تنظيــم عقـــود اللّزمة في القــانون التونسي

الأستاذ وسيـــم الماجــــدي

إن التحولات العميقة و المتسارعة التي شهدها العالم لها عميق الأثر على دور الدولة و طرق تدخلها إذ هناك حرص كبير على تشريك الخواص في الاضطلاع بعدد لا يستهان به من الأنشطة جنبا إلى جنب مع الهياكل العمومية.

يلعب القانون عدد23 المؤرخ في 01 أفريل 2008 المتعلق بنظام اللزمات دورا أساسيا على المستويين التطبيقي و النظري في هذا المجال. و تعتبر الإضافات التي جاء بها هذا القانون أمرا بالغ الأهمية باعتبار أن هذا القانون يؤسس لبعدين أساسيين: البعد الأول هو التأسيس لنظام قانوني عام يطبق في مادة اللزمة عوضا عن نصوص قانونية مشتتة، قطاعيةsectorielle ) ) و جزئية فسحت المجال إلى انعدام الضمانات القانونية لصاحب اللزمة. أما البعد الثاني فيتمثل في كون أن هذا التقنين لعقود اللزمة يعد الأول من نوعه في مفهوم الشراكة بين القطاعين العمومي- الخاص بالتشريع التونسي.

لقد أدخل هذا القانون تطورا في مفهوم اللزمة و ذلك بربط اللزمة بمتطلبات القطاع العمومي و الخاص في نفس الوقت.

ففي الفترة السابقة لقانون 2008 كانت طريقة التعامل مع هذه العقود تجريبية، إذ أن الدولة كانت تقنن مادة اللزمة بصفة ظرفية و على حسب القطاع المعني باللزمة.

تقوم طريقة التنظيم القطاعي أساسا على تنظيم تقنية اللزمة في كل قطاع على حده. و بالرغم من وحدة المبادئ العامة التي أقرها المشرع التونسي بشأن منح اللزمات و تنفيذها و متابعتها فإن هذا الأخير ارتأى ،على الأقل إلى حد صدور قانون 2008 المتعلق بنظام اللزمات، أن يدرج تلك المبادئ صلب نصوص قانونية متفرقة يختص كل منها بتنظيم مجال أو قطاع محدد.

و أمام هذا التعدد الذي قد يكون ايجابيا في ظاهره ظهرت جملة من النقائص و السلبيات سعى قانون 2008 إلى تصحيحها. علما و أن قانون 2008 قد جاء أكثر شمولية يتجلى ذلك من خلال تنظيمه لأغلب الجوانب و المحاور التي بينت تجربة تطبيق النصوص القطاعية أنها عادة ما تكون محل جدل. لعل من أبرز هذه النقاط هو تحديد لمفهوم و مجال اللزمة باعتبارها ، حسب قانون 2008، عملية تفويض لمهمة تصرف شؤون مرفق من المرافق العمومية أو استغلال و استعمال أملاك أو معدات عمومية.

و اعتبر العقد هو إطارها الأساسي باعتباره يمثل الوسيلة التي يتم بمقتضاها و في إطارها ضبط واجبات و حقوق الأطراف المتعاقدة. من ناحية أخرى قام قانون 2008 بتكريس فكرة التوازن المالي في إطار عقد اللزمة و ذلك بتحديد كل من حقوق و واجبات مانح اللزمة من ناحية من دون تجاهل حقوق و واجبات صاحب اللزمة و هو يعد من قبيل باب التأقلم مع المتطلبات الجديدة للاستثمار الخاص في مجال إنجاز و استغلال المشاريع العمومية. أمر أساسي سعى المشرع لتحقيقه من خلال قانون 2008 بصفة سلسة و في إطار احترام أساس و مرجعية اللزمة.

في هذا الإطار يبقى التساؤل قائما و أساسيا لمعرفة ما هو النظام القانوني لعقود اللزمة في القانون التونسيّ؟

للتعرف على النظام القانوني لعقود اللزمة في القانون التونسي استوجب التعرض في جزء أول إلى القواعد لعامة المقننة لعقود اللزمة (جزء 1) ثم في مرحلة ثانية التطرق إلى القواعد الخاصة بقانون اللزمة في القانون التونسي (الجزء 2).

الجزء الأوّل: القواعد العامّة المقننة لعقود اللزمة

يعتبر عقد اللزمة عقدا إداريا تحتل فيه الإدارة مكانة هامّة، إلاّ أنّ ذلك لم يمسس بالمكانة و الرعاية المميّزة التي ما فتئ المشرع التونسي يحيطها بأصحاب اللزمات. يمكن التطرق إلى هذه الرعاية الخاصّة من خلال التعرض إلى كلّ من قواعد تكوين عقد اللزمة و قواعد تنفيذه.

الفصل الأوّل: قواعد تكوين عقد اللزمة

لطالما كانت الإدارة هي الطرف الوحيد الذي يلعب الدور الأساسي في تكوين عقد اللزمة إلا أنّه و بحلول قانون غرّة أفريل2008 أصبح صاحب اللزمة، إلى جانب الإدارة، يحضا بدور فعّال في مرحلة تكوين العقد : يتجسّم ذلك من خلال ثلاث نقاط أساسيّة: مبادرة عرض اللزمة (2) دور المنافسة في تحديد صاحب اللزمة(3) شكليات عقد اللزمة (1).

شكليات عقد اللزمة
الجانب الشكلي هو الضامن الأساسي لتحقيق التوازن التعاقدي و هو الأمر الذي ذهب في اتجاهه قانون 2008، فعقد اللزمة استوجب أن يكون مكتوبا أو قائما على كرّاس شروط. يستشف ذلك من خلال الفصل 14 من نفس القانون الذي ينص” تتكون وثائق اللزمة من العقد و كراس الشروط و الملاحق التي يمكن أن تتضمن بدورها وثائق أو اتفاقات بأخذ بعين الاعتبار خصوصية الإلتزامات الواردة بالعقد.”

فقاعدة الشكليّة (le formalisme ) هي تقليديّة من نوعها إلا أنّه ما جاء به الفصل 14 من القانون الانف الذكر هو بالغ الأهمية باعتبار و أنه يؤكد تنصيصات وجوبيّة يؤكد من خلالها المشرع في كل مرّة على كل من حقوق و واجبات صاحب اللزمة و مانحها. و هو أمر من شأنه توضيح سلامة الرضاء.

لقد تمّ تحديد قائمة في التنصيصات الوجوبيّة و ذلك في كلّ من الفصول 18 إلى 23 من قانون 2008 ، فالفصل 18 من فقرته الأولى ينص” يضبط العقد المدّة اللزمة مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأعمال المطلوبة من صاحب اللزمة و الإستثمار الذي يجب أن ينجزه”.

بحيث تحضا مدّة عقد اللزمة باهتمام خاص من قبل النواميس الدوليّة المتعلقة بالشراكة بين القطاع العمومي و القطاع الخاص و بالخصوص فيما يتعلق بالتمديد في مدّة عقد اللزمة، علما و أن نفس تلك النواميس تؤسس لاحترام المنافسة الشفافة من خلال الحفاظ على القواعد الأساسية لتكافئ الفرص و الحظوظ و تجنّبا لمظاهر التمديد في عقد اللزمة بصفة لا متناهية ممّا من شأنه المساس بمبدأ المنافسة العادلة و اللجوء إلى طرق احتيالية لتقديم شخص عن آخر من دون أي موجب قانوني شرعي.

بالتالي لتجنّب الوقوع في وضعيات تنافسية غير شرعية و مشبوه فيها حدّد المشرع في الفصل 18 من قانون 2008 بصفة واضحة على أنّه لا يمكن التمديد في مدّة عقد اللزمة إلا بصفة استثنائية و في حالات محدّدة وردت بصريح العبارة:”

لأسباب تتعلق بالمصلحة العامّة و لمدّة لا تتجاوز السنتين.
في حالة التأخر في الإنجاز أو التوقف عن التصرف بسبب حدوث ظروف غير متوقعة و خارجة عن إرادة طرفي العقد.

عندما يكون صاحب اللزمة ملزما من أجل حسن تنفيذ الخدمة موضوع العقد و بطلب من مانح اللزمة أو بعد موافقته بإنجاز أشغال جديدة غير واردة في العقد الأوّلي من شأنها تغيير الاقتصاد العامّ للزمة و تنحصر مدّة التمديد في هذه الحالة في الآجال الضرورية لإعادة التوازن المالي للعقد لضمان التوازن المالي للعقد و لضمان إستمرارية المرفق العمومي.”

و يواصل المشرع في نفس السياق مجزما أنّه ” لا يمكن التمديد في مدة اللزمة إلا مرّة واحدة بطلب من صاحب اللزمة و بناءا على تقرير معلل يعدّه مانح اللزمة لتبرير التمديد و يجب أن يكون التمديد موضوع عقد ملحق بالعقد الأوّلي.”

من هنا نلاحظ أن المشرع التونسي قد كان حاسما في تحديد مدّة عقد اللزمة و هو من شأنه أن يشكل ضربا من ضروب المساس بمبدأ الحرية التعاقدية و في نفس الوقت توضيح للنيّة الصارمة للمشرع في تكريس حرية المنافسة و احترام الشفافيّة.

و في نفس السياق، ينصّ الفصل 20 من نفس القانون ” يبين العقد دورية و أشكال المراقبة و المتابعة التي يمارسها مانح اللزمة على تنفيذ اللزمة و يحدد الوثائق الفنية و المحاسبية و المالية التي يتعين على صاحب اللزمة توجيهها إلى مانح اللزمة بصفة منتظمة.

كما يحدد العقد الإجراءات التي يمكن اتخاذها ضدّ صاحب اللزمة في حالة عرقلته لعمليات المراقبة التي يمارسها مانح اللزمة و كذلك في حالة إخلاله بواجب توجيه الوثائق المنصوص عليها بالعقد في الآجال المتفق عليها.

ينصّ العقد على المتابعة الدورية التي يقوم بها الطرفان المتعاقدان للنظر في مدى تقدم تنفيذ العقد” و هو ما من شأنه أن يؤكد على مبدأ الشفافية و توازن القوى داخل نفس العقد.

و في نفس المنحى و في إطار توجيه و تحديد مدى مصدقيّة الرضاء و محافظة على حقوق الإدارة و مبدأ إستمرارية المرفق العمومي ينص الفصل 22 من القانون الانف الذكر ” يتضمن العقد علاوة على الأحكام المتعلقة بنهايته العادية أحكاما تتعلق بإنهائه قبل حلول أجله خاصّة في الحالات التالية: أ) استرجاع اللزمة من قبل مانح اللزمة بعد انقضاء مدة محددة في العقد و ذلك وفقا لأحكام 27 من هذا القانون.ب) إسقاط حق صاحب اللزمة من قبل مانح اللزمة إذا صدر عنه إخلال خطير بأحد التزاماته التعاقدية الجوهرية و ذلك وفقا لأحكام الفصل 26 من هذا القانون(…).”

إلى جانب التنصيصات الوجوبيّة، فإن القانون قد ترك للأطراف حرية مراجعة بعض التنصيصات الغير الوجوبيّة. ( الفصل 21 من نفس القانون).

يحظى الفصل 21 بأهميّة بالغة باعتبار و أن ما جاء به يعدّ من قبيل التجديد و التطور في مادة عقود اللزمة.

مبادرة عرض اللزمة
بحلول قانون غرّة أفريل2008 أصبح من الممكن للراغب في إبرام عقد لزمة أن يبادر من تلقاء نفسه، عارض على “مانح اللزمة” (الإدارة) إبرام عقد لزمة، فالفصل 8 من القانون انف الذكر يذكّر بأنّه ” تعود المبادرة بعرض اللزمة إلى مانح اللزمة” و يقع التأكيد في فحوى الفصل 11 من نفس القانون على الإمكانية ” لكل شخص أن يقترح بصفة تلقائية القيام بالاستثمار في إطار لزمة و يتعيّن عليه في هذه الحالة أن يقدّم للشخص العمومي المختصّ و الذي يمكن أن يكون مانحا للزمة على معنى هذا القانون، عرضا يتضمّن دراسة جدوى فنية و بيئية و اقتصادية و مالية…” بالتالي يبرز من خلال هذين الفصلين الدور الإيجابي الذي أصبح يلعبه الخواص قصد إبرام عقود مع أشخاص القانون العام.

و تعتبر مبادرة عرض اللزمة من قبيل التكريس الواضح لمبادئ لحنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي المتعلقة بمشاريع البعث ذا التمويل الخاص. و تعتمد هذه المبادرة بصفة فعليّة و جادّة من قبل السّلط المانحة للزمة و هو ما يكرّسه صراحة الفصل 12 من نفس القانون الذي ينصّ” يتعيّن على الشخص العمومي المعني دراسة العرض المقدّم إليه و إعلام صاحبه بماله” و هو ما من شأنه إضفاء الجديّة على رغبات الخواص و متطلباتهم و في نفس الوقت تحميل الإدارة مسؤولية حسن درس عروض الخواص بشكل جدي.

و يقع درس المقترحات المقدّمة للإدارة بصفة جديّة و في كنف احترام قواعد المنافسة بين الأطراف.

دور المنافسة في تحديد صاحب اللزمة
قبل إبرام عقد اللزمة مع مانح اللزمة استوجب على هذا الأخير اللجوء إلى قواعد المنافسة العادلة قصد التوصل إلى الشخص الأحق بالحصول على اللزمة. و تتأسس المنافسة العادلة بالأساس على ضرب من اللبراليّة الحقيقيّة و الشفافة ما من شأنه أن يفسح العنان لمختلف الأطراف بالتساوي كي يعبّروا عن رغبتهم في الإسهام في الحياة الإقتصاديّة.

يلعب احترام مبدأ المنافسة النزيهة و الشفافة دورا هاما في تحقيق ضمانات الحصول على أحسن العروض من حيث النوعيّة و أيضا من حيث الثمن.

و تكريسا لمبدأ احترام قواعد المنافسة تفتح العروض في جلسة مغلقة و ليست عامّة، بهدف أن تتعاقد الإدارة مع الشخص المتقدّم بالعرض و تتخذ هذه الأخيرة قرارها وفق معايير موضوعيّة و شفافة و تقوم الإدارة على هذا الأساس بضبط قائمة في المتنافسين وفق ترتيب تفاضلي استنادا إلى قدرة كل عارض من بين المتقدمين و دون الخضوع لإجراءات معيّنة فهي تحاول بكل موضوعيّة اختيار الأجدر بالحصول على اللزمة.

حريّ بنا أن نؤكّد على أن مبدأ المنافسة في عقود اللزمة قد جاء سابقا لقانون عدد 23 لسنة 2008 المؤرخ في 01 أفريل 2008 و المتعلق بنظام اللزمات إذ أنه تمّ التنصيص على ذلك في بعض النصوص القطاعيّة مثال: الفصل 3 (§3 ) من القانون عدد 27 لسنة 1996 المؤرخ في 01 أفريل 1996 و المتعلق بإتمام المرسوم عدد 08 لسنة 1962 و المتعلق ببعث و تنظيم الشركة التونسية للكهرباء و الغاز على” أنّه يمكن للدولة أن تقوم بإسناد لزمات لإنتاج الكهرباء إلى الخواص، و تضبط شروط و إجراءات منح اللزمة بأمر.

” و بصدور قانون 2008 الانف الذكر أصبحت المنافسة مبدأ عامّا في تقنين عقود اللزمة ممّا أضفى أكثر شفافيّة في احترام قانون المنافسة و هو ما جاء به الفصل 9 من القانون الانف الذكر” باستثناء قواعد الفصل 10 من هذا القانون يجب لاختيار صاحب اللزمة أن يقوم مانح اللزمة بالدعوة إلى المنافسة ضمانا للمساواة بين المترشحين و لشفافيّة الإجراءات و تكافئ الفرص…”أأأ من ناحية أخرى ينص الفصل 10 من ذات القانون ” يمكن اختيار صاحب اللزمة إمّا بعد تنظيم استشارة أو عن طريق التفاوض المباشر في إحدى الحالات الإستثنائية التالية:

إذا تمّ الإعلان على أن الدعوة للمنافسة غير مثمرة
لأسباب يقتضيها الدفاع الوطني أو الأمن العامّ
في حالة التأكد لضمان استمرارية المرفق العمومي
إذا تعلق إنجاز موضوع العقد بأعمال لا يمكن أن يعهد إنجازها إلا لشخص معيّن أو بنشاط يختص باستغلاله حامل براءة اختراع…”

حيث نلاحظ من خلال الفصلين المذكورين نوع من التكامل و الدقّة في التشخيص ممّا يبين الدور الأساسي الذي يحضا به صاحب اللزمة عند إبرامه لعقد اللزمة. بحيث يعتبر تدخل المشرع في تأطير المنافسة الحرّة من قبيل التأكيد على مبدأ المصلحة العليا للبلاد أو ما يعبّر عنه قانونا بالنظام العامّ الذي يخضع لتقدير السلط المختصّة.

لكن و بالرجوع للفصول المذكورة سابقا و للفصل 12 من نفس القانون يستشف من ذلك و أن الإدارة تبقى صاحبة القرار الأخير باعتبار و أنّها تتمتع بحق الدعوة للمنافسة و ليس بواجب الدعوة للمنافسة. بطريقة أخرى للإدارة الحق في الإختيار بين الاستشارة و الدعوة للمنافسة و هو أمر منتقد باعتبار و أنّ ذلك يخل بالمنافسة و قواعدها و يمسّ بدوره بمبدأ المساواة بين الأطراف في منح الفرص.

يجدر بنا أن نلاحظ و أنّ مبدأ شفافية المنافسة فيما يتعلق بعقود اللزمة حساس و يشكو من جملة من النقائص التي من الممكن مكافحتها و ذلك بتدعيم استقلاليّة القضاء عموما و على وجه الخصوص تفعيل دور مجلس المنافسة على مستوى القانون و الواقع و هو ما من شأنه تأمين ظروف ملائمة للتعاقد و في نفس الوقت ضمان قواعد حسن تنفيذ العقد.

الفصل الثاني : قواعد تنفيذ عقد اللزمة

تتجسم قواعد تنفيذ عقود اللزمة أساسيا بمجرّد الإطلاع على كل من التزامات مانح اللزمة(1) و التزامات صاحب اللزمة (2).

التزامات مانح اللزمة
لقد عرف المشرع مانح اللزمة من خلال الفصل 3 من قانون 2008 : الدولة ـ المؤسسة ـ المنشآت العمومية التي يمكنها نص إحداثها من منح اللزمة. و عموما تمنح اللزمة من قبل الشخص العمومي. فالإدارة يمكن أن تكون في نفس الوقت الشخص المسؤول عن حماية المنافسة عند إبرام عقود اللزمة و الحامي لصاحب اللزمة في نفس الوقت.

و يعتبر دور الإدارة في حماية المنافسة دورا هاما و كلاسيكي باعتبار و أن الإدارة ملزمة باحترام هذا المبدأ و هي تجعل منه في الآن نفسه معيارا لتقييم مشروعية قراراتها عند تنفيذ العقد. فاحترام المنافسة أمر أساسي لحسن تنفذ العقد في إطار الشفافية و احترام قواعد السوق و لعل من بين ما يؤكد هذا الاتجاه التشريعي هو ما تضمنه قانون المنافسة عدد 60 لسنة 2005 المؤرخ في 12/07/2005 المنقح لقانون المنافسة و الأسعار و المرسي لمبدأ الاستشارة الوجوبية لمجلس لمنافسة بخصوص سائر النصوص الترتيبية الصادرة في المادة الاقتصادية. فقانون المنافسة يعد الضامن الوحيد لحسن سير عقد اللزمة و هو الحافز أو الرادع الأشمل لإلزام الإدارة على حسن احترام المساواة بين جميع الأطراف المتنافسة و الطالبة حصولها على اللزمة.

يلتزم مانح اللزمة بجميع التزاماته التعاقدية الواردة بالعقد و يتعهد بضمان حسن تنفيذ اللزمة، و هو أمر قد نصّ عليه لمشرع بصفة صريحة صلب الفصل 24 من قانون 2008 الذي جاء به ” يجب على مانح اللزمة أن يتخذ جميع الإجراءات الضرورية المترتبة عن التزاماته التعاقدية لضمان حسن تنفيذ العقد.”

يحتفظ مانح اللزمة بحقه في مراقبة المنتفع باللّزمة و ذلك بصورة دائمة أي طيلة مدة العقد على أن تتم ممارسة هذه الرقابة حسب الشروط و الأشكال التي تم الإتفاق عليها بالعقد.

و تمتد المراقبة التي يمكن أن يمارسها مانح اللزمة للتثبت في الجوانب الاقتصادية و الفنية و المالية المضبوطة بعقد اللزمة. و يمكن في إطار ممارسة هذه الرقابة أن يختار مانح اللزمة اللجوء إلى خدمات خبراء أو أعوان مؤهلين يعلم بهم صاحب اللزمة و هو ما جاء به الفصل 25 من قانون 2008 الذي اسند بصريح العبارة إلى الشخص العمومي حق “ممارسة سلطة عامة للمراقبة الاقتصادية و الفنية و المالية المرتبطة بالالتزامات المترتبة عن العقد”.

و في صورة اختيار الاستعانة بخبراء يتعين على مانح اللزمة أن يعلم بهم صاحب اللزمة حتى يمتثل هذا الأخير للأحكام الواردة بالعقد و المتعلقة بأشكال و كيفية المراقبة و خاصة منها تسهيل هذه العملية كما يمكن أن يقوم مانح اللزمة بتأمين مهمة المتابعة و المراقبة من خلال لجنة خاصة تحدث للغرض و تبقى قائمة إلى حين انتهاء مدة اللزمة.غير أنه علاوة عن الرقابة التي يحتفظ بها مانح اللزمة في هذا الخصوص يخضع صاحب اللزمة أيضا لأوجه الرقابة التي تكرسها النصوص القانونية المعمول بها في هذا المجال.

يمكن لمانح اللزمة في صورة قيام صاحب اللزمة بأحد الإخلالات المضبوطة بعقد اللزمة و الموجبة لإسقاط الحق أن يقوم بإسقاط حق صاحب اللزمة في مواصلة استغلال اللزمة على يكون ذلك بعد التنبيه عليه و منحه أجلا يحدده العقد في مثل هذه الحالات و دعوته للامتثال و الوفاء بالتزاماته.

و في صورة امتثال صاحب اللزمة للتنبيه المذكور و عدم قيامه بالتدارك في الأجل الممنوح له يمكن لمانح اللزمة أن يقرر إسقاط الحق، و هو ما جاء به صلب الفصل 26 من قانون 2008 ” يضبط العقد حالات الإخلال الخطير التي يترتب عنها إسقاط حق صاحب اللزمة من قبل مانح اللزمة و ذلك بعد أن يقوم هذا الأخير بإنذاره بواسطة مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ و منحه الأجل المحدد بالعقد للتدارك و الوفاء بتعهداته”.

و في صورة اتخاذ مانح اللزمة لقرار إسقاط الحق فإنه يعلم به الدائنين المرسمة حقوقهم وفقا لأحكام قانون 2008 الذي جاء بفصله 26 من فقرته الثانية ” … في هذه الحالة يتم إعلام الدائنين المرسمة حقوقهم بمكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ قبل الأجل المذكور بالفقرة الأولى من هذا الفصل و السابق لتاريخ إصدار قرار إسقاط الحق و ذلك لتمكينهم من أن يقترحوا على مانح اللزمة شخصا آخر يحل محل صاحب اللزمة الذي أسقط حقه، و تبقى إحالة اللزمة إلى الشخص المقترح خاضعة لموافقة مانح اللزمة”.

و تجدر الإشارة إلى أن الدائنين يمنحون أجلا يحدده العقد لممارسة حق الإقتراح و في صورة فوات الأجل المذكور دون أي إقتراح من قبل المؤسسات المالية الدائنة أي شخص يحل محل صاحب اللزمة المخلّ أو في صورة عدم موافقة مانح اللزمة على إحالة اللزمة إلى الشخص المقترح من طرف المؤسسات المعنية.

يدخل قرار إسقاط الحق حيز التنفيذ و يمكن في هذه الحالة لمانح اللزمة اتخاذ جميع الإجراءات التي يعتبرها ضرورية لتأمين إستمرارية استغلال اللزمة على نفقة و مسؤولية صاحب اللزمة الذي أسقط حقه و يمكنه مثلا لهذا الغرض استعمال الضمانات المالية التي يؤمنها صاحب اللزمة قبل الانطلاق في إنجاز العقد كضمان لحسن تنفيذ التزاماته التعاقدية.

يورد الفصل 27 من قانون 2008 إمكانية استرجاع اللزمة و هو يعدّ من قبيل الضمانات الهامة التي منحها المشرع لمانح اللزمة.

يمكن لمانح اللزمة استرجاع اللزمة قبل حلول الأجل و من دون أن يكون صاحب اللزمة قد ارتكب الإخلالات المنصوص عليها بفحوى العقد و التي يترتب عليها إسقاط الحق و لا فيما لهذه الضمانة من أهمية بالنظر لكونها تخول في كل الصور استرجاع اللزمة متى اقتضت ذلك باعتبارات تتعلق بالمصلحة العّامة.

غير أن ممارسة الحق في الاسترجاع لا يمكن أن تتم إلا بعد مرور أجل يتفق عليه الأطراف بالعقد و يتمّ تضمينه بهذا الأخير و هو أجل لا يمكن قبل انقضائه أن يطالب مانح اللزمة باسترجاعه و يعود ذلك إلى ضرورة ضمان حدّ أدنى من الاستقرار في استغلال اللزمة من قبل صاحبها. في المقابل يضمن القانون لصاحبه اللزمة حقه في التعويض عن الضرر الذي لحقه من جراء سحب اللزمة دون أن يكون قد صدر منه أي إخلال بالالتزامات الموكولة له.

و هو ما وضّحه صراحة الفصل 27 من قانون 2008 المتعلق بتنظيم اللزمة ” لمانح اللزمة الحق في استرجاع اللزمة بعد انقضاء مدة محددة في العقد و قبل حلول أجله و في هذه الحالة يتم إعلام صاحب اللزمة بواسطة مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ ستة أشهر على الأقل قبل التاريخ المحدد للاسترجاع و لصاحب للزمة في هذه الحالة التعويض عمّا لحقه…” غير أن الحق في استرجاع اللزمة لا يمكن أن يكون إلا بعد أجل معين يتفق عليه الأطراف بالعقد و هو أجل ينبغي الإلتزام به، و ذلك قصد تحقيق نوع من الاستقرار في استغلال اللزمة من قبل صاحبها.

و يضمن المشرع لصاحب اللزمة في القابل الحق في المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه نتيجة سحب اللزمة من دون أن يكون قد صدر عنه أي خلل في الالتزامات المحمولة عليه.

التزامات صاحب اللزمة
كل من يتمتع بعقد لزمة استوجب عليه أثناء مدّة العقد إلى بلوغ نهايته المحافظة على جميع ممتلكات اللزمة من تجهيزات و بناءات و منشآت حتى يتم إرجاعها لمانح اللزمة مع نهاية العقد في الحالة حسنة و يلزم صاحب اللزمة بالمساواة في معاملة المنتفعين بخدمات اللزمة التي يقدمها و أن يضمن استمرارية في إسداء تلك الخدمات باعتبار و أن المساواة و الاستمرارية يعتبران من المبادئ الأساسية التي يخضع لها نشاط المرافق العمومية. يؤكد الفصل 29 من قانون 2008 على الطابع الشخصي لعقد اللزمة إذ ينص الفصل الآنف الذكر: ” يبرم عقد اللزمة على أساس الصفات الشخصية لصاحب اللزمة…” بالتالي فالمشرع يؤسس إلى وجوبية تنفيذ العقد من قبل صاحب اللزمة شخصيا من قبل مانح اللزمة و ذلك استنادا إلى تقييم موضوعي لمزاياه و صفاته. لكن تجدر الملاحظة من ناحية أخرى و أنه واجب التنفيذ الشخصي لا يمنع صاحب اللزمة من إمكانية إحالة تنفيذ جزء من التزاماته في إطار عقد مناولة شريطة الحول على موافقة مانح اللزمة بصورة مسبقة.

و إمكانية المناولة التي رخص لها المشرع حصريا لا يمكن أن تشمل جميع الإلتزامات التعاقدية بل جزءا منها فحسب. و لا يمكن القيام بالمناولة طالما لم يوافق عليها مانح اللزمة و في كل الحالات عملا بمبدأ التنفيذ الشخصي الإلتزام يبقى صاحب اللزمة مسؤولا شخصيا عن جميع الإلتزامات المترتبة عليه بموج العقد سواء منها التي يباشرها شخصيا أو الأخرى التي قام بمناولتها . كما تجدر الإشارة و أنه يحجر على صاحب اللزمة أن يقوم بإحالة اللزمة دون الموافقة المسبقة لمانح اللزمة .

و لا يعفي عقد اللزمة صاحب اللزمة من أن يعمل بجميع ما يستوجبه التشريع الجاري به العمل من تراخيص مذكورة أو أن يطلب من مانح اللزمة توفيرها له بمناسبة منح اللزمة. في المقابل يرخص الفصل 32 من قانون اللزمة لمانح اللزمة الحق في “تقديم المساعدة لصاحب اللزمة لتيسير حصوله على التراخيص أو الإمتثال لكراسات الشروط…”.

ويبقى صاحب اللزمة هو المسؤول الأول عن الأضرار التي قد تلحق أعوانه و كذلك البناءات و المنشآت و التجهيزات الثابتة و الغير جراء تنفيذ موضوع العقد و يتحمل لذلك جميع التعويضات المنجرة عن ذلك وفقا لأحكام التشريع الجاري به العمل و في هذا الإطار يكون صاحب اللزمة مطالبا بتأمين مسؤوليته المدنية طيلة المدة المقررة للعقد و ذلك بموجب عقد تأمين شرطا يقضي بعدم فسخه أو إدخال تعديلات جوهرية عليه من دون الموافقة المسبقة لمانح اللزمة و ذلك حتى يتسنى لهذا الأخير التثبت من أن صاحب اللزمة قادر على تحمل المسؤولية ما قد ينجر من وراء تنفيذه لعقد اللزمة من أضرار قد تلحق أعوانه أو الغير.

و يكون صاحب اللزمة في هذا الإطار مسؤولا عن احترام التشريع الجاري به العمل المتعلق بإنجاز الأشغال موضوع اللزمة و اقتناء التجهيزات أو الترف في الخدمات المكلف بها. (راجع الفصل 34 من نفس القانون).

يؤسس الفصل 31 من قانون 2008 ضمان للتوازن في حق صاحب اللزمة فالقانون يخول لهذا الأخير إمكانية طلب فسخ العقد في صورة عدم وفاء مانح اللزمة بالتزاماته الجوهرية و بصورة عامة تقصيره في اتخاذ الإجراءات الضرورية المترتبة عن التزامات تعاقدية لضمان حسن تنفيذ اللزمة. و يمكن لصاحب اللزمة أن يقوم بطلب فسخ بعد التنبيه على مانح اللزمة و منحه أجل يحدده العقد لهذا الغرض. و يمكن صاحب اللزمة في هذا الصدد المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي قد يلحقه جراء طلب فسخ العقد.

و باسترجاع اللزمة من قبل مانحها يحل دائنو صاحب اللزمة محل هذا الأخير في حدود ما يستحقه من تعويض.

الجزء الثاني : القواعد الخاصّة المميّزة لعقد اللزمة

تبرز خصوصية عقود اللزمة من خلال خضوعها لحقوق عينية خاصة بها و من ناحية أخرى تتجسم الخصوصية أيضا من خلال الطرق المعتمدة في حل النزاعات.

الفصل الأول : خضوع عقد اللزمة لحقوق عينية خاصّة

يوظّف عقد اللزمة على الملك العمومي[1]، و من خصوصيات الملك العمومي أنه غير قابل للتفويت و ما يمنع بدوره تكوين أي حق عيني على الملك العمومي [2].

و قاعدة منع تكوين أي حق عيني على الملك العمومي ليست قاعدة مكتوبة لا يوجد بها نص يمنعها بصفة صريحة فهي مجرد قراءة لقاعدة عدم التفويت في الملك العمومي[3] و المجسمة في الاتجاه الذي أخد مجلس الدولة الفرنسي في قرار EUROLAT [4] أما في تونس لا يوجد أي نص قانوني يعرف الحق العيني إذ يكتفي الفصل 12 من مجلة الحقوق العينية بتعداد هذه الحقوق ” و يعرفه الفقه بأنه الحق الذي يمتلكه شخص في سحب جزء أو كل القيمة الاقتصادية من شيء.

ومسألة إمكانية وجود حقوق عينية على ملك عمومي ليست مسألة حديثة، و الملفت للانتباه هو أنّ أوّل من طرح هذه المسألة هم أخصّائيو القانون المدني و ليس أخصّائيي القانون الإداري. فنجد في القرن 19 مثلا أنّ الفقيه هوك طرح فكرة مفادها أنه يمكن أن تسلط حقوق عينية على الملك العمومي بدون أن يكون متعارضا مع ما خصص الملك العمومي له. غير أنّه، و إن وقع الإقرار بمبدأ قابلية تسليط حقوق عينية على الملك العمومي، إلاّ أنّ عقد اللّزمة هو الإطار الوحيد لهذه الإمكانية.

و هذه الفكرة بحاجة إلى شرح فمن الناحية النظرية، الحقوق العينية المسلطة على الملك العمومي تعطي إلى الشاغلين للملك العمومي و هم متعددّون، و تقليديا الشاغلون الخواص للملك العمومي يخضعون إلى تفرقة تعتمد على طبيعة العقد الذين يتمتعون به. و هي تفرقة تعطينا نوعين من الشاغلين.

أولهما الشاغلين الذين يستمدون حقوقهم ملتزما من جانب واحد من الإدارة (الترخيص في الأشغال الوقتي).

ثانيهما، الشاغلون الذين يستمدون حقوقهم من عقد لزمة مبرم بين الإدارة و الشاغل.

و بالرغم من كثرة عقود إشغال الملك العمومي، فان العقد الوحيد في تونس، الذي يمكن أن ينشئ حقوق عينية هو عقد اللزمة، و هو ما يجعل جل النصوص التي تتحدث عن حق عيني على ملك عمومي تحددها في “صاحب اللزمة الذي له حق عيني” هذه الفكرة نجدها في عديد النصوص مثل الفصل 61 مجلة القوانين البحرية التجارية، الفصل 93 مكرر مجلّة الطيران المدني، الفصل 49 القانون المتعلق بموانئ الصيد البحري، و أهمها الفصل 39 مكرر مجلّة الطيران المدني، الفصل 49 القانون المتعلّق بموانئ الصيد البحري، و أهمها الفصل 39 من قانون 2008 مؤرخ في 1 أفريل 2008 و المتعلق بنظام اللزمات.

و الملفت للانتباه أن جل هذه النصوص (بالاستثناء القانون المتعلق باللزمات) تعالج في أول الأمر المسألة المتعلقة بالإشغال الوقتي بدون أن تذكر الحق العيني، و هو ليس محض الصدفة، بل إقرار ضمني بأن الحق العيني لا يمكن أن يسلط إلى في إطار عقد لزمة.

و تحديد نطاق الحقوق العينية في إطار عقد اللزمة فقط، هو حل تجاوزه الاتجاه الفرنسي، الذي أقر أن “كل عقد إشغال للملك العمومي هو عقد ينشأ عنه حق عيني في صورة سكون الإدارة.”[5]

و قد كرس المشرع الفرنسي هذا الاتجاه بقانون 25 جويلية 1994 و أقرّ نشأة حقوق عينية على ملك الدولة العام و نصّ في فصله 34 فقرة أولى أنّ “صاحب حق إشغال وقتي في ملك الدولة … له حقوق عينية ” و يضيف الفصل 34 في فقرته الخامسة أن هذا الحق العيني يطبق ”على الاتفاقات بجميع أنواعها التي تهدف إلى الترخيص بإشغال الملك العمومي” هذه العبارات الواسعة تمكن من إعطاء حق عيني إلى كل شاغل لملك عمومي حامل لرخصة.

و إن هذا التوسيع في فرنسا هو حقيقة الأمر يهدف إلى تلبية حاجيات الاستثمار و بالتالي فإن حصر نطاق الحقوق العينية في عقود اللزمة فقط من شأنه أن يضيق من مجال تدخل المستثمرين في الملك العام التونسي.

و بالإضافة إلى ذلك فإن الاتجاه التونسي فيه بعض من التضييق، فهل أن كل عقد لزمة يمكن أن ينشأ عنه حق عيني؟

و بالرجوع إلى الفصل 39 من قانون 2005 ينص على أنه “إذ اقتضى تنفيذ العقد انجاز أو تغيير أو توسيع بنايات و منشآت و تجهيزات ثانية فوق الملك الراجع لمانح اللزمة، فإنه ينشأ لصاحب اللزمة حق عيني خاص على البنايات و المنشآت و التجهيزات يخول له – طيلة مدة العقد – حقوق وواجبات المالك في حدود الأحكام الواردة بهذا الاسم.”

و بالتالي فإن هذا الفصل يفرق ضمنيا بين نوعين من عقود اللزمة الأولى هي عقود اللزمة التي فيها انجاز أو تغيير أو توسيع بنايات و تجهيزات ثابتة فوق الملك الراجع لمانح اللزمة و الثانية هي عقود اللزمة التي لا تتطلب انجاز أو تغيير أو توسيع بنايات و تجهيزات ثابتة فوق الملك الراجع لمانح اللزمة، و هذه الأخيرة لا تنشئ حقا عينيا، و بالتالي يمكن أن تستنتج أن المشرع التونسي ضيق من مجال الاعتراف بالحق العيني لصاحب اللزمة خلافا للمشرع الفرنسي.

فإذا قارنّا المشرع التونسي بالمشرع الفرنسي سنلاحظ أن المشرع التونسي لم يكتف بحصر مجال الاعتراف بالحق العيني في عقود اللزمة فقط، بل و كذلك حصر هذا المجال في عقود اللزمة التي فيها انجاز أو تغيير أو توسيع بنايات و تجهيزات ثابتة.

إن تخوف المشرع التونسي من الإقرار بوجود حقوق عينية و حصره الشديد له يمكن أن يفهم برغبتيه في الحفاظ على سلطات الإدارة التي تمكنها من حماية تخصيص ملك الدولة العام للصالح العام، و بالإضافة إلى ذلك فإن هذا الاتجاه يكرس الاتجاه البراقماتيكي للمشرع الذي يتمثل في توخي المراحل و هذا المنطق يحملنا إلى القول أن هذه الحدود لإقرار الحق العيني على الملك العمومي سوف تضمحل في المستقبل.

و بالتالي، فبالرغم من حصر المشرع مجال الحق العيني في نوع محدد من عقود لزمة و هي عقود اللزمة التي فيها انجاز أو تغيير أو توسيع بنايات و منشآت ثابتة، إلاّ أنه بتوفّر هذا الشرط، فإن مجموعة من الحقوق العينية تصبح آليا حقا لصاحب اللزمة.

و هذه المجموعة هي متنوعة ، لذلك سنكتفي في هذا الإطار بدراسة حق الرهن، إذ أنه أهم حق باعتبار أنه يمكّن من تمويل المشاريع على الأملاك العمومية و بالتالي يمكن من ثمين الملك العام (1) سنتعرض إلى آثار هذا الرهن على الدائنين (2).

إمكانية الرهن على الملك العمومي
إنّ المشرّع التونسي لا يزال متخوّفا من مساءلة الرّهن على الملك العمومي، و نستنتج ذلك خاصّة من تردّده بين إقرار إمكانية الرّهن (أ) ووضع حدود لهذه الإمكانية (ب).

أ- الإقرار بإمكانية الرهن على الملك العمومي.

تجدر الإشارة أولا أن المشرع التونسي في أول الأمر كان يرفض إقرار إمكانية الرهن في الملك العمومي و ذلك حتى لو أقر له بحق ملكية على المنشآت التي أنجزها.

و الملاحظ أنّ الإقرار بحق الرهن في الملك العام هو حديث عند المشرع التونسي. أما بالنسبة للموقف الفرنسي فإن فقه القضاء في أول الأمر أقرّ بهذه الإمكانية في قرار 10 أفريل 1867 [6] ثمّ تراجع في مرحلة ثانية على هذا الموقف، و انتهى إلى أخذ المشرع الفرنسي بإمكانية تسليط رهون على الأملاك العمومية.

و لكن تجدر الملاحظة أن الفقيه موريس هوريو الذي أقر بوجود حقوق عينية على المنشآت لم يقر في المقابل بحق الرهن ”لا يمكن الإقرار لصالح صاحب اللزمة حق عيني مشابه للحقوق العينية المدنية كالإقرار بحق رهن”[7] .

و المشرع التونسي كالمشرع الفرنسي انتهى بالاعتراف لصاحب اللزمة بحق الرهن على المنشآت التي أنجزها، و قد تجسد هذا الإقرار الوارد بقانون 2008، كمبدأ عام في نظام عام يخص اللزمات إذ نص الفصل 39 في فقرته الثانية أن ”ترسم الحقوق العينية الموظفة على البيانات و المنشآت و التجهيزات الثابتة بدفتر خاص….”

و حق الرهن هو حق عيني لجأ له المشرع حتى يقدر أصحاب اللزمات على التحصل على قروض مقابل ضمانات عينية يقدمونها إلى البنوك.

و التشريع التونسي لا يعطي تعريفا للرهن، بينما يعرفه الفقه بأنه ”حق عيني على عقار الذي يمكن، بدون التفويت الحيني لمكوناته، الدائنين الذين لم يقع خلاصهم في الآجال بأن يؤمنوا خلاصهم قبل باقي الدائنين العاديين و ذلك بتمكينهم ببيع العقار المسلط عليه الرهن في أي يد يوجد تحتها”[8]

و الإقرار بحق الرهن له عدة ايجابيات بالنسبة لصاحب اللزمة و كذلك بالنسبة لصاحب الحق العيني.

بالنسبة لصاحب اللزمة :

بالنسبة لصاحب اللزمة، الرهن يمكنه من المحافظة على سيطرته على منشآته و الحصول قرض في نفس الوقت، بالإضافة أنه يمكنه من إعطاء رهن إلى عدة مقرضين.

بالنسبة للدائن المتمتع بحق الرهن يعتبر “أهم ضمان عيني عقاري بالنسبة للمقرض”[9] و هذا الضمان الذي يسلط على عقار المدين يعتبر من الناحية الاقتصادية “قيمة عرفت منذ القديم خصوصية الاستقرار و ذلك بسبب عدم تدني القيمة المالية للعقارات التي تسلط عليها الرهون” و ذلك بالإضافة أنه يعطي لصاحب حق الرهن الأفضلية و حق التتبع.

* حق الأفضلية :

حق الرهن يعطي حق أفضلية على قيمة العقار المرهون، فبعد بيعه، هذا الدائن المتمتع بحق رهن سوف يتم خلاصه قبل الدائنين العاديين

* حق التتبع :

الفصل 280م ح ع ينصّ على أن الدائن الذي له حق عيني على عقار يمكن له تتبعه في أي يد وضع تحتها، و بالتالي فإن حق التتبع يمكن الدائنين في تاريخ حلول أجل الأداء ، ببيع العقار حتى و لو تم بيعه إلى الغير. و أهمية حق الرهن بالنسبة لصاحب اللزمة لا يقتصر فقط على إيجابياته بل كذلك على خاصياته.

* خاصيات الرهن :

صاحب اللزمة و صاحب حق الرهن يمكن لهم الانتفاع بخاصيات الرهن إذ لها خاصية الحق العيني الحق الفرعي، الحق المتميز و الغير قابل للتجزئة.

الخاصية “العينية” لحق الرهن.

هذا الحق ناتج عن الفصل 12 من م ح ع التي نذكر الرهن من بين الحقوق العينية و ينتج عن هذه الخاصية أن صاحب الرهن له حق الأفضلية و حق تتبع، و لكن هذا الاستنتاج يجب اكتساؤه بالصبغة النسبية لأن الرهن “يشمل لا جملة الحق بل فقط الحق على قيمة العقار”.

و هذه الخاصية تمكن صاحب اللزمة من المحافظة على السيطرة على العقار و بالتالي تمكنه من مواصلة استغلال العقار المرهون و في نفس الوقت المدين يحتفظ على ضمان لخلاص دينه.

خاصية عدم القابلية للتجزئة “لحق الرهن”.

حق الرهن يسلط على كامل العقار الفصل 228 م ح ع تنص على أنه “لا يلزم الدائن برد الرهن المدين أو لمعين الرهن إلاّ بعد تنفيذ الالتزام تنفيذا تاما و لو كان الرهن قابلا للقسمة …” و بالتالي فإن تجزئه الحق المرهون لا ينتج عنه تجزئة الرهن.

هذه الوضعية يمكن أن تكون سلبية لصاحب اللزمة إذ أن حق الرهن يبقى مسلط على كامل العقار حتى في صورة الخلاص الجزئي.

الصبغة الخاصة للعقار المرهون :

هذه الصبغة الخاصة تتمثل في أن الرهن “يؤمن قرض معين و يسلط على عقار معين” و بالتالي فإن الخاصية تتمثل في العقد المؤمن و في العقار موضوع الرهن.

و لكن بالرغم من إيجابيات حق الرهن فإن المشرع حد من إمكانية اللجوء إلى هذه الآلية.

ب- حدود هذه الإمكانية

إنّ دراسة النظام القانوني للرهن على الملك العمومي و خاصة قانون 2008 نلاحظ أن المشرّع وضع عديد الحدود لهذه الإمكانية، و هذه الحدود تجسد الاختلاف بين الحق الرّهني على الملك العمومي و الحق الرّهني في المادة المدنية.

و يرجع هذا الاختلاف إلى أن المشرع في مادة الملك العمومي هو دائما ضد كل آلية تأتي في القانون المدني، و يحاول دائما إقحام صبغة إدارية في مفاهيم تنتمي بطبيعتها إلى القانون المدني، و بالتالي فإن المشرع لا يعترف إلا بحق رهن محدد النطاق.

و هذه الحدود تسلط على الهدف في الرهن، الأموال التي تسلط عليها حق الرهن، وواجب الحصول على مصادقة من الإدارة.

الهدف من الرهن :
قبل صدور قانون 2008 وبالرجوع إلى مختلف النصوص القانونية التي تنظم هذه المسألة في تونس، الرهن يجب أن ينشأ لضمان القروض التي يتحصل عليها صاحب اللزمة بقصد تمويل إنشاء أو تعمير أو توسيع بنايات موجودة على الملك العمومي موضوع عقد اللزمة.

المشرّع لم يقتصر على تحديد القروض التي تؤمن برهن على إنجاز المنشآت بل توسع إلى إمكانية الرهن بهدف تمويل إنجاز أو تغيير أو توسيع أو صيانة أو تجديد البنايات و المنشآت و التجهيزات المنجزة في إطار اللزمة.

و لكن تجدر الملاحظة أن المشرع لم يعترف لصاحب اللزمة بإمكانية اللجوء إلى الرهن للحصول على دين يمكنه من تمويل إنشاء بنايات على مكان غير الملك العمومي.

و هذا الحد مرهق جدا خاصة بالنسبة للشركات الكبيرة التي لها نشاطات في مجالات متعددة و التي هي على استعداد لتقديم جميع ممتلكاتها لضمان قروضها، و لكن هذا الحد يمكن تفسيره بأن المشرع يريد أن يعطي امتياز فقط على الاستثمارات التي تتم على الملك العمومي فقط.

غير أن المشرع التونسي في قانون 2008 خفف من هذا الحد و أصبح الشرط الوحيد أن تكون هذه القروض تهدف إلى تمويل إنجاز أو تغيير أو صيانة أو تجديد البنايات و المنشآت و التجهيزات المنجزة في إطار اللزمة “مستغنيا بذلك على معيار الوجود على الملك العمومي وواضعا معيار جديد هو خدمة عقد اللزمة و الفرق بين المعيارين واضح، إذ أن عقد اللزمة يمكن أن يكون موضوعه أملاك عامة للدولة و أملاك خاصة للدولة في نفس الوقت، كعقد لزمة سما دبي مثلا، و بالتالي فإن حق الرهن يمكن أن يخدم انجازات منشأة على الملك العام أو الملك الخاص للدولة، المهم أن تكون تخدم اللزمة كما نص عليها العقد.

غير أن النصوص الموجودة قبل 2008 تبقى نافذة باعتبار أنها في معظمها تمثل نصا خاص بالنسبة لقانون 2008 الذي هو نص عام، و يبقى حد الإنجاز على ملك العمومي في حالات كبيرة مستوعبة بالنصوص القطاعية الموجودة.

الأموال التي يسلط عليها الرهن :
في قراءة أولى لقانون 2008 يمكن أن نستنتج أن الأموال التي يسلط عليها الرهن هي فقط على البنايات و المنشآت و التجهيزات التي ينجزها أو يغيرها أو يوسعها صاحب اللزمة، غير أنه يمكن التساؤل هل أن الأموال التي يمكن أن يسلط عليها الرهن يمكن أن تمتد إلى “الحق العيني العقاري في الأشغال؟

مصادقة الإدارية
نظام الرهن المعترف به لصاحب اللزمة يتميز بالتواجد الكبير للإدارة. و المصادقة تعتبر الآلية التي تتمكن بها الإدارة من مراقبة العمليات المالية المتعلقة باللزمة. و تدخل الإدارة يتم على عدة مستويات:

المستوى الأول : يجب على صاحب اللزمة الحصول على مصادقة الإدارة لإنشاء الرهن، هذا الشرط لا يوجد بصفة صريحة في القانون و لكن بالرجوع إلى القواعد التي تحكم المحاسبة في القروض المتعلّّقة بهذه الاستثمارات فإننا نلاحظ أن مصادقة الإدارة واجبة.

المستوى الثاني : مصادقة الإدارة واجبة في حالة التفويت في حق الرهن وهو ما يثبت حق الرهن على الملك العمومي لا يشبه حق الرهن بمفهوم القانون المدني.

و بالرجوع إلى الفصل 40 من قانون 2008 ينص على أنه :” لا يمكن أثناء مدة عقد اللزمة التفويت في الحقوق العينية … أو إحالتها بأي وجه من الوجوه بما في ذلك ممارسة التأمينات الموظفة عليها إلا بترخيص من مانح اللزمة”.

و بالتالي يمكن أن نلاحظ في هذا الجزء أن المشرع التونسي كان له الشجاعة الكافية للإقرار بحق الرهن على الملك العمومي و كذلك كانت له الشجاعة الكافية في قانون 2008 في توسيع نطاق هذه الإمكانية، و هذا الإقرار يصب في سياسة للبلاد التونسية في تلك الفترة التي تهدف إلى تشجيع الاستثمار و استغلال الملك العمومي و ذلك بخلف آليات تمكن من تسهيل تمويل الاستثمارات على هذا الملك العمومي.

غير أن الرهن ليس الطريقة الوحيدة لتمويل الاستثمارات، هناك ما يسمى بقرض الكراء تتمثل في أن يقوم مالك التجهيز أو العقار بالتفويت في استعمال ذلك العقار أو التجهيز لفائدة المستنفع مقابل أن يعطيه هذا الأخير أجرة طيلة مدة معينة، و المشرع الفرنسي اعترف لمشغل الملك العمومي بهذه الإمكانية و ذلك غير قانون 25 جويلية 1994 و الفصل 34 منه. و لكن المشرع التونسي إلى اليوم لم يعترف لمشغل الملك العمومي بهذه الإمكانية و هو أمر نأمل أو يتجاوزه المشرع التونسي و يعترف به نظرا للإيجابيات الكبيرة التي تمكن منها هذه الآلية، إذ أنها تمكن صاحب اللزمة من التمويل الكلي للعقار كما أنه يمكن من أن يوجد أي دين.

هذا بالإضافة إلى أن قرض الكراء يعطي ضمانة كبيرة لمقدم العقار أو التجهيز إذ أنه يبقى مالك ذلك المال طوال مدة الكراء. و إن كان الإقرار بحق الرّهن يعطي ضمان للدائنين إلاّ أنّ هذا الضمان هو محدود. إذ أنّ الإمكانية الممنوحة للإدارة لوضع حد لعقد اللزمة في كل وقت يمثل خطر على الاستثمار و على الدائنين، التأمينات التي لها أصل في القانون الخاص عندما يقع إقرارها على أشغال الملك العمومي تصبح آلية منقوصة و بالتالي ربّما كانت نقائص الرهن في الملك العمومي يجد أسبابه في الصبغة الإدارية لهذا الرهن.

و في هذا الإطار يمكن القول أن حقوق الدائنين يمكن أن تتغير في حالة إسقاط حق صاحب اللزمة في حالة الإخلال بالالتزامات و إسقاط صاحب اللزمة للأسباب التي نصّ عليها الفصل 27.

في حالة فسخ عقد اللزمة قبل المدّة المتفق عليها لسبب يتعلق بعدم وفاء صاحب اللزمة بالتزاماته فإن القانون لا يرتّب على ذلك أي تعويض و ينتهي مفعول الرهون الموظفة على حقوق العينية و البنايات و المنشآت بانتهاء مدة اللزمة. [10]

غير أن المشرع كان واعيا بخطورة هذا الإجراء و لهذا السبب حاول إعطاء فرصة للدائنين أصحاب حقوق عينية لاسترجاع قيمة دينهم و ذلك عبر تقنيات أخرى و هي :

– إعلام الدائنين

أقر المشرع بأنه يضبط العقد حالات الإخلال الخطير التي يترتب عنها إسقاط حق تصاحب اللزمة من قبل مانح اللزمة…” و في هذه الحالة يتم إعلام الدائنين المرسّمة حقوقهم بمكتوب مضمون الوصل مع الإعلام بالبلوغ قبل الأجل المذكور الفقرة الأولى من هذا الفصل و السابق لتاريخ إصدار قرار إسقاط الحق و ذلك لتمكينهم من أن يقترحوا على مانح اللزمة شخصا آخر يحل محلّ صاحب اللزمة الذي أسقط حقه ، و تبقى إحالة اللزمة إلى الشخص المقترح خاضعة لمقترح مانح اللزمة.”

و بالتالي فإن إعلام الدائنين يخضع إلى شرطين :

– الشرط الأول هو شكل الإعلام الذي يجب أن يكون بواسطة مكتوب مضمون الوصول.

– الشرط الثاني أن الدائنين الذي يجب إعلامهم هم فقط الدائنين المرسّمة حقوقهم و بالتالي الدائنين الذي يملكون رهن.

– الشرط الثالث: يجب أن يتم الإعلام في المدة المتّفق عليها بالعقد و بعض النصوص القطاعية تحدّد تشريعيا هذه المدة بـ 3 أشهر[11].

أما المشرّع الفرنسي فإنه يعطي مدة أقل من المشرّع التونسي و هو مدّة شهرين على الأقل و هي مدّة قصيرة نوعا ما.

– إمكانية اختيار شخص آخر يحل محلّ صاحب اللزمة.

المشرّع لم يقرّ بالخلاص الفوري للدائنين العينيين في حالة إسقاط حق صاحب اللزمة للإخلال بالتزاماته و لكنه أقرّ بإمكانية أن “يقترحوا على مانح اللزمة شخصا آخر يحلّ محل صاحب اللزمة الذي أسقط حقه” إلاّ أنّه رغم ما لهذا الحل من ايجابية، إلا أنها لا تشكل إلا مجرّد اقتراح يبقى خاضعا لموافقة مانح اللزمة.

و هنا ليس هناك معيار لقبول الإدارة بهذا الشخص المقترح أولا، و بالتالي يمكن القول بأن الرهن في هذا الإطار هو رهن خاص و لا يمثل ضمان للدائن الذي يحتاج إلى تعاون الإدارة في حالة تخلف الدائن .

و بالتالي فإن الدائنين، و لو كانوا يتمتعون برهن يمكن أن يحرموا من حقوقهم و بالتالي في حالة رفض لأشخاص الذي تقترحوهم، و يصبحون في نفس الوضعية مع الدائنين العاديين و في حالة تنافس معهم على أساس قاعدة “أملاك الدائن (صاحب اللزمة ) ضمان لجميع دائنيه” المنصوص عليها بالفصل 192م ج ع و يصبحون معرّضين في هذه الحالة إلى خطر أن تكون جميع أملاك صاحب اللزمة غير قادرة على تسديد جميع الديون، و هذا الوضع يمكن أن يدفع المستثمرين إلى العدول عن الاستثمار في الملك العمومي بالإضافة إلى عدول المؤسسات البنكية كذلك إلى تمويل مثل هذه المشاريع.

غير أنّ مجموع هذه السلبيات لا تتواجد إلا على المستوى النظري، فعلى المستوى التطبيقي لا يمكن أن نتصوّر أن الإدارة ترفض شخص اقترحه مجموع الدائنين إذ أنها واعية أن مثل هذا الرّفض سوف يمس من مصداقيتها و يمس من الحماية القانونية لاستثمارات الخاصة.

– حق الدائنين في اللجوء إلى الإجراءات التحفّظيّة أو التنفيذية

نصّ الفصل 41 من قانون 2008 المتعلّق بنظام اللزمات على أنه ”لا يمكن للدائنين العاديين غير الذين نشأ دينهم بمناسبة إنجاز الأشغال المذكورة اتخاذ إجراءات تحفّظيّة أو إجراءات تنفيذية على الحقوق و الممتلكات المنصوص عليها بهذا الفصل…

و نستنتج من هذا الفصل أن المشرع يقرّ بامتياز لفائدة دائني صاحب اللزمة و ذلك بأن أقرّ حقّا فقط للدائنين الذين شاركوا في تنفيذ عقد اللزمة و بالتالي فإنّ هذا الفصل حدّد في مجال إمكانية اللجوء إلى الإجراءات التحفّظيّة و الإجراءات التنفيذيّة في ما يخصّ الدائنين بما يصبح معه هذه الإمكانية مسموحة بالنسبة إلى :

– الدائنين العاديين الذين نشأ بينهم بمناسبة إنجاز الأشغال التي تهم تنفيذ عقد اللزمة.

– الدائنين المتمتّعين بحقوق عينية : أي المتمتّعين بحق رهن باعتباره الحق العيني الوحيد المعترف به.

و بالتالي فإنّه يمكن للدائن المرتهن أن يقوم بــــ :

– الإجراءات التحفظية :

المشرع مكن الدّائن المرتهن من أخذ كل الإجراءات اللازمة لحماية ضمانات دينه كمنع كل عقد يضعّف بصفة دائمة قيمة الضمان للدائن ممنوعة بما أنها نفس بقيمة الأملاك[12] و بالتالي فإن الدائنين يمكن لهم إبطال هذه العقود التي ينجرّ عنها المسّ بضمان استرجاع القروض التي قدّموها.

* العقلة التحفظية :

بالرجوع إلى الفصل 322م م م ت في فقرتها الثانية تنص على أنه “يجوز الإذن بالعقلة التحفظية لضمان كل دين يبدو أن له أساسا من حيث الأصل و أن استخلاصه مهدد بالخطر و لو كان مؤجلا أو معلقا على شرط و بالتالي فإن العقلة التحفظية تؤمن حماية وقائية الدائنين، غير أن المشرع استثنى في الفصل 323 من نفس المجلة العقارات المسجلة من الممتلكات التي يمكن عقلتها.

و الإشكال المطروح هو أن المنشآت و البنايات و التجهيزات الثابتة هي عقارات مسجلة بدفتر خاص و هذا التسجيل سوف يمنع إمكانية إجراء عقلة تحفظية عليها و بالتالي فإن هذا الاستثناء يحد من حقوق دائني صاحب اللزمة قبل حلول أجل ديونهم.

غير أن المشرّع التونسي أقر بنظام خاص بالعقارات المسجلة، فالفصل 327م م م ت مكن “كل دائن بيده سند تنفيذي أو مرسم حل أجل أداء دينه أن يبلغ إلى بواسطة أحد العدول المنفذين إعلاما ينذره فيه بأنه في صورة عدم الوفاء بالدين يتولى ترسيم اعتراض تحفظي على عقاراته المسجلة و هذا الفصل يمكن أن يكون ايجابيا للدائنين الذين يملكون حق رهن، إذ أن الفصل 328م م م ت تضيف أنه : “لا يجوز ابتداء من تاريخ ترسيم الاعتراض التحفظي ترسيم أي تفويت غير البيع الواقع إثر عقلة أو أي توصيل أو إحالة يتعلقان بمعين كراء ربع أو أرض فلاحيّة غير الحال”.

* العقلة التوقيفيّة :

مدين صاحب اللزمة المتمتع بحق رهن يمكن له أن يقوم بعقلة توقيفيّة التي تمكن بالرجوع إلى الفصل 330 م م م ت و ذلك حين يضع تحت يد الغير في حدود دينه المبالغ المالية أو المنقولات التي يملكها هذا المدين أو يستحقها و لو كان استحقاقه لها مقترنا بأجل أو معلقا على شرط.

و لو كانت العقلة التوقيفيّة قادرة نسبيا على ضمان حقوق الدائن، إلا أن العقلة التنفيذية تبقي الأهمّ بالنسبة له.

2- حقوق الدائنين في حالة الفصل 27 من قانون 2008

حتى يتمكن المستثمرون الخواص من الحصول بأكثر سهولة على قروض وقع إدراج آليات جديدة لتشجيع البنوك على تمكينهم من هذه القروض و هذه الآليّة تتمثّل في خلاص البنوك قبل الأجل إذا تمّ استرجاع اللزمة طبقا لقانون للزمة فصل 27 من قانون 2008 و الاعتراف بحق تتبع على مبالغ التعويض عن الضرر و هذه الإمكانية تعدّ حماية كبيرة للدائنين المرتهنين. بالإضافة إلى حقوقهم العينية الأخرى.

و يعطي الفصل 27 من قانون 2008 إمكانية للدائنين إذا قررت الإدارة سحب اللزمة من أن يستخلصوا قروضهم مباشرة من التعويض الذي سيمنح لصاحب اللزمة و بالتالي فإنه يمكنهم من الحلول محل صاحب اللزمة في التعويض في حدود القروض التي منحوها لهم.

و تجدر الإشارة في هذا الصدد أن فقه القضاء الفرنسي قد اعترف في قراره الصادر في 30 جويلية 1970 بحق التعويض لصالح صاحب اللزمة و لكن بقي هذا الاتجاه منقوصا باعتباره لم يعطي حق الحلول لدائني صاحب اللزمة، حتى جاء قانون 7 جوان 1977 الذي يقرّ في فصل 53 بحق المدين في الحلول محلّ الدائن في التعويض .

و بالتالي يمكن القول بأن المشرّع التونسي قد استوحى هذا الحل التشريعي من المشرّع الفرنسي و خاصة من قانون 7 جوان 1977.

الفصل الثاني: فض النزاعات في مادة عقود اللزمة

شرط التحكيم في مادة عقود اللزمة
من الناحية المبدئية ،يقتضي اعتبار العقد إداريا: الإقرار باختصاص المحكمة الإدارية بالنظر في النزاعات الناشئة عن تنفيذه، و ذلك حسب الفصل 17 (جديد) من القانون عدد 40 لسنة 1972 المؤرّخ في غرّة جوان 1972 الذي ينصّ على أن :” تختصّ الدوائر الابتدائية بالنظر ابتدائيا في (….) – الدعاوى المتعلّقة بالعقود الإداريّة.

و لكن و خلافا لباقي العقود الإدارية، فإن عقد اللزمة عادة ما لا يخضع لاختصاص المحكمة الإدارية بل إلى التحكيم، ذلك أن أغلب عقود اللزمة خاصة منها التي لها حجم اقتصادي كبير عادة ما تنص على بند تحكيمي. و نذكر منها مثلا البند 28 من عقد للزمة سما دبي الذي ينص على أنّه ”لتسوية جميع النزاعات بداية خلال ثلاثين يوما من تاريخ توجيه أي من الطرفين إشعارا كتايا بالنزاع إلى الطرف الآخر، و ذلك بإجراء محادثات بين الأطراف المعنية. و إذا تعذّرت تسوية أي نزاع خلال الثلاثين (30) يوما المذكورة، عندئذ تتم إحالة المسألة إلى التحكيم وفقا المادة 28 – 3 ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك كتابيا”.

كما نجد نفس التوجّه في اتفاقية مجموعة بوخاطر مع الدولة التونسية التي تنص في بندها 26 الفقرة 3 أنه : ”مع مراعاة المادة 26 – 2 – 1 ، و ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك خطيا يحال و يحسم بشكل نهائي أي نزاع ينشأ عن أو فيما يتعلق بهذه الاتفاقية ووفقا لبنودها إلى و بموجب التحكيم الذي يتم أجراؤه في باريس، فرنسا، طبقا لقواعد التحكيم لغرفة التجارة الدولية”.

و يعتبر هذا الحلّ منطقيا إلى حدّ كبير باعتبار أنّه يراعي مصالح كل من الطرفين. فبالنسبة للمتعاقد صاحب اللزمة، فإن هذا البند يعتبر ضمانا هامّا للحياد باعتبار ما تبديه الأطراف الأجنبية عموما من احتراز من قضاء الدولة التي ترتبط معها بعقود استثمار و خاصة متى تعلّق الأمر بالقضاء الإداري الذي لم يتخلّص تماما من شبهة انحيازه للإدارة. أما بالنسبة للإدارة مانحة اللزمة، فإن قبولها بالبند التحكيمي يشجع الأطراف الأجنبية على الاستثمار في الدولة التونسية و هو ما يفتح آفاقا جديدة للاستثمار في الدولة التونسية و يساهم في جعل مناخ الأعمال فيها جاذبا للاستثمار و محفّزا لبعث المؤسسات.

و لكن يبقى السؤال مطروحا حول القيمة القانونية لمثل هذه البنود و ذلك في ضوء المبدأ المعروف و القائل بعدم قابلية النزاعات الإدارية للتحكيم ويقوم هذا المبدأ الذي لقي رواجا لدى بعض الفقهاء [13] الفرنسيين على فكرة علوية الدولة و التي لا ينبغي أن تتخلى عن قضائها و تقحم في العقود الإدارية بندا يعطي الاختصاص في بعض النزاعات للتحكيم. و هو قول عبّر عنه الفقيه إدوارد لافريار بقوله : ” لا ينبغي للتحكيم أن يجد سبيلا إلى عقود الدولة لأنّ المبدأ يحتّم على الدولة أن ترفض عرض نزاعات على المحكّمين و ذلك لكون ما يصدر عنهم لا يخضع إلى مقياس ثابت فضلا عن دواعي النظام العام التي تأبى أن تتمّ مقاضاة الدولة لدى جهة أخرى غير المحاكم المحدثة بقانون”[14]

كما وجد ذلك الموقف صدى في فقه قضاء مجلس الدولة الذي أقرّ بطلان البنود التحكيميّة المدرجة في عقود الصفقات العمومية و ذلك في قراره الشهير الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1957.

(Société nationale de vente de surplus)

و يتأيّد هذا القول بما ورد بالفصل 7 من مجلّة التحكيم الذي ينصّ على أنه : ”لا يجوز التحكيم (……) خامسا : في النزاعات المتعلقة بالدولة و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية و الجماعات المحلية إلاّ إذا كانت هذه النزاعات ناتجة عن علاقات دولية اقتصادية كانت أو تجارية أو مالية و يتضمّنها الباب الثالث من هذه المجلّة”.

غير أنّ المبدأ المشار إليه شهد إدخال عديد الاستثناءات عليه، بدءا من القانون الفرنسيّ نفسه حيث أقرّت محكمة التعقيب الفرنسية في قرار صادر عنها بتاريخ 2 ماي 1966 أنّ التحجير المذكور لا يطبّق على حالة عقود الدولة المبرمة لحاجة و في الظروف المطابقة أعراف التجارة الدوليّة. (Arrêt Galakis)

كما وجدت أصوات في القانون التونسي تنادي بضرورة تطويع مبدأ التحجير مع حالة بعض العقود الدولية و بما يتماشى و مصلحة الدولة في إنشاء بيئة محفّزة للاستثمار الأجنبيّ.[15]

و على أيّة حال، و نظرا لما تكتسيه عقود اللزمة في بعض الصور من أهمية قصوى، فإن المصادقة عليها تتم بقانون. و بالتالي فالقانون هو الذي يعطي الحق في إقحام بند تحكيمي، بحيث يمكن القول الفصل 7 من مجلّة التحكيم هو قانون عام، يقرّ مبدأ عدم إمكانية التحكيم في العقود التي تهم الدولة أو العقود الإدارية.

و تقابله في ذلك نصوص خاصة تمنح هذه الإمكانية في بعض عقود اللزمة و بالتالي فإن هذه العقود تكون صحيحة و يتم العمل بها.

خصوصية إجراءات التحكيم في منازعات عقود اللزمة (بوصفها عقد من عقود الاستثمار)
رغم وجود رأي يعتقد أصحابه أن العقود الدولية لا يمكن إلا أن تخضع إلا إلى القانون الدولي وأنه لا يمكن إخضاعها إلى قانون داخلي لأي دولة ما لعدم ملاءمته لخصوصية العمليات التجارية والاقتصادية والدولية، فإن السائد في ميدان التحكيم هو أنه من الحتمي التمييز بين صورتي اختيار قانون منطبق من قبل الأطراف وعدم وجود اختيار من هذا النوع.

لم يعد هناك من يجادل في حرية الأطراف في العقد الإقتصادي الدولي في اختيار القانون المنطبق على معاملا تهم. و قد اختلفت تبريرات هذا الحل.فمن جهة أولى،يؤسس شق من الفقهاء هذه الحرية على مبدأ سلطان الإرادة في ميدان العقود عموما.

فيما يرى شق ثان أن هذا التطبيق الضروري للقانون الذي يختاره الأطراف أساسه الطابع الإلزامي للعقد، و هي إلزامية تفرض نفسها على الأطراف أنفسهم و على القاضي المدعو من قبل أحدهم إلى فرض احترام ذلك العقد ومنح صيغة الجبر و الإلزام لما فيه من التزامات.

وباعتبار تباين أوضاع طرفي عقود اللزمة ،لما لأحدهما(الدولة) من سلطان يخول لها الحق في إنشاء القوانين،و نظرا إلى أن الدول كثيرا ما تتمسك بضرورة التنصيص صلب العقد على انطباق قانونها الوطني حرصا على تأكيد سيادتها، فإن الهاجس الأكبر بالنسبة للمستثمر يتمثل في تأمين نفسه ضد احتمالات تغيير تلك الدولة لتشريعاتها بشكل يضر به ويفقده الضمانات و الامتيازات التي جعلته يختار التعاقد مع تلك الدولة دون سواها و يوظف أمواله على إقليمها.

و لدرء هذا الاحتمال،فقد درج كثير من المستثمرين على أن يشترطوا من جهتهم أن تكون الأحكام المنطبقة على عقد اللزمة هي تلك الجاري بها العمل يوم إبرام العقد،و هو ما يسمى بشرط التثبيت (clause de stabilisation)الذي يتمثل مفعوله في تجميد قانون تلك الدولة بالنسبة إلى المستثمر (cristallisation) وجعل كل التغييرات التي يقع إدخالها عليه لحقا غير ماسة بالوضع القانوني للعقد الذي يربطه بالدولة وقد أثارت هذه الشروط جدال فقهيا كبيرا حول مدى شرعيتها ومساسها بسيادة الدولة.

ويبدو أن هذا الجدل بدأ يفقد بريقه و توهجه بحكم ما يشهد العالم من تطور المناخ الملائم للاستثمار،وتخلى عديد الشعوب عن نظرتها العدائية إلى المستثمر الأجنبي،و توجه التشاريع الداخلية نحو مزيد دعم ضمانات المستثمرين و امتيازاتهم إلا أن ذلك لا ينفي أهمية التعرض إلى معطيات هذا الجدال الفقهي.

فمن جهة أولى، نجد المدافعين عن هذا النوع من الشروط. فعلاوة علي التبرير المنطقي المتمثل في ضرورة حماية المستثمر من تغيير الدولة لتشريعاتها بصفة عشوائية فإن هؤلاء الفقهاء ينقسمون إلى شقين:

– شق أول يؤسس مبدأ احترام هذه الشروط على مبدأ القوة الملزمة.

– شق ثان يعتقد أن العقد الدولي هو عقد بلا قانون بطبيعته وأنه إذا اتفق الأطراف على اختيار قانون معين، بطبيعته، (contrat sans loi)فإن ذلك القانون يصبح جزءا من العقد، و تصبح أحكامه بعضا من بنود العقد

وأنه إذا اتفق الأطراف على اختيار قانون معين، فإن ذلك القانون يصبح جزءا من العقد، وتصبح أحكامه بعضا من بنود العقد.

ومن ثمة فإن إرادة الأطراف لا يمكن أن تتجه إلى إدراج شروط عقدية مجهولة المحتوى، و من الحتمي أن تكون قد اتجهت إلى تبني أو قبول (réception) الأحكام المعلومة الوجود عند التعاقد. وتنتهي هذه النظرية إلى القول إن القانون المنطبق على العقد-إن صح الحديث عن قانون منطبق على العقد-هو دائما القانون المنطبق زمن التعاقد ولو لم يدرج شرط من شروط التثبيت في ذلك العقد ، عملا بمبدأ عدم تغير بنود العقد إلا بإرادة المتعاقدين بحيث يعتبر كل عقد متضمنا لشرط تثبيت ضمني

و من جهة ثانية، نجد المناوئين لهذه الشروط، و هم شقان:

-الشق الأول يؤسس رأيه على فكرة احترام سيادة الدولة باعتبارها المنفردة قانونا بصلاحية إنتاج القواعد أو المعاني(le monopole de la production) وباعتبار أن تثبيت القانون المنطبق على عقد اللزمة يهم قطاعا اقتصاديا حيويا في دولة ما،يعطل التوجهات التشريعية الجديدة و يفقدها جدواها

-الشق الثاني يؤسس رأيه على معطيات لا علاقة لها بالتبريرات السياسية. فالفقيه (Philippe KAHN) يستغرب هذه الرغبة في عزل العقد عن التطورات التي يعرفها محيطه، وهذه الرغبة في عزل العقد عن التطورات التي يعرفها محيطها، وهذه الرغبة في التجميد، المجافية للطبيعة الحركية للحياة ولمنطق الكون.

و بعيدا عن الإشكالية المترتبة عن تجميد القانون المختار بموجب شرط عقدي أو في مغيبه، فقد تعرض أهل الميدان إلى إشكاليات أخرى، بسبب التطبيقات التي بدت أحيانا غريبة أو مفاجئة..

ففي قضية شيخ أبو ظبي ثم في قضية أرامكو ثم في قضية تكسكو، كان هناك اختيار صريح لقانون الدولة المضيفة للمستثمر صلب عقد الاستثمار، و رغم أن المحكمين الثلاثة عاينوا ذلك، فقد رفضوا تطبيق القانون المختار باعتماد تعليلين مختلفين.

فبالنسبة لقراري شيخ أبو ظبي و أرامكو ،لاحظ المحكمان أن القانون المختار هو الشريعة الإسلامية باعتبارها قانون الدولة المضيفة، ثم استنتجا بطريقة فيها الكثير من التسرع أن هذا القانون لا يحتوي على قواعد تنظم المعاملات العصرية و خاصة منها عقود الامتياز و المعاملات في الميدان النفطي بشكل عام، و بالتالي فهي قانون منقوص و كثير الثغرات و من ثمة فهو غير جدير بالتطبيق، و فضلا عليه المبادئ العامة للنظم القانونية للبلدان المصنعة أو المتحضرة .

و علاوة على ما في هذا التحليل من مسحة استعمارية، فإن جل الشرّاح أجمعوا على انتقاده انطلاقا من الفقه الغربي ذاته، حيث أن هانس كلسن قد أكد منذ بداية القرن العشرين أنه لا يمكن أن توجد ثغرات في النظام القانوني

مهما كان بدائيا أو بسيطا باعتبار أن لكل نظام قانوني آلياته التي تمكنه من التوصل إلى حلول بالنسبة إلى المسائل التي ليس لها حل جاهز، وإن للشريعة الإسلامية عدة آليات من هذا النوع بحكم تعدد مصادرها، من النص (القرآن و السنة) إلى الاجتهاد(القياس و الإجماع و الاستحسان و الاستصحاب)

أما بالنسبة لقرار تكسكو،فقد وقع التخلي عن هذا التعليل المبني على فكرة ضمنية مفادها أن النظم القانونية يمكن تصنيفها إلى أنظمة كاملة وأخرى أقل كمالا، واعتبر المحكم عوضا عن ذلك أن الصبغة الدولية للعقد أو العملية موضوع التحكيم تجعل القانون الدولي العام هو المنطبق، بغض النظر عن اختيار الأطراف لقانون دولة ما من عدم ذلك .

وكما هو الشأن بالنسبة لسابقيه ، فقد تعرض هذا القرار إلى نقد شديد. فمن جهة أولى، فإن اعتبار أن عقد الاستثمار يخضع إلى القانون الدولي العام يقوم على فكرة ضمنية مفادها أن المستثمر هو أحد أشخاص القانون الدولي العام، و هو قول غير سليم. كما أن القول بوجود قانون دولي فيه الكثير من المبالغة، إذ أن هذا القانون الدولي ليس سوى مشروعا أو مطمحا لم يتحقق بعد، و ما زال الأمر مقتصرا على عدد قليل من القواعد التي أحصاها الفقيه الأنجليزي “لورد موستيل” فوجد أنها لا تفوق العشرين، وجلها قواعد عامة و فضفاضة، و بعضها قواعد دقيقة و خصوصية،منها عدد ضعيف من القواعد الإجرائية، و لم يتردد حتى المناصرون لفكرة وجود قانون دولي أو “lex mercatoria” في إشارة إلى “فقر” هذا القانون من حيث القواعد، هذا علاوة على النقد المؤسس على دراسة سوسيو- تاريخية انتهى أصحابها إلى أنه حتى إذا كان هذا القانون عرفا بالأساس، فإن العرف ينشئه الأقوياء ليتبعه الضعفاء، بينما يهتم الأقوياء بالبحث عن الأساليب لتطويره على نحو يخدم مصالحهم ، و من ثمة فإن هذا القانون الدولي ليس “محايدا” كما يدعي أنصاره، و لم يجعل لتكريس التوازن بين الأطراف، بل لإقامة حالة تفوق للمستثمر على الدولة أما بالنسبة لاتفاقية واشنطن ، فقد تبنت حلا مختلفا لهذه المسألة،إذ جاء بفصلها 42 أن”هيئة التحكيم تقضي في النظام لقواعد القانون التي يعينها الأطراف ،فإن لم يوجد اتفاق،فإن الهيئة تطبق قانونا الدولة المتعاقدة التي تكون طرفا في النزاع، بما فيها قواعد تنازع القوانين،و قواعد القانون الدولي المنظمة للمسألة”. و قد تساءل الفقهاء عن الدور الذي يمكن أن يلعبه القانون الدولي في صورة اختيار الأطراف تطبيق قانون ما و انتهوا إلى أنه، بما أن المحكم الدولي لا يمثل دولة معينة و لا يصدر الأحكام باسم أي دولة أو جهة كانت فإن عليه أن يحرص على حماية “النظام العام الدولي” وذلك باستبعاد أحكام القانون المختار برمته متى كان في مجمله مخالفا لهذا النظام العام فهل يكون الأمر كذلك إذا لم يختر الأطراف قانونا لتطبيقه على العقد؟

لقد استقر الرأي، منذ صدور قرار محكمة العدل الدولية الدائمة في قضية القروض البرازيلية و الصربية، على أن”كل عقد عدا العقود المبرمة بين الدول باعتبارها من أشخاص القانون العام،يجد أساسه في قانون داخلي”، و هو نفس المبدأ الذي أقرته محكمة التعقيب الفرنسية منذ 1929 حيث يكاد يوجد إجماع على رفض فكرة وجود عقد بلا قانون.

إلا أن الإشكال ظل دائما قائما حول تحديد هذا القانون و محتواه. فلئن كانت المدرسة الكلاسيكية الفرنسية تنادي باعتبار نظرية تنازع القوانين التي تؤول إلى تطبيق قانون دولة ما باعتماد معيار إسناد مع تفضيل معيار إرادة الأطراف،فان هذا الرأي لقي نقدا متزايدا بحكم أنه يؤدي إلى عدم الانسجام بين الصبغة الدولية للمعاملة موضوع النزاع.

فأما بالنسبة للفقه فقد تزعم الأستاذ BERTHOLD GOLDMAN المدرسة القائلة بوجود قانون دولي للنشاط التجاري lex mercatoria هو الجدير بالانطباق على هذه العمليات.

و أما بالنسبة للاتفاقيات الدولية فأن أهمها هي اتفاقية واشنطن لسنة 1965 و الاتفاقيات الإقليمية العربية المشار إليها.

فبالنسبة لاتفاقية واشنطن، جاء بالفصل 42 منها كما سلف بيانه، أن على هيئة التحكيم تطبيق قانون الدولة المتعاقدة المعنية بالأمر، إلى جانب مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالمسألة.

و قد علل الفقه اختيار تطبيق قانون الدولة المعنية بالأمر بكونها الدولة التي للعملية الاستثمارية أوثق صلة بها بحكم تنفيذ عقد الاستثمار يقع على أرضها، و بأن سكوت الأطراف يعد قبولا منهم بتطبيق هذا القانون عند الخلاف. إلا أن الفصل ذاته قد أوضح أن تطبيق قانون تلك الدولة يشمل قواعد القانون الدولي الخاص فيها ،وهو ما يعني تبني الاتفاقية لتقنية الرد أو الإحالة “renvoi” التي يمكن أن تؤدي إلى تعيين قانون غير قانون الدولة المعنية بالأمر لينطبق فعليا على الموضوع وهو حل تعرض للنقد إذ أنه علاوة على ما فيه من تعقيد لمسار البحث عن القانون المنطبق وهو ما حدا بعديد الاتفاقيات الدولية كاتفاقية لاهاي المؤرخة في 7 جوان 1955 إلى إقصاء الإحالة اقصاءا صريحا، و هو ذات ما فعل المشرع التونسي صلب الفصل 35 من مجلة القانون الدولي الخاص الذي جاء به :” لا يقبل الرد سواء أدى إلى العمل بالقانون التونسي أو إلى العمل بقانون دولة أخرى إلا إذا نص القانون على قبوله”.

كما نص الفصل 42 من اتفاقية واشنطن على تطبيق القانون الدولي إلى جانب قانون الدولة المتعاقدة وهو ما جعل الفقهاء يساءلون عما إذا المقصود هو تطبيق القانون الدولي “بعد” تطبيق القانون الداخلي للدولة أي سد الثغرات الموجودة بذلك القانون أم تطبيقهما معا على أساس المساواة والتكامل.

وقد أجاب المحكم ” سوزر هول” عن هذا التساؤل اعتباريا بما أن قراره سابق لاتفاقية واشنطن في قرار ” أرامكو” بقوله إن القانون السعودي هو الذي يفترض أن ينطبق على المسائل موضوع النزاع ،إلا أنه يجب إتمامه عند الاقتضاء أو تأويله على ضوء المبادئ العامة للقانون والأعراف المتبعة في صناعة النفط و معطيات العلوم القانونية المحضة ،كما اعتمدت هيئة تحكيم التابعة للمركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار هذا التمشّي في قرار صادر بتاريخ 30/11/1979 في قضية شركة “أجيب” ضد حكومة الكنغو.

وخلافا لهذا التمشي الذي ينطلق من التسليم بتساوي القانون الداخلي مع قانون الدولة من حيث المرتبة و الدرجة فقد اعتبر شق ثان من الفقهاء أن القانون الدولي أعلى مرتبة من القوانين الداخلية وأنه يلعب الرقابة عليها بحيث تعتبر قواعده هي قواعد النظام العام فتكون لقواعد القانون الدولي وظيفة مزدوجة :إتمام قانون الدولة وسد ثغراته من جهة و تغيير أحكامه و إزاحتها لاستبداله بغيرها إن كانت مخالفة للنظام العام الدولي

وقد أكدت هيئة التحكيم المتركبة من رئيسها السيد إدوارد جيمنيز دي أريشاغا و المحكمين روبرت بيتروفسكي و محمد أمين المهدي في قرارها الصادر في 20 ماي1992 في قضية SPP للشرق الأوسط ضد الجمهورية مصر العربية أن للقانون الدولي هذه الوظيفة المزوجة و من ثمة فإن اختيار الأطراف لقانون دولة ما خصوصا إذا كانت الدولة المضيفة للاستثمار من عدمه لا أهمية له.و من ثمة فلا أهمية للبحث مثلا في شرعية بعض الأعمال التي قامت بها الدولة المصرية في تشريعها الوطني ، طالما أن مسؤوليتها تجد أساسها في القانون الدولي و قد قامت الهيئة بتقسيم الاختصاص التشريعي بين القانون المصري والقانون الدولي وأعطت الأولوية في التطبيق للقانون الدولي مع الرجوع إلى القانون المصري في خصوص المسائل التي لا توجد بالنسبة لها قواعد دولية مثل المسائل المتعلقة بالفوائض

أما الاتفاقيات العربية المتعلقة بالاستثمار (1980-1974-1971) فان الحل المبدئي المعتمد فيها يتمثل في تطبيق أحكام ذاتها مع البحث عن أسسها و الغايات من وضعها وأحكام العقد.

فإذا لم يقدم الاتفاقية و العقد حلا فإن الاتفاقيات تبتعد عن تطبيق القوانين الداخلية للدول العربية المتعاقدة و تفضل عليها تطبيق القواعد و المبادئ المشتركة بين الدول العربية و بدرجة لاحقة قواعد القانون الدولي

و لا يجب أن نعتقد أن المقصود بتطبيق القواعد المتفق عليها بين جميع تلك القوانين حتى وإن كانت احتمالات الاختلافات ضعيفة في المنطقة العربية نظرا لوحدة المخزون الحضاري و الثقافي و لوحدة مصادر التأثير ( الشريعة الإسلامية ثم القانون الفرنسي ثم سائر القوانين الغربية ذلك أنه توجد حتما عدة مسائل تختلف حولها كل التشريعات أو بعضها و في هذه الحالة فان المحكم سيكون محمولا على أن يلعب دورا منشئا خلاقا على حد تعبير الأستاذ العميد الصادق بلعيد يؤدي به إلى الخروج من مجرد ” التطبيق” إلى إنشاء قواعد قانونية جديدة تمثل توفيقا بين نظم متباينة لم تكن موجودة أو على الأقل لم تكن معروفة قبل ذلك وهكذا يساهم المحكم في إبراز مواطن التقارب بين القوانين المختلفة و في إيجاد نقاط تقاطع أو التقاء بينها . و قد أدى تكريس فكرة تدويل القانون المنطبق على عقود الاستثمار إلى تأكيد وجود جملة من المبادئ المشتركة بين قوانين كل الأمم منها بالخصوص

– مبدأ إلزامية العقد المرتبط بمبدأ حسن النية

– مبدأ عدم التناقض للإضرار بالغير

– الإعفاء من المسؤولية في صورة القوة القاهرة

إلا أنه يلاحظ أن فقه القضاء التحكيمي يميل إلى القول بأن القوة القاهرة لا تؤدي حتما إلى فسخ العقد و الإعفاء الكامل من المسؤولية بل إنه يجب البحث عن صيغة للإبقاء على العقد مع تعديل الالتزامات العقدية و اعتبار المدين مسؤولا جزئيا إذا ثبت أنه كان بإمكانه أن يفعل شيئا لتقليص المضرة اللاحقة بمعاقده و أنه لم يجتهد للبحث عن طريقة أخرى للوفاء بالتزاماته

– مبدأ التقليص من الخسائر و الأضرار الذي يرتبط بالمبدأ السالف ذكره

– مبدأ منح عبارات العقد المعني الذي يجعل لها فائدة و جدوى

– المبدأ التعويضي أي مبدأ وجوب التعويض للطرف المتضرر بفعل معاقده وخطئه والذي يقتضي أن يكون التعويض مساويا للضرر كل الضرر و لا شيء غير الضرر مع مراعاة ظروف الحال كالقوة القاهرة و الأمر الطارئ و مدى مساهمة الطرف المضرور في وقوع الفعل الضار أو في فداحة الأضرار. و يترتب عن ذلك الاعتراف بحق الطرف المتعاقد في الدفع بعدم تنفيذ معاقده لالتزاماته

– مراعاة الظروف الطارئة و التغيرات غير المنتظرة التي تهز توازن التزامات الأطراف العقدية .

و قد تطور تعامل فقه القضاء التحكيمي مع هذه المسألة حيث أنه قبل أزمة النفط التي طرأت سنة 1973 كان هناك تشبث واضح بمبد إلزامية العقد بحيث لا يقبل تعديل الالتزامات العقدية إلا بتراضي الأطراف. إلا أنه بعد هذه الأزمة و أمام مخلفاتها المدمرة بالنسبة لعديد المؤسسات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية

تخلى المحكمون عن نزعة التشدد ومالوا إلى مقولة إمكانية تعديل العقد إذا أصبح مجحفا في حق أحد الأطراف خصوصا إذا تعلق الأمر بعقد طويل الأمد ولو لم يكن في العقد شرط يقتضي تعديله بسبب الصعوبات الطارئة حتى تحدث الفقه عن تكريس مبدأ جديد وهو مبدأ عدم إلزامية العقد إلا أنه وبداية من أواخر سنوات السبعين ،أصبحت الأزمات و الاهتزازات الإقتصادية حدثا شبه يومي بحيث أصبح “الحدث الطارئ أمرا متوقعا ” حتى كتب الفقيه سارج لازاريف قائلا “لم يعد من الممكن أن لا نتوقع الأمر الطارئ” بحيث أصبح عدم إدراج شرط قوة قاهرة أو شرط تعديل العقد عند ظهور صعوبات إهمالا من الجانب الطرف المتعاقد لا يمكن إعذاره به و هو ما شكل منعطفا للرجوع تدريجيا إلى مبدأ إلزامية العقد و التخلي عن فكرة تعديل العقد دون شرط عقدي يبيح ذلك

– مبدأ حسن النية في التعاقد ومنع سوء النية عند التفاوض على التعاقد

وتدور مجمل هذه المبادئ حول مبدأ جوهري هو مبدأ حسن النية الذي يجب أن يقود تصرفات الأطراف و أن يكرسه المحكومون ضمانا لثقة الأطراف في ما بينهم و برهانا على أن التحكيم و الطريقة لفض النزاعات لكنه قبل كل شيء “عدالة” مع ما يقتضيه ذلك من لزوم تحري الإنصاف

و في الحقيقة فإن هذه المبادئ هي مبادئ أزلية وكونية معتمدة من قبل التشاريع السماوية و جل القوانين الوضعية إلا أن الاختلاف يكمن في كيفية تكريسها و تحويلها إلى قواعد دقيقة و ملموسة

و في الكثير من الأحيان يؤدي اختلاف أساليب تطبيق المبدأ الواحد إلى ضياع وحدة المبدأ.

و يتمثل دور التحكيم والمحكمين في السعي إلى توحيد هذه التطبيقات وضمان تجانسها حتى تحافظ المبادئ على وحدتها.

وما من شك في أن عملية الاستثمار ذاتها هي عملية من نوع خاص باعتبارها عقدا ليس بالتجاري المحض و لا السياسي المحض و بالنظر في خصوصية أطرافها و قد أدى ذلك إلى انفراد التحكيم فيها بجملة من الخصوصيات و الميزات التي قد نكون قد وفقنا في إبراز البعض منها.

و يتضح من جميع ما تقدم بسطه أن تطور قانون التحكيم في العالم عموما و في تونس على وجه الخصوص قد أفرز تصنيفا ثنائيا للتحكيم المتعلق بالحقوق الخاصة و هو الذي يميز بين التحكيم التجاري من جهة أولى والتحكيم في مجال نزاعات الاستثمار من جهة أخرى.

وإن الوضع الحالي لقانون التحكيم يؤكد تميزهما وتغايرهما بشكل واضح. إلا أن ما يشهده عالم اليوم من تغير في وضع الدولة و مركزها نحو الاقتراب من أوضاع الخواص يجيز لنا التساؤل عما إذا كانت هذه الخصوصية ستظل قائمة إلى أمد بعيد.

و تبدو بواكير العصر الذي يتوحد فيه قانون التحكيم من حيث مبادئه و حلوله واضحة و جلية في ظل اضمحلال خصوصيات الوضع القانوني للدولة.

فهل أن هذه الفرضية إن تحققت مفيدة للتحكيم و قانونه أم أنها قد تكون مقدمة لموجة جديدة من العداء إزاء التحكيم قد يدفع إليها تفطن الدول إلى الأضرار التي تلحقها من جراء “خوصصة” وضعها القانوني و تنظيرها بالخواص مع ما في ذلك من مساس بامتيازاتها التي تستمدها من سيادتها التي مردها تمثيلها لشعبها بحيث يعتبر المساس بمكانة الدولة مساسا بسيادة شعبها؟

قد يكون من قبيل التهويل الجزم بأن مسيرة خوصصة وضع الدولة حتى في إطار التحكيم قد انتهت و أن المحكم أصبح يعامل الدولة معاملة الخواص.

ذلك أن أغلب الحالات التي تم فيها توخي هذا التمشي تعلقت بدول ما يسمى بالعالم الثالث و قد كان ذلك نوعا من رد الفعل غير المعلن على مغالاة الدولة المضيفة للاستثمار في الاستناد إلى تعلة السيادة للمساس بالحقوق و الضمانات المشروعة الممنوحة إلى المستثمر الأجنبي بما في ذلك الضمانات التي منحت إليه تعاديا و فرديا.

و ربما كان هذا التعامل هو الذي ساهم في تخلي جل الدول عن هذه الطريقة و اعتدالها في معاملة المستثمرين الأجانب مما خلق نوعا من التوازن الذي لا يغفل عن سيادة الدولة و لا يقلص من ضمانات المستثمر بشكل غير مقبول. والمرجع أن يسهم فقه القضاء التحكيمي في ترسيخ هذا الوضع و استقراره.

الخـــــــاتمة

إن ما حققه المشرع التونسي على المستوى التشريعي في مادة اللزمة أمر محمود إلا أنه لا يزال يشوبه ضرب من النقائص على المستوى التطبيقي خاصة و أن تقنيات تعاقدية جديدة مثل عقود الشراكة و اتفاقيات الإستثمار بدأت تخطف الأضواء عن تقنية اللزمة بالنظر إلى نظامها القانوني المتميز و ما ينطوي عليه من مشاريع تعجز تقنية اللزمة عن احتوائها و عن أن تكون إطارا قانونيا ملائما لها و متلائما معها.

من ناحية أخرى يجدر التوقف و الإشارة للدور الفعال الذي تلعبه العدالة الخاصة (la justice privée ) في مدى نجاعة عقد اللزمة و مدى تحقيق المساواة بين الطرفين الغير المتكافئين بعقد اللزمة و على ضرورة تفعيل التحكيم كمؤسسة و خصوصا مزيد التعمق في قراءة القرارات التحكمية.