توضيح قانوني لحكم التعويض عن تأخير الرحلات الجوية فقهاً و قضاء

ا/ محمود الرفاعي

هذه مسألة جميلة تحدث عنها فضيلة شيخي الجليل الدكتور يوسف الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء .

د. يوسف بن أحمد القاسم: حكم التعويض عن تأخير الرحلات الجوية فقهاً وقضاء .
الفقه الإسلامي ـ الرياض

بين الدكتور يوسف بن أحمد القاسم حكم التعويض عن تأخير الرحلات الجوية فقها وقضاء فقال: إن الفقه والقضاء لم يقف حجر عثرة أمام التعويض عن الأضرار المادية اللاحقة بالشخص المتضرر, ولا شك أن تأخير الرحلات الجوية والبحرية والبرية (كرحلات القطارات) ينجم عنه أضرار مادية في عديد من الوقائع, كما لا يخفى.

ولكن الكثير من التأخير في صالات المطارات والقطارات والموانئ لا ينجم عنه ضرر مادي يذكر, إلا ما يلحق الأسر برجالها ونسائها وأطفالها من عناء التعب والانتظار, ربما لساعات طويلة, تلحق الضجر والسأم لأفراد الأسرة كافة, ولضعفائها من الشيوخ والنساء والأطفال على سبيل الخصوص, فما موقف الفقه والقضاء من هذا الضرر الأدبي الذي يطول الأسرة بكل شرائحها؟ طبعاً حين يكون الضرر ناجماً عن عمد أو إهمال من الجهات المعنية بالرحلة.

وأضاف الدكتور القاسم قائلا: أن أكثر الفقهاء المعاصرين يرى أنه لا تعويض مادي للأسر المتضررة معنويا؛ لأن التعويض قائم على عنصر المكافأة بين الضرر والتعويض, ولا يمكن المكافأة بينهما, ومن الصعوبة بمكان تحديد نسبة التعويض لضرر غير مادي, ولهذا فإن محاكم بعض الدول المتحضرة تقع في فخ التعويض التخميني, مما أدى إلى مبالغات في التعويض لأضرار معنوية باهتة, أو العكس, والعمل في محاكمنا الشرعية على هذا الرأي الذي عليه جمهور الفقهاء المعاصرين, ولذا جاء في إحدى المبادئ التي قررتها هيئة التدقيق في ديوان المظالم: (التعويض يشمل ما فات من ربح, وما حصل من خسارة) يعني كما لو دفع المسافر أجرة غرف فندقية في بلد الوصول, ثم تأخرت الرحلة لـ 24 ساعة مثلا, فيستحق التعويض؛ لأنه ضرر مادي. وبمفهوم المخالفة لهذا المبدأ, لا يستحق المسافر أي تعويض إذا لم يكن الضرر شاملاً لأحد الأمرين (أعني: فوات الربح, أو وقوع الخسارة).
وفي المقابل, نجد عدداً قليلاً من الفقهاء المعاصرين, أجاز مبدأ التعويض عن الضرر المعنوي فيما لا عقوبة فيه محددة؛ لمبررات ذكروها في بحوثهم المتعلقة بالضمان, ليس هذا موضع بسطها.

وقال : إلا أنه مما يمكن أن يستدل لهذا الرأي, بحديث عبد الله بن سلام, وفيه أن زيدا بن سعنة حين ألح على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طلب دين عليه لم يحل أجله, غضب عليه عمر ـ رضي الله عنه ـ, وكاد يبطش به, فعاتبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وقال لعمر: (إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر, أن تأمرني بحسن الأداء, وتأمره بحسن التباعة, اذهب به يا عمر فاقضه حقه, وزده 20 صاعا من غيره؛ مكان ما رعته) رواه ابن حبان في صحيحه, وصححه الحاكم, وقال عنه الحافظ المزي في التهذيب: (هذا حديث مشهور في دلائل النبوة) اهـ, فنلاحظ هنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر لزيد بن سعنة 20 صاعاً من التمر مقابل ما لحقه من الروع (أي الخوف) من عمر, وهذا تعويض عن ضرر معنوي, والضرر المعنوي هو ما يلحق الشخص من ضرر يؤذي مشاعره, أو يلحق به النصب, أو الإعياء, أو الترويع, أو الإهانة, أو نحو ذلك من أضرار غير مادية.

وجاء رأي الدكتور القاسم ردا على ما جاء في موقع الخطوط الجوية العربية السعودية على الشبكة العنكبوتية: (سعيا من الخطوط الجوية العربية السعودية لتنظيم الحجوزات, وتفادياً لمغادرة الرحلات بمقاعد شاغرة؛ نتيجة عدم السفر, بعد التأكيد المسبق للحجز, وبهدف إتاحة فرصة لأكبر عدد من العملاء للاستفادة من هذه المقاعد، نفيدكم بأنه اعتبارا من 1/2/2009م سيتم خصم 25 في المائة من قيمة خط السير»50 ريالا كحد أدنى» في حالة الحجز وعدم السفر، مع الإحاطة بأن التطبيق سيكون تدريجيا) وخلا موقع الخطوط الجوية عما يترتب لصالح المسافر حين تتأخر الطائرة عن الإقلاع لمبررات غير مقنعة, أو حين تكون أكثر جرأة فتلغي الرحلة برمتها..! بل إنها أخلت مسؤوليتها صراحة من كل تأخير أو إلغاء, كما جاء هذا صريحا في شروط التذاكر الدولية للخطوط الجوية السعودية, حيث جاء فيها ما نصه: (يتعهد الناقل ببذل أفضل الجهود لنقل الراكب والأمتعة بسرعة معقولة.

والأوقات المبينة في جداول المواعيد, أو في أماكن أخرى, ليست مؤكدة, ولا تشكل جزءاً من هذا العقد، ويحق للناقل دون إشعار أن يستبدل الناقلين, أو الطائرة! ويحق له أن يعدل, أو يحذف أماكن التوقف المبينة على التذكرة في حال الضرورة، والجداول خاضعة للتغيير دون إشعار! والناقل لا يتحمل مسؤولية اللحاق برحلات المتابعة) وجاء في شروط شركة سما للطيران: (يجوز لنا في أي وقت بعد القيام بالحجز تغيير جداولنا الزمنية, أو إلغاء, أو إنهاء, أو تحويل, أو تأجيل, أو تأخير أي رحلة نرى وفقاً لتقديرنا المعقول, وأن ذلك له ما يبرره من ظروف خارجة عن إرادتنا وسيطرتنا, أو أنه تم لأسباب تتعلق بالسلامة, أو الأمن أو غيرها من المتطلبات, والدواعي التشغيلية, أو التجارية!) وهكذا يكون المسافر رهنا لشروط الإذعان المجحفة أحيانا, والتي يقف أمامها المسافر مكتوف اليدين؛ لأنه لا يملك أن يغير فيها حرفا, نعم يملك أن يستقل سيارته, ويربط أمتعته, ويمتطي طريق البر, مصحوباً بالسلامة, بإذن الله..!

وأوضح د. قاسم وجهة نظره قائلا : إن فتح الباب لتعويض كل ذي ضرر, يفسح المجال لدعاوى عريضة, قد تقف أمامها المحاكم عاجزة عن الوقوف عن تحقق أركان الضمان (ما يسمى قانونا بالمسؤولية) كما ستقف حائرة عن تقدير نسبة تعويض تلك الأضرار غير المحسوسة؛ لاستحالة تحديد تعويض عادل لها, لا سيما ونحن في مجتمع إسلامي, ينبغي أن يكون الإضرار فيه غير مقصود, وأن تكون صفة السماحة والعفو هي الأساس, لا أن يكون مجتمعاً مادياً ينتظر الفرصة؛ ليرفع الدعوى ضد كل من يقع منه الضرر.., ولهذا أرى: أن نقف موقفاً وسطاً, وذلك أن يكون التعويض محصوراً في الضرر الأدبي الذي تتورط فيه جهات تلحق الضرر المعنوي بشكل عام, كمحطات السفر, جوية كانت, أو بحرية, أو برية, فلا يفسح المجال لطلب التعويض لكل فرد على حدة, ولكن أن يحدد التعويض من باب السياسة الشرعية, التي يتبناها ولي الأمر, بتحديد سقف معين للتعويض (كما عليه العمل في بعض الدول العربية والغربية), وذلك لوضع حدٍ لتهاون بعض المسؤولين في صالات السفر, وتهيئة أجواء صحية للمسافرين, تضمن الراحة للمسافر, وتضمن كرامته, وتمنع من أساليب التأخير والإلغاء للرحلات دون مبرر واضح ومقبول.