أثيرت في الفترة الأخيرة مسألة تتعلق باقتراح البعض استحداث جهة قضائية جديدة تختص بالقضاء التأديبي نزعا من اختصاصات مجلس الدولة المستقر عليها منذ عام‏1946,‏الا أن هذا المقترح قوبل بالرفض من غالبية فقهاء القانون, ومن مستشاري وقضاة مجلس الدولة باعتباره سلبا لاختصاصات مجلس الدولة التي تواتر النص عليها في جميع الدساتير والقوانين السابقة.

وفي ذلك يؤكد القاضي المستشار الدكتور عمرو عبد الرحيم ـ عضو المكتب الفني للمحاكم الإدارية والتأديبية, أن هذا المقترح يمثل اعتداء صارخا علي اختصاص مجلس الدولة كجهة قضائية عريقة تمثل قلعة الحقوق والحريات العامة في مصر, ويعد محاولة غير ناجحة لسلب اختصاص من قاضي القانون العام المختص بنظر المنازعات الإدارية والتأديبية.

وأضاف أن الفقيه الدكتور سليمان الطماوي أكد علي ذلك, بقوله أن القضاء التأديبي جزء لا يتجزأ من القضاء الإداري, شكلا وموضوعا, وأن القانون رقم117 لسنة1958 الخاص بإعادة تنظيم النيابة الإدارية جعل تبعية المحاكم التأديبية لمجلس الدولة تبعية تامة, فأعضاء تلك المحاكم ينتسبون إلي مجلس الدولة, ورئيس المجلس هو الذي يعين بقرار منه عدد المحاكم التأديبية ومقارها ودوائر اختصاصها وتشكيلها, ولكن الأهم من تلك الرابطة العضوية, طبيعة النظام التأديبي في ذاته, فالمسلم به إجماعا أن النظام التأديبي جزء لايتجزأ من أحكام الوظيفة العامة,

ويكون عنصرا هاما ورئيسا من عناصر المركز الوظيفي الذي يشغله الموظف, ونشأة القضاء الإداري كما هو معروف- مرتبطة تماما بالتمييز بين روابط القانون العام وروابط القانون الخاص, وأيا كان الأساس الذي يقوم عليه القانون الإداري تكمن في تخصصه في نظر المنازعات المتعلقة بالقانون العام, وان النشاط التأديبي منذ إنشاء القضاء الإداري في مصر1946 يتبع القضاء الإداري, فحتي سنة1958 كان التأديب يمارس في صورة قرارات إدارية سواء صدر القرار التأديبي من الرئيس الإداري الفرد, أو من مجلس تأديبي, ومن ثم فأن الطعن في القرارات الإدارية بنوعيها, كان يتم في صورة دعوي إلغاء عادية, لا تفترق عن غيرها من دعاوي الإلغاء سواء في شروط القبول أو أوجه الإلغاء, وحينما استحدث المشرع نظام المحاكم التأديبية سنة1958, لم يدر بخلده أن يغير من طبيعة هذا النظام, وانما استهدف زيادة الضمان للموظفين, ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تنص المادة32 من القانون رقم117 لسنة1958 علي أن أحكام المحاكم التأديبية نهائية, ولا يجوز الطعن فيها الا أمام المحكمة الإدارية العليا, لذلك فأن المشرع حينما اخضع قضاء المحاكم التأديبية لرقابة المحكمة الإدارية العليا لم يرد أن يستعير محكمة قائمة لتشرف علي نوع جديد من المحاكم, كما قال البعض, ولكنه وضع الأمر في نطاقه الصحيح, بوضع أحكام ذات طبيعة إدارية وتتصل بالقانون العام, تحت رقابة المحكمة التي ناط بها المشرع تأصيل قواعد القانون العام, وبات الانسجام في أرجائه, ورفع كل أوجه التناقض في جنباته, وحينما تتصدي للفصل في النزاع المقام أمامها, فإنما تثير جميع القواعد المتعلقة بسير المرفق وتنظيمه, بل وبالقواعد المنظمة للسلطات العامة في الدولة,

وبما يتمتع به المواطن من حريات عامة, وهذا النشاط من ابرز مجالات القانون العام علي الإطلاق, بل أن التأديب أذا كان يستهدف العقاب كما يبدو في ظاهر الأمور, فأنه يستهدف في الحقيقة كشف العيوب في البناء الإداري تمهيدا لإصلاحه بما يمنع ارتكاب المخالفات مستقبلا, ولهذا فإن الأحكام التأديبية تعتبر معينا خصبا لتوجيه الإدارة, ومن ثم فلا شك أن القضاء التأديبي ليس أكثر من قضاء متخصص في نطاق القضاء الإداري, ولا يحبذ إنشاء قضاء متكامل ومستقل, فذلك تعقيدا للأمور لا مبرر له, وتفتيت لمنازعات ذات طبيعة واحدة, لأن التأديب جزء لايتجزأ من نظام الوظيفة العامة, فيجب ان تهيمن عليه جهة واحدة, وانه منذ إنشاء المحاكم التأديبية سنة1958 وإخضاعها للمحكمة الإدارية العليا, وجد قضاء غني ومتنوع الجوانب, أرست أسسه المحكمة الإدارية العليا, وإذا كان هذا القضاء يصدر في خصوص التأديب, فان أثاره لاتقف عند التأديب بمعناه الضيق, بل تمتد لتشمل الوظيفة العامة بمختلف أجزائها, ومن ثم فان القضاء التأديبي جزء لايتجزأ من القضاء الإداري, ولا يمكن أن ينفصل عنه.

كما أشار المستشار د. عمرو عبد الرحيم لبعض كلمات الفقيه الدكتور محمد كامل عبيد, والتي تعد شهادة حق في قضاء مجلس الدولة, حينما قال بأن المتقاضين أمام مجلس الدولة سواء حكومة وأفرادا, إذ لا قوي لديه ولا ضعيف, لم يرهب أحدا لقوته ولم يستخف أحدا لهوانه وضعف حيلته, نهض بالتبعات, وأماط الشبهات, ولم يجفل أمام التضحيات, وعظمت في أحكامه الحريات, وهل ينسي أحد من المنصفين فضل تلك الأحكام الروائع, التي أصدرها المجلس, وأثرها في صون الحريات وتقديس الحرمات, وهل يغيب عن الأذهان إشراق هذه المبادئ التي مازالت نبراسا باقيا للإعقاب؟ وهل سدد خطي الإدارة وصدها عن سبيل الغي غير قوارع أحكامه حتي استيقظ ضميرها وأحست وقع أقدام الزمن حولها ؟ فقوته قوة للمستضعفين, وضعفه ايذان بوهن ضمانات المتقاضين ؟ ولا يمكن أن نحصي مظاهر النشاط المتشعب النواحي لمجلس الدولة, سواء في قضاته أو في رصانة فتاوي أو فيما أحكم صياغته من تشريعات عرضت عليه, وحسبنا دلالة علي قوة هذا النشاط واستجابته لسنن التطور في العلاقات الإدارية وملابساتها ما حفلت به مجموعات الأحكام والفتاوي, فهي سجل ناطق بثراء هذا الفقه الإداري ودقته واطراد نموه وتفجر طاقاته الفنية التي أوشكت أن تكون فتحا مبينا يزيدنا ثقة وإيمانا بمجلس الدولة, انه حقا مجلس الدولة حصن الحقوق والحريات.. سيظل… ملاذا للمستضعفين وسيفا علي الظالمين.

بقلم المستشار د. عمرو عبد الرحيم

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .