توضيح قانوني لاثر القضاء على حرية الاعلام

د. احمد فتحى سرور
استاد القانون الجنائي

الأصل أنه لا يجوز تقييد حرية الإعلام حتي يظل عطاؤها متدفقا دون انقطاع‏,‏ فقد أكدت المحكمة الدستورية العليا أن الطريق إلي السلامة القومية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح‏.

ومن ثم كان منطقيا‏,‏ بل أمرا محتوما‏,‏ أن ينحاز الدستور إلي حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشئون العامة‏,‏ ولو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام‏,‏ إذ لا يجوز لأحد أن يفرض علي غيره حكما‏,‏ ولو كان معززا بالقانون‏,‏ لأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل ولحرية الإبداع والخيال‏,‏ وهو في كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه‏,‏ مما يعزز الرغبة في قمعها‏,‏ ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها‏,‏ مما يهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره‏,‏ كما أكدت المحكمة الدستورية العليا أن الدستور كفل للصحافة حريتها‏,‏ متوخيا دوما أن يكرس بها قيما جوهرية‏,‏ يتصدرها أن يكون الحوار بديلا عن القهر والتسلط‏,‏ ونافذة لإطلال المواطنين علي الحقائق التي لا يجوز حجبها عنهم‏,‏ ومدخلا لتعميق معلوماتهم‏,‏ وأن الصحافة تكفل للمواطن دورا فاعلا‏,‏ وعلي الأخص من خلال الفرص التي تتيحها له للتعبير عن الآراء التي يؤمن بها‏,‏ ويحقق بها تكامل شخصيته‏,‏ فلا يكون سلبيا منكفئا وراء جدران مغلقة‏,‏ أو مطاردا بالفزع من بأس السلطة وعدوانيتها‏.‏
العلاقة بين الإعلام والقضاء‏,‏ يجب أن تكون تكاملية‏,‏ فمن خلالها يستطيع الإعلام نشر معلومات محايدة تتعلق بنشاط المحاكم‏,‏ فتسهم في شفافية أداء القضاء دون التأثير في مجرياته‏,‏ وهو ما يدعو إلي توفير ما يسمي بالإعلام القضائي الذي يجب أن يتسم بالمعرفة الواسعة بالمعلومات القانونية والقضائية‏,‏ فالإعلام من ناحية يكشف الانحرافات‏,‏ فإذا ما عرضت علي القضاء يعمل عليها حكم القانون‏.‏
وانطلاقا من ذلك فإن القضاء يرد عن الصحافة كل عدوان عليها‏,‏ وكل نيل من حقوقها أو حريتها‏,‏ فلا يتأتي لأحد أيا كان هواه أو مبتغاه أو لأية جهة أيا كان شأنها أو مرامها أن تتدخل في أمورها بما يوهن عزائم رجالها‏,‏ إما اعتداء أو إرغاما أو ترغيبا أو ترهيبا‏.‏

(1)‏ التدخل في حسن سير العدالة أمام المحكمة‏:‏

ويبدو خطر هذا التأثير عند نشر الوقائع القضائية سواء قبل المحاكمة أو أثناءها‏,‏ ونظرا لما تتمتع به الصحافة ووسائل الإعلام الأخري من حرية واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية برز التناقض بين الإعلام والقضاء‏,‏ مما أثار جدلا كبيرا بين رجال القضاء والمحاماة‏.‏
وفي هذا الصدد رفض بعض قضاة المحكمة بعض قضاة المحكمة العليا الأمريكية إصدار أمر بحظر النشر علي أساس أن الحق في المحاكمة العادلة يمكن توفيره من خلال تدابير أخري علي أساس أن السرية قد تضر أكثر من العلانية‏,‏ هذا بينما سمح البعض الآخر بحظر نشر الوقائع قبل المحاكمة إذا كان من شأن النشر أن يترتب عليه إلحاق ضرر وطني محتمل بسبب العلانية‏,‏ إلا أن المحكمة العليا قضت بأن الأمر بعدم النشر قد يصدر لحماية الخصوم من سوء استخدام ما تم اكتشافه من وقائع‏,‏ ولا يتناقض القضاء الذي أجاز عدم النشر مع قضاء المحكمة العليا الأمريكية بأن علانية المحاكمات الجنائية تنبع من اهتمام الجمهور برؤية تطبيق قانونهم الجنائي‏,‏ لأن هذه المحكمة أجازت تقييد ضمان العلانية من أجل ضمان قيمة أعلي‏.‏ وقد قضت المحكمة العليا في كندا سنة‏2001‏ وسنة‏2005‏ بأن الأمر بعدم النشر لا يجوز اتخاذه إلا إذا كان ضروريا لاستبعاد خطر جسيم علي حسن إدارة العدالة‏,‏ وأن تكون الآثار المترتبة علي هذا المنع أكثر فائدة من تلك التي أضرت بحرية التعبير‏,‏ وذهبت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنه إذا كانت وسائل الإعلام ملزمة بعدم تخطي الحدود المفروضة لعدم المساس بحسن إدارة العدالة‏,‏ فإن من حقها إطلاع الجمهور علي المعلومات المتصلة بمسائل تعرفها المحاكم كلها‏,‏ ومن بينها ما يتعلق بالقضية المعروضة أمام المحكمة‏.‏

(2)‏ المساس بقرينة البراءة‏:‏

وحماية لقرينة البراءة من حظر النشر الإعلامي صدر في‏15‏ يونيو سنة‏2000‏ في فرنسا قانون حول قرينة البراءة وبمقتضاه أضيفت مادة تمهيدية لقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي تؤكد علي قرينة البراءة‏,‏ وضمانات المحاكمة العادلة‏,‏ وبناء علي ذلك حظر نشر أي تعليق باستفتاء حول إدانة شخص أثناء محاكمة جنائية أو مدنية‏,‏ وأسست محكمة النقض الفرنسية قضاءها بإدانة صحفي علي مخالفة سرية التحقيق حكما في‏19‏ يونيو سنة‏2001‏ وقضاءها بإدانة إعلامي نشر في التليفزيون تقريرا يفيد القطع بإدانة المتهم حكما في‏20‏ يونيو سنة‏2002‏ علي أن ذلك يعتبر مساسا بقرينة البراءة‏.‏

واستقر قضاء محكمة النقض الفرنسية بعدم وقوع جريمة التأثير في القضاء لمجرد النشر العلني تعليقا قبل صدور حكم نهائي في الدعوي مادام التعليق لا يهدف إلي ممارسة ضغط علي أقوال الشهود أو قرار سلطة التحقيق أو الحكم والواقع أنه لا يحق لصحفي أو إعلامي أيا كان أن يملك دور القاضي لتوجيه سير المحاكمة‏,‏ فالإعلامي الذي يسعي إلي جذب أنظار أكبر عدد من جمهور القراء أو المشاهدين يعتمد علي معلوماته الشخصية بخلاف القاضي الذي يمتنع عليه الحكم بناء علي هذه المعلومات‏,‏ بل يتعين عليه التقيد بما جاء في أوراق الدعوي بعد إتاحة مناقشتها أمام الخصوم في مرافعة شفوية‏,‏ وإذا كانت إثارة العواطف واستخدام المانشتات اللافتة للنظر هي أفضل وسيلة لجذب اهتمام القراء أو المشاهدين‏,‏ فإن ذلك ليس هو الشأن في المحاكمات الجنائية‏,‏ وإذا كان من غير المطلوب من وسائل الإعلام أن تمحص ما تعرضه من وقائع أو أن تعرض أسبابها بالعقل والمنطق‏,‏ فإن ذلك أمر مطلوب‏,‏ وواجب علي المحكمة التي يتعين عليها ألا تصل إلي الإدانة إلا باليقين المطلق‏,‏ وأن تسبب حكمها بالعقل والمنطق‏,‏ ويخضع تسبيبها لرقابة محكمة أعلي وفق ضوابط ومقاييس صارمة‏,‏ ودقيقة لا تعرفها وسائل الإعلام التي تستخدم في النشر لغة لا يعرفها القضاء‏.‏

وعلي هذا النحو فإن علاقة الديمقراطية بالإعلام والقضاء تبدو مختلفة في قيمة كل منهما وثقله ودوره‏,‏ وإن تكاملا الاثنان تحققت الديمقراطية‏.‏

‏(3)‏ التأثير في مكافحة الجريمة وضبط الجناة وتعطيل العدالة‏:‏

وهو ما يتطلب أن يكون كاتب التعليق أمينا في عرضه‏,‏ ولو كان من وجهة النظر الشخصية لصاحبه‏,‏ وأن يكون كاتبه حريصا حسن النية في بيان مضمون الحكم وأسانيده دون مسخ أو تشويه‏,‏ إن التعليق الأمين الحريص لصاحبه من شأنه أن يثري الحوار القانوني حول الأسس التي بنيت عليها الأحكام القضائية‏,‏ وصولا إلي إثراء العلم القانوني‏,‏ وهذا بخلاف التعليق الساخر الذي يهدف إلي هز الثقة في القضاء‏,‏ والذي يبدو في تغييب الحكم بسبب أمور ترجع إلي شخص القاضي أو تمس اعتباره أو نزاهته‏.‏
أما أعمال القاضي القضائية‏,‏ فهي ليست بمنجاة من النقد الإعلامي أو العلمي مادام بمقاييس القانون وتقاليد القضاء‏.‏
وإعمالا للتوازن بين حرية الإعلام ــ ومنها حرية الصحافة ــ وكل الحقوق المتصلة بحسن سير العدالة‏,‏ والتي تقوم أساسا علي الحق في التقاضي‏,‏ والحق في المحاكمة العادلة‏,‏ والحق في استقلال القضاء وحياده‏,‏ ومبدأ الأصل في المتهم البراءة‏,‏ يتكفل المشرع بإقامة تناسب منطقي بين هذه الحقوق والحريات‏,‏ فلا يجوز التضحية بحسن سير العدالة حتي لا تهتز الثقة بالقضاء‏,‏ والتي يتوقف عليها إحساس الناس بالأمن والطمأنينة والاستقرار‏,‏ ولهذا قيل بحق إن القاضي هو الحارس الطبيعي للحريات‏,‏ كما أنه في الوقت ذاته لا يجوز التضحية بحرية الإعلام ــ ومنها حرية الصحافة ــ باعتبارها مدخلا لكثير من الحريات وأساسا من أسس الديمقراطية‏,‏ وفي هذا المعني قضت المحكمة العليا الكندية بأن العلانية يجب أن تتناسب مع حسن سير العدالة‏,‏ مما يعطي عند الحد من علانية المحاكمة سلطة تقديرية في اختيار الوسيلة المؤدية إلي حسن سير العدالة بأن تكون لها علاقة منطقية بهدف إرساء حسن سير العدالة دون مبالغة‏.‏

تجريم التأثير في القضاء

والواضح من هذه الجريمة أنها تنطوي علي حماية جنائية لحسن سير العدالة‏,‏ إذ يمتد التجريم إلي كل ما يمس ذلك سواء كان فعل التأثير موجها إلي القاضي أو إلي المحقق أو إلي الشاهد أو إلي الرأي العام‏,‏ ويرجع العقاب علي التأثير في الرأي العام‏,‏ لأنه يتكون من التحقيقات أو المحاكمات الصحفية أو التليفزيونية التي يديرها الإعلام بصدد قضية معينة مطروحة علي قضاء الحكم أو التحقيق‏,‏ فهذه المحاكمات‏,‏ وما يتعلق بها من قيام الإعلاميين بإجراء تحقيق مواز للواقعة والانتقال إلي مكانها‏,‏ وسؤال الشهود أو غيرهم علي نحو معين لإيجاد انطباع معين لدي الرأي العام‏,‏ كل ذلك يولد تأثيرا سلبيا علي القضاء بإيجاد ضغط من الرأي العام علي القضاء مما يؤثر في استقلاله وحياده‏,‏ أو بإضعاف ثقة الرأي العام في القضاء إذا ما جاء حكمه مغايرا للانطباع الذي أحدثه التحقيق الصحفي أو المحاكمة الصحفية‏.‏

ومفاد ذلك أن المشرع وضع حدودا علي حرية الإعلام ــ ومنها حرية الصحافة ــ علي نشر موضوع الشكوي أو نشر الحكم في الدعاوي التي لا يجوز إقامة الدليل علي الأمور المدعي بها مثل القذف في حق الأفراد باعتبار أن إقامة الدليل علي الأمور المدعي بها مقصور علي المادة‏2/302‏ عقوبات التي أباحت الطعن في اعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة إذا حصل بسلامة نية‏,‏ وكان متعلقا بأعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة‏,‏ وبشرط أن يثبت المتهم حقيقة كل فعل أسنده إلي المجني عليها‏,‏ وبناء علي ذلك فإن ما تتناوله وسائل الإعلام من نشر موضوع شكوي ضد أحد الأفراد باتهامه بالقذف في حق آخر أو نشر الحكم الصادر بشأن هذه الشكوي لا يعتبر فعلا مباحا‏,‏ بل يقع تحت طائل العقاب ما لم يكن هذا النشر قد حصل بناء علي طلب الشاكي أو بإذنه‏,‏ ولا يحول دون ذلك علانية الحكم الصادر في شأن موضوع الشكوي أو علانية إجراءات المحاكمة التي تمت بشأن هذه الشكوي‏,‏ فهي علانية محصورة في قاعة المحكمة‏,‏ ولا يجوز أن تمتد إلي الجمهور بطريق النشر إلا بناء علي طلب الشاكي أو بإذنه المادة‏2/189‏ عقوبات‏.‏

فإذا كان النشر غير دقيق مما يكشف عن عدم الأمانة‏,‏ فإنه تم بحسن النية لا تقوم الجريمة دون إخلال باعتبار الفعل عملا ضارا يستوجب التعويض‏.‏
ومسألة سوء النية من المسائل الدقيقة في الإثبات‏,‏ ومن الأمثلة الدالة علي توافره وفقا لقضاء محكمة النقض الفرنسية نشر حكم في وقت غير معاصر له خارج مجال البحث العلمي والتاريخي أو الأدبي‏,‏ أو إذا كان النشر للإساءة إلي أحد المرشحين في الانتخابات‏,‏ أو لصق حكم علي متهم في مكان عام مرفق به تعليق مغرض ضد المتهم‏,‏ ونشر دفاع أحد طرفي الدعوي مع تسطير بعض العبارات التي تحتوي علي قذف ضد الطرف الآخر بلون مختلف يمثل عرضا غير أمين دون توافر حسن النية‏.‏
و فيما تقدم من مختلف جوانب العلاقة بين الإعلام والقضاء‏,‏ يتأكد وجوب التوازن حماية لحرية الإعلام ــ ومنها حرية الصحافة ــ وحماية القضاء‏,‏ وسائر ضماناته الدستورية‏.‏