الإرصاد – الترست

يعد الوقف من أشهر الصيغ الفقهية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لتنظيم كيفية تسجيل وإدارة الأموال التي يرغب الأشخاص في نقل ملكيتها من ذممهم إلى ذمة أخرى مستقلة، ليكون ريعها مرصوداً لأعمال خيرية نفعية إما للذرية والمحتاج منهم وإما للغير، ويشمل ذلك المحتاجين على اختلاف توصيفاتهم؛ أو أن يكون للنفع العام مثل: إنشاء الدور والمستشفيات ودعم الأبحاث وغيرها من المجلات، وللوقف أحكامه الفقهية المنصوص عليها في كتب الفقهاء إلا أنه تجمع – في الجملة – على أن الوقف هو حبس الأصل الموقوف وتسبيل منفعته، وبهذا فإن الفقه يشدد كثيراً في السماح للناظر على الوقف في التصرف فيه تصرفاً ناقلاً للملكية إلا بعد إثبات الغبطة والمصلحة التي يقدرها القضاء وفقاً لإجراءات قد تطول لطبيعة هذه القضايا، والقضاء يدقق في مدى تعطل منافع الوقف من عدمه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الناظر مقيد بما نص عليه الواقف، ومن القواعد المقررة في ذلك؛ أن شرط الواقف كشرط الشارع في اعتباره وعدم جواز الخروج عنه.

وهناك صيغة فقهية شبيهة بالوقف وبعض الفقهاء؛ يجعلها من صور الوقف، وتسمى “الإرصاد”، وهو في اللغة من أرصد، أي أعد وفي الاصطلاح؛ تخصيص الدولة غلة بعض أراضي بيت المال لبعض مصارفه، (الموسوعة الفقهية الكويتية 3/107)؛ ويمكن أن تكون في المنقولات بما فيها النقود؛ ويقرر العلامة ابن عابدين الحنفي 3/266 أن الإرصاد ليس وقفاً حقيقة لعدم ملك السلطان، بل هو تعيين شيء من بيت المال على بعض مستحقيه، ومن هذا يتضح أن الإرصاد – حسب القول المشهور – يكون من الحاكم ولا يكون من الأفراد، كما أن في أحكامه مرونة من حيث الصرف من غلته والتصرف فيها. ومن أعظم فوائد الإرصاد أن التصرف فيه لا يخضع للأحكام المتعلقة بالصرف العام من بيت المال، وفي حين قد يكون باباً ومجالاً للفساد المالي والإثراء غير المشروع – كما حدث في بعض الفترات التاريخية حسب ما يذكر المؤرخون – إلى أنه في حال تم تأسيس مؤسسة أو مؤسسات وقد تكون الهيئة العامة للإرصاد – بالهمزة التحتية -، ويتم ضبطها والإشراف عليها ومراقبتها وفقاً للمعايير الحكومية كما هو الحال في الكثير من الهيئات التي أنشئت أخيراً مثل، الهيئة العامة للكهرباء؛ والاتصالات، والهيئة العامة للقاصرين، وهذه الأخيرة لم تنشأ مع صدور نظامها. فإذا تحقق ذلك فسيكون تطويراً لأساليب تنمية الأموال مع الكثير من الضبط والكفاءة والمرونة، ولم يتوقف الأمر على الأصول العقارية بل يشمل حتى النقود، بحيث تلجأ الدولة عند الحاجة إلى رصد مبلغ يستلم ويكون ريعه لمصرف الإسكان مثلاً أو دعم البحوث العلمية وفي حال تم الأخذ بقول بعض الفقهاء بجواز الإرصاد من قبل الأفراد فستكون صيغة مرغوبة بحيث يرصد التاجر أصولاً عقارية أو نقوداً أو منقولات لاستثمارها من قبل الهيئة المخصصة لذلك مع بقاء الأصول في ملك أصحابها، وأما الغلة فتكون في مصارف الهيئة وينظم ذلك بمدد معينة يحق فيها للراصد سحب أصولها بعدها، وهي تختلف عن الوقف والتبرع المحض لما فيهما من خروج الأصل من ملك صاحبه، كما أنها تغطي إشكالية عدم شرعية استثمار أموال الزكاة كما هو القول المشهور، وبها يكون الإرصاد رديفاً للزكاة والوقف والتبرع وغيرها من الصيغ.

ومع اختلاف الفقهاء حول الإرصاد هل هو وقف أم لا فإن تطبيقات الإرصاد تقترب كثيراً من مفهوم الترست الواسع الانتشار في الغرب، وبهذا يمكن الاهتمام بتطبيقات الإرصاد عبر التاريخ والاستفادة من النظم والتنظيمات المعاصرة في “الترست” لتطوير فكرة الإرصاد وتطبيقاته.