دراسة وبحث قانوني في استئناف المدعي بالحق المدني

وأثره في الدعوى العمومية وطلب الموضوع والفصل فيه بمعرفة المحكمة الاستئنافية

نعلم أنه يترتب على رفع أي استئناف في ميعاده وعلى الوجه المبين في القانون خروج القضية من سلطة المحكمة الابتدائية ونقلها إلى المحكمة الاستئنافية ودخولها في قبضتها وأنه قد يترتب على ذلك أحيانًا (كما إذا كان الحكم المستأنف تمهيديًا أو صادرًا في دفع يتعلق بالاختصاص) جواز طلب الموضوع والفصل فيه عند إلغاء الحكم المستأنف.
ونعلم أنه متى دخلت القضية في قبضة محكمة الاستئناف فإن سلطتها عليها تحد بقدر ما استؤنف من الحكم، وأنه إذا تعدد الخصوم ودافع كل منهم عن مصلحة مستقلة عن الآخر ففائدة الاستئناف المرفوع من أحدهم لا تعود إلا عليه ولا يجوز لمحكمة الاستئناف أن تعدل في الحكم المستأنف إلا لصالح المستأنف.
نعلم ذلك، ونعلم أنهم فرعوا من هذه الأصول أن استئناف المدعي بالحق المدني لا يكون إلا فيما يتعلق بحقوقه المدنية فقط وأنه إذا صدر الحكم ببراءة المتهم ورفض طلب التعويض واستأنف الحكم المدعي بالحق المدني وحده لا يكون لمحكمة الاستئناف أن تحكم بمعاقبة المتهم بأية عقوبة ما.
نعلم ذلك كله، ولكننا رأينا محكمة طنطا بجلسة الجنح والمخالفات المستأنفة قد حكمت بعكسه، فقضت بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1921 بمعاقبة المتهم بالحبس في قضية قدمها المدعي بالحق المدني مباشرةً لمحكمة أول درجة وحكم فيها بالبراءة وبرفض التعويض المدني ولم يستأنف الحكم الابتدائي إلا المدعي بالحق المدني وحده (راجع هذا الحكم في مجلة المحاماة في السنة الثانية بالصحيفة 189).

وقد اعتمدت هذه المحكمة على حجتين قالت:

أولاً: إن الحق المخول للمدعي بالحق المدني برفع دعواه مباشرةً يشمل حقه في أن يمنح تعويضًا عما لحقه من الضرر وحقه في أن يعاقب من أحدث له الضرر وأنه نظرًا لأنه أثر باقٍ لنظام الاتهام الشخصي أقره القانون لا ينبغي المساس به أو تقييده إلا بنص صريح، وأن هذا يستلزم أن يكون له الحق في مباشرة سير الدعوى حتى انتهاء المحاكمة وأن يكون من شأن استئنافه أن تنظر محكمة الاستئناف الدعوى برمتها كما نظرتها محكمة أول درجة.

ثم قالت ثانيًا: إنه ليس المقصود من نص المادة (176) الذي جاء به أنه يقبل الاستئناف من المدعي بالحق المدني فيما يتعلق بحقوقه دون غيرها بشرط أن يزيد المبلغ الذي يطالب به عن النصاب الذي يجوز للقاضي الجزئي الحكم فيه نهائيًا منع المحكمة الاستئنافية من النظر في الدعوى الجنائية والحكم فيها إذا لم تستأنف النيابة حكم البراءة، وإنما المقصود من ذلك بيان شروط قبول استئناف المدعي بالحق المدني فإذا قبل عادت الدعوى إلى حالتها الأولى وأمكن النظر في العقوبة والتعويضات.

ونظن أن محكمة طنطا كانت بعيدة عن الصواب في هذا الحكم، ولعل بعض ما اقتبسته من أسباب قرار محكمة النقض والإبرام المؤرخ في 24 يناير سنة 1920 الصادر في غير المسألة التي فصلت فيها هو الذي ورطها في الخطأ.

مناقشة أسباب حكم محكمة طنطا

توهم أسباب هذا الحكم أن لتاريخ الحق المخول للمدعي بالحق المدني برفع دعواه مباشرةً لمحكمة الجنح أثرًا في حل المسألة، ولذلك رجعنا إلى تاريخه في فرنسا لأن القانون المصري قد نقل القواعد المختصة بالدعويين العمومية والمدنية عن القانون الفرنسي نقلاً يكاد يكون تامًا، فوجدنا أن العلماء في فرنسا قد اتفقوا منذ القرن السابع عشر على اعتبار حق الاتهام من توابع السلطان العام، وأن صاحب هذا السلطان هو الشعب، ولذلك حرصوا على النص في الدستور على أن الشعب هو الذي ينتخب المدعي العمومي، وبقي الحال كذلك إلى أن انتقل الحكم إلى الحكومة القنصلية فوضعت الدعوى العمومية في يد رئيس الحكومة على سبيل الإنابة ونص في المادتين (40) و(63) من دستور سنة 8 على أن وظيفة النيابة العمومية يقوم بها لدى المحاكم الجنائية أعضاء من موظفي الحكومة، ثم وضعت هذه القاعدة في مشروع تحقيق الجنايات بالنص الآتي (يباشر الدعوى العمومية الموظفون المعينون لذلك)، فعدله مجلس شورى الحكومة إلى النص الحالي وهو (لا يملك الدعوى العمومية غير الموظفين المعينين لذلك)، وكان السبب في هذا التعديل – على ما دلت عليه محاضر جلسات هذا المجلس – الرغبة في النص على عدم جواز تدخل المجني عليه في طلب توقيع العقوبة وإبعاد الانتقام الشخصي عن مجرى العدالة وطبع الاتهام بطابع عدم التعرض (راجع فقرة 60 من ربرتوار دالوز تحت كلمة استئناف جنائي).

ولقد أدخل الشارع المصري نص المادة الأولى المذكورة في قانونه بعد أن أصلحه فكان نص المادة الثانية من قانوننا هو (لا تقام الدعوى العمومية بطلب العقوبة إلا من النيابة العمومية).

كذلك وجدنا الكتاب في فرنسا قد فرقوا منذ القرن السابع عشر بين الادعاء المدني والادعاء العمومي، فقالوا إن الادعاء المدني هو مطالبة المجني عليه بتعويض ما أصابه من الضرر، وعمل بهذا الفرق حتى صدر قانون 16 سبتمبر سنة 1791 فنص فيه على أنه يجوز لكل من ادعى حصول ضرر له من جريمة أن يقدم شكواه بهذا الشأن، ثم نقلت هذه القاعدة إلى قانون (3) بريموز فكانت فيه المادة السادسة ثم أدخلت في قانون تحقيق الجنايات الحالي في المادة الأولى والثالثة والستين ثم أخذها القانون المصري فوضعها في المادة (54) من قانون تحقيق الجنايات.

وفي هذه الأدوار لم يقل قائل فيما نعلم إن الحق الممنوح للمدعي بالحق المدني برفع دعواه مباشرةً إلى محكمة الجنح يتألف من حق طلب التعويض ومن حق طلب معاقبة من أحدث له الضرر كما تقول محكمة أول درجة، وإنما كل الذي قالوه إن المدعي بالحق المدني بتقديمه الدعوى مباشرةً إلى محكمة المخالفات أو الجنح يحرك الدعوى العمومية فقط وأن حقه هذا يقف عند ذلك وأن ليس له أي حق في أعمال إقامة الدعوى العمومية من إبداء طلب توقيع العقوبة أو المرافعة فيه أو الطعن في الأحكام التي تصدر بأي طريق من طرق الطعن الاعتيادية أو غيرها.

وقالوا أيضًا إنه إذا حكمت محكمة أول درجة ببراءة المتهم ولم تستأنف النيابة الحكم واستأنفه المدعي بالحق المدني وحده لا يجوز لمحكمة الاستئناف أن تعاقب المتهم بعقوبة ما لأن استأنف المدعي بالحق المدني لا يقبل إلا فيما يتعلق بحقوقه المدنية فقط.
قالوا ذلك وعملت به المحاكم بل وقد أفتى به مجلس شورى الحكومة بفتواه المؤرخة 3 نوفمبر سنة 1806 بل قد أجاب هذا المجلس على بعض ما حسب أنه يعترض به عليه فقال:

(وإذا اعترض بأنه متى كان مقبولاً أن يطرح المدعي بالحق المدني الدعوى العمومية أمام محكمة أول درجة وجب أن يكون لاستئنافه هذا الأثر على الدعوى العمومية فتفصل فيها المحكمة الاستئنافية من غير حاجة إلى استئناف يرفع من النيابة أجبنا بأن هذا يكون قياسًا مع الفارق، لأن المدعي بالحق المدني إنما يحرك الدعوى العمومية برفع دعواه مباشرةً إلى محكمة الجنح، وما يجرى بعد ذلك فهو من أعمال إقامة الدعوى العمومية التي هو أجنبي عنها والتي هي من وظائف النيابة العمومية فإذا استأنف الحكم الصادر في غير مصلحته فطبيعي أن لا يكون لاستئنافه أي أثر ما على الدعوى العمومية لأنه لما لم يكن له أمام محكمة أول درجة أي حق في التداخل في أعمال إقامة الدعوى العمومية وجب أن لا يكون له كذلك أي حق عليها أمام المحكمة الاستئنافية) راجع قرار مجلس شورى الحكومة المؤرخ 3 فبراير سنة 1806 في نوتة 3039 فوستان هيلي جزء سادس.

وقد بقي العمل بهذا المبدأ في فرنسا إلى أن وضع قانون تحقيق الجنايات فنص في المادة (202) على أن استئناف المدعي بالحق المدني لا يكون إلا بالنسبة لحقوقه المدنية، ومن عهد العمل بهذا القانون إلى الآن لا يزال الإجماع معقودًا بين الفقه والقضاء على ذلك، ثم جاء الشارع المصري فنقل نص المادة (202) في المادة (176).
وأخذت المحاكم المصرية تعمل بهذا المبدأ إلى الآن، وقد قالت محكمة النقض والإبرام المصرية في حكمها المؤرخ 20 مايو سنة 93 المنشور في مجلة القضاء سنة 94 صـ 155: (والمدعي بالحق المدني وإن كان يجوز له أن يحرك الدعوى العمومية في مواد الجنح إلا أن ذلك لا يكون إلا في أول الأمر ولا يعطى له حق تتبعها والتداخل في شؤونها وأن ينصب نفسه لتأييدها وتقديمها ثانيةً لأن كل ذلك من اختصاص النيابة).

ثم قالت بعد ذلك محكمة النقض في 3 يناير سنة 94 القضاء سنة 94 صـ 21022:

(وحيث إن القانون وإن كان صرح للمدعي بالحق المدني أن يحرك الدعوى العمومية ولكنه لم يصرح له باستئناف الأحكام المختصة بالبراءة أو العقوبة وقد صرح بأن استئنافه لا يتعدى الحقوق المدنية).
والخلاصة في ذلك كله أن ليس في تاريخ الدعوى العمومية والمدنية ما يجيز اعتبار حق المدعي بالحق المدني شاملاً لحق طلب العقاب وطلب التعويض ولا ما يجيز قياس تحريك الدعوى العمومية أمام محكمة الاستئناف عند استئناف المدعي بالحق المدني على تحريكها بمعرفته عند رفعه دعواه مباشرةً لمحكمة أول درجة – بل إن في تاريخهما في مصر وفرنسا ما يدل على قصر حق المدعي بالحق المدني على تحريك الدعوى العمومية أمام محكمة أول درجة وعدم ترتيب أي أثر لاستئنافه على الدعوى العمومية أمام المحكمة الاستئنافية عند عدم رفع الاستئناف من النيابة.

كذلك لم نجد في تاريخ المادة (176) أثرًا لهذا التفسير الذي حاولت محكمة طنطا أن تعطيه لها.

وإنما رأينا أن الفقه والقضاء كانا مجمعين – وفاقًا للقواعد العامة وقبل نص المادة (202) في القانون الفرنساوي القديم وفي القانون الحالي – على أن استأنف المدعي بالحق المدني لا يقبل إلا فيما يتعلق بحقوقه المدنية دون غيرها وعلى أن لا يكون له أي أثر ما على الدعوى العمومية وعلى أن لا يطرحها للفصل فيها أمام المحكمة الاستئنافية، وأن هذا المعنى أفرغ في نص المادة (202) ليدل عليه وأن هذا النص أصبح لا يدل إلا على هذا المعنى المقصود ولم يفهم أحد منه غيره، وقد نقل هذا المعنى بلفظه إلى نص المادة (176) وكرر في نفس المادة (209) الخاصة باستئناف الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات وأعيد في المادة (229) الخاصة بالطعن بطريق النقض والإبرام، فلا ينبغي أن نفهم من هذا اللفظ المتكرر إلا معناه المتفق عليه وهو أن استئناف المدعي بالحق المدني أمام محكمة الجنح الاستئنافية أو أمام محكمة الجنايات الاستئنافية وطلب النقض المرفوع منه لا يكون إلا بالنسبة لحقوقه المدنية فقط.
كيف يقول الشارع إن استئناف المدعي بالحق المدني لا يكون إلا فيما يتعلق بحقوقه المدنية فقط ونقول بعده إن هذا شرط لقبوله ومتى توفر وقبل الاستئناف عادت القضية كلها إلى قبضة محكمة الاستئناف فتفصل في حقوق المستأنف وفي غير حقوقه – إن هذا أشبه بالهزل منه بالجد.

مناقشة أسباب محكمة النقض والإبرام

أصدرت محكمة النقض والإبرام حكمها المؤرخ 24 يناير سنة 1920 المنشور في المجموعة الرسمية سنة 1921 صحيفة 104 نقض لحكم محكمة أسيوط الاستئنافية الصادر بعدم قبول الاستئناف المرفوع من المدعي المدني عن حكم محكمة ملوي الجزئية الصادر بعدم اختصاصها بنظر الدعوى التي قدمها لها مباشرةً بناءً على أن الحادثة جنائية.
وكان طبيعيًا أن تبحث المحكمة فيما إذا كان للمدعي بالحق المدني الحق في استئناف الحكم الصادر بعدم الاختصاص لجنائية الحادثة على ضوء قاعدة (لا دعوى ولا استئناف بغير مصلحة) وأن نهتدي بهدي المادة (176) التي تجيز للمدعي بالحق المدني استئناف الأحكام التي تصدر من محاكم الجنح فيما يتعلق بحقوقه المدنية بغير تفريق بين الأحكام الصادرة في الموضوع أو الصادرة في الاختصاص أو في المسائل الفرعية التي تعرض قبل نظر الموضوع وكان طبيعيًا أن تستأنس إذا شاءت بآراء الفقهاء وأحكام المحاكم الفرنسية، ولو سلكت هذا السبيل السهل لبلغت الغاية من بحثها وأيدت حق المدعي بالحق المدني في استئناف الحكم الصادر من محكمة الجنح بعدم اختصاصها لجناية الحادثة وماشت في ذلك الفقه والقضاء الفرنسيين (راجع رابرتوار دالوز فقرة 169 في استئناف المواد الجنائية).

ولكنها سلكت طريقًا آخر اعترفت محكمة النقض نفسها أنه مخالف لما جرت عليه المحاكم من قبلها فنظرت إلى الدعوى المباشرة وإلى ما أعطي لها من أثر تحريك الدعوى العمومية أمام محكمة أول درجة فقالت إنه طريق شاذ أباحه القانون يقوم فيه المدعي المدني مقام النيابة مؤقتًا في التقاضي أمام درجتين لا فيما يتعلق بحقوقه المدنية بل فيما يتعلق بطرح الدعوى الجنائية على بساط البحث أمام الدرجتين.

وقد بينا فيما سبق أنه لم يقل بهذا قائل فيما نعلم وأنه بدعة جديدة لا أساس لها، إذ يعتبر القانون في أي نص من نصوصه المدعي بالحق المدني قائمًا مقام النيابة أمام المحكمة الاستئنافية بل ولا أمام محكمة أول درجة بل قد رأيناه عند تقرير حق المدعي المدني في الاستئناف يعتبره خصمًا مستقلاً ولا يجيز له إلا الاستئناف فيما يتعلق بحقوقه المدنية فقط.

ويظهر أن محكمة النقض قد لاحظت أن القضاء الفرنسي جرى على نظر الدعوى العمومية مع الدعوى المدنية أمام المحكمة الاستئنافية إذا كان الحكم الابتدائي المستأنف صادرًا في مسألة فرعية كالاختصاص وغيره وكان المدعي المدني هو المستأنف وحده للحكم الابتدائي فحسبت أن العلة في قبول ذلك ما تقوله من إن استئناف المدعي المدني يطرح الدعوى العمومية أمام المحكمة الاستئنافية على مثال تحريكها أمام محكمة أول درجة برفع الدعوى مباشرةً إليها، ولهذا ذكرت محكمة النقض أن أسبابها التي وضعتها لحكمها وإن كانت مخالفة لما قررته المحاكم إلا أنها تقضي إلى النتيجة العملية الواحدة وقالت إنه حكم بأن الاستئناف الذي يرفعه المدعي بالحق المدني عن حكم صادر بعدم الاختصاص يترتب (في حالة ما إذا كانت النيابة العمومية لم تستأنف الحكم) أن تنظر المحكمة الاستئنافية في الدعوى جميعها فتفصل في مسألة الاختصاص، وفي الموضوع أيضًا إذا ألغت الحكم المستأنف، ثم استشهدت بالفقرات (209) وما بعدها من تعليقات دالوز على المادة نمرة (202).

والمحقق أن القضاء الفرنسي لم يعترف لاستئناف المدعي بالحق المدني بأي أثر على الدعوى العمومية أمام المحكمة الاستئنافية سواء كان الحكم الابتدائي فاصلاً في موضوع الدعوى أم في مسألة فرعية، وإنما أوجب على المحكمة الاستئنافية إذا كان الحكم الابتدائي صادرًا في مسألة فرعية كالاختصاص ورأت إلغاءه – أن تطلب موضوع الدعوى برمته وتفصل فيه (évocation)، وذلك تطبيقًا لنص المادة (215) من قانون تحقيق الجنايات التي لا وجود لما يقابلها في قانوننا المصري لا كنتيجة لاستئناف المدعي بالحق المدني كما يقال.

ولذلك فإن هذا الواجب محتم عندهم على المحكمة الاستئنافية أيًا كان المستأنف سواء كان هو المدعي بالحق المدني أو المتهم أو النيابة (راجع بواتفان نوتة نمرة 74 على المادة 215).

وقد عنى القضاء الفرنسي بذكر هذا الأساس في كثير من أحكامه لعدم الخطأ في فهم علته (راجع حكم محكمة استئناف ليموج الصادر في 28 يوليه سنة 87 المنشور في مجلة دالوز الدورية سنة 89 – 1 – 222 وهو الذي أشير إليه في فقرة (211) من تعليقات دالوز على المادة (202) التي رجعت إليها محكمة النقض، ويراجع أيضًا قرار محكمة النقض والإبرام الفرنسية الصادر في 30 يناير سنة 85 دالوز الدورية سنة 85 جزء أول صحيفة 335). انظر الآن فيما فتح علينا به هذا الحكم من أبواب الخطأ في تطبيق القانون، نظرت محكمة النقض نظرة في القضاء الفرنسي فرأت أنه يقضي بجواز استئناف المدعي بالحق المدني وحده الأحكام الصادرة بعدم الاختصاص ورأت أنه يوجب على المحكمة الاستئنافية إذا ألغت الحكم المستأنف أن تطلب الموضوع وتفصل فيه برمته، فأرادت من غير أن تبحث في علة هذا القضاء أن تماشيها في ذلك، فقررت أن استئناف المدعي بالحق المدني يطرح الدعوى العمومية أمام المحكمة الاستئنافية (ولا نظن أنها كانت تقصد تقرير ذلك بصفة عامة)، أخذت محكمة طنطا هذا التقرير وطبقته على غير الصورة التي كانت تنظر فيها محكمة النقض، فعاقبت المحكوم ببراءته بحكم انتهائي لم تستأنفه النيابة واستأنفه المدعي بالحق المدني وحده فخالفت بذلك الإجماع هنا وهناك.
على أنه سيتبين للقارئ مما يأتي أن هذه الصورة التي صدر فيها حكم محكمة طنطا بعيدة عن الصور التي يجب أو يجوز للمحكمة الاستئنافية فيها طلب الموضوع والفصل فيه أيًا كان المستأنف.

تحديد سلطة المحكمة الاستئنافية

إن مسألة تحديد سلطة المحكمة الاستئنافية إذا كان الاستئناف مرفوعًا من المدعي بالحق المدني تعرض في صور مختلفة، فقد يكون الحكم الابتدائي صادرًا في موضوع الدعوى وقد يكون صادرًا في مسألة فرعية، وقد يكون الحكم صحيحًا شكلاً، وقد يكون باطلاً لعدم اتباع الإجراءات الواجبة قانونًا أو لمخالفتها.

فإن كان الحكم الابتدائي صادرًا في موضوع الدعوى ومن محكمة مختصة وكان صحيحًا في شكله ولم تحصل في الإجراءات أي مخالفة أو إهمال يستوجب البطلان وهي الصورة التي صدر فيها حكم محكمة طنطا الاستئنافية الذي أشرنا إليه وناقشنا أسبابه فلا خوف في أنه ليس لمحكمة الاستئناف إلا أن تتحقق من صحة الحكم أو عدم صحته موضوعًا في حدود الدعوى المدنية من غير أن تتقيد بما حكمت به محكمة أول درجة في الدعوى العمومية من حيث صحة الوقائع ونسبتها إلى المتهم ووصفها القانوني، فلها أن تحكم بإلغاء الحكم المستأنف أو بتعديله أو بتأييده فيما يتعلق بالحقوق المدنية فقط، لأن الحكم في الدعوى العمومية قد أصبح انتهائيًا بعدم استئناف النيابة أو المتهم له، ولم يذهب أحد من الفقهاء فيما نعلم إلى القول بإعطاء أي أثر لاستئناف المدعي بالحق المدني على الدعوى العمومية حتى في الجرائم التي لا يجوز للنيابة إقامة الدعوى العمومية فيها إلا بناءً على طلب المجني عليه كجريمة السب والقذف والصيد في ملك الغير في فرنسا بل حتى في جريمة الزنا (على رأي الفقهاء) – راجع في تفصيل الخلاف في جريمة الزنا بين الفقه والقضاء بواتفان فقرة (210) و(211) تعليقًا على المادة (202).

أما إذا صدر الحكم الابتدائي في موضوع الدعوى من محكمة غير مختصة كأن تكون الحادثة جناية أو جنحة من اختصاص محكمة الجنايات فالأصل في المسألة أنه يجب على المحكمة الاستئنافية أن تحكم بعدم اختصاصها بنظر الدعوى المدنية، لأنه ما دام لها كما قلنا الحق عند بحث الدعوى المدنية أن تفحص الوقائع وأن تعطيها وصفها الحقيقي القانوني مستقلة غير مقيدة بما حكم به انتهائيًا في الدعوى العمومية وجب أن تعترف لها بأحقيتها لإصدار الحكم بعدم الاختصاص (راجع قرار محكمة نقض وإبرام فرنسا الصادر في 25 نوفمبر سنة 83 وحكم محكمة باريس الاستئنافية الصادر في 23 فبراير سنة 883 دالوز الدورية سنة 83 – 2 – 115.
لكن العلامة بواتفان لاحظ بعد اعترافه بصحة هذا الأصل أن القواعد العامة توجب من جهة أخرى أن لا يعود الاستئناف على رافعه بالضرر، ولذلك رأى عملاً بالأمرين أنه يجب على المحكمة الاستئنافية أن تحكم بعدم اختصاصها إذا كان الحكم المستأنف صادرًا برفض التعويض ويكون للمدعي بالحق المدني عندئذٍ رفع دعواه المدنية بعد ذلك أمام المحكمة المدنية، وأنه يجب عليها أن تنظر في موضوع التعويض إذا كان الحكم المستأنف قد صدر بإلزام المتهم بتعويض قليل واستأنفه المدعي بالحق المدني طالبًا تعديله لأن المحكمة تكون في هذه الصورة أمام حكم انتهائي صادر في أساس المسؤولية والتعويض لصالحه (راجع بواتفان نوتة 216 على المادة 202).

ويقرب هذا الحل من الحل الذي اتبعه القانون المصري في صورة ما إذا رأت المحكمة الاستئنافية أن الواقعة جناية وكان الاستئناف مرفوعًا من المتهم فإنه لم يبح لها أن تصدر حكمها بعدم اختصاصها لما في ذلك من سوء العاقبة على المتهم المستأنف.

أما إذا صدر الحكم الابتدائي في موضوع الدعوى وكان مع ذلك باطلاً لعدم اتباع الإجراءات المفروضة قانونًا سواء كانت الإجراءات متعلقة بتقديم الدعوى وإعلان صحيفتها أو كانت متعلقة بتحقيقها والدفاع فيها أو بالحكم الصادر فيها كالبطلان الناشئ عن عدم إعلان الدعوى في ميعاد التكليف بالحضور وعن عدم حلف الشهود اليمين وعدم سماع بينة النفي الحاضرة والمساس بحرية الدفاع وعدم سماع طلبات النيابة وصدور الحكم ممن لم يسمع المرافعة من القضاة وخلو الحكم من الأسباب…. إلخ، فعلى المحكمة الاستئنافية بعد أن تحكم ببطلان الحكم والإجراءات أن تحكم في موضوع الدعوى المدنية بغير إحالة على محكمة أول درجة، لأن موضوع الدعوى قد خرج من يد محكمة أول درجة بفصلها فيه بالحكم المستأنف من جهة ولأن استئناف المدعي بالحق المدني قد نقل إلى المحكمة الاستئنافية موضوع الدعوى المدنية برمته من جهة ثانية ولأنه لا نص في القانون يوجب إحالتها على محكمة أول درجة في هذه الصورة ولأن لا ضرر في ذلك على حقوق المتخاصمين لحصول النظر فيها أمام درجتي القضاء، ولأن في العمل بغير ذلك بإحالة الدعوى إلى محكمة أول درجة للحكم فيها من جديد إضاعة الوقت بغير كبير فائدة.
فإذا كان الحكم الابتدائي صادرًا بعدم الاختصاص لأن الحادثة جناية أو صادرًا في مسألة فرعية أو في دفع فرعي أو في دفع موضوعي ففي مسألة نص في القانون الفرنسي لا يوجد مثله في القانون المصري.

في القانون الفرنسي:

كانت المادة (204) من قانون (3) بريمور سنة 4 توجب على المحكمة الاستئنافية إحالة القضية على محكمة أخرى ابتدائية إذا بطلت الحكم الابتدائي لإهمال الإجراءات الواجبة قانونًا أو لمخالفتها أو لعدم الاختصاص بسبب محل الجريمة أو محل المتهم وكان يجب على محكمة أول درجة التي تحال عليها القضية أن تسير فيها من آخر عمل وقع صحيحًا قبل دفوع البطلان وكان من شأن هذا النص أن تعود القضية إلى محكمة أول درجة في جميع هذه الأحوال فأراد الشارع الفرنسي تقليل إحالة القضايا من المحكمة الاستئنافية إلى محاكم أول درجة فأصدر قانون 29 إبريل سنة 1806 وأوجب بنص المادة الأولى منه على المحكمة الاستئنافية أن تفصل في الموضوع برمته إذا ألغت الحكم الابتدائي بسبب بطلان مترتب على مخالفة أو عدم اتباع للإجراءات.
وقد نشأ عن هذا الفسخ الجزئي إن بقي قانون (3) بريمو سنة 4 واجب الاتباع في صورة عدم الاختصاص.
بعد ذلك صدر قانون تحقيق الجنايات الحالي فنص في المادة (215) منه على أنه يجب على المحكمة الاستئنافية متى ألغت الحكم المستأنف لبطلان مترتب على مخالفة أو عدم اتباع للإجراءات أن تطلب الموضوع أمامها وتفصل فيه وقد رأت محكمة النقض والإبرام الفرنسية أن لا تقف عند حد هذا النص لم توجب طلب الموضوع والفصل فيه في الصور الواردة فيه فقط بل أوجبته سواء أكان الحكم الابتدائي المستأنف مع حصول مخالفة أو إهمال للإجراءات موجب للبطلان قد فصل في الموضوع أم لا.
بل حتى في صورة ما إذا لم يشتمل الحكم الابتدائي والإجراءات التي سبقته على أية مخالفة أو إهمال للإجراءات يستوجب البطلان وكان صادرًا في مسألة فرعية وكان سبب إلغاء الحكم الابتدائي مبنيًا على عدم صوابه موضوعًا (راجع فقرة نمرة 3048 من فوستان وهيلي جزء 6) كالحكم الصادر بإيقاف الدعوى لحين الفصل في مسألة ما من الجهة المختصة، وكالحكم الذي يصدر بعدم أحقية المتهم في توكيل من يحضر عنه للمرافعة في مسألة يجب الفصل فيها أولاً بل حتى في صورة ما إذا كان الحكم الابتدائي صادرًا لعدم الاختصاص المتعلق بموضوع الجريمة كعدم الاختصاص المبني على أن الواقعة جناية، وتقول محكمة النقض في تعليل ذلك إن إلغاء الحكم الابتدائي في هذه الصورة وإن كان لم يترتب على بطلان الحكم أو على إهمال أو مخالفة في الإجراءات استوجب البطلان إلا أنه لما كان صادرًا في مسألة فرعية هي الاختصاص وعدمه وحكم محكمة أول درجة فيها غير صحيح موضوعًا وجب على المحكمة الاستئنافية عند الحكم بإلغاء الحكم الابتدائي أن تطلب القضية من محكمة أول درجة وتفصل فيها قياسًا على الصورة المتقدمة.

وقد فند العلامة فوستان هيلي مذهب محكمة النقض المتقدم ذكره فقال إنه لا يشك في أن في طلب القضية والفصل فيها بمعرفة المحكمة الاستئنافية مرة واحدة تخفيفًا في المصاريف وتقصيرًا للمواعيد ولكنه يراه مع ذلك ضارًا لحرمان ذوي الشأن من أهم الضمانات التي أحاط بها الشارع المحاكمة أمام محاكم الجنح وهي إجراء التحقيق الابتدائي بمعرفة المحكمة الابتدائية ثم قال إن طلب القضية والفصل فيها بمعرفة المحكمة الاستئنافية يكون مقبولاً ومفيدًا إذا كانت محكمة أول درجة قد فصلت في الموضوع بحكم باطل لأن القضية تكون قد خرجت من يدها لفصلها فيها والاستئناف قد نقلها إلى قبضة المحكمة الاستئنافية، أما إذا لم تكن قد فصلت إلا في مسألة فرعية فليس من الصواب أن يقال إنها بفصلها فيها قد خرجت القضية من يدها – وبناءً على ذلك قال إنه ينبغي الوقوف بنص المادة (215) عند حده ما دام في الخروج عنه حرمان المتقاضين من أهم ضمانات المحاكم الجنائية وهي المحاكمة أمام درجتين من درجات القضاء (راجع فوستان هيلي 3049 الجزء السادس).

وينتج مما تقدم أنه ليس لمحكمة الجنح الاستئنافية عندهم أن تطلب موضوع الدعوى وتفصل فيه:
أولاً: إذا حكمت بتأييد الحكم المستأنف الصادر في المسألة الفرعية أو الدفع الفرعي.
ثانيًا: إذا ألغت الحكم المستأنف وحكمت بعدم اختصاص محكمة أول درجة بنظر الدعوى بسبب محل الجريمة أو محل إقامة المتهم.
ثالثًا: إذا ألغت الحكم المستأنف وحكمت بعدم اختصاصها لاعتبار الحادثة جناية أو جنحة من اختصاص محكمة الجنايات.
وأنه يجب عليها طلب الموضوع والفصل فيه إذا ألغت الحكم المستأنف وكان صادرًا في المسألة الفرعية أو الدفع الفرعي غير الدفع بعدم الاختصاص بالنسبة لمحل الجريمة أو لمحل المتهم سواء أكان صحيحًا شكلاً أم كان باطلاً وسواء أوقع بطلان في الإجراءات السابقة عليه أم لا بل ولو كان غير صواب موضوعًا.

ولا يشترطون في ذلك أن يكون الموضوع صالحًا للفصل فيه، وشرطهم الوحيد أن تحكم المحكمة الاستئنافية بإلغاء الحكم المستأنف وأن لا يمس طلب الموضوع بحق مكتسب بين الخصوم بصفة انتهائية (راجع فوستان هيلي 3050 جزء 6).

وكما وقع الخلاف بين الفقهاء وقضاء المحاكم في تحديد الصور التي تطلب فيها محكمة الاستئناف بعد إلغائها الحكم المستأنف الموضوع برمته لتفصل فيه كذلك وقع الخلاف بينهم في تحديد المراد بموضوع الدعوى إذا كان الحكم المستأنف فاصلاً فقط في مسألة فرعية ولم يرفع الاستئناف إلا من المدعي بالحق المدني.

فقضت المحاكم بأن الموضوع الذي تطلبه المحكمة الاستئنافية وتفصل فيه هو موضوع الدعوى العمومية والمدنية معًا وأنه يكون للمحكمة الاستئنافية متى ألغت الحكم المستأنف الصادر في المسألة الفرعية أن تحكم في موضوع الدعوة العمومية بالعقوبة وفي موضوع الدعوى المدنية بالتضمينات ولا يكون حكمها في الدعوى العمومية مبنيًا على حصول تحريكها باستئناف المدعي بالحق المدني بل نتيجة لطلب الموضوع والفصل فيه تطبيقًا للمادة (215) المتقدمة الذكر (راجع الأحكام الكثيرة المنشورة في فقرة نمرة 62 من تعليقات الأستاذ بواتفان على المادة 215)، وقد جاء في أسباب حكم محكمة النقض والإبرام الفرنسية الصادر في 28 مايو سنة 1851 أنه لا وجه لتضرر المتهم من الحكم عليه بالعقوبة لأن محكمة أول درجة لم تفصل في الدعوى العمومية وهي لم تسقط بعدم استئناف النيابة الحكم الصادر في المسألة الفرعية وقد ترتب على إلزام محكمة الاستئناف بطلب الموضوع برمته والفصل فيه أن يسمح للنيابة بنقل الدعوى العمومية لها لتفصل فيها مع الدعوى المدنية.

ويرى فوستان هيلي أن لا يكون لمحكمة الاستئناف إلا طلب الدعوى المدنية فقط والفصل فيها لأنه مع اعترافه بعدم سقوط الدعوى العمومية لا يرى أن استئناف المدعي بالحق المدني وهو لا يقبل منه إلا بالنسبة لحقوقه المدنية فقط وليس من شأنه إلا أن ينقل أمامها موضوع هذه الدعوى فقط يكون له أي أثر على الدعوى العمومية فينقلها إلى المحكمة الاستئنافية (راجع فوستان هيلي نوتة نمرة 3051 الجزء السادس).

القانون المصري:

هذا هو حل المسألة في الفقه والقضاء في فرنسا، أما في مصر فقد خلا قانون تحقيق الجنايات من نص كنص المادة (215) السالفة الذكر.

ونظن أنه مهما كان لطلب موضوع الدعوى بمعرفة محكمة الاستئناف وفصلها فيه من فوائد إنهاء القضايا على وجه السرعة لا ينبغي متابعة الفقه والقضاء الفرنسيين وإلزام محكمة الاستئناف بطلب موضوع الدعوى والفصل في الدعويين المدنية والعمومية في جميع تلك الصور التي أوردناها.

أولاً: لأن حق المحكمة الاستئنافية في طلب الموضوع والفصل فيه هو حق استثنائي ينبغي النص عليه صراحةً وقد أجازه الشارع في القضايا المدنية والتجارة بالقيود الواردة في المادة (370)، (371) مرافعات ومن الراجح أن الشارع المصري – وقد نقل جميع القواعد الخاصة بالدعوى المدنية والعمومية نقلاً يكاد يكون تامًا عن القانون الفرنسي – تعمد مخالفة الشارع الفرنسي فلم ينقل عنه حكم المادة (215) ولعله وازن بين ما يترتب على إحالة القضايا من محكمة الاستئناف إلى محاكم أول درجة من إطالة زمن المحاكمة وما يترتب على طلب الموضوع بمعرفة محكمة الاستئناف للفصل فيه برمته من حرمان المتقاضين من نعمة التقاضي أمام محكمتين ومن إجراء التحقيق الابتدائي بمعرفة محكمة أول درجة فرجحت عنده هذه الكفة فضرب صفحًا عن نقل المادة (215) لتجرى على أحكام الاستئناف قواعد القانون العام.

وثانيًا: لأن الفقه والقضاء الفرنسيين لم يجيزا لمحكمة المخالفات المستأنفة اتباع نص المادة (215) لاعتباره نصًا خاصًا بالجنح وإنما أجازوا لها اتباع القواعد الواردة في هذا الباب في قانون المرافعات ونوهوا على الفرق بين الأمرين فقالوا إن طلب الموضوع والفصل فيه بمعرفة محكمة الجنح المستأنفة هو إجباري بنص المادة (215)، أما طلب الموضوع والفصل فيه بمعرفة محكمة المخالفات المستأنفة فيكون اختياريًا كما هو في المسائل المدنية وبشرط صلاحية الموضوع للفصل فيه حالاً عند الحكم بإلغاء الحكم المستأنف (راجع بواتفان نوتة 76 و77 تعليقًا على المادة 215).

ولا شك أنه ما دام فقهاؤهم وقضاتهم لا يجيزان لمحاكمهم اتباع نص المادة (215) في المخالفات بناءً على أنه نص استثنائي فلا يجوز لنا من باب أولى أن نتابعهم في العمل بهذا النص وعلى نحو ما سار عليه قضاؤهم فيه.

لم يبقَ بعد ذلك إلا أن نختار بين أمرين:
أما أن نعمل بنص المادتين (370) و(371) من قانون المرافعات على حكم وجوب العمل بقانون المرافعات في كل ما لا نص فيه في قانون تحقيق الجنايات فنجيز لمحكمة الجنح المستأنفة أن تطلب الموضوع وتفصل فيه في حدود المادتين المذكورتين وبالشروط الواردة فيهما.
وأما أن لا نعمل بهما ونحرمه عليها للاعتبارات المتقدم ذكرها، وإذا اخترنا العمل بنص المادتين المذكورتين فيكون طلب الموضوع والفصل فيه حقًا لمحكمة الاستئناف لا واجبًا كما هو في فرنسا، ولا يجوز لها إلا إذا كان الحكم المستأنف تمهيديًا أو صادرًا في دفع يتعلق بعدم الاختصاص أو بطلب إحالة الدعوى لمحكمة أخرى بسبب إقامة الدعوى بها أو دعوى أخرى مرتبطة بتلك الدعوى وبشرط أن ترى الحكم بإلغاء الحكم المستأنف وأن يكون الموضوع صالحًا للفصل فيه، وأن تفصل فيه مع الأمر المستأنف بحكم واحد ويحرم عليها طلب الموضوع والفصل فيه إذا كان الحكم المستأنف صادرًا في مسألة فرعية أخرى أو في دفع موضوعي سواء أكان الحكم صحيحًا شكلاً أم لا، وسواء أكان إلغاؤه لبطلان الإجراءات أم لعدم صحته موضوعًا.

وقد أخذت محكمة، الإسكندرية الاستئنافية بهذا الرأي الأول في الحادثة الآتية:

قدمت النيابة لمحكمة الجنح الجزئية بعض العساكر بتهم استعمال القسوة فقط على شخص مات شنقًا بالسجن ولم تهتدِ إلى من جنى عليه جناية القتل، فادعى ورثة المجني عليه بحق مدني وطلبوا الحكم بعدم اختصاص محكمة الجنح لأن الواقعة جناية، فضمت المحكمة الدفع على الموضوع وسمعت شهادات الشهود والدفاع فيه ثم حكمت بعدم الاختصاص، فاستأنفت النيابة والمتهمون هذا الحكم فألغته محكمة إسكندرية الاستئنافية وحكمت في الموضوع بالعقوبة وبالتعويض المدني وقالت في أسباب حكمها وحيث إن التحقيقات الكثيرة والمرافعات الطويلة وشهادة الستة والأربعين شاهد التي حصلت في الموضوع أمام محكمة أول درجة قد جعلت هذه الدعوى صالحة للحكم في الموضوع فطلبًا للسرعة ومنعًا لزيادة التعقيدات ترى المحكمة إجابة طلب النيابة وأن تحكم في جنحة القسوة طبقًا للمادتين (370)، (371) من قانون المرافعات المعمول بهما في المواد المدنية والجنائية جميعًا فرفع المتهمان طلبًا بنقض هذا الحكم فرفضته محكمة النقض بحكمها الصادر في 5 نوفمبر سنة 98 وقالت إن المتهمين أكملوا دفاعهم في تهمة القسوة بعد ضم الدفع بعدم الاختصاص على الموضوع ثم عند نظر الدعوى أمام محكمة الإسكندرية بصفتها محكمة استئنافية قد تم فيها الدفاع عن الفرع والموضوع وأن المقصود قانونًا هو نظر الدعوى في درجتين وليس من الضروري أن يكون الحكم الأول صادرًا في الموضوع الذي كان مطروحًا أمامه بل يكفي المرافعة وحينئذٍ للمحكمة الثانية أن تحكم بصفة استئناف في الموضوع متى كان صالحًا للحكم إلخ (راجع القضاء سنة سادسة صحيفة 4)، ويظهر من مطالعة هذا الحكم أن محكمة النقض والإبرام ترى جواز طلب الموضوع والفصل فيه بشرط واحد هو صلاحية الموضوع للفصل فيه ومعنى صلاحيته عندها أن تتم المرافعة فيه أمام محكمة أول درجة والمحكمة الاستئنافية، وعلى هذا قررت في حكمها الصادر في 22 يناير سنة 98 (القضاء سنة 98 صـ 123) أنه إذا رأت محكمة الاستئناف عند تعديلها حكمًا صادرًا من محكمة ابتدائية بأن الدعوى العمومية لم تسقط وجب عليها أن تحكم في الموضوع وأن لا تحول الدعوى على محكمة أول درجة، وقالت في أسبابها (إنه طالما أن المحكمة الابتدائية حكمت في القضية فصار من الواجب على المحكمة الاستئنافية ن تحكم في موضوعها دون أن تحيلها على المحكمة الابتدائية أن أن تحكم في موضوعها دون أن تحيلها على المحكمة الابتدائية).

ويظهر أن محكمة النقض اعتبرت الحكم الصادر بسقوط الدعوى حكمًا صادرًا في موضوع الدعوى خرجت القضية كلها به من سلطة محكمة أول درجة، وإن جاز اعتباره حكمًا صادرًا في دفع موضوعي فقط وإذا اعتبر كذلك يكون طلب الموضوع والفصل فيه على حكم الوجوب لا يتمشى مع الأصل الذي قدمناه وهو جوازه في حدود المادتين (370)، (371) من قانون المرافعات.

ويظهر أن محكمة النقض والإبرام عدلت عن هذا الرأي وأخذت بالرأي الثاني في حكمها الصادر في 20 إبريل سنة 918 (المجموعة الرسمية السنة التاسعة عشرة صحيفة 123)، فنقضت حكم المحكمة الاستئنافية الصادر ببراءة المتهم وإلغاء الحكم المستأنف الصادر بإيقاف الفصل في تهمة خيانة الأمانة حتى تفصل المحكمة المدنية في دعوى الحساب المرفوعة أمامها بناءً على أن المحكمة الاستئنافية تجاوزت حدود سلطتها بفصلها في موضوع الدعوى لأن في نظر المحكمة الاستئنافية الموضوع لأول مرة حرمانًا للخصم من نظرها أمام درجتين، ولا يوجد نص يبيح ذلك في قانون تحقيق الجنايات المصري ولا يمكن الحكم فيه بطريق القياس على ما جاء بالمادة (370) مرافعات لأن هذه المادة جاءت استثناءً للقاعدة العامة ولأن الشارع المصري لم يشأ متابعة القانون الفرنسي فلم ينقل عنه نص المادة (215) إلخ.

وكان من السهل لو قبلت محكمة النقض العمل بنص المادة (370) أن تصل إلى النتيجة التي وصلت إليها لأن طلب الموضوع والفصل فيه في هذه الصورة غير جائز لأن الحكم المستأنف لم يكن فاصلاً في أحد الدفوع الثلاثة المبينة في المادة (370) مرافعات بل هو حكم فاصل في مسألة فرعية موضوعية لا يجوز طلب الموضوع والفصل فيه عند الحكم بإلغائه أمام المحاكم المدنية.

ولم نرَ لمحكمة النقض والإبرام بعد ذلك إلا الحكم الصادر في 24 يناير سنة 920 الذي ناقشناه فيما تقدم من القول وهو كما يتذكر القارئ يقرر أن الاستئناف المرفوع من المدعي بالحق المدني يطرح أمام المحكمة الاستئنافية الدعوى المدنية والجنائية وأنها إذا فصلت فيهما فعلى هذا الاعتبار لا على جواز طلب الموضوع بحق ممنوح للمحكمة الاستئنافية أو اتباعًا لواجب مفروض عليها.
ونظن أنه قد يكون من الصواب عند تحقق المصلحة وعدم الضرر بالدفاع وبحقوق المستأنف أن يجيز لمحكمة الاستئناف أن تتبع القواعد الواردة في المادتين (370)، (371) من قانون المرافعات وبشروطهما ولا شك أنه متى كان الموضوع صالحًا للفصل بإتمام الدفاع فيه أمام محكمة أول درجة وأمام المحكمة الاستئنافية على الوجه الأكمل لم يبقَ محل للتضرر من الحكم فيه بمعرفة المحكمة الاستئنافية وإن لم تكن محكمة أول درجة قد حكمت فيه من قبل.

ونظن أنه متى قبل مبدأ الموضوع بمعرفة المحكمة الاستئنافية والفصل فيه في حدود المادتين (370)، (371) يكون المراد بالموضوع موضوع الدعوى المدنية والجنائية بشرط أن لا يمس ذلك حقًا مكتسبًا بين الخصوم بصفة انتهائية فيكون لمحكمة الجنح المستأنفة أن تحكم بإلغاء الحكم المستأنف الصادر بعدم الاختصاص (لأن الحادثة جناية أو الصادر بإحالة الجنحة إلى محكمة الجنايات)، وأن تحكم بالعقوبة وبالتعويض متى كان الموضوع صالحًا للفصل فيه – ويكون لها كذلك أن تلغي الحكم التمهيدي وتحكم بالعقوبة ولو كان المستأنف هو المدعي بالحق المدني وحده ولا تمتد سلطة لمحكمة الاستئناف على الدعوى العمومية في هذه الصور بناءً على استئناف المدعي بالحق المدني وإنما على حكم القانون الذي أجاز طلب الموضوع والفصل فيه في الحدود القانونية.

ويتلخص مما تقدم:

أولاً: أن ليس لاستئناف المدعي بالحق المدني أي أثر على الدعوى العمومية أمام المحكمة الاستئنافية وأنه لا سلطة للمحكمة الاستئنافية على الدعوى العمومية عند حصول الاستئناف من المدعي بالحق المدني وأنه لا يكون لها هذه السلطة إلا عند طلب الموضوع والفصل فيه في الصورة الجائزة فيها قانونًا وأنه لا سبيل مطلقًا للمحكمة الاستئنافية إلى معاقبة المتهم المحكوم ببراءته متى كان المستأنف هو المدعي بالحق المدني وحده وأن الحكم بذلك لا أساس له في القانون الفرنسي ولا في القانون المصري.

حامد فهمي
المحامي