الطلاق الصريح والطلاق الكنائي

الطلاق الصريح:

هو ما كان بلفظ الطلاق وما تصرف منه، وأضاف الحنابلة والشافعية لفظتيْ السراح والفراق؛ لما ثبت من ذكرهما في كتاب الله -عز وجل- فجعلوا أن ألفاظ الطلاق مع السراح والفراق هذه الألفاظ صريحة في إفادة الطلاق، ولا يتوقف وقوع الطلاق بهذه الألفاظ على نيَّة اللافظ، فإذا تلفظ الإنسان بلفظة الطلاق، أو الفراق، أو السراح؛ كان ذلك متعينا في إيقاع الطلاق بلفظه من غير حاجة إلى سؤاله عن نيته.

وهذا بخلاف الطلاق الكنائيّ؛ أي كناية الطلاق، فهي ألفاظ ليست صريحة في إرادة الطلاق، ولكنها تكون مُوقِعة للطلاق، أو يقع بها الطلاق إذا انضمت إليها نية المطلق، يعني إذا قال لزوجه: الحقي بأهلك ينوي طلاقها؛ فهي طالق، ولو قال لها: أنت بريَّة، و: أنت خليَّة، و: حبلكِ على غاربك، ونحو ذلك من الألفاظ يريد بها طلاقها؛ فإن طلاقها يقع.

على كل حال الكنائي يشترط لوقوع الطلاق به نيةُ الطلاق.

إذن هذا هو الطلاق الصريح، وهو ما كان بلفظ الطلاق، والفراق، والسراح، وما تصرف من لفظ الطلاق، والكنائي بألفاظ أخرى تفتقر إلى نيةٍ لإيقاع الطلاق بها.

والرجعي: هو ما يملك فيه الزوج الرجعة على زوجته، هذا هو الطلاق الرجعي؛ كأن يطلقها طلقة واحدة، وتبقى في العدة؛ فهي في حال عدتها له أن يردها إلى عصمته مرة أخرى من غير أن يتوقف ذلك على رضاها، ولا اختيارها، ولا يتوقف هذا أيضا على عقد جديد، أو مهر جديد.

أما الطلاق البائن؛ فلا يملك فيه الرجل رجعتها، وهو ما يكون بعد استيفاء الطلاق الثلاث، يعني في الطلقة الثالثة من طلقات ثلاث متفرقات يثبت أن هذا الطلاق بائن، وكذا لو كان الطلاق على مال، وكذا لو كان الطلاق قبل الدخول؛ فإن ذلك –كلَّه- يقع طلاقا بائنا لا يملك فيه الرجل الرجعة على زوجته، حتى يكون يعقد عليها بعقد ومهر جديدين.

وفي حال ما إذا طلقها وقد استوفت طلاقها ثلاث طلقات؛ فإنه لا يحل له نكاحها حتى تتزوج غيره فيطلقها بعد أن يقع البناء، فإذا طلقها عندئذ؛ جاز له أن يردها بعقد ومهر جديدين.

طلاق السنة: هو أن يطلق الرجل المرأة طلقة واحدة، أن يطلقها طلقة واحدة طاهرا في طهر لم يمسها فيه، أو حاملا قد استبان حملها.

إذن طلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة وهي طاهر في طهر لم يمسها فيه، أو أن يطلقها حاملا قد استبان حملها، هذا هو طلاق السنة.

طلاق البدعة: أن يطلقها حائضا، أو في طهر جامعها فيه، هذا هو طلاق البدعة، ولا يجوز له أن يجمع لها الطلاق الثلاث دفعةً واحدةً بلفظ واحد في مجلس واحد، فهذا –أيضا- من المخالفة في أمر الطلاق.

والطلاق ينقسم أيضا إلى: مُنَجَّزٍ، ومُعَلَّقٍ ومضاف إلى مستقبل، فالمنجز ما لم يكن على شرط، ولا مضافا إلى زمن يقع في المستقبل؛ أي قُصِدَ به إيقاع الطلاق في الحال، هذا يسمى طلاقا منجزا.

وأما المعلق؛ فهذا ما جعل الزوج الطلاق معلقا على شرط، هذا الشرط قد يكون من فعلها فإن فعلت؛ وقع الطلاق، أو لا يكون من فعلها من فعل غيرها، فإن وقع؛ وقع الطلاق، أو يكون مضافا إلى المستقبل، والمستقبل يعني إلى زمن، وقد يكون الزمن مما يأتي لا محالة؛ كأن يقول لها: إذا جاء أول الشهر مثلا؛ فأنت طالق، أو: إذا جاء العيد؛ فأنت طالق، وما أشبه، فهذا زمان سيأتي لا محالة، فهذا الطلاق فيه واقع.

إذن الطلاق إما أن يكون منجزا، أو معلقا على شرط، أو مضافا إلى زمن في المستقبل، هذا من حيث الإضافة والتعليق ونحو ذلك.

فهذه بعض مصطلحات تَمَسُّ الحاجة إلى معرفتها ونحن نبحث في باب الطلاق، لننتقل إلى شرح حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- وهو الحديث الذي صَدَّرَ به المصنف كتاب الطلاق، وهو: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه طَلَّقَ امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فَتَغَيَّظَ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل) وفي لفظ: (حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيه)، وفي لفظ: (فَحُسِبَتْ من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وهذه الإضافات عند مسلم دون البخاري.

ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- في هذا الحديث ارتكب مخالفة = ارتكب نهي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن طلق زوجته حائضا، فجاء بطلاق ما اسمه؟

الطلاق البدعي.

فذكر عمر -رضي الله تعالى عنه- هذا لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فغضب رسول الله من فعل ابن عمر، غضب من فعله؛ حيث طلق حال الحيض، ثم إن عمر سأل نبينا -صلى الله عليه وسلم- ماذا يفعل؟ قال: (مره فليراجعه)؛ أي أمره بأن يأمر ابنه أن يراجعها، أن يراجع امرأته التي طلق، ثم يمسكها حتى تطهر من ذلك الحيض، ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ طلق، وإن شاء؛ أمسك، يعني هو بالخيار بعد هذا الأجل، وإن شاء أن يسرحها؛ فلا حرج، فراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واحتسبت تلك الطلقة الواقعة في الحيض بتطليقة، هذا هو المعنى الإجمالي لهذا الحديث.

قوله: (أنه طلق امرأته وهي حائض): هذه المرأة هي آمنة بنت غِفَار، وقيل: إن اسمها النوار، وهذا قد يُجمع بينه وبين الأول بأن اسمها آمنة بنت غفار، وتلقب بالنوار، وقد ورد أنه طلقها وهي في دمها حائض، طلقها وهي في دمها حائض، وفي أخرى: أنه طلقها في حيضها، والمعاني في ذلك متقاربة، فذكر ذلك أي ذكر بذلك عمر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويبدو أن المرأة المطلقة هي تلك التي أمر عمر -رضي الله تعالى عنه- ابنه بطلاقها، وهي التي مَرَّ ذكرها معنا في الدرس الماضي، حين قلنا: هل للأبوين أو لأحدهما أن يأمر ابنه بطلاق امرأته وفراقها؟! وذكرنا أن عمر -رضي الله عنه- أمر عبد الله ابنه بطلاق إحدى زوجاته أو امرأة تزوجها وكان عمر يكرهها وابنه يحبها؛ فأبى؛ أي عبد الله، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فأمره النبي بطلاقها؛ ففعل، فقد تكون هذه هي المرأة التي طلق ابن عمر وهي حائض، فهذه المرأة هي التي وقع عليها الطلاق.

إخبار عمر للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لماذا؟ لماذا أخبر عمر رسول الله بأن عبد الله طلق زوجه وهي حائض؟ هل كان هذا النهي عن طلاق الحائض غيرَ معلوم أم أنه كان معلوما؟

لعله كان غير معلوم.

لعله كان غير معلوم، وهل يَتَغَيَّظُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويغضب من عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- لأنه ارتكب أمرا لا يعلم حرمته؟!

نعم.

لماذا؟

لأنه لم يسأل عنه.

إذا كان معلوما؛ فقد جاز أن يسأل، أما إذا لم يكن معلوما؛ فإنه لا يسأل عن أمر غير معلوم، إما أن يكون النهي معلوما؛ فيصير تغيظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن عمر في محله، أو لا يكون معلوما؛ فلا يكون -هنا- سببٌ يدعو لتَغَيُّظِ النبي -صلى الله عليه وسلم-. فالظاهر أن النهي كان معلوما، فإذا كان النهي معلوما؛ فلماذا سأل عمر رسول الله صلى الله عليه ومن والاه؟!

ربما يكون أن الأمر خفي عن ابن عمر؟ وإما لأن ابن عمر أبى أن يطلق زوجته؟.

الطلاق وقع، الطلاق وقع في الحيض، وعمر ذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعْلِمُه أن ابنه فعل كذا. فلماذا؟

قد يُقال: لأن هذه هي الواقعة الأولى، والنهي كان معلوما، لكن هذه هي الواقعة الأولى التي يُوقِع فيها أحدُ الصحابة طلاقا في الحيض، وأراد عمر أن يعرف ماذا يفعل في هذا الطلاق الذي وقع في الحيض، ما هو الصحيح، أو ما هو الواجب تجاه هذه المسألة أو هذه النازلة التي وقعت للصحابة -رضي الله تعالى عنهم-؟!

أو ليُعَلِّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عمر ماذا يفعل بعد ارتكاب هذا النهي، أو ربما كان السؤال عن العدة؛ هل يُعتد بهذه الحيضة التي وقع فيها الطلاق أم لا يُعتد بها؟! سؤال عمر -رضي الله تعالى عنه- هنا؛ ليعرف هل هذه الحيضة التي وقع فيها الطلاق مما يعتد به في الطلاق أم لا؟!

هذه كلها أسباب تدعو إذن للسؤال، ولماذا ذهب عمر ولم يذهب عبد الله بن عمر؟

قد يكون عمر -رضي الله عنه- ذهب؛ لأجل أنه يريد أن يحمل عن ابنه هذه المشقة، وذلك الحرج الذي ترتب على أنه خالف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون عمر -رضي الله عنه- فعل ذلك شفقةً ورحمةً بابنه؛ ليتحمل عنه ما سيقع من تَغَيُّظِ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على ابن عمر؛ لأنه ارتكب النهي، وهذا يدلك على أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكن ليتغيظ، ولا ليغضب إلا إذا انتُهِكَتْ محارم الله تعالى، وهذا -كما قلت- يَدُلُّكَ على أن النهي كان معلوما، وإلا؛ فلا يتغيظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ابن عمر وهو يرتكب أمرا لم يَعْلَمْ حرمته.

إذن تغيظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعقبه أن قال: (ليراجعها) يعني أمرَ عمر أن يأمرَ ابنه أن يراجع زوجته، وفي رواية قال: (مُرْه؛ فليراجعها) فهذه صيغة أمر، والأصل في صيغ الأمر إذا أطلقت وتجردت عن القرينة أنها تفيد الوجوب، فبناءً عليه؛ فإن عبد الله أَرْجَعَ هذه الزوجة، وعليه؛ فلنا أن نسأل: هل إرجاع المرأة التي طلقت في الحيض واجبٌ على زوجها أم لا؟ واجب على زوجها أم هذا فقط مما يُسْتَحَبُّ؟

واجب على الزوج؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مره فليراجعها) والأمر يقتضي الوجوب.

هو قوله: (مره) هذا أمر ليس لابن عمر، إنما الأمر لعمر، فهل الأمر بالأمر يقتضي الوجوب؟

هذه مسألة اختلف فيها الأصوليون؛ هل الأمر بالأمر يقتضي الوجوب؟

هذه مسألة وقع الاختلاف فيها.

وعلى كل حال فهذه المسألة اختلف الفقهاء فيها بعد ذلك على قولين أو على مذهبين:

الأول: وجوب المراجعة.

الثاني: الاستحباب.

والقائلون بالوجوب هم: مالك -رحمه الله تعالى- وأحمد في رواية عنه، وبعض الحنفية، والجمهور على الاستحباب دون الوجوب.

ما هي القرينة التي صرفت الأمر في قوله: (فليراجعها) عن الوجوب إلى الندب عند الجمهور؟ ما هي القرينة التي صرفت الوجوب إلى الندب في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فليراجعها)؟

القرينة هي: أن الزواج ابتداؤه ليس بواجب؛ فكذا استدامته، فكما أنه لا يجب عليه الزواج؛ فإنه أيضا لا يجب عليه استدامة حكمه، فهذه هي القرينة التي صرفت الوجوب إلى الاستحباب عند جمهور الفقهاء.

وبعضهم تعقب هذا؛ فقال: الطلاق مُحَرَّم في الحيض، واستدامة النكاح حال الحيض واجبة.

لماذا؟

لحرمة الطلاق في الحيض.

ولهذا وجدنا مالكا -رحمه الله تعالى- يجبر الرجل على مراجعة زوجته إن طلقها حال حيضها، يرى ذلك حقًّا عليه واجبا عليه لازما عليه.

اتفق الفقهاء على أنها إذا انقضت عدتها من غير مراجعة أنها تبين منه، لا خلاف بين الفقهاء على ذلك، أنها تبين منه وتمتنع الرجعة؛ أي لا يملك رجعتها، يعني إذا طلقها فاعتدت بحيضاتها إن كانت من ذوات الحيض، أو خرجت من عدتها بأي سبب كان؛ فعندئذ يقال: امتنعتْ الرجعةُ، لا يجوز له أن يرجعها.

الجماهير على أنه لا يؤمر بمراجعة من طلقها في طهر مسها فيه، وسيأتي الخلاف في ذلك، يعني هل الأمر سواء إن طلقها وهي حائض، أو طلقها في طهر مسها فيه هو مأمور بمراجعتها أم لا؟ هذا خلاف سيأتي معنا إن شاء الله.

بأي شيء تكون الرجعة؟

قال: (مره فليراجعها)، فبأي شيء تكون الرجعة؟

تكون الرجعة بالقول الذي يدل عليها؛ كأن يقول: أرجعتك، أو: رددتك، أو ما أشبه كل ما يؤدي هذا المعنى يتحقق به الرجوع، وهل يتحقق الرجوع بالفعل؟

خلاف بين العلماء.

وهل يجب الإشهاد على الرجعة؟

خلاف، والراجح الاستحباب.

هل يشهد؟

نعم.

استحبابا أم وجوبا؟

خلاف، والراجح الاستحباب.

ثم قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ثم يمسكها حتى تطهر)؛ يعني يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر؛ أي من حيضتها التي أوقع فيها الطلاق، ثم تحيض حيضة أخرى فتطهر، عندئذ له أن يطلق.

إذن قوله: (ثم يمسكه)؛ أي يستمر بها في عصمته حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم بعد ذلك يُطلق إن شاء كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في رواية البخاري: (ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت؛ فليطلقها) يعني هو عندئذ بالخيار.

ما هي الحكمة من إمساكها؟ يعني هي سَتُرْجَعُ إليه، ثم يمسكها حتى تطهر من حيضتها التي أوقع فيها الطلاق، ثم يتركها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، ثم عندئذ هو بالخيار يطلق أو لا؛ فما هي الحكمة من إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى؟!

قيل: ليستبرئها بطهر تامٍّ، ثم بحيض تام ليعلم براءة رحمها، أو ليعلم أنها ليست بحامل منه، ومن جهة أخرى لتعرف عدتها، فلا تستشكل عدتها، يعني هي متى ستعتد؟! إذا طلقها في قُبُلِ عدتها أي قبل أن تحيض فأوقع الطلاق، ثم حاضت؛ علمت أن هذه الحيضة هي أول حيضة تعتد بها، بخلاف ما لو طلقها في أثناء الحيض.

وقيل أيضا: لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، يعني يرجعها ليطلقها، وإنما يرجعها ليمسكها فتبقى عنده حتى تحيض حيضة أخرى؛ لأنه ربما راجع نفسه في هذه المدة، وربما وهي مقيمة معه عاد إليها بجماع، أو بمقدماته، أو ما أشبه فيحصل من ذلك فائدة الرجوع، إذن يكون الرجوع ليس لأجل الطلاق، وإنما الرجوع لأجل الإمساك.

بأي شيء تطهر بانقطاع دمها أم باغتسالها من الحيض؟

الراجح أنها تطهر بالاغتسال.

لماذا؟

لأنه ورد في الحديث: (مُرْ عبد الله؛ فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى؛ فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها؛ فليمسكها).

إذن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى) دل على أن طهرها إنما هو بالاغتسال.

ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في جواز طلاقها في الطهر الذي يلي ذلك الحيض الذي وقع فيه الطلاق على قولين: أرجحهما المنع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يؤجل ذلك حتى تحيض حيضة أخرى، وتطهر منها؛ أي تخرج من هذه الحيضة. إذن القول الأول: المنع، وهو الراجح. والقول الثاني: الجواز، وهذا يخالف الروايات التي معنا في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإمساكها هذه المدة حتى تحيض ثم تطهر.

ثم عاد فقال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يسمه)؛ يعني إذا حاضت الحيضة الثانية ثم خرجت منها وطهرت؛ فهو بعدئذ بالخيار، إن شاء أن يطلق؛ فليطلق قبل المسيس؛ أي قبل الجماع؛ لأنه لو جامع؛ صار هذا طهرًا جامعها فيه، فإن أوقع طلاقًا في طهر جامعها فيه؛ فقد ارتكب المحذور مرة أخرى، ووقع في النهي ثانية.

قوله -عليه الصلاة والسلام-: (فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها) وقع في رواية: (ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملا)، وهذا يدلك على أن طلاق الحامل ليس فيه بدعة، وطلاق الحامل طلاق سنة مطلقًا، من استبان حملها فطلقها زوجها؛ فإنه يطلقها للسنة، وليس بطلاق بدعي.

وهو أيضًا يدلك على حرمة الطلاق في طهر جامعها فيه.

مسألة هل يجبر الرجل على الرجعة إذا طلقها في طهر جامعها فيه؟ كنا ذكرناها وتقدم أن الجماهير على خلافه أنه لا يُجبر، وقال بجبره أيضًا بعض المالكية، الإمام مالك قال بجبره على رجعتها إذا طلقها في حيضها.

هل يجبر على إرجاعها إذا طلقها في طهر جامعها فيه؟

ذهب إلى هذا بعض المالكية خلافًا للمشهور؛ أي خلافًا لمشهور مذهب المالكية وجماهير أهل العلم.

قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (فتلك العدة التي أمر الله عز وجل)؛ أي أمر الله -عز وجل- أن تُطلق لها النساء، تلك العدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء.

ننتقل بعد هذا إلى ما نُقِلَ في بعض الروايات عند مسلم: (فحسبت من طلاقها) وفي لفظ للبخاري: (حُسبت علي بتطليقة).

طبعًا جرى الخلاف سائغًا بين العلماء في هذه المسألة، وما هي هذه المسألة؟ مسألة وقوع الطلاق في الحيض، هل الطلاق الواقع في حيض واقعٌ شرعًا أم لا؟!

أقول: جرى الخلاف سائغًا بين العلماء في وقوع الطلاق البدعيّ في حالتين:

الحال الأولى: الطلاق في الحيض.

الحال الثانية: الطلاق في طهر جامعها فيه.

ويلتحق بهذا ما لو جمع عليها الطلاق ثلاثًا في مجلس واحد.

إذن هذه مسائل ثلاثٌ في الطلاق البدعي: الطلاق حال الحيض، والطلاق في طهر جامع فيه، وجمع الثلاث طلقات في عبارة واحدة أو في مجلس واحد.

وبين يدينا الآن هذه المسألة التي تتعلق بإيقاع الطلاق حال الحيض، هذه المسألة أقول:

الخلاف فيها سائغ بين العلماء، ولا يجوز أن يعتبر هذا الخلاف من الخلاف الشاذ، أو المنكور، أو المهجور، أو الضعيف، أو كذا.. الذي يُفَسَّقُ فيه المخالف، أو يُبَدَّعُ فيه المخالف، أو يُلحق فيه المخالف بأهل البدع والعياذ بالله؛ لأنه قال به بعض التابعين، وقال به أئمة كبار، وتابع هؤلاء الأئمة الكبار رجالات معروفةٌ من علماء هذا العصر.

إذن لا ينبغي التثريب على من أخذ بأي القولين في هذه المسألة إذا كان إنما يأخذه بدليله، ويقصد الحق ويبذل جهده في طلبه.

اختلف العلماء في وقوع الطلاق في الحيض على مذهبين اثنين:

الأول: للجماهير سلفًا وخلفًا، وهم أئمة المذاهب الأربعة، وأعيان أتباعهم في كل العصور، وهؤلاء جميعًا على إيقاع الطلاق البدعيّ، أي الواقع في الحيض، وهذا مذهب الجماهير -كما قلنا- من الصحابة والتابعين أيضًا.

قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: “فإن طلق للبدعة، وهو أن يطلقها حائضًا أو في طهر أصابها فيه؛ أثم، ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم”. هذا كلام ابن قدامة في “المغني”. أولا: قال بوقوع الطلاق، ثانيًا: قال بإثم مرتكبه حال الحيض.

والقاضي عبد الوهاب المالكي أيضًا يقول: “الطلاق يقع في الحيض ثلاثًا كان أو أقل -يعني إن طلقها في الحيض ثلاثًا أو أقل وقع- قال: وهذا مذهب الفقهاء بأسرهم إلا طائفة شَذَّتْ”.

والمرداوي من الحنابلة قال في “الإنصاف”: “الصحيح من المذهب أن طلاقها في حيضها أو طهر أصابها فيه محرمٌ، ويقع نص عليهما -أي الإمام أحمد -عليه رحمة الله- وعليهما الأصحاب” يعني على وقوعه مع الإثم الأصحاب يعني أصحاب الإمام، وعليه الأصحاب.

والمذهب الثاني: أنه لا يقع، وهو منقول عن طاووس من التابعين، وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وتلميذه شيخ الإسلام ابن القيم -عليهم جميعًا رحمة الله- وتابعهما على ذلك جماعة من أهل العلم المعاصرين.

طاووس -رحمه الله تعالى- يقول: “وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا من غير جماع إذا استبان أو إذا استبان حملها”، أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، أو إذا استبان حملها فهذا طلاق يقع سُنيًّا، ثم إنه سئل ابنه = عبد الله بن طاووس فقال -يعني عن أبيه-: قال: “إنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة” يعني إذا خالف وارتكب هذا النهي؛ فإن هذا الطلاق عنده لم يقع.

وقد سئل بعض التابعين وهو خلاس بن عمرو عن هذه المسألة؛ فقال: “لا تعتدُّ بتلك الحيضة” فحمل بعضهم أن قوله هذا يعني أنها لا تعتد العدة، يعني التي تترتب على وقوع الطلاق، لا تعتدُّ بتلك الحيضة يعني لا تعتدُّ العدة، ولكن الصحيح من معنى كلامه أن الحيضة التي أوقع فيها الطلاق لا تُعتبر من عدتها، وإنما تَستأنف حيضة جديدة. إذن هذا هو المعنى، وبالتالي فيكون هذا الكلام منقولاً عن طاووس دون خلاس بن عمرو.

ما هي أدلة الجمهور؟ وما هي أدلة مخالفيهم؟ وكيف نتعامل مع هذه المسألة؟

الجمهور يقولون: حديث الباب حجة، وحديث الباب في رواياته الكثيرة الصحيحة دلالاتٌ ظاهراتٌ على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- اعتبر الطلاق في الحيض واقعًا؛ من ذلك رواية نافع عن ابن عمر بلفظ أن رجلاً قال لعمر: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك، فقال الرجل: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله حين فارق امرأته وهي حائض يأمره أن يراجعها، فقال له عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يراجعها في طلاق بقي له؛ لأن الأول طلق امرأته ألبتة؛ يعني جمع لها الثلاث في عبارة واحدة، فاحتج هذا الرجلُ على عمر بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ابن عمر أن يراجع زوجته، فقال: إن ابن عمر راجع زوجته في طلاق بقي له؛ يعني بقي له من طلاقه عليها، فراجعها إلى عصمته؛ لأنه بقي له من طلاقها شيء، فكأن عمر يُثبت وقوع الطلاق الثلاث ثلاثًا، وقد كان هذا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، ثم إنه رأى أن يعاقب الذين استهانوا بأمر الطلاق، وأن يوقع الثلاث ثلاثًا، فقال له عندئذ: “فأنت لم يبق لك ما ترجع به امرأتك”.

وفي رواية مسلم قال لنافع: (ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتدت بها) يعني سأل السائل نافعًا، فقال: (ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتدت بها)؛ يعني اعتدت بها من طلاقها.

وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه أخبره؛ أي الراوي: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فتغيظ منه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: (فليراجعها) وقع في رواية هذا الحديث: وكان ابن عمر طلقها واحدة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الشاهد أن الروايات كثيرة، متظاهرة، متضافرة، صحيحة عن أن ابن عمر راجع امرأته، وحسبت تلك من طلاقها، وهذا منقول عن يونس بن جبير، ومنقول عن سعيد بن جبير، ومنقول عن عدد من التابعين الذين رووا ذلك عن ابن عمر؛ كالشعبي مثلاً وغير هؤلاء، ولذلك من أصرح ما نُقِلَ حديث أنس بن سيرين؛ أنه سمع ابن عمر يقول: “طلقت امرأتي وهي حائض…” الحديث، وفيه قلت لابن عمر: “أفاحتسبت تلك بتطليقة؟ قال: فمه؟!” يعني فماذا؟ يعني نعم احتسبت عليَّ تطليقة.

اعترض على هذه الأحاديث وعلى دلالتها من قِبَل المخالفين، فقالوا: إنها لم تصرح بمن الذي احتسب وقوع هذه الطلقة؛ حيث لا حجة في قول أحد دون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني في كل هذه الروايات (احتسبت بتطليقة)، (احتسبها بتطليقة)، (حسبت طلقة).. إلى آخر هذه العبارات، اعترض المخالفون، فقالوا: إن الأحاديث لم تُصَرِّح بمن الذي احتسب تلك التطليقة؛ فأجيب عن هذا الاعتراض:

بأن قول الصحابي: “أمرنا في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بكذا..” أنه في حكم المرفوع، “أمرنا بكذا” أنه في حكم المرفوع، فكذا “احتسبت” أي احتسبها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من طلاقه.

ثم جاء الجمهور بحديث عند الدارقطني فيه عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة) هذا الحديث عند الدارقطني، فلو صَحَّ هذا الحديث وَسَلِمَ؛ لكان نصًّا في المسألة، ولذا قال ابن حجر -رحمه الله-: “وهذا نص في محل النزاع يجب المصير إليه”. وقد أورد هذا النص بعض العلماء على ابن حزم؛ فقال -أي ابن حزم-: “لعله ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-” فألزمه بأن هذا خلاف الظاهر، وهذا خلاف أصله؛ لأن أصلك أن تعتبر ما نقله الراوي إذا كان ثقة أنه من كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهنا حين قال ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة)، فهنا تصريح بأن القائل هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

ولهذا قال ابن القيم وهو يرد هذه الرواية: “لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قَدَّمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أم نافع؟! فلا يجوز أن يُضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لا يُتيقن أنه من كلامه، ويُشهد به عليه، وتُرتب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند فلان، أو فلان، ويكون في ذلك شيء من الوهم أو الاحتمال”.

هذا الكلام من ابن القيم ردّه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -عليه رحمة الله- فقال: “هذا الكلام فيه صواب وخطأ، أما الصواب؛ فهو اعترافه بكون هذه اللفظة لو صحت؛ صارت نصًّا في الباب يجب المصير إليه، وأما الخطأ؛ فهو تشككه في صحتها، لماذا يتشكك في صحتها وقد وردت صريحةً من كلام الراوي بأنه يرفع ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والمتفق عليه بين العلماء أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها، وأنه لا يجوز ردُّها بالاحتمال والتشكيك”.

ثم إن الألباني جاء ببعض ما يشهد لهذه الرواية؛ فقال: “إن ابن وهب لم يتفرد بهذه الرواية، بل تابعه الطيالسيُّ كما تقدم” وجعل يذكر بعض المتابعات لهذه الرواية، فمن ذلك أن ابن عمر قال: “إنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فذكر ذلك له فجعله واحدة” يعني جعل هذا الطلاق واحدة، وهذه متابعة للطيالسيِّ، وأيضًا جاء بمتابعة لابن أبي ذئب وهي رواية ابن جريج عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة)، ثم جاء بمتابعة ثالثة وهي للشعبي أن الشعبي تابع نافعًا في هذه الرواية جاء أيضًا بأنه طلقها وعدها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (هي واحدة).

يقول محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-: “وكل هذه الروايات مما لم يقف عليها ابن القيم في هذا الحديث”، ثم علق فقال: “وظني أنه لو وقف عليها؛ لتبدد الشك الذي أبداه في رواية ابن وهب، ولصار إلى القول بما دل إليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض”. الشيخ الألباني في “إرواء الغليل” استقصى هذه الروايات، وبين رجحان الروايات التي فيها التصريح بأن طلاق الحائض واقع.

احتج المخالفون بجملة أدلة:

ببعض ألفاظ حديث ابن عمر؛ فإن نفس هذا الحديث في بعض ألفاظه ما يدل على أنها لم تحتسب، مثل ماذا؟

مثل أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، قال: “فردها عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرها شيئًا”. استدل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ومن معه بأن قوله: “لم يرها شيئًا” أي: إنها لم يُعتد بها، يعني لم يُعتد بهذه الطلقة، وقال إنها امرأته. قال ابن حجر: “إسناد هذه الرواية على شرط الصحيح، لكنهم ناقشوا في قوله: “لم يرها شيئًا” قالوا: “لم يرها شيئًا مستقيمًا”، وهذا توجيه ابن عبد البر، وتوجيه الشافعيِّ -رحمه الله-: “أنه لم يرها صوابًا” يعني لم يرها فعلاً صوابًا من ابن عمر، واستدلوا أيضًا بما روي عن الشعبي أنه قال: “إذا طلق امرأته وهي حائض لم؛ يعتدَّ بها”.

ابن عبد البر يوجه هذه الرواية بأنه لم يعتد بها ليس بالطلقة، وإنما بالحيضة التي وقعت فيه الطلقة؛ أي لم يعتد بتلك الحيضة في عدة تلك المرأة، فوجهوا هذه الرواية أيضًا توجيهًا يوافق مذهب الجمهور.

ثم قالوا: وقد وقع التصريح بذلك عند ابن أبي شيبة من رواية نافع، قال: (لا تعتد بتلك الحيضة)؛ فقوى هذا مذهب الجمهور القائلين بوقوع الطلاق حال الحيض، وإذا صَحَّ حديث الدارقطني -كما قال ذلك الصنعاني أيضًا- فإن هذا يحسم النزاع.

استدل أيضًا المخالفون بأن الأصل في النهي أنه يقتضي الفساد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الطلاق في الحيض، وإذا كان النهيُ يقتضي الفساد؛ فإن الفاسد لا أثر له يترتب عليه؛ لأنهم قالوا: إن الممنوع منه شرعًا كالمعدوم حسًّا، ولأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (مَن عَمِلَ عَمَلاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ) أي مردودٌ عليه، ولأن الله -تبارك وتعالى- قال: ?فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ? [البقرة: 229] وهذا التسريح لم يكن بإحسان، هذا التسريح حين طلق في الحيض لم يكن تسريحًا بإحسان، فهذا كله مما لم يشرعه الله، ومما لا يعتد به شرعًا، وأجاب الجمهور بالتسليم بالتحريم، نحن نقول بأن الطلاق في الحيض حرام، وأن صاحبه يأثم، لكننا نقول بوقوعه.

لماذا؟

لثبوت الدليل المصرِّح بوقوع الطلاق، وأما ما ذُكِرَ من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك؛ فنحن نسلم بذلك، والرجعة التي يؤمر بها الرجل إنما هي فرع ثبوت الطلاق؛ لأنها لو لم تكن شيئًا؛ فإن المراجعة لا معنى لها، لو لم تكن هذه الطلقة مما يُعتد بها؛ فبأي شيء يراجعها؟

قالوا: نحمل ذلك على المراجعة اللغوية.

قلنا” الشرعية أولى، لماذا؟

هم لمَّا في الحديث قال: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعهَا) المراجعة أو الرجعة هذه فرع وقع الطلاق؛ لأنه لا يراجع زوجته، وإنما يراجع مطلقته.

قالوا: فأمره بالمراجعة يدل على وقوع الطلاق.

قالوا: لا، المقصود بالرجعة هنا الرجعة إلى حالها الأحسن، والأكمل، والأفضل، وهذه رجعة لغوية.

فأجابوا بأن الحمل على الشرعيات أولى من الحمل على اللغويات.

بهذا ترى أن هذه المناظرة بين الجمهور ومخالفيهم تُحَوِّل هذه المسألة إلى مسألة يجوز الخلاف فيها، ويجري الخلاف فيها بين السلف والخلف؛ كما قال ذلك ابن حزم وغيره، وأنه لا إجماع صحيحًا صريحًا منعقد، ولهذا قال الصنعاني: “والحق أن هذه المسألة من مسائل الخلاف، والعمدة الدليل، ولا تبديع لمن اتبعه وإن أخطأ، ولا تضليل؛ لما تقرر أن كل مجتهد مصيب، والحاكم بين المختلفين والمتنازعين هو الدليل، ثم قال: وما ذكره الفريقان مُحْتَمَِلٌ، وإن كانت أدلة القائل بعدم الوقوع أقوى وأقل احتمالاً لكن إن ثبت ما أخرجه الدارقطني من طريق يزيد بن هارون عن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (هي واحدة)؛ ففيه فصل النزاع، وبه الإقناع”. وقول الحافظ ابن حجر وهو نص في موضع الخلاف يجب المصير إليه دالٌّ على أنه لا قدحَ فيه، وعليه؛ فإننا نقول بتقوية قول الجمهور في هذه المسألة، ونقول: إن الراجح في الطلاق البدعيِّ الواقع حال الحيض هو وقوع الطلاق في الحيض مع الإثم، والله تعالى أعلى وأعلم، وبهذا نأتي على ختام هذه الحلقة لنستكمل شرح الحديث، وما يتعلق بالأحاديث الأخرى في لقائنا الآتي إن يسر الله تعالى وأعان.

كان السؤال الأول: بَيِّن حكم الوليمة.

لما كانت الوليمة سببًا في فوائدَ عظيمة جليلة؛ في إشهار النكاح، والتواصل والتآلف بين الأسر، وتأليف القلوب؛ كان اختلاف العلماء على قولين أساسيين:

فالظاهرية والشافعية وأحمد ذهبوا إلى وجوب الوليمة، واستدلوا بحديث الباب وحملوا الأمر على الوجوب.

وذهب الجمهور إلى استحباب الوليمة، واستدلوا بأحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في زواجه؛ فقد أوْلَمَ في بعضها والبعض الآخر لم يولِم، وحملوا الأمر على الاستحباب، وقد ثبت أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أوْلَمَ بغير شاة، والراجح مذهب الجمهور.

هذه الإجابة عليها ثلاث مؤاخذات:

المؤاخذة الأولى:

قوله: إن هذا مذهب الشافعية، وليس بصحيح.

المؤاخذة الثانية:

قوله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوْلَمَ وترك الوليمة، وهذا أيضًا ليس بصحيح، بل النبي -صلى الله عليه وسلم- أوْلَمَ لكنه أوْلَمَ بشاة وأوْلَمَ بغير الشاة، فوقعت منه الوليمة -صلى الله عليه وآله وسلم-.

المؤاخذة الثالث: أن عبد الرحمن لم يولم بالشاة، وهذه لا ندري من أين أتى بها؟ وإنما النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أوْلِمَ ولم بشاة)، والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور، لماذا مذهب الجمهور هو الراجح؟

لأن إطلاق الأمر على الوجوب على القادر وغير القادر مما يؤخذ فيه.

أولاً: لأنه طعام يُصنع لسرور؛ فكان كسائر الأطعمة لا يجب، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمره بأن يوْلِم؛ قال: (ولو بشاة) يعني للتقليل أو للتمني وقع أن أوْلَمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشاة وأوْلَمَ بغير الشاة، فدل هذا على أنه لا يجب، وإنما هو مستحب.

السؤال الثاني: بَيِّن حكم الطلاق، وأحواله.

الطلاق تطرأ عليه الأحكام الخمسة التكليفية؛ فقد يقع حرامًا، أو مكروهًا، أو واجبًا، أو مندوبًا.

فقد يقع واجبًا في صورتين مثلاً: في الشقاق بين الزوجين إذا ترافعها إلى الحاكم، وبعثهما إلى حكمين، ورأيا المصلحة في الطلاق؛ وجب على القاضي أن يطلق، أو يجبر الزوج على الطلاق، وقد يقع واجبًا أيضًا في المولي إذا مضت عليه أربعة أشهر، وطالبته المرأة بحقها؛ فامتنع من الفيئة والطلاق؛ فيوجب عليه القاضي الطلاق، وقد يقع الطلاق مكروهًا إن وقع بلا سبب من الزوج، وقد يكون حرامًا وهو الطلاق البدعي الذي أشرتم إليه، فإما في حيض، وإما في طهر جامعها فيه.