المفهوم الراشد للسياسة الشرعية

يجب على كل مسلم الإلمام بمعنى السياسة من وجهة نظر الشرع الإسلامي للامتناع عن الإمعة و تأدية فريضة توطين النفس أداء راشدا ينفع الأمة و يرضي الله عز و جل.
فالسياسة علم شرعي و ممارسة راشدة نكتفي في هذا المقال بدراسة الشق العلمي منها على أن تبعه إن شاء الله تعالى بمقالات عن شقها المتعلق بالممارسة الراشدة.

علم السياسة الشرعية.

الفقه السياسي الشرعي مختلف عن الفكر السياسي في طبيعته و تصنيفه. فهو شرح و تفسير و تأويل للنظريات المطبقة في القرآن و السنة باعتبارهما قانون الأمة المقدس. كما أنه مصنف بشكل رئيسي إلى فقه الأمة و فقه الطوائف الدينية و الوطنية و ليس إلى فقه يميني و آخر يساري.
غير أن الاختلاف بين الفقه السياسي و الفكر السياسي يختفي بمناسبة موضوعهما. فكلاهما تعبير نظري عن نفس الظاهرة الإنسانية، و لا يمكن فهمه إلا باستعمال نفس العلم الذي هو علم السياسة.

المبحث الأول: تعريف علم السياسة.

على عكس علم السياسة الوضعي كما هو معروف في كليات الحقوق كلها، ليس علم السياسة الشرعي غني عن التعريف.
فرغم اهتمام كبار الفقهاء المسلمين بموضوعات السياسة الشرعية و تصنيفهم الكتب القيمة فيها، تكاد جهودهم كلها تكون مردودة لما يشوبها من عيب الطائفية.
من جهة أخرى، ليس من سبيل لتوظيف نظريات مدرسة الحداثة في تعريف علم السياسة الشرعية، لأن مرجعيتها كما موضوعها مختلفين.

المطلب الأول : مرجعية علم السياسة الشرعية

استنباط التعريف الشرعي للسياسة يتطلب بداية رد التعريفين الطائفي و الحداثي لأنهما لا يصلحان لتعريف السياسة النبوية باعتبارها مرجع علم السياسة الشرعية.
فقد أقام خاتم الأنبياء محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم نموذج العمل السياسي الشرعي في صورة مجهود من الأمة لإصدار الأمر الجماعي بالمعروف و النهي الجماعي عن المنكر رعاية لنفسها بنفسها قصد عمارة الأرض.
في سبيل ذلك استبدل الشرع الولاء السياسي للقبيلة و العشيرة و الملة بالولاء للأمة في جماعة واحدة من المواطنين رغم اختلاف أجناسهم و أديانهم و قبائلهم.

وسع الشرع كذلك ميدان عبادة الله بالنسبة لملة المسلمين لتشمل كل أعمال عمارة الأرض ينالون بها سعادة الدنيا و الآخرة. و فتح مجال المشاركة في أعمال عمارة الأرض لكل الملل ينالون بها سعادة الدنيا.
بذلك صار الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالإضافة إلى كونه من أعمال العبادة بالنسبة لملة المسلمين، حقا لكل المواطنين بمختلف مللهم يشاركون به جميعا في إصدار أمر الأمة لعمارة الأرض.

فملل أمة محمد صلى الله عليه و سلم تختلف عن بعضها البعض بكل حرية في العقائد و الشعائر الدينية لكنها ملتزمة بقوة قانون مقدس أن تتفق جميعها سياسيا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أجل عمارة الأرض.
ليس لذمي أن يأمر مسلما بالصلاة و الزكاة و غير ذلك من العبادات كما أنه ليس لمسلم أن يأمر ذميا بالمثل؛ لكن كلاهما مطالب بأمر جميع مواطني الأمة على اختلاف مللهم بإصلاح الأرض و عدم الفساد فيها.

كلاهما يملك الحق في الأمر بما يراه صالحا لحفظ استقلال الأمة وضمان أمنها وارتفاع مستويات معيشة و تعليم أفرادها و سلامتهم الصحية و طمأنينتهم النفسية إلى غير ذلك مما تتحقق به عمارة الأرض.
فقد جعل الله عز و جل لكل ملة من ملل الأمة حرية اختيار الشرعة و المنهاج الذي تسير عليه في العقيدة و العبادة على أساس أن يكون دافع اختيارها هو استباق خيرات الدنيا و الآخرة مع اختلاف نظام خيرات الدنيا عن نظام خيرات الآخرة.
يقول الله عز و جل في هذا الشأن ( و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون )[1].

نزلت هذه الآية بسبب طلب الحكم في نزاع على حقوق دنيوية بين أفراد من يهود أهل الذمة بالمدينة المنورة لتبين لهم أنه شأن مستقل عن أي تصور للخير في الآخرة.
فلكل ملة أن تتصور خيرات الآخرة كما تشاء و أن تستبق إليها بما تشاء؛ لأجل ذلك منع الله الإكراه في الدين رغم إعلانه أن خيرات الآخرة لا تنال بغير دين الإسلام.

لكنه عز وجل ألزم ملل الأمة جميعا في الوقت نفسه بأن تمتنع عن الفساد في الأرض و تسعى لعمارتها و هو ما يعرف بإقامة الحضارة.
عمارة الأرض أو الحضارة لا تقوم بغير الاستعمال الجماعي الراشد للوسائل المتاحة قصد منع الفساد في كل شيء. فصلاح حياة الإنسان في الأرض بصفته خليفة الله فيها لا يقوم تلقائيا و إنما يجب على الإنسان تحقيقه.
فقد ابتلى الله بني آدم في الحياة الدنيا بقانون القدر خيره و شره وحمّلهم مسؤولية مواجهة أحدهما بالآخر. إن هم استعملوا قدر الخير لمواجهة قدر الشر حدث صلاح في الأرض و تمت عمارتها، وإن هم استعملوا قدر الشر ضد قدر الخير حدث فساد في الأرض و تم خرابها.
قانون القدر خيره و شره شامل لكل موجودات الدنيا مع نظام حركاتها و سكناتها، و هو قانون ظاهر يمكن للإنسان معرفة قواعده بطريق الإدراك العقلي.

سم الأفعى مثلا مقدر للخير كما للشر؛ فهو يصلح علاجا لبعض الأمراض و في الوقت نفسه يمكن من إيذاء الصحة. كذلك الكوارث الطبيعية من زلازل و جفاف و أوبئة، فهي تصلح لمنع النمو السكاني بما يتجاوز الموارد المتاحة و في الوقت نفسه تزهق الأرواح و تسبب الإعاقات و المآسي. فلا يعقل من البشر أن يقوموا بتحديد نسلهم بما يضمن لهم كفاية الموارد التي في مقدورهم استعمالها، و يعرضون أنفسهم في الوقت نفسه لكوارث الطبيعة. و لا يعقل منهم كذلك ترك النمو السكاني بدون ضابط متى تمكنوا من التغلب على شرور الكوارث الطبيعية.

كذلك الشأن في الدعاوى القضائية و المعارضة السياسية، و القتال، و الكلام و النشر وغيره من أفعال البشر. فهي تصلح لإحقاق الحق وإزهاق الباطل كما يمكن أن تستعمل لإيقاع الظلم و إثارة الفتن.
بالنظر إلى هذا القانون يختلف موضوع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر باختلاف المطلوب بين خيرات الدنيا و الآخرة. فمتى كان المطلوب هو خيرات الآخرة كان المعروف هو ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم من ربه عز و جل من طلب بخصوص العقائد و الشعائر الدينية، و كان المنكر هو ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم عن ربه عز و جل من نهي بخصوص ذلك أيضا.
المعروف و المنكر على هذا المستوى حق جاء به محمد صلى الله عليه و سلم و هو موضوع أمر و نهي من الله و ليس من الأفراد و لا حتى الأمة.

لا يملك الأفراد كما الأمة في هذا المجال غير صلاحية التذكير بأمر الله و نهيه.
أما إذا كان المطلوب هو خيرات الدنيا فإن المعروف هو استعمال قدر الخير لمواجهة قدر الشر بخصوص الشيء أو الفعل محل الأمر، و المنكر هو استعمال قدر الشر لمواجهة قدر الخير في الشيء أو الفعل محل النهي.
لم يكشف الله عز و جل على هذا المستوى للأمة عن كل الاستعمالات الممكنة للخير و الشر في مواجهة كل منهما؛ و إنما كشف عن بعض منها و هي التي تعرف في علم أصول الفقه بالمصالح الشرعية. أما الاستعمالات الباقية فهي التي تعرف في نفس العلم باسم المصالح المرسلة، و هي متروكة للاجتهاد.

غير أنه مهما كان صواب رأيه لا يملك أي فرد أو فريق سلطة إلزام غيرهم بوجهة نظرهم حول المصلحة المرسلة. فهي لا ترقى إلى درجة معروف يؤمر به أو منكر يتم النهي عنه إلا بإرادة الأمة التي لا سبيل لصدورها بغير طريق الإجماع و بمشاركة كل مللها.
بالنظر إلى هذا العمل السياسي المرجعي يتبين أن علم السياسة الشرعية هو علم رعاية الأمة لنفسها بنفسها للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قصد عمارة الأرض. إنه تعريف مختلف عن التعريف الطائفي و كذلك الحداثي.
ينظر الطائفيون بالفعل إلى السياسة على أنها فن قيادة الرعية لحراسة الدين و سياسة الدنيا.
فقد توافق فقهاء الطوائف المسلمة الأربعة على القول أن السياسة الشرعية هي قيادة الرعية بما يصلح أحوالها في الدين و الدنيا، قاصدين من ذلك قيادة الطائفة من قبل السلطان أو الإمام.

توافق علماء الطوائف بذلك على استبعاد العمل السياسي لمحمد صلى الله عليه و سلم كمرجع، و استبدلوه بنماذج من شرع من قبلنا كالتي وردت في قصص القرآن عن سليمان و داوود و الخضر عليهم السلام.
بل إن نموذج العمل النبوي تم استبداله ببدع النصارى كمنصب الصدر الأعظم للكنيسة و منصب الإمبراطور قيصر، أو بنماذج منحرفة عن الفطرة كالعصبية القبلية.
أما العلماء الحداثيون فيتخذون من نموذج العمل السياسي في المدينة الإغريقية، بما عرفته من امتدادات في الإمبراطوريات العتيقة و الدول الحديثة، مرجع فكرهم.

السياسة في نظر هؤلاء تشمل كل عمل قيادة أو معارضة تكون الدولة طرفا فيه.
إنها ليست مجرد قيادة الرعية من قبل الدولة، لأن شعب الدولة الحديثة يشارك في صنع قرارها. لكنها في الوقت نفسه ليست أعمال قيادة الأمة لنفسها بنفسها للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قصد إقامة الحضارة.
فمن جهة تملك الدولة الحديثة باعتبارها شخص الأمة الأوحد كل قوى الأمة و تستعملها منفردة باسم الأمة و لحسابها.
الأمة حسب هؤلاء ليست هي مجموع الأفراد الملتزمين بنفس القانون من جيل الأحياء، بل هي مجموع الأجيال الميتة و الحية و التي لم تخلق بعد، ممن تربطهم علاقة الخضوع السياسي للدولة أو رابطة مادية كالعرق الواحد و اللغة و الوطن الواحد.
تشتت قوى الأمة بين أجيالها الحية و الميتة و التي لم تخلق بعد يستحيل معه أن تتصرف مباشرة في جمع واحد.
الأخطر في ذلك كله أن جيلها الحاضر الذي يسمى شعب الدولة، ليس إلا أقلية في جمع الأجيال السابقة و اللاحقة غير محدودة العدد. شعب الدولة غير مؤهل تبعا لذلك لتمثيل الأمة لأنه لا يملك التعبير إلا عن مصلحة الأحياء.
كبديل عن الشعب يقدم الفكر السياسي الوضعي الدولة كشخص معنوي مؤهل للتعبير عن إرادة كل أجيال الأمة، و لتمثيلها و التصرف باسمها و لحسابها.

فعلى عكس الفقه الشرعي، لا يتصور الفكر السياسي الدولة الحديثة كواحدة من بين قوى للأمة المنفصلة عن بعضها البعض. و لا يرى قدرة لصنع أمر الأمة من طرف المواطنين مهما عظم سوادهم، و لا للعلماء مهما تسدد رأيهم، إلا من خلال مؤسسات الدولة.
من جهة أخرى، ليست الدولة ملزمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قصد إقامة الحضارة، و لا حتى هي ملزمة بأمر محدد.
إنها تملك سلطة مطلقة لتقدير مصلحة الأمة وفق ما تراه ولو كان ذلكم خالفا للعقل.
واضح أن النظرة الراشدة إلى السياسة لا يمكن أن تلتقي مع نظرة الطائفيين و الحداثيين على حد سواء، و ذلك بسبب اختلاف نظرتهم إلى فاعلها.
فاعل السياسة حسب الراشدين هو الأمة مباشرة أما المدارس الطائفية فترى على عكس ذلك أن السلطان أو الإمام صاحب الحق الإلهي في الحكم هو الفاعل الوحيد للسياسة، بينما تعتبر الدولة الحديثة بصفتها شخص الأمة الأوحد هي الفاعل الوحيد للسياسة في نظر الحداثيين.
اختلاف النظرة إلى فاعل السياسة في المدينة الراشدة عنه في المدينتين الطائفية و الوضعية يتبعه اختلاف حول النظرة إلى موضوع علم السياسة.

المطلب الثاني: موضوع علم السياسة

يتبين مما سبق أن موضوع علم السياسة في المدارس الطائفية هو فن رعاية الحاكم لكتلة المحكومين كوديعة بين يديه ، يتصرف في مصيرهم باعتبارهم رعية لا يملكون أية سلطة أو سيادة.
كل عمل معارض في المدينة الطائفية بما لها من امتداد في أرض الخلافة أو السلطنة و الإمارة يعد منازعة لأولي الأمر و شقا لعصى الطاعة، و يدخل في حكم الخروج من السلطان و مفارقة الجماعة.
من جهة أخرى، لا يخرج موضوع علم السياسة في مدارس الحداثة عن أن يكون فن قيادة الدولة أو فن المعارضة من خلال مؤسسات الدولة وحدها.
كل عمل قيادي خارج مؤسسات الدولة الحديثة كما كل معارضة خارج مؤسسات نفس الدولة كيفما كان نظامها، يعد إخلالا بالنظام العام يعاقب عليه القانون.
لا يملك سواد المواطنين الأعظم و لا جمهور العلماء سلطة توفير الغطاء القانوني لأعمال المعارضة أو القيادة التي تتم باسم الأمة خارج مؤسسات الدولة.

بفعل ذلك تظل كلمة الدولة هي العليا في مدينة الحداثة بما لها من امتداد إمبراطوري أو وطني، و يحق لمجموع أطرها مع من يشترك معهم من المنتخبين أن يتجاهلوا قرارات السواد الأعظم و جمهور العلماء.
لهم أن يطاردوا كل من خرج من سلطانهم قيد شبر. لا حصانة للخارج من السلطان الحداثي ضد عقوبة الإخلال بالنظام العام، و لا ينفعه في ذلك لزومه الجماعة بسوادها الأعظم و جمهور علمائها.
خلافا للمدينتين الطائفية و الحداثية، فإن موضوع علم السياسة في مدينة الأمة بما لها من امتداد في دار الإسلام هو إجماعها؛ و يكون باتحاد كلمة أفرادها كلهم، أو اتفاق ممثلي سوادهم الأعظم مع السلطان و جمهور العلماء على أمر واحد. و في حال الاختلاف يصبح موقف السواد الأعظم هو الفاصل.

فالأمة ترعى نفسها بنفسها و تقود نفسها بنفسها بطريق الإجماع مباشرا كان أو غير مباشر.
يشمل موضوع علم السياسة الراشدة بنتيجة ذلك كل أعمال جمع كلمة الأمة، من ذلك خاصة إنشاء المؤسسات التمثيلية لمنع الفرقة، و السعي لتعبئة المواطنين اجتنابا لتفشي الإمعة.
بالمقارنة مع الموضوعين الطائفي و الوضعي، يسهل ضبط موضوع علم السياسة الشرعي بمقاييس العقل. فهو ليس فن الممكن لأن جمع كلمة الأمة على أمر واحد ليس من قبيل الفن المحض و إن لم يكن من تطبيقات العلم اليقيني.
فعلى خلاف قيادة الرعية أو الدولة التي يمكن أن تنجز بالقمع و الخداع، لا يتأتى جمع كلمة الأمة بغير قبول السلطان و رضا السواد الأعظم و موافقة جمهور العلماء.
وجود السلطان ينتفي به عن السياسة الشرعية صفة العمل الفوضوي، كما أن رضا السواد الأعظم تزول به شبهة القمع، في حين تضمن موافقة العلماء إبعاد العمل السياسي عن عالم الوهم و الأحلام.
مؤكد أن ربط موضوع علم السياسة الشرعي بالسياسة النبوية بوصفها مرجعية له يجعل لهذا العلم أصولا لا بد من الالتزام بها.

المبحث الثاني: أصول علم السياسة.

بعد تحديد موضوع علم السياسة الشرعية، لا بد من تحديد طبيعته و ضبط أصوله التي هي بالضرورة نفس أصول الفقه الإسلامي في التفسير و التأويل كما استخرجها الأئمة الراشدون عملا بالمنطق الشرعي.

المطلب الأول: طبيعة علم السياسة الشرعية.

نذكِّر بداية بالطبيعة النظرية لعلم السياسة، فهو فقه و ليس وحيا و لا فلسفة. إنه علم شرعي ينتسب إلى الإسلام من حيث أنه استنباط للنظريات المطبقة في النموذج النبوي.
محمد رسول الله، صلى الله عليه و سلم، لم يكن مدرس فلسفة و لا مؤلف نظريات؛ كان صلى الله عليه و سلم رجل عمل ميداني مكلف من قبل ربه بتبليغ رسالة التوحيد في الوقت نفسه الذي يقوم ببناء نموذج المدينة الشرعية.
فأي حديث منه صلى الله عليه و سلم مجردا عن الواقع التطبيقي لم يكن ليفيد دعوته في شيء.
جاء محمد صلى الله عليه و سلم برسالة ربه في السياسة كما في غيرها عبر النماذج التي طبقها. و اعتماد أسلوب النموذج العملي لتبليغ المضمون النظري مؤكد في الوحي. فقد استعمل الله عز و جل قصص الأمم و الأنبياء كأمثلة لما يجب فهمه من أعمال محمد صلى الله عليه و سلم.

علم السياسة الشرعيه هو فقه، من جهة أخرى، لأنه ظني و ليس قطعيا.
كسائر فروع علم الحقوق، لا تقوم نظريات علم السياسة على براهين التجريد الرياضي و لا التجريب الكيميائي أو الفيزيائي. هي بالأحرى تفسيرات و تأويلات عقلية غير قاطعة للشك حول صحة ما يجب على الأمة فعله لقيادة نفسها بنفسها لما فيه عمارة الأرض.

في غياب البراهين المادية التي تقطع الشك حول الحقائق السياسية يظل علم السياسة مجرد ظن يختلف باختلاف قناعات أصحابه ؛ و قد سبق أن أشرنا إلى أن قناعات أصحاب النظر في مجال علم الحقوق تختلف بين مدرستين عالميتين إحداهما شرعية و الأخرى وضعية.
علمنا كذلك أن المدرسة الشرعية تبني نظرياتها الفقهية انطلاقا من أن الحق موضوعي يفرض نفسه على الإنسان بقوة الفطرة المادية المؤكدة بالقانون المقدس، في حين تنطلق المدرسة الوضعية من مقولة أن الحق وضعي ينشئه الإنسان و يفرضه بقانونه رغم قوة الفطرة.

الشرعية في مجال السياسة كما في غيرها تبنى وفق المدرسة الإسلامية على المصلحة المشروعة بقوة الفطرة و ليس على المنفعة المحمية بالقوة البشرية.
الحق شرعا ليس هو كل منفعة لمن يملك قوة الردع كما تقول بذلك المدرسة الوضعية. كل عمل قيادة أو معارضة لا يستقيم و منطق الفطرة هو في نظر الشرع باطل مفتقر للشرعية.
و الفطرة هي الخليقة كلها بقانون القدر خيره و شره الذي أخضع الله له كل شيء فيها. إنها كتاب الله المنظور الناطق بمادته من غير لسان.

فمادة الكون تنطق بالحق من حيث أنها فطرة من الله عز و جل، وبالتالي فإن منطق الفطرة مادي بل هو المنطق المادي نفسه كما كشف عنه فلاسفة اليونان منذ العهود العتيقة و أثبت الفلاسفة الراشدون شرعيته.
على عكس ما يدعيه الفلاسفة الطائفيون، ليس المنطق المادي وسيلة للإلحاد بل هو على العكس من ذلك وسيلة عقلية لإثبات وجود الله وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمنطق المادي يبين بوضوح أن الكون لم ينشأ بصدفة نتجت عن حركة المادة بل هو من فعل فاعل.
ذلك أن المعادلات المادية التي بها يقوم ميزان الكون الظاهر آيات يتبين بها للناس أن الخليقة من صنع صانع مصداقا لقوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). [2]
يبين المنطق المادي كذلك صدق نبوة محمد صلى الله عليه و سلم بطريق تأكيده لعدالة ما جاء به من أحكام و لصحة ما جاء به من أخبار مما يبلغ حد الإعجاز العلمي.

رغم ذلك كله فقد تواطأ علماء الطوائف المسلمة للتشكيك في شرعية المنطق المادي و ما فعلوا ذلك إلا لأنه يبين بوضوح زيف ادعاءاتهم.
المنطق المادي دليل على الحق طبقا للشرع لأنه الوسيلة لقراءة كتاب الله المنظور، غير أنه ليس الدليل الوحيد على الحق، فقد استعمل الله عز و جل كذلك الوحي المنزل على الرسل و الأنبياء لوضع الآيات الدالة على الحق.
بذلك فإن المنطق المادي يعد جزءا في المنطق الشرعي وليس كل المنطق الشرعي. فهذا الأخير يتكون من مجموع آيات الوحي و قواعد المنطق المادي.
يجدر التذكير أنه على عكس وسائل المنطق الوضعي كما أرادها كل من هيجل و ديكارت، فإن وسائل المنطق الشرعي كما بينها إمام الحكمة ابن رشد رحمه الله هي معا الأدلة العقلية التي يقوم البرهان المادي على صحتها و الأدلة النقلية التي يتم التسليم بصحتها بدليل من التأويل العقلي.

ذلك أن المنطق الشرعي يقر بأن الدليل النقلي لا يعلو بطبيعته على الدليل العقلي إلا أن يكون آية للحق بدليل التأويل العقلي. فالأدلة النقلية مطلقا تعد كلها آيات للحق في تسليم المصدقين بصحتها لكن الأدلة العقلية لا تؤكد ذلك بالنسبة لها جميعا.
أظهرت البراهين المادية المقامة بفضل التقدم العلمي الحديث زيف الأدلة النقلية للديانات الوضعية و كذلك الديانات السماوية المحرفة. في حين ذلك جاءت البراهين المادية مؤكدة لصدق الأخبار الواردة في القرآن و السنة. و ذلك برهان عقلي على صحة الأدلة النقلية الإسلامية، فهي آية للحق بدليل من التأويل العقلي.
لا شك أن الدليل النقلي الذي تتأكد صحته بدليل من التأويل العقلي يملك سلطة تتجاوز صلابة البرهان المادي. إذ تجتمع فيه قوتي التسليم و الإدراك. ذلك هو مثل نصوص القانون الإسلامي المقدس، فهي محل تسليم قلبي و إدراك عقلي. يستند الالتزام بها ليس فقط إلى عاطفة الارتباط بالمجتمع الفاضل بل و كذلك إلى الاقتناع العقلي بصحتها.

بقوتي التسليم و الإدراك تصير نصوص القانون المقدس كما هي مثبتة عند العلماء الراشدين في المصحف الشريف و في الصحيحين و السنن الأربعة، أول وسيلة و أقواها على الإطلاق لمعرفة وجه الحق في أعمال السياسة كما في غيرها.
هي الأصل الأول لعلم السياسة الذي على أساسه تكتسب نظريات الحكم شرعيتها.
يتعلق الأمر بالنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة وفق التفسير و التأويل الذي يجمع عليه جمهور العلماء. أما النصوص التي هي محل خلاف فيجب التمييز بينها حسب عدم قطعية ثبوتها أو عدم قطعية دلالتها.

النصوص غير قطعية الثبوت بالأسانيد الصحيحة عقلا لا يجوز أن يعتد بها في نظر الراشدين. فالتسليم بولاية الراوي من الصحابة أو الأئمة الرافضيين أو الأقطاب الصوفيين لا يكفي لإثبات صحة روايته، بل يجب دعم ذلك بدليل عقلي يؤكد صحة وقوع الرواية منه، و صحة تلقيه إياها من المصدر الذي ينسبها له في سلسلة مترابطة تبلغ النبي محمدا صلى الله عليه و سلم.
يجب التنويه في هذه المناسبة بالعلماء الراشدين من جيل الصحابة و جيلي التابعين و تابعي التابعين.
فبفضل مجهود علماء جيل الصحابة تم توثيق نصوص القرآن الكريم حفظا عن ظهر قلب بالقراءات المتنوعة، و كتابة في المصحف الشريف.
على هذا المستوى، يحصل إجماع جمهور العلماء المسلمين من مختلف الطوائف على قطعية ثبوت نصوص القرآن الكريم بقراءاتها المتنوعة، و لا يجادل في ذلك إلا فرقة الزنادقة.
أما نصوص السنة، فقد اشترك في توثيقها بالكتب المحققة علماء جيل الصحابة و العلماء الراشدون في الجيلين من بعدهم. إليهم يرجع كذلك الفضل في تدوين 85% من نصوص السنة قطعية الثبوت، ذلك أن مجموع ما روي عن رسول الله يظل محل خلاف في حدود نسبة 15% من حيث قطعية الثبوت.

في حدود نسبة 15% من مجموع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، يحتج علماء الطوائف بأحاديث لا يقر العلماء الراشدون بصحتها.
إنها الأحاديث التي لم ترد في كتب الحديث التي قام الدليل العقلي على صحتها و هي صحيح البخاري و صحيح مسلم و سنن أبي داود و التردي و النسائي و ابن ماجة. أما كتب الروايات الرافضية و الفتوحات الصوفية كما المسندات السلطانية فلا يعتد بصحة ما ورد فيها مما لم يوثق في الصحيحين و السنن الأربعة، إلا أن يثبت عدم وضعه من طرف زنديق و أن يكون متسقا و المنطق الشرعي.

أي حديث لا يتسق و المنطق الشرعي مردود بالضرورة، و الاتساق يكون بعدم مخالفته لدلالة النصوص قطعية الثبوت.
بخصوص قطعية دلالة النصوص، يختلف الوضع عنه كثيرا بالمقارنة مع الخلاف بخصوص قطعية الثبوت. فعلماء الطوائف لا يقرؤون نسبة 85% من نصوص السنة القطعية الثبوت و كذا نسبة 100% من نصوص القرآن إلا على ضوء نسبة 15% من النصوص غير قطعية الثبوت.
كل منهم يؤول آيات القرآن و أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم بما يتسق و معنى الأحاديث غير قطعية الثبوت.
لا شك أن في ذلك تحايل للتخلص من سلطة النصوص قطعية الثبوت و إحلال النصوص غير قطعية الثبوت محلها، و هو تحايل على الله لا يقبله المنطق الشرعي. لذلك فإن التأويلات الطائفية لا تلزم المسلمين الراشدين في شيء.
بهذه المناسبة يجب كذلك التنويه بفضل العلماء الراشدين من السابقين الأولين، المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان من جيل التابعين و تابعي التابعين. فقد بينوا بالإجماع دلالات النصوص قطعية الثبوت بما يكذب كل التأويلات الطائفية. ليس للراشدين بعد ذلك من سبيل لتفادي المواجهة مع الطوائف المتمسكة بالدلالات الخاطئة للنصوص.
التأويلات العصبية و الرافضية و الصوفية و الخارجية للنصوص القطعية الثبوت بدع فكرية. إنها تشبه في ذلك نسبة 15% من النصوص غير القطعية الثبوت بحيث لا يعتد بها ما لم تتسق و المنطق الشرعي كما عمل به الأئمة الراشدون في فهم دلالات النصوص.

المطلب الثاني: منطق علم
السياسة الشرعية

المنطق هو وسيلة العقل لمعرفة الحق وتمييزه عن الباطل، على أن العقل المسلم مطالب شرعا بالتمييز ليس فقط بين الحق و الباطل، و لكن بين الحق و الباطل من جهة و بين الظن من جهة أخرى. بذلك فقط يتم التمييز بين المعرفة القطعية للحقيقة و المعرفة غير القطعية لها.
غير أنه على مستوى علم السياسة يطالب العقل المسلم بالتمييز بين الحق و الباطل من جهة و بين المعروف و المنكر من جهة أخرى. فالظن أي المعرفة غير القطعية للحقيقة يصبح معروفا أو منكرا متى أجمعت عليه الأمة، و يدخل بفعل ذلك في حكم المعرفة القطعية للحقيقة.
نبادر إلى التنبيه على أن تمكين الشرع للأمة من تحويل الظن إلى معروف أو منكر بطريق الإجماع لا يعني تحريرها من سلطة المنطق المادي. فالأمة مطالبة شرعا بأن تتعرف على الحق في مجال السياسة كما في غيرها بالدليل العقلي إلى جانب الدليل النقلي.

الأمة المسلمة ليست علمانية؛ إنها لا تبعد دينها عن محك الحضارة. بل هي مطالبة باستعمال الدين كوسيلة لخوض التجربة الحضارية مع ما يقتضيه ذلك من التزام بموجبات الفطرة.
لا شك أن في مثل هكذا نهج حضاري أكبر تحد لا يعجز عن رفعه إلا الدين الباطل أو المحرف. فالدين الباطل كما المحرف لا يمكن أن تقوم به حضارة صحيحة، كما أن قيام الحضارة الصحيحة على أساس من الدين دليل عقلي على صحة ذلك الدين.
مقدرة الأمة المسلمة على رفع هذا التحدي الذي عجزت عنه كل الأمم هو سر خيريتها.
هي ملزمة شرعا باستعمال الدليل النقلي في كل ما دلها عليه، مع التزامها بنفس الدرجة بالمنطق المادي في كل ما دلها عليه كذلك.

خلال أزيد من أربعة عشر قرنا، وفت الأمة المسلمة بهذا الالتزام في بعض أمرها و أخلت به في البعض الآخر.
و قد جاءت نتيجة ذلك واضحة تؤكد صواب الدليل النقلي في كل ما دلها عليه ، إذ لم يتبين إلى اليوم و منذ أربعة عشرا قرنا أي خطأ فيما قامت به الأمة طبقا لما دلها عليه الدليل النقلي. في حين ذلك تأكد بشكل فاضح خطأ كل ما تم مخالفا لما دلت عليه نصوص الوحي. فالأدلة المادية لم تزل تسفه الفقه الطائفي الذي هو في حقيقته فكر وضعي نسب إلى الدليل النقلي ظلما و بهتانا.
لقد بات من الواضح أن الدليل النقلي جاء من الله عز و جل يوفر على الجيل المؤسس للأمة المسلمة مجهودا عقليا لم يكن قادرا عليه.

ليس سرا بالفعل، أن تأسيس أمة المسلمين كان معجزة حضارية بالنظر إلى الزمن القياسي الذي أنجز فيه.
فعلى خلاف أمم اليهود و النصارى و غيرهم، لم تتكون الأمة المسلمة بتطور امتد عبر القرون، بل ظهر نموذجها مكتملا في ظرف ثلاث و عشرين سنة، بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم معية جيل الصحابة، و بهجرة مباغتة للجاهلية العربية.
لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود و لا رهبان النصارى، و لم يكونوا من حكماء الهند و لا علماء الفرس و الروم، كما أنهم لم يكونوا تلامذة تربوا على يديه منذ طفولتهم.
كانوا رجالا من أقران رسول الله صلى الله عليه و سلم، عربا أميين و متشبعين بالثقافة الجاهلية.
برحمة من الله جاءهم محمد صلى الله عليه و سلم بالدليل على ما يجب فعله لإقامة أصح حضارة على الأرض، و قد نالت بركة ذلك الأمة كلها بسائر أجيالها.
فالدليل المستعمل لا يقتصر مداه على تأسيس الأمة في جيل الصحابة، بل يمتد إلى مسار حضارتها في الزمان و المكان إلى ما لا نهاية.

لقد استوعب العلماء الراشدون حكمة الدليل النقلي في وقت مبكر فاجتهدوا بالدليل العقلي لتفسيره و تأويله.
قامت على أساس ذلك مدرسة الاجتهاد الفقهي بريادة أئمة أعلام مثل أبي حنيفة النعمان و مالك بن أنس و محمد بن إدريس الشافعي و أحمد بن حنبل.
نشأت عند العلماء الراشدين الأوائل كذلك مدرسة الاجتهاد في الحكمة بقيادة أئمة أفذاذ بينوا أن الدليل النقلي كاشف عن الدليل العقلي، لا يلغيه و لا يناقضه، بحيث يحل أحدهما محل الآخر عند غيابه.
فالدليل النقلي هو دليل عقلي بضمانة المنطق المادي الذي يؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه و سلم. كذلك الدليل العقلي له نفس قوة الدليل النقلي بضمانة هذا الأخير الذي يجعل من المنطق المادي وسيلة قراءة كتاب الله المنظور.
و الدليل النقلي الذي له قوة الدليل العقلي هو النص الذي أجمعت عليه أمة محمد صلى الله عليه و سلم مما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

أما ما يقع الخلاف بشأن ثبوته أو دلالته فلا يتجاوز مرتبة النص الظني، و تحتمل فيه الضلالة، فيستبعد بفعل ذلك من مجال الأدلة إلا أن يتأكد ثبوته أو دلالته بدليل عقلي.
نفس هذا الحكم يطبقه القانون المقدس على الدليل العقلي بحيث لا يكون حجة على الحق إلا باجماع الأمة.
أما الدليل العقلي الذي يقع الخلاف بشأن صحته عقلا فلا يتجاوز مرتبة الظن، وتحتمل فيه الضلالة و يستبعد من مجال سلطة العقل.
فقد ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ) [3]
فطبقا لهذا النص المقدس تحتمل الضلالة في كل دليل لا تجتمع عليه الأمة و يستبعد مدلوله من مجال الحق. بذلك يكون إجماع الأمة هو صمام الأمان لتسوية الدليل العقلي مع الدليل النقلي في درجة القوة.

فالدليل العقلي لا يكون بنفس درجة قوة الدليل النقلي القطعي الثبوت القطعي الدلالة لمجرد أن فيلسوفا أو فقيها أو خبيرا قال به، و إنما لأن الأمة بما لها من تفويض بذلك من الله عز و جل بنص القانون المقدس أجمعت عليه.
والأمة مخولة من الله عز وجل لتجمع على القول بطريقين أحدهما مباشر و الآخر غير مباشر.
تجمع الأمة مباشرة بالضرورة على القول بالحق الذي يدل عليه برهان مادي. من ذلك مثلا كل ما يكشف عنه من حقائق بطرق العلم القطعي من رياضيات و هندسة و فلك و فيزياء و كيمياء و غيرها من فروع العلوم اليقينية.
فلا أحد من أفراد الأمة يملك أن يعترض على أن واحد زائد واحد يساويان اثنان، و أن الماء يتجمد عند درجة برودة الصفر و أن القطن يحترق بالنار. فذلك كله حق من صنع الله لا يمكن جحوده.

أما الدليل العقلي الذي ليس عليه برهان مادي فلا تجتمع عليه الأمة مباشرة أبدا.
فالأدلة العقلية ليست كلها قائمة ببرهان مادي، إذ منها ما ليس عليه برهان ملموس، لكنه في الوقت نفسه ليس من الوهم. إنها طرق العقل لكسب المعرفة بالقياس و الاستحسان و الذريعة و المصلحة و الاستصحاب. و هي بطبيعتها طرق للمعرفة غير القطعية للحقيقة و التي لا تكون أبدا محل إجماع مباشر من الأمة، لأن أفرادها مختلفون بالضرورة حولها.
من ذلك مثلا القول بأن القياس على منع تسعير السلع كما ورد به الحديث النبوي يقضي بمنع تحديد أدنى مستوى للأجور. و كذلك القول بأن الذريعة تقضي بمنع النساء من سياقة السيارات، و القول بأن الاستحسان يقضي بتوريث منصب رئيس الجمهورية، و أن الاستصحاب يقضي بسيطرة الخزينة العامة للدولة على أموال الوقف و الزكاة و الجبار، و أن المصلحة تقضي بترخيص تجارة الخمور أو المعاملات البنكية الربوية.
مثل هذه الأقوال و غيرها لا يمكن أبدا أن تكون محل إجماع مباشر من الأمة و الخلاف واقع بشأنها في كل الأوساط بما في ذلك جمهور العلماء لأنها تستند إلى الظن دون اليقين.

غير أن استحالة الإجماع المباشر على القول بدليل ظني من القياس أو الاستحسان أو الذريعة أو المصلحة إلخ لا ينفي إمكان انعقاد الإجماع غير المباشر من الأمة على القول بنفس الدليل.
إلا أنه بخلاف الإجماع المباشر لا يرفع الإجماع غير المباشر موضوع الظن إلى مرتبة الحق. فالظن محل الإجماع الغير المباشر يصير معروفا أو منكرا يستمد قوته الشرعية من أمر الأمة به أو نهيها عنه و ليس من كونه حقا أو باطلا.
مع التذكير أنه طبقا لنص الحديث المذكور أعلاه يدخل في حكم الإجماع غير المباشر ما اجتمعت عليه الأمة بواسطة قواها الثلاثة التي هي السلطان و السواد الأعظم و جمهور العلماء رغم و جود معارضة من الأقلية. و يدخل في حكمه كذلك ما اجتمع عليه السواد الأعظم من شعب الأمة عند وجود اختلاف بين العلماء أو اعتراض من السلطان.
نص الحديث المذكور أعلاه يفيد بوضوح أن الشرع لا يضمن صحة أي قياس أو استحسان أو مصلحة أو ذريعة أو استصحاب لا يكون محل إجماع من الأمة بهذا المعنى.

ذلك هو الفهم الراشد لأصول الفقه الإسلامي، أما علماء الطوائف فقد احتالوا على هذا النص ببدعة الإجماع السكوتي التي بموجبها يتحقق إجماع الأمة عندهم لمجرد عدم ظهور الاختلاف و لو بسبب الخوف من بطش السلطان.
غياب الضمانة الشرعية لصحة الدليل العقلي مفاده أن القائل به لا يعصم نفسه من إثم الضلال كما أن الآمر بمدلوله لا يعصم نفسه من إثم الأمر بالنكر في غير الحالات الخاصة النصوص عليها في القانون المقدس.
من ذلك العصمة من إثم الضلال المقررة لمصلحة القاضي المجتهد فيما يقوله و ما يأمر به. و كذلك العصمة المقررة للسلطان فيما يقوله وما يأمر به في حالة الضرورة و أيضا للفرد الملازم للجماعة و للعالم المتبع بإحسان للأئمة السابقين الأولين من المهاجرين و ألأنصار.

على خلاف هؤلاء، لا يعصم موظفو الأمة العموميين مدنيين و عسكريين أنفسهم من إثم الضلالة فيما ينفذونه من أعمال لحساب الأمة بحجة طاعة ولي الأمر لأن القانون المقدس قيد حقهم في غطاء العصمة من الإثم بالطاعة في المعروف.
فقد صح عن علي رضي الله عنه قال( بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل عليها رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب فقال أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال أوقدوا نارا فأوقدوها فقال ادخلوها فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة الطاعة في المعروف )[4].

يستفاد من هذا النص أنه عند اعتراض السلطان على قول السواد الأعظم من شعب الأمة ما لم يجمع العلماء على أن هناك ضرورة تبرر هذا الاعتراض، يكون قول السواد الأعظم هو المعروف و قول السلطان منكرا يجب على الموظفين عدم تنفيذه.
في حين ذلك يظل القاضي حرا في الاجتهاد للحكم فيما يعرض عليه من نوازل، لا يقيده إلا الحق كما هو مبين بالدليل النقلي أو العقلي، و بالمعروف كما أمرت به الأمة، و بالظن كما اطمأنت له نفسه عند استحالة معرفة الحق و غياب أمر أو نهي من الأمة.
لا يجوز للقاضي أن يحكم بالظن عند ثبوت الحق لأن الظن لا يغني من الحق مصداقا لقول الله عز و جل ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا، إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون )[5] .كذلك لا يجوز للقاضي الحكم بالظن عند وجود أمر من الأمة بمعروف أو نهي عن منكر، لأن الأمة تفعل ذلك بالإجماع و قد جعل الله لها في ذلك العصمة من الضلال، أما القاضي وإن عصم من إثم الضلال فإن ظنه لا يعصم من الضلال.

كذلك يظل ولي الأمر حرا في الأمر والنهي لا يقيده غير الحق كما هو مبين بالأدلة النقلية و العقلية ،وبالمعروف كما أمرت به الأمة و بالمنكر كما نهت عنه الأمة.
عند غياب هذه القيود يحق لولي الأمر الأخذ بما يظنه حقا ما لم يعارضه في ذلك السواد الأعظم من شعب الأمة إلا أن يرخص له جمهور العلماء بالإجماع أن يتجاهل اعتراض السواد الأعظم لسبب الضرورة. ذلك أن إجماع علماء الأمة بصفتهم يملكون قوة الأمة العقلية يعادل إجماع الأمة المباشر، فهم بإجماعهم يقررون حقيقة يقينية تفرض نفسها على الأمة بسلطة العقل الشرعية.
من جهته يتمتع كل مواطن بحرية التصرف لا يقيده غير الحق كما هو مبين بالدليل النقلي و العقلي، و بالمعروف كما أمرت به الأمة و بالمنكر كما نهت عنه الأمة.
لا يجوز شرعا للفرد أن يتصرف وفق ظنه إلا في جماعة، لأن لزوم الجماعة عند اختلاف الأقوال مطلقا واجب شرعي.
أما عند تعدد الجماعات فلا يعصم الفرد من إثم الضلال إلا الأخذ بما تقول به جماعة السواد الأعظم، لأن الالتزام بقول السواد الأعظم عند اختلاف الجماعات واجب شرعي كذلك.
من جهتهم يتمتع كل عالم بحرية الاجتهاد للقول بالحق لا يقيده في ذلك إلا الدليل النقلي أو العقلي القاطع للشك. و عند غياب مثل هذا الدليل يحتفظ كل عالم بحرية الاجتهاد للقول بما يظنه حقا رغم قول السواد الأعظم لا يقيده في ذلك كما سنرى ذلك بتفصيل، غير واجب الإحسان في إتباع السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار بصفتهم أفضل أهل العلم في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
ذلك هو منطق السياسة الشرعية الراشدة فما هو حكم العمل السياسي وفق الفهم الراشد للشرع.

المبحث الثالث: حكم العمل السياسي.

مثل سائر أفعال المكلفين، تنقسم الأعمال السياسية من وجهة نظر الشرع إلى أعمال مشروعة و أخرى غير مشروعة. فكل عمل سياسي لا يخرج عن أن يكون في نظر الدين واجبا أو مستحبا أو مباحا أو مكروها أو حراما. في الوقت نفسه لن يعدو أن يكون في نظر الأخلاق عملا شريفا أو وضيعا و عن أن يكون في نظر القانون المقدس صحيحا أو باطلا.
يدخل في دائرة الصحيح في نظر القانون المقدس من العمل السياسي كل ما كان في الوقت نفسه واجبا أو مستحبا أو مباحا من وجهة نظر الدين؛ و هو يكون بالضرورة أيضا عملا شريفا في نظر الأخلاق الشرعية.
غير أنه يعد صحيحا في نظر القانون المقدس كذلك كل ما لا يتجاوز حد الكراهة الدينية من وضيع الأفعال في نظر الأخلاق الشرعية.
و العمل الوضيع في نظر الأخلاق الشرعية يعد صحيحا في نظر القانون المقدس ما لم يكن حراما، ذلك أن العمل الحرام هو وحده الذي يبطل بقوة القانون المقدس.

تصنيف الأفعال هذا هو معيار المشروعية السياسية كما غيرها ؛ فما ينص الشرع على وجوبه أو استحبابه أو إباحته من أعمال سياسية، هو في الوقت نفسه من الأعمال الشريفة في نظر الأخلاق و من الأعمال الصحيحة في نظر القانون. يستحق فاعله التكريم و تنشأ عنه الحقوق في التعامل بين الناس.
أما الحرام شرعا، فلا تثبت به المشروعية. كل فعل محرم دينا يعتبر فاحشة في نظر الأخلاق الشرعية و كذلك عملا باطلا في نظر القانون، لا يستحق فاعله التكريم و لا تنشأ به الحقوق في التعامل بين الناس.
رأينا أن دائرة المكروهات من الأفعال في نظر الشرع تشمل كل ما هو وضيع من الخلق مما لا يبلغ درجة الحرمة الدينية. و عدم الحرمة يكسب هذا النوع من الأفعال متى تمت في مجال السياسة كما في غيره، مشروعية تجعله صحيحا و تنشأ به الحقوق في التعاملات بين الناس، و إن لم ينل فاعلها تكريما بل حصل له توبيخ بدل ذلك.
يتبين من خلال تقسيم الأعمال السياسة إلى مشروعة و غير مشروعة، أن للمدرسة الشرعية مشروع حضاري محدد المعالم.
أعمال السياسة النبوية بما يكملها من أمثلة ضربها الوحي بقصص الأمم و الأنبياء، تكشف فعلا عن معالم مشروع حضاري متكامل لم يزل المسلمون يتقربون إلى الله عز و جل بالعمل على تحقيقه مند زمن بعيد، و لن تقوم الساعة قبل إنجازه على أرض الواقع.
دراسة علم السياسة الشرعية هي في المحصلة شرح لطريقة العمل السياسي الإسلامي مع النظام السياسي الذي تعمل به الأمة الإسلامية لإنجاز مشروعها الحضاري كما هو مسطر في القانون المقدس.

قبل التعرف على هذا النظام مع طريقة العمل به لا بد من التعرف على أمة محمد صلى الله عليه و سلم في هويتها وفي ماهيتها.

[1] سورة المائدة الآية 48.
[2] سورة فصلت الآية 52
[3] سنن ابن ماجة الجزء الثاني كتاب الفتن باب السواد الأعظم ص 1303
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي و علقمة بن ..الجزء: 4الصفحة: 1577رقم الحديث: 4085
[5] سورة يونس الآية 36.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت