: دعوى المطالبة بالشرط الجزائي ودعوى التقليد: أساسهما فعل واحد ولهما أيضًا سبب واحد إلا أن الموضوع فيهما يختلف، فإحداهما لا يطلب فيها إلا الشرط المتفق عليه، والأخرى موضوعها المطالبة بالتعويض المبني على التقليد، وفعل التقليد لم يكن إلا شرطًا في الاتفاق بينما هو يكوّن في الدعوى الجنائية السبب الأصلي لرفعها.

وبناءً على هذا قضت محكمة النقض بأنه لا محل لتطبيق مبدأ (اختيار أحد الطريقين) في هذه الحالة وأنه في رفض دعوى التقليد بسبب أن نفس الطلب قدم إلى المحكمة التجارية تجاهل لقواعد اختصاص القضاء الجنائي – نقض 7 مايو سنة 1852 المجلة ن 149.
31 – وفي حالة تشبه الحالة التي وردت في حكم 16 أغسطس سنة 1851 السالفة الذكر (فقرة 29)، حالة المطالبة بمبلغ واحد ولكن باعتبارين مختلفين:

أولاً: المطالبة بحساب.

وثانيًا: الادعاء بتبديد، ففي الأولى طلب رد ما في الذمة، وفي الثانية تعويض ضرر ناشئ عن الجريمة.
هنا قررت محكمة النقض أن ليس ثمت اتحاد في الطلبين، وقررت أن مبدأ (اختيار أحد الطريقين) لا يصح التمسك به ضد المدعي المدني الذي يطالب أمام القضاء الجنائي بتعويض الضرر الذي أصابه عن الجريمة إلا في حالة ما إذا كانت الدعوى المرفوعة من المدعي المدني أمام القضاء المدني موضوعها نفس المطالبة بتعويض الضرر الناشئ عن الجريمة.
وعلى ذلك إذا رفع شخص دعوى أمام المحاكم المدنية على وكيله يطالبه فيها بالحساب عن عمل أداه له، جاز له رغمًا عن ذلك أن يدعي مدنيًا أمام المحكمة الجنائية ليطالب بمبلغ ادعى تبديده وذلك لاختلاف الموضوع في الدعويين، إذ أن الأولى كانت مطالبة بحساب أما الثانية فادعاء بتبديد – نقض 6 أغسطس سنة 1852 المجلة ن 267 – داللوز 1853 – 1 – 70، وراجع أيضًا حكمًا صادرًا في 19 مايو سنة 1893 داللوز 1895 – 1 – 405 –

32 – والطعن بالتزوير في ورقة أمام المحكمة المدنية لا يمنع من طلب تعويض عن هذا التزوير أمام المحكمة الجنائية، لأن موضوع الدعوى الأولى بطلان الورقة المزورة وموضوع الدعوى الثانية تعويض الضرر الناشئ عن تزويرها – العرابي بك في تحقيق الجنايات (ج 1 ص 168).

33 – أن من يحرض امرأة متزوجة على هجر منزل الزوجية لتقيم معه، يجوز أن ترفع عليه دعوى التعويض أمام المحكمة المدنية ولو أن هناك إجراءات جنائية ضده عن جريمة الزنا، لأن دعوى التعويض تستند إلى مبدأ الضرر وليس إلى جريمة الزنا – محكمة أكس 7 يونيه سنة 1882 سيريه (83 – 2 – 218).

34 – لا تطبق قاعدة (اختيار أحد الطريقين) في حالة ما إذا رفع أحد الشركاء دعوى أمام المحكمة التجارية يطلب إبطال التصفية وتعيين مصف جديد، ويطلب بالتبعية دفع المبلغ الذي يتناسب مع الحصة التي قدرت له في رأس مال الشركة، ثم قام هذا الشريك وقاضي بقية الشركاء بعد ذلك أمام محكمة الجنح وطالب بتعويض عن بعض أعمال يعتبرها خيانة أمانة – باريس 2 ديسمبر سنة 1874 – سيريه (75 – 2 – 169) وتعليق فيللي.

35 – إذا رفع المدعي المدني دعواه ضد الفاعل الأصلي أمام المحكمة المدنية فإن ذلك لا يمنعه من الدخول ضد الشريك في الدعوى العمومية أمام المحكمة الجنائية، وذلك لاختلاف الأشخاص – النقض الفرنسي 15 يونيه سنة 1866.

(ب) القضاء المصري.
36 – ذهبت محكمة النقض المصرية مذهب زميلتها الفرنسية في قضية كانت تتعلق بالمطالبة بقيمة كمبيالات اتضح أثناء سير الدعوى أنها مزورة أعطيت للبائع بدلاً من كمبيالات صحيحة، وكانت الكمبيالات ثمنًا لبضاعة حصل تسليمها بالفعل، وبعد انتهاء الدعوى المدنية أقام البائع نفسه مدعيًا مدنيًا في دعوى جنحة مباشرة أقامها على المشتري الذي أعطاه بدلاً من الثمن الكمبيالات التي ظهر تزويرها فيما بعد.
وقضت محكمة النقض بأن حكم المحكمة المدنية الذي قضى بإلزام المشتري بدفع ثمن البضاعة لا يحول دون أن يقيم البائع دعواه الجنائية ليطلب التعويض بسبب هذا التزوير وذلك لاختلاف الموضوع في الدعويين – نقض أول يونيه سنة 1918 المجموعة الأهلية (س 20 ص 2 و 3 ع 2) والذي يلفت النظر في حكم محكمة النقض أنها كونت رأيها على أمرين:
الأول: أن المدعى المدني عند رفع دعواه المدنية التي يطالب فيها بقيمة الكمبيالات، كان يجهل أن هذه الكمبيالات مزورة، وهذه سنتناولها عند بحث ركن العلم (فقرة 40 وما بعدها).

الثاني: أن البائع، وإن كان قد حكم له في النزاع المدني بقيمة المبالغ المذكورة في الكمبيالات المزورة، وهي ثمن البضاعة، لأنه تمكن من إقامة الدليل على صحة التسليم وعدم حصوله على ثمنها، إلا أن هذا الظرف ليس من شأنه تحويل صفة دعواه من مطالبة بدين (وهو موضوع الدعوى المدنية) إلى دعوى تعويض (وهو موضوع الدعوى الجنائية) وهو الأمر الذي لم يطرح أمام المحكمة المدنية.

37 – وإذا حملت الزوجة سفاحًا كان للزوج الحق في نفي نسب المولود بدعوى اللعان والحصول منها على تعويض نظير الزنا بالدعوى المدنية، ودعوى اللعان أمام المحكمة الشرعية لا تمنع رفع الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية لاختلاف الدعويين في الموضوع.

38 – إذا رفع المدعي دعوى مدنية على وكيله يطالبه فيها بتقديم حساب له عن مدة وكالته ثم شطبها بعد أن أقر له الوكيل بما في ذمته فطالبه بما أقر به فامتنع عن الدفع، جاز له أن يرفع دعواه مباشرة إلى القضاء الجنائي بطلب التعويض لاختلاف السبب في الدعويين لأنه في دعواه المدنية كان يطلب الحساب، أما في الدعوى الجنائية فإنه يطلب تعويضًا عما لحقه بسبب التبديد فلا يوجد والحالة هذه اتحاد في السبب (مصر الكلية دائرة الجنح المستأنفة حكم 5 مايو سنة 1929 غير منشور) وقد استند الحكم على موسوعات كاربنتييه (ج 2 ص 340 ن 395 و 397 و 405 – 407)، واستند أيضًا على حكم محكمة النقض السابق ذكره في البند (29) من هذا البحث.

39 – إلا أن محكمة النقض ذهبت إلى عدم قبول دعوى جنحة مباشرة مرفوعة من المدعي المدني بتزوير عقد بواسطة تحريره على ورقة ممضاة على بياض لسبق رفع دعوى أمام المحكمة المدنية ببطلان هذا العقد لتحريره في حالة سكر، وقالت أن الاختلاف بين الدعويين اختلاف ظاهري في الشكل فقد والغرض الحقيقي منهما واحد – نقض 18 إبريل سنة 911 المجموعة (س 12 ص 172 ع 90).

ويعلق العرابي بك على هذا الحكم بأن الدعويين مختلفان في السبب – العرابي بك (ج 1 ص 169) حاشية (5 من ص 168).

الشرط الثاني:
40 – زيادة على ما تقدم فإنه من المتفق عليه في فرنسا أنه يجب أن يختار الشخص أي الطريقين المدني أو الجنائي، وهو عالم بأن له مطلق الحرية في هذا الخيار، وبعد ظهور جميع ظروف الدعوى جلية أمامه، وهذا ما يسمى بشرط العلم.
41 – فإذا ما رفع شخص دعواه أمام المحكمة المدنية ولم يكن قد ظهر له بعد أن للدعوى صبغة جنائية بل كانت غير موجودة عند رفع دعواه المدنية، جاز له بعد ذلك، ولو أنه اختار من قبل الطريق المدني، أن يعود إلى رفع دعواه أمام المحاكم الجنائية – راجع في ذلك فستان هيلي (ج 2 ن 618) وحكم النقض الفرنسي المنشور في سيري 1832 – 1 – 666، وراجع جارو (ج1 ن 184 ص 401) – فللي ص (215).

42 – ويقول في ذلك جارو: 

(إن الاختيار (ويقصد اختيار أحد الطريقين المدني أو الجنائي) الذي يحدد مركز رافع الدعوى يجب أن يحصل بعد أن يعرف المدعي حقيقة الظروف ويقف على السبب، وقاعدة اختيار أحد الطريقين مبناها قبول الطرفين للمحكمة التي رفعت أمامها الدعوى أولاً، والمفروض في كل عقد توافق الإرادتين، فينتج من هذا أنه في حالة ما إذا رفعت الدعوى أمام المحكمة الاعتيادية وظهر من أصولها أنها مدنية محضة ثم تبين بعد ذلك ظهور أشياء كانت لم تزل مجهولة وتسبب عن ظهورها إكساب الدعوى صبغة جنائية، في هذه الحالة يجب أن تقبل الدعوى أمام القضاء الجنائي، لأن الدعوى ولو أن موضوعها واحد بين نفس الخصوم إلا أنها في الحقيقة مؤسسة على سببها الأول fondé sur une autre Cause – شرح جارو في تحقيق الجنايات (1 ن 184 جـ 401).
43 – ويوافق جارو في رأيه فستان هيلي إذ يقرر هذا الأخير:
(إنه لأجل الحيلولة دون اتخاذ الطريق الجنائي بعد المدني يشترط أن يحصل اتخاذ الطريق المدني مع محض الاختيار ومعرفة السبب، فلا يصح أن يذهب المجني عليه ضحية جهله بما لم يكن في مقدور أحد أن يعرفه، ولا يصح أن يفرض عليه معرفة شيء لم يوجد ولم يخلق بعد، لأنه يمكن أن يكون غير عالم بالوقائع التي تعطى الفعل صبغة جنائية عندما رفع دعواه (أي الدعوى المدنية) فلماذا نحرمه من رفع دعوى (ويقصد الدعوى الجنائية) لم تفلت منه إلا بسبب خطأ بسيط لم يكن يعلمه)
ثم أضاف الشارح المذكور

(فإذا كان مبنى الجريمة فعل جديد، وإذا كان المدعي لم يختر دعواه وهو على تمام العلم بسببها، في هذه الحالة يظل الطريق الجنائي مفتوحًا أمامه)، فستان هيلي (ج2 ن 618 ص 67، 68).

44 – وضربوا لذلك مثلاً حالة صاحب الوديعة والمودع لديه، فإن صاحب الوديعة إذا طالب المودع لديه بالوديعة أمام المحكمة المدنية، ثم ظهر له بعد ذلك أنها بددت، جاز له أن يترك دعواه ويرفعها ثانيًا أمام المحكمة الجنائية، لأنه عندما رفع دعواه الأولى المدنية كان يجهل وجود التبديد، فلم يكن أمامه من سبيل إلا الطريق المدني، ومن جهة أخرى فإن سبب الدعوى قد تغير إذ أن سبب الأولى هو الوديعة وسبب الثانية هو التبديد – المرجعين السابقين – فللي ص (215).
45 – وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض المصرية في حكم أول يونيه سنة 1918 السالف ذكره في بند (36) من هذا البحث حيث جاء في حيثيات حكمها:

(وحيث إنه لا يجوز التمسك ضد المدعي المدني بالقاعدة القائلة بأن من يختار الطريق المدني لا يصح له أن يلجأ إلى الطريق الجنائي، وذلك لأن رافع النقض كان يجهل وجود التزوير فلذا لم يكن من سبيل أمامه سوى الطريق المدني – ومن ثم لا يمكن اعتباره أنه كان حرًا في اختيار أحد أمرين لم يكونا قد توفرا بعد أمامه).

46 – ويرى جارو، زيادة على ما تقدم، أن النيابة العمومية إذا رفعت الدعوى العمومية في أثناء دعوى مدنية كان قد رفعها المجني عليه فيجوز لهذا الأخير أن يترك دعواه أمام المحكمة المدنية، وهي الدعوى التي وجب إيقافها بالدعوى العمومية، ليدخل بصفة مدعٍ مدني أمام المحكمة الجنائية.

ويعلل ذلك جارو بأن رفع النيابة للدعوى العمومية يعتبر أنه شيء أو فعل جديد un fait nouveau لم يكن يتوقعه المدني بل ويغير من مركزه فلا يمكن القول بأنه استعمل حق الخيار الذي منحه له القانون وهو عالم بحقيقة الحال – جارو (جـ 1 ن 184 ص 402).

47 – وبعض الشراح عندنا لا يوافق على هذا الرأي ويقول أنه يخالف نص المادة (239) جنايات التي تحرم رفع الدعوى المدنية إلى المحكمة الجنائية بعد رفعها للمحكمة المدنية ولم تميز بين حالة رفع الدعوى العمومية من النيابة أو من المدعي المدني مباشرة.

وقد تقدم أن رفع الدعوى المدنية أمام المحاكم المدنية لا يحرم المدعي المدني من التبليغ عن الجريمة للنيابة العمومية، كما لا يمنع النيابة العمومية من رفع الدعوى العمومية بناءً على هذا التبليغ ولكنه يحرم المدعي من الدخول بصفة مدعٍ مدني في هذه الدعوى – العرابي بك (جـ1 ص169)، وهو يحيل على النقض الفرنسي في 17 يونيه سنة 846، 6 يوليه سنة 1866 ولبوا اتفاق مادة (3 ن 21).

الشرط الثالث:
48 – يجب أن تكون الجهة القضائية التي رفع إليها الأمر جهة مختصة، فإذا قضت المحكمة المدنية بعدم اختصاصها يمكن للمدعي أن يجدد دعواه إما أمام القضاء الجنائي وإما أمام القضاء المدني المختص – راجع جرانمولان في تحقيق الجنايات (جـ 1 ص 83 ن 134 فقرة (2)).
49 – إلا أن هذا الرأي محل بحث

لأن محكمة اميان (راجع حكمها الصادر في 23 أغسطس سنة 1863) قضت بوجوب التمييز بين الاختصاص المطلق بالنسبة لنوع القضية والاختصاص النسبي بسبب المكان، وقررت أن لا أهمية لعدم اختصاص المحكمة التي رفعت لها الدعوى ما دام يمكن رفعها لمحكمة أخرى من نوعها، فإن المدعي المدني الذي أخطأ في توجيه دعواه تبقى له حرية رفع الدعوى للمحكمة المختصة، وما دام الطريق المدني الذي اختاره أولاً لم يزل مفتوحًا أمامه فلا تكون له الحرية في تركه والالتجاء للطريق الآخر.

50 – إلا أن محكمة النقض الفرنسية رفضت هذا الرأي ولم تقبله وكذلك لم يقبله الشراح بناءً على أنه لا يوجد في القانون الفرنسي نص يقضي بعدم قبول الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية بعد رفعها للمحاكم المدنية، وإنما قرر القضاء هذه القاعدة بناءً على قواعد العدالة التي تقضي بعدم جواز التنقل بالمتهم من اختصاص لآخر والتنازل إضرارًا به عن المحكمة التي رفعت لها الدعوى أولاً، وهذا غير متوافر في حالة الحكم بعدم الاختصاص لأن المدعي لم يترك باختياره الطريق الذي اتخذه أولاً بل أن هذا الطريق أقفل في وجهه فعاد إلى حالته التي كان عليها قبل رفع الدعوى فيجوز له رفعها إلى المحكمة الجنائية – العرابي بك (ص 171) الجزء الأول – منجان (ج ان 26) – فللي (ص 215) – جارو (ج ا ن 184 ص 402).

51 – ويرجح العرابي بك القضاء الذي ذهبت إليه محكمة أميان ويقول أن مجرد اتخاذ المدعي المدني الطريق المدني مع علمه بالجريمة وقدرته على اتخاذ الطريق الجنائي يفيد تنازله عن هذا الطريق الأخير، وخطؤه في اختيار المحكمة المختصة من بين المحاكم المدنية التي انحصر فيها حقه لا ينبنى عليه إلا تصحيح هذا الخطأ، وما دام أن الطريق المدني الذي اختاره ما زال مفتوحًا أمامه فليس له أن يعدل عنه ويتخذ الطريق الجنائي بعد أن سقط حقه فيه.

ويترجح هذا الرأي على الأكثر في القانون المصري إذا اعتبرنا الأسباب التي بنى عليها الرأي الآخر إذ بنوه على أن قاعدة أنه لا يجوز رفع الدعوى المدنية للمحاكم الجنائية بعد رفعها للمحاكم المدنية لم تقرر بنص صريح في القانون، وإنما المحاكم هي التي قررتها بناءً على قواعد العدل فوجب حصرها في الحدود التي تقتضيها الأسباب التي بنيت عليها، وقد قال جارو صراحة أن رأي محكمة اميان كان يمكن قبوله لو أن المبدأ كان مقررًا بنص صريح في القانون، وقد تقرر هذا المبدأ صراحة في القانون المصري بالمادة (239) جنايات فلا محل لتضييق دائرة تطبيقه – العرابي بك (جـ 1 ص 171).

52 – وأخيرًا، هل قاعدة (اختيار أحد الطريقين) من النظام العام؟

53 – قضت بعض المحاكم الفرنسية بأن القاعدة ليس مبناها النظام العام فلا يمكن الدفع بها لأول مرة أمام محكمة الاستئناف – راجع حكم محكمة بوردو الصادر في 15 نوفمبر سنة 1888 سيريه (1889 – 2 – 239).
54 – ويرى نشأت بك عدم الأخذ بهذا الرأي لوجود القاعدة بنص صريح في القانون المصري بخلاف حالها في القانون الفرنسي – نشأت بك في تحقيق الجنايات (جـ 1 ص 371).
55 – ويقول العرابي بك أن عدم قبول الدعوى المدنية أمام المحاكم الجنائية لسبق رفعها أمام المحاكمة المدنية ليس من النظام العام فلا يجوز للمحكمة أن تحكم به من تلقاء نفسها بل لا بد وأن يتمسك به المتهم ويبديه قبل الدخول في الموضوع – العرابي بك (جـ 1 ص 172)، وهو يحيل على النقض الفرنسي 8 يوليه سنة 1853 و 26 إبريل سنة 1884 – وجارو (جـ 1 ن 185) ولبواتفان مادة (3 ن 22)، ونحن نميل إلى هذا الرأي لوجاهته،

محمد السعيد خضير
المحامي
محمد السعيد خضير – المحامي
[(1)] راجع بهذا العدد الحكم نمرة (76) الصادر من محكمة النقض بتاريخ 12 يونيو سنة 1930 والحكم الصادر من محكمة مصر الأهلية (جنح مستأنفة) بتاريخ 5 مايو سنة 929.