التشريع المتعلق بالصفقات العمومية

إن التشريع المتعلق بالصفقات العمومية من التشريعات الحديثة إذا ما قورن مع باقي فروع القانون، فقد صدر أول قانون نظم أحكامها في فرنسا سنة 1964 [1]، وجعل مفهومها مرتبط بالعقود التي تبرمها الإدارة [2]، لذا فكل صفقة عمومية تعتبر عقدا إداريا في النظام القانوني الفرنسي.
وفي الجزائر، فقد تم سن أول تشريع نظمها سنة 1967 بمقتضى الأمر 67-90 المؤرخ في 17 يونيو 1967، المتضمن قانون الصفقات العمومية، والذي أخذ بمفهوم مخالف لما كان عليه الحال في فرنسا، ذلك أن مفهوم الصفقة العمومية شمل كل الطلبيات العمومية بالمفهوم الإقتصادي للمصطلح، فكانت كل طلبات القطاع العام، الذي يشمل كل المرافق العامة ـ الإدارية منها والإقتصادية على حد السواءـ تخضع لقانون الصفقات العمومية، حسب ما نصت عليه الفقرة 2 من المادة الأولى منه، وكان الهدف من اتخاذ هذا الموقف هو “حماية أموال الدولة واعتماد فكرة التنسيق بين مختلف المؤسسات العمومية الإدارية والإقتصادية” [3]
وبقي الحال على هذا الوضع بمناسبة صدور الأمر 74-09 المتضمن مراجعة قانون الصفقات العمومية، وكذا المرسوم 82-145 المؤرخ في 10 أفريل 1982، بإبقائهما على نفس المفهوم للصفقة العمومية، وعلى نفس التوجه، فأخضع كل الأشخاص القانونية العامة لأحكامه، الإدارية منها والإقتصادية، بما فيها المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري، على الرغم من أنها “مؤسسة يكون موضوعها ونشاطها مشابها لنشاط المشروعات الخاصة الصناعية والتجارية، وتعمل في ظروف مشابهة للظروف التي تعمل فيها تلك المشاريع الخاصة” [4].

واستمر الحال على هذا الوضع حتى صدور القانون 88-01 المتضمن القانون التوجيهي للمؤسسات العمومية الإقتصادية في 12 يناير 1988 الذي استثنى المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري من أحكام قانون الصفقات العمومية بنص المادة 59 منه [5]، ولذا لم تتم الإشارة في المرسوم التنفيذي 91-434 المؤرخ في 9 نوفمبر 1991 المعدل والمتمم، والمتعلق بتنظيم الصفقات العمومية، لخضوع هذه المؤسسة لأحكامه، غير أن الممارسات كانت غير ذلك فدواوين الترقية والتسيير العقاري ـ مثلا ـ كانت دائما تلجأ إلى تطبيق أحكام النصوص المنظمة للصفقات العمومية بناء على تعليمات الوزارة الوصية.

لكن سرعان ما عاد المشرع إلى موقفه القديم بمناسبة صدور المرسوم الرئاسي 02-250 المؤرخ في 24 يوليو 2002 المتضمن تنظيم الصفقات العمومية المعدل والمتمم بموجـب المرسوم الرئاسي 03-301 المؤرخ في 11 سبتمبر 2003، الذي نص في المادة 2 منه على أنه ” لا تطبق أحكام هذا المرسوم إلا على الصفقات محل مصاريف الإدارات والهيئات العمومية المستقلة ذات الطابع الإداري بالإضافة إلى مراكز البحث والتنمية والمؤسسات العمومية الخصوصية ذات الطابع العلمي والثقافي والتكنولوجي، والمؤسسات العمومية ذات الطابع العلمي والثقافي والمهني، والمؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري عندما تكلف هاته الأخيرة بإنجاز مشاريع استثمارات عمومية بمساهمة نهائية لميزانية الدولة، وتدعى في صلب النص المصلحة المتعاقدة”.
وهنا نقطة الخلاف مع الوضع السائد في فرنسا ذلك أن المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري لا تخضع لأحكام قانون الصفقات العمومية هناك، بل للقانون التجاري نظرا لطبيعة مهامها[6].
وعرف الصفقة العمومية معتمدا على أربعة معايير هي المعيار العضوي، والمادي والمالي والشكلي، في مجموع المواد 2، 3، 5 و11 منه، وبالرجوع إليها يمكن استخلاص المفهوم الذي يهـم مذكرتنا هاته، والتي يقصد بها : “ذلك العقد المكتوب في مفهوم التشريع المعمول به، والمبرم وفق الشروط المنصوص عليها في المرسوم الرئاسي 02-250 من طرف المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري عندما تكلف بإنجاز مشاريع استثمارات عمومية بمساهمة نهائية لميزانية الدولة، وكان محلها اقتناء اللوازم أو إنجاز الأشغال، أو تقديم الخدمات أو إنجاز الدراسات التي يساوي مبلغها أو يزيد على المبلغ الذي حدده المشرع ” [7].
الملاحظ أن هذه المواقف غير المستقرة ارتبطت بمرحلة تغيير إقتصادي أو إعادة هيكلة الدولة وتحديد دورها، وهي الملاحظة الصحيحة أيضا بالنسبة لصدور المرسوم الرئاسي 02-250، وبالنسبة لتعديله الصادر بالمرسوم الرئاسي 03-301، ذلك أنهما صدرا في مرحلة هامة من الإصلاحات التي تتبناها الجزائر، وفي إطار سياسة إعادة هيكلة الدولة وتحديد مهامها، تكريسا لمبدأ الحكم الراشد وترشيد النفقات العمومية، فلجنة سبيح، أحصت 225 مؤسسة عمومية ذات طـابع صناعي وتجاري E P I C، من بين العدد الإجمالي للمؤسسات العمومية الموجودة [8]، أي ما نسبته 34.61 بالألف [9].
إن اتخاذ مثل التعريف المذكور أعلاه، ترتبت عليه آثار لافتة للانتباه تتعلق بالطبيعة القانونية للصفقة العمومية، وكذا بطبيعة النزاعات التي قد تطرح بشأنها وبالتالي في اختصاص القضاء الفاصل فيها والقانون الواجب التطبيق، والتي سوف نحاول استشرافها والإحاطة بها من الناحية النظرية على الأقل، وتقديم الحلول الممكنة لها على ضوء النظام القانوني الجزائري والمواقف المعبر عنها من طرف القضاء العادي والإداري، وكذا محكمة التنازع.
ذلك أن اعتبار الصفقات العمومية، عقدا إداريا، يخضع لأحكام القانون الإداري وكل نزاع يتعلق به من اختصاص القاضي الإداري، من طرف غالبية الفقهاء الجزائريين [10]، ومن طرف مجلس الدولة الجزائري، الذي ساير الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في موقفها [11]، لم يصبح حتمية.
وإن رأي الدكتور بن ناجي شريف ، الذي دافع منذ مدة على أن الصفقة العمومية قد مالت نحو العقد المدني أكثر منه إلى العقد الإداري [12]، أصبح اليوم أكثر جلاء.

[1] محاضرات الأستاذ بن ناجي شريف، محاضرات طلبة الماجستير فرع الدولة والمؤسسات العمومية، المرجع السابق
[2] وهو نفس التوجه السائد اليوم إذ تنص المادة 1 من قانون الصفقات العمومية الفرنسي على أن:
” Les marchés publics sont des contrats conclus à titre onéreux avec des personnes publiques ou privées par les personnes morales de droit public mentionnées à l’article 2 pour répondre à leurs besoins en matière de travaux, de fournitures ou de services”.
Voir M.ALFONSI Jean, La notion de marché public, revue du conseil d’Etat, N°3; année 2003, P52.
[3] د: سعيد بوالشعير، نظام المتعامل العمومي بين المرونة والفعالية، المجلة الجزائرية للعلوم القانونية الإقتصادية والسياسية، الحجم 14، العدد 2، جوان 1986، الصفحة 434.
[4] د/ مصطفى أبو زيد فهمي، القانون الإداري ـ ذاتية القانون الإداري، الإدارة العامة في معناها العضوي ـ الإدارة العامة في معناها الوظيفي، الدار الجامعية للطباعة والنشر، 1993، ص 207.
[5] تنص المادة 59 من القانون 88-01 على أنه:”لا تخضع المؤسسات العمومية الاقتصادية و الهيئات العمومية ذات الطابع الصناعي و التجاري، التي تحكمها قواعد القانون التجاري، لأحكام الامـر رقم 67 – 90 المؤرخ في 17 يونيو سنة 1967 و المتضمن قانون الصفقات العمومية”.
[6] M.ALFONSI Jean, Op cit, P53: “les seules personnes publiques auxquelles les dispositions du code des marchés publics ne s’appliquent pas nécessairement sont les établissements publics à caractère industriel et commercial, qui sont soumis aux usages du commerce en raison de leur mission”
[7] إن المعيار المالي من المعايير التي تدخل في تعريف الصفقة، والمقصود به أن يصل مبلغ الصفقة الحد الأدنى المقرر قانونا، وأن يكون التزام المصلحة المتعاقدة هو إنفاق المال العام، أي ما لا يقل عن ستة ملايين دينار بالنسبة لصفقات الأشغال والتوريدات وأربعة ملايين دينار لصفقات الخدمات والدراسات، حسب المادة 5 من المرسوم الرئاسي 02-250 المعدل والمتمم.
مع الملاحظة أن القانون الفرنسي أخذ نفس الموقف فيما يخص العقود ذات المبالغ غير المهمة، عقود الإمتياز،عقود بتفويض تسيير المرافق العامة بصفة عامة، العقود المبرمة مع المرتفقين، العقود المبرمة مع الشاغلين للأملاك العامة…..لمزيد من المعلومات راجع:
René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, 9° édition, P 1047, Montchrestien, Delta, 1995
[8] راجع في ذلك محاضرات الأستاذ بن ناجي شريف، محاضرات طلبة الماجستير فرع الدولة والمؤسسات العمومية، المرجع السابق.
[9] إن هذه النسبة الكبيرة تعبر بما لا يدع مجالا للشك أنه وعلى الرغم من أن الجزائر تتجه نحو اقتصاد الليبرالي الذي يتطلب تدخل رأس المال في الحياة الإقتصادية أكثر من تدخل الدولة ، إلا أن الدولة مازال لها الدور الهام الذي تلعبه في الحياة الإقتصادية، خاصة إذا أضفنا عدد المؤسسات العمومية الإقتصادية والذي يبلغ ـ حسب ذات المرجع ـ 401 مؤسسة، أي ما نسبته 61.69 بالألف من العدد الإجمالي، فهل ذلك من ناتج عن ضروريات التحول البطيء، أم أن الجزائر تحاول تبني رأسمالية تهتم بالجانب الإجتماعي، أم أن القطاع الخاص غير مستعد بعد للعب دوره، أم أنه يحجم عن ذلك عمدا، أو أن الإدارة لا تريد تحرير الإقتصاد عمدا، أم أن هذه النسبة تعبير عن نتاج كل هذه العوامل متوفرة في نفس الوقت، وهو الرأي الذي نتبناه.
[10] د/ سعيد بوالشعير، المرجع السابق، الصفحتين 422 و 423 جوان 1986.
[11] القرار الصادر بتاريخ 14 ماي 2001 في القضية بين ديوان الترقية والتسيير العقاري لوهران ضد مؤسسة الأشغال لعين تيموشنت ملف رقم 000332، الذي جاء في الصفحة 3 منه أن إخضاع العقد لقانون الصفقات العمومية كقانون مرجعي يجعله صفقة عمومية، وعليه أكد أن القضاء الإداري مختص بنظر أي النزاع المتعلق به.
[12] Dr Bennadji Chérif, évolution de la réglementation des marchés publics, thèse de doctorat, faculté de droit, université d’Alger; 1991.