تفتيش المرأة في الأنظمة الجنائية السعودية (دراسة مقارنة)

إعداد
عبد الرحمن بن مهيدب بن عبد الرحمن المهيدب

المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمبدأ الحماية الشرعية والنظامية للفرد يعني: الحفاظ على حقوقه في كل مجال يتمتع فيه بحرياته الخاصة، كحرية التفكير والتعبير، والتنقل، والعمل، وحرية التملك والخصوصية، وفقاً للضوابط الشرعية والنظامية المقررة لذلك؛ فإذا تحققت الحماية الشرعية والنظامية لكافة أفراد المجتمع، تمكن العقل الإنساني من التفكير والتأمل، والتطوير لكشف المجهول، وأداء الواجبات على أكمل وجه، ليشعر الفرد بقيمته وقيمة الآخرين المساوية له بوصفه إنساناً، فيكون نتاجه وجود الإنسان الحريص على مراعاة حقوق الآخرين في كافة المجالات المختلفة، ومن ذلك جانب تفتيش المتهم.
ويعتبر التفتيش بمفهومه الجنائي، إجراء من إجراءات التحقيق المهمة، يهدف إلى كشف حقيقة تهمة أو جريمة مرتكبة؛ لكونه يستوجب التفتيش الذاتي للمتهم، أو تفتيش ممتلكاته الخاصة التي لها حرمتها الشرعية والقانونية، بغض النظر عن رضاه وقبوله لهذا الإجراء، ما دام الهدف هو تحقيق للمصلحة العامة.
وهذا يعني أن الأنظمة الجنائية تسمح بإجراء التفتيش الذي يمس حرمة خاصة – محمية بالنظام في الأصل – بسبب جريمة وقعت أو ترجح وقوعها، لما في ذلك من تغليب للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة. والتفتيش بهذا المعنى يكون إجراءً نظامياً ينطوي على قدر من الجبر والإكراه، لأنه يشكل مساساً مباشراً بحقوق الأفراد، وحرياتهم، وأسرارهم، بقصد البحث عن عناصر الحقيقة، وتبعاً لذلك فإن يعد من أكثر الإجراءات الجنائية التي تتعرض مباشرة للحريات الشخصية ولحرمة الممتلكات الخاصة.
ونظراً لطبية الأنثى التي تتطلب خصوصية في إجراءات تفتيشها أو تفتيش ممتلكاتها، فإنه من الصعوبة بمكان إجراء هذا التفتيش، ما لم يكن هناك احتمال راجح في العثور على دليل من ورائه، والأمر في ذلك متروك لتقدير السلطة القائمة به، فإذا ثبت أن سلطات التحقيق قد باشرت أي نوع من أنواع التفتيش للمرأة دون ترجح وجود فائدة مرجوة من إجرائه، فإنها بذلك تكون متعسفة في استعمال هذا الحق ( )؛ لأنه يجب على المحقق مراعاة كرامة المرأة، والحفاظ على حقوقها الشرعية والنظامية، التي قررت كرامتها، وكفلت صيانة حقوقها المادية والمعنوية، بعدم التعدي عليها دون مسوغ مقبول، وحفظت خصوصيتها التي تناسب فطرتها.
أهمية الموضوع وخطته:
ترجع أهمية موضوع تفتيش المرأة المتهمة إلى كونه إجراء من إجراءات التحقيق، يهدف إلى التوصل إلى الأدلة التي تساهم في كشف الحقيقة، وذلك في أمرين على وجه الخصوص:
الأول: إثبات الجريمة، التي يستند فيها غالباً إلى أدلة مادية تدعم الأدلة القولية.
والثاني: كشف الأدلة المادية التي تسعى الجانية أو المتهمة إلى إخفائها، فإذا لم يتيسر وجودها في مكان الجريمة، فيتعين على المختص بإذن التفتيش البحث في الأماكن والممتلكات الخاصة بالمتهمة، للكشف عن الأدوات التي استخدمت في ارتكاب الجريمة. وعلى ضوء ذلك، فإن محل التفتيش قد يكون ذات الشخص المتهمة أو أحد ممتلكاتها، وهذا إجراء خطير، لأن للمرأة في الإسلام مكانة خاصة، فالشريعة الإسلامية حرصت كل الحرص على صيانة المرأة وتكريمها، وحرمت كل ما يمس بدنها أو مالها أو عرضها، ومن ذلك: التعرض لمسكنها وحياتها الخاصة ما دامت بعيدة عن التهمة، متوقية عن الشبهات، ملتزمة بأحكام الشرع.
ولهذا كان إجراء تفتيش المرأة م أشد الإجراءات التي عنيت بها الشريعة الإسلامية، وأكدت عليها الأنظمة السعودية، فإن حظر التفتيش يعد قاعدة عامة في النظام السعودي، ولم يجزه إلا بقيود خاصة، فقد نصت المادة السابعة والثلاثون من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية، الصادر بالأمر الملكي أ / 90 في 27 / 8 / 1412 هـ، على أن: “للمساكن حرمتها، ولا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها، ولا تفتيشها إلا في الحالات التي بينها النظام”. وقد شدد نظام الإجراءات الجزائية السعودي، الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م / 39 في 28 / 7 / 1422 هـ، على حفظ حقوق المرأة المادية والمعنوية؛ فقد خص المرأة التي ترتكب جريمة ما، بمعاملة تليق بخصوصيتها وفطرتها، وذلك لما يتسم به الوضع في المملكة العربية السعودية من اهتمام بشأن المرأة بشكل يتميز عن سائر دول العالم؛ فحدد هذا النظام قواعد وضوابط تخص المرأة في مراحل الدعوى الجنائية، وبخاصة مرحلتنا التحقيق والمحاكمة.
وما يهمنا في هذا البحث على وجه الخصوص، هو بيان أحكام تفتيش المرأة المتهمة، وسأناقشها بتوضيح أبرز الضوابط المقررة لتفتيش الأنثى في الشريعة الإسلامية والأنظمة السعودية والقوانين والتشريعات الدولية الأخرى، وذلك في مبحثين مستقلين، كل مبحث يحتوي على ثلاثة مطالب، مصنفة على النحو الآتي:
المبحث الأول: مفهوم التفتيش، ومحله، وأنواعه
لأن التفتيش إجراء من إجراءات التحقيق المهمة للبحث عن أدلة الجريمة المرتكبة، فإن من القواعد العامة أ، يجري التفتيش وفق الضوابط المقررة لمفهومه وحدوده النظامية، التي تقتضي دخول وتفتيش أماكن خاصة، لها حقوق الحرمة والخصوصية، فيتم التفتيش وفقاً لهذه الضوابط دون الحاجة لموافقة صاحبها، لأنه إجراء، غايته البحث عن الحقيقة، وتقتضيه الضرورة التي تحقق المصلحة العامة، حتى وإن كان يشكل مساساً بحريات وحقوق الأفراد، فهو مبني على قاعدة شرعية أساسية تنص على أن: “الضرورات تبيح المحظورات”. ولأهمية معرفة مفهوم التفتيش وحدوده وأنواعه، فقد ركز هذا المبحث على بيان ذلك في ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعريف التفتيش
أولاً: في اللغة.
التفتيش مصطلح واسع المفهوم في اللغة العربية، أصله “فتش”، يقال: فتش الشيء فتشاً، وفتشه تفتيشاً، والمضارع منه يُفتش، والمصدر تفتيش ( )، ومنه: فتش الغطاء لكشف المستور، والتفتيش: الطلب والبحث ( )، والفتش، كالضرب، والتفتيش: طلب في بحث ( )، وما يهمنا في هذا السياق هو المعنى العام المتعلق بكشف الغطاء عن حقيقة أمر ما، ومن ذلك ما يتعلق بكشف أدلة جريمة أو تهمة.
ثانياً: في الاصطلاح القانوني:
للتفتيش مفاهيم عدة، ذكرتها الكتب القانونية والأنظمة، وأغلب هذه التعريفات اتفقت على أن مفهوم التفتيش هو: “إجراء تحقيق يقوم به موظف مختص، للبحث عن أدلة مادية لجناية أو جنحة، وذلك في محل خاص أو لدى شخص، وفقاً للأحكام المقررة قانوناً” ( )، وقد وردت تعريفات متنوعة للتفيش في الأنظمة الإجرائية السعودية، منها ما عرف بأنه: “إجراء يساعد على كشف الحقيقة، ويقصد به تحقيق أدلة معينة ضد متهم في جريمة معينة وقعت بالفعل، لأن المجرم لن يألو جهداً في إخفاء ما معه مما يساعد على إدانته” ( )، ومنها ما ذكر أن مفهوم التفتيش هو: “البحث لضبط أدلة الجريمة، وكل ما يفيد في كشف الحقيقة من أجل إثباتها أو إسنادها للمتهم، سواء أكان محله شيئاً أم مكاناً أم شخصاً” ( )، وحددت بعض لوائح الأنظمة السعودية المقصود بالتفتيش بأنه: “البحث لضبط أدلة الجريمة، وكل ما يفيد في كشف الحقيقة، سواء أكان محل التفتيش مكاناً أم شخصاً، أم عيناً أخرى” ( ).
ويعد التفتيش الجنائي في النظام الإجرائي السعودي أحد إجراءات التحقيق التي تمس حرمة الأشخاص وممتلكاتهم، التي يجب حمايتها وعدم التعدي عليها، فقد أكد ذلك نظام الإجراءات الجزائية بأنه: “للأشخاص ومساكنهم ومكاتبهم ومراكبهم حرمة تجب صيانتها، وحرمة الشخص تعني حماية جسده وملابسه وماله وما يوجد معه من أمتعة، وتشمل حرمة المسكن كل ما كان مسوراً أو محاطاً بأي حاجز، أو معداً لاستعماله مأوى” ( ). ويتضح من هذا أن التفتيش الإجرائي ينطوي على انتهاك لحرمة الأشخاص ومساكنهم؛ إلا أن مقتضيات مصلحة الجماعة بشكل عام، ومصلحة التحقيق بشكل خاص، أباحت القيام بهذا الإجراء في حدود ضيقة، وبضمانات معينة تحدد الحالات التي توجب هذا المساس، والسلطات التي تقوم بها، وتبين الشروط التي يتعين الالتزام بها عند مباشرة هذا الإجراء. وهذا ما أكد عليه النظام الأساسي للحكم، فقد نص على أن: “للمساكن حرمتها، ولا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها، ولا تفتيشها إلا في الحالات التي بينها النظام” ( )، ويتحدد هدف إجراء التفتيش الجنائي بالحصول على أدلة الجريمة، وليس اكتشافها أو اكتشاف فاعلها، فالتفتيش له طبيعة خاصة تمس أسرار المتهم، بكونه لا ينصرف فقد إلا الأشياء المعلنة التي يمكن للكافة الاطلاع عليها ( )، فهو بهذا المعنى يعد إجراء من إجراءات التحقيق، تقوم به سلطة يحددها القانون، بهدف البحث عن الأدلة المادية الجريمة تحقق وقوعها في محل خاص يتمتع بالحرمة، بغض النظر عن إرادة صاحبه.
ونستخلص مما سبق، أن التفتيش الجنائي عبارة عن إجراء قانوني، يكون الغرض منه المساعدة في كشف أدلة جريمة وقعت لمعرفة مرتكبيها، أو كشف جريمة سوف تقع، ومحاولة منعها قبل وقوعها، تحقيقاً للمصلحة العامة ودعم استقرار المجتمع.
المطلب الثاني: محل التفتيش
مكان التفتيش أو محله هو المستودع الذي يحتفظ فيه المرء بالأشياء المادة التي تحفظ سره، ولا يشمل ذلك السر الذي يحتفظ به المتهم في ذات نفسه، لأنه ليس محلاً للتفتيش، إذ يمكن التوصل إليه من خلال إجراءات وأساليب أخرى كالاستجواب مثالاً. والسر الذي يحميه النظام هو الذي يحتفظ به في محل له حرمته الخاصة، كوضع الأشياء في الممتلكات الخاصة على اختلاف أنواعها، ومن ذلك المزارع، والاستراحات، والمكتب، والعيادة، والمراكب المختلفة، كالسيارات والقوارب، وغيرها من الممتلكات التي تحقق الصفة السرية لتصبح محلاً للتفتيش، لأن المرافق العامة لا تصح أن تكون محلاً للتفتيش؛ لأنها عرضة للاطلاع والمعاينة من الآخرين بوجه عام. وهذا يوحي أن يكون محل التفتيش هو المنزل المعد للسكن، أو الأماكن الأخرى المعدة للمأوى، كالاستراحة أو المزرعة، باعتبارها من الممتلكات الخاصة وليست العامة. وقد يقع التفتيش على ذات الأشخاص أنفسهم أو غيرهم ممن يظهر أن له علاقة، إذا استلزمت مصلحة التحقيق ذلك. والإذن بالتفتيش لا يصدر إلا بسبب مقبول يؤكد وقوع الجريمة، أو إمكانية وقوعها من شخص معين، وبموجب يوجه الاتهام إلى هذا الشخص لتوفر القرائن القوية على حيازته أدوات ووسائل تثبت إمكانية ارتكابه للجريمة. ويجب أن يتضمن أمر التفتيش تحديد الشخص أو المكان المراد تفتيشه ( )، وتفصيل ذلك في الآتي:
أولاً: تفتيش الممتلكات الخاصة
تعتبر الحرية الشخصية للإنسان، والمحافظة على حقوقه المادية والمعنوية، واحترام حرمة ممتلكاته الخاصة، من الضمانات القانونية المتعارف عليها؛ لأن حرمة الممتلكات الخاصة من أهم الحقوق الإنسانية التي يجب حمايتها من اعتداء يقع عليها دون وجه حق؛ فالممتلكات الخاصة التي يأوي إليها الإنسان، تكون في الغالب مستودعاً لأسراره، وهي المكان الذي يلجأ إليه، لذلك اعتنت الشريعة الإسلامية بحفظها من الاعتداء، وتبعتها في ذلك القوانين والمواثيق الدولية العامة والخاصة المتعلقة بحقوق الإنسان، لأن التفتيش يشكل مساساً خطيراً بهذه الممتلكات، فقررت الشريعة الإسلامية قواعد وأسساً تقوم عليها أحكام هذا التفتيش، وتبعتها في ذلك القوانين والمواثيق الدولية، من أجل منع الإجراءات التعسفية عليها والمحافظة على حرمتها. والمطلع على هذه القواعد يرى أنها جميعاً تقرر عدم جواز انتهاك حرمة الممتلكات الخاصة، إلا بقيود خاصة، وضرورات مقبولة شرعاً وقانوناً.
وبالنظر في الأنظمة السعودية نجد أن المملكة العربية السعودية قد ركزت على حرمة الممتلكات الخاصة، وأكدت على عدم جواز التعدي عليها أو تفتيشها، فقد ورد ذلك في نظام حكمها الأساسي وبقية أنظمتها الجنائية الأخرى، ومن ذلك ما ورد في النظام الأساسي للحكم بأن: “للمساكن حرمتها، ولا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها، ولا تفتيشها إلا في الحالات التي بينها النظام” ( )، وهذا النص النظامي مبني على أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وإن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)) [النور: 28]، فهذه الآية القرآنية صريحة في خصوصية حرية المسكن، فقد نهت عن دخول الإنسان منزل غيره حتى يستأذن أولاً، ثم يتلقى الإذن من صاحب المنزل، كما أمرته بالرجوع إذا كانت الظروف لا تسمح لصاحب البيت بأن يستقبله ويأذن له بالدخول، دون أن يترك ذلك أي أثر في نفس الزائر، فهذا الحق أساسه موجود في نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء. فالأمر الشرعي موجه بشكل عام إلى كل أجنبي عن المسكن، بصرف النظر عن هويته ووضعه ومركزه الاجتماعي، يستوي في ذلك الحاكم والمسؤول وأي فرد عادي، فأي اعتداء على حرمة هذا المسكن يعد اعتداءً على الشخص ذاته، إلا إذا ترجحت مصلحة عامة على مصالح الأفراد الخاصة، فإن ذلك يبطل هذه الحرمة مؤقتاً، إذا كانت الغاية هي الوصول إلى دليل مادي يفيد في كشف حقيقة أمر ما يتعلق بتحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
وامتثالاً لمبدأ تطبيق الأحكام الشرعية، ووفقاً لتوجيهات ولاة الأمر، وفقهم الله وحفظهم، والتي تؤكد على تطبيق هذه الأحكام من أجل الحفاظ على حقوق الأفراد في كافة أمور الحياة الإنسانية، فإن الأنظمة السعودية اللاحقة لنظام الحكم الأساسي أكدت أيضاً حرمة الاعتداء على الممتلكات الخاصة، حفاظاً على حقوق الآخرين وممتلكاتهم.
ومن شواهد ذلك ما ورد في نظام الإجراءات الجزائية من أحكام تؤكد مبدأ حرمة الممتلكات الخاصة وعدم تفتيشها دون وجه حق، فقد نص على أن: “تفتيش المساكن عمل من أعمال التحقيق، ولا يجوز الالتجاء إليه إلا بناءً على اتهام موجه إلى شخص يقيم في المسكن المراد تفتيشه بارتكاب جريمة، أو باشتراكه في ارتكابها، أو إذا وجدت قرائن تدل على أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة. وللمحقق أن يفتش أي مكان، ويضبط كل ما يحتمل أنه استعمل في ارتكاب الجريمة أو نتج عنها، وكل ما يفيد في كشف الحقيقة بما في ذلك الأوراق والأسلحة، وفي جميع الأحوال يجب أن يعد محضراً عن واقعة التفتيش يتضمن الأسباب التي بني عليها ونتائجه، مع مراعاة أنه لا يجوز دخول المساكن أو تفتيشها إلا في الأحوال المنصوص عليها نظاماً، وبأمر مسبب من هيئة التحقيق والادعاء العام” ( )، وهذه الإجراءات تخص ما يسمى بالتفتيش الجنائي.
وبناءً عليه، فإنه للمحقق أو رجل الضبط الجنائي الحق في التفتيش الجنائي وضبط كل شيء يفيد في كشف الحقيقة، ويشمل ذلك الأوراق والأسلحة والوسائل الأخرى ذات الصلة. كما يجب عليه إعداد محضر يتضمن نتائج التفتيش وإجراءاته المتخذة، والأسباب التي بنيت عليها هذه النتائج، مع مراعاة ما ورد في النصوص النظامية الواردة في هذا الشأن. ولأن التفتيش الجنائي إجراء مهم من إجراءات التحقيق، ولما للمساكن من حرمة خاصة، فقد اشترط نظام الإجراءات الجزائية أن يكون الإذن بتفتيش المساكن مبنياً على أمر مسبب من هيئة التحقيق والادعاء العام، لأنها الجهة المخولة نظاماً بإصدار الإذن بالتفتيش والقيام به، وذلك استناداً على ما قررته أحكام المادة (80) من نظام الإجراءات الجزائية السابقة ذكرها.
وورد ذلك أيضاً في مشروع اللائحة التنظيمية لهيئة التحقيق والادعاء العام، فقد نصت هذه اللائحة على أنه: “يجب أن يكون إذن التفتيش مسبباً بما يوفر القناعة بقيام الجريمة وجدية الاتهام” ( )، ونصت أيضاً على أن: “يصدر الإذن بالتفتيش كتابة من المحقق المختص، ويجب أن يتضمن اسم من أصدره، ووظيفته، واسم دائرته، وساعة وتاريخ صدوره، وتوقيعه، واسم الشخص، أو المكان، أو الشيء المقصود بالتفتيش، وأن يحدد مدة لا تجاوزه” ( )، كما نصت هذه اللائحة على أنه: “يشترط فجراء التفتيش أن يكون هناك من الدلائل والأمارات الكافية ما يسوغ التعرض لحرية الشخص أو مسكنه” ( ).
وقد اشترط نظام الإجراءات الجزائية أن: “يتم تفتيش المسكن بحضور صاحبه أو من ينيبه، أو أحد أفراد أسرته البالغين المقيمين معه، وإذا تعذر حضور أحد هؤلاء وجب أن يكون التفتيش بحضور عمدة الحي، أو من في حكمه، أو شاهدين، ويمكن صاحب المسكن أو من ينوب عنه من الاطلاع على إذن التفتيش، ويثبت ذلك في المحضر” ( ).
وقد أوضح هذا النظام أن حرمة المساكن تشمل كل الأماكن المسورة، والمحاطة بأن حاجز، والمعدة لاستعمالها مأوى ( )، وبمفهوم المخالفة، فإنه لا يعتبر مسكناً بهذا المعنى إلا إذا تم استخدامه مأوى. ويجب أن يجعل في الاعتبار أنه لا يشترط أن يكون المكان معداً لإقامة الشخص فيه بشكل دائم، بل يكفي أن يكون معداً لنزول الشخص في فترات متقطعة أو أيام معدودة، كما لا يشترط أن يكون المسكن مملوكاً للشخص، وإنما يكتفى بأن يكون مقيما به.
ويتبين مما سبق، تأكيد الأنظمة السعودية على مسألة حماية البيوت من التجسس، واشتراطها أن يكون الأمر بالتفتيش، ومراقبة المحادثات، والتجسس عليها مسبباً، لكي تتحقق شرعية عمل المحقق؛ وأن يجعل في الاعتبار هنا أنه لا توجد طريقة أخرى للبحث أو الوصول إلى أدلة الجريمة وإثباتها غير التفتيش. ويتضح أيضاً مراعاة الأنظمة في المملكة العربية السعودية لمسألة تنظيم إجراءات دخول المنازعات وتفتيشها، وفقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية، القاضية بأنه لا يجوز دخول بيت شخص بغير إذنه، إلا إذا اقتضت الضرورة والحاجة ذلك، فيجوز دخولها حتى ولو لم يأذن صاحبها، حتى لا تكون البيوت أوكاراً منيعة للإجرام.
وباستعراض المعاهدات والمواثيق الدولية والأممية، نجد أنها لم تغفل حرمة الأشخاص والممتلكات الخاصة، ومن ذلك – مثالاً -: ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي نص على أنه: “لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة، أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته. ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات” ( )، فهذه تؤكد أن الاعتداء على الشخص أو الدخول إلى ممتلكاته الخاصة دون التقيد بتوجيهات القانون يعد تدخلاً تعسفياً في مفهوم هذا الإعلان.
كما إن الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان قررت حرمة التعدي على الحياة الخاصة دون وجه حق، فقد أوضحت أنه لكل إنسان حق احترام حياته الخاصة والعائلية، وكذلك مسكنه ومراسلاته. ولا يجوز للسلطة العامة أن تتعرض لممارسة هذا الحق إلا وفقاً لقانون تمليه الضرورة في مجتمع ديمقراطي لصالح الأمن القومي وسلامة الجمهور، أو الرخاء الاقتصادي للمجتمع، أو حفظ النظام ومنع الجريمة، أو حماية الصحة العامة والآداب، أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم ( ).
وقد أكد ذلك أيضاً العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فقد نص على أنه: “لا يجوز تعريض شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته. من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس” ( ).
وذكرته أيضاً الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، فقد أوضحت أنه: “لا يجوز أن يتعرض أحد لتدخل اعتباطي أو تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو منزله أو مراسلاته، ولا يتعرض لاعتداء غير مشروع على شرفه أو سمعته” ( ). وأكدت على مبدأ أن: “لكل إنسان الحق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الاعتداءات” ( ).
وجدير بالذكر هنا أن يجعل في الحسبان أن هناك بعض الأماكن الخاصة أحاطها القانون بالحصانة التامة ضد أي تفتيش، إلا بعد أن يأذن بذلك صاحب العلاقة، حتى ولو وجدت في هذه الأماكن أشياء تتعلق بالجريمة وتفيد في كشف حقيقتها، ومن هذه الأماكن: السفارات، ومقر البعثات الدبلوماسية، ومساكن أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي. فالحصانة الدبلوماسية هنا ليست مانعاً تحول دون التفتيش بشكل مطلق، ولكنها تحول دون سريان بعض أحكام أنظمة الإجراءات الجنائية عليها بصفة استثنائية ( ).
ثانياً: تفتيش الأشخاص. ويتضمن الآتي:
أ‌- تفتيش المتهم بصفة عامة:
إذا كانت الغاية من تفتيش المتهم هي كشف حقيقة الجريمة، من خلال سبر أسرار بعض المواضع التي لها حرمتها القانونية، وإذا كان التفتيش يشكل انتهاكاً خطيراً لحرية المتهم وحقوقه، فيجب أن يجعل في الحسبان ألا يتم اللجوء إليه إلا في الحالات الضرورية، التي توجد فيها أمارات قوية، تؤكد أن هناك أشياء مخفاة تفيد في كشف الحقيقة، ويجب تفتيشها ( ).
وإجراءات تفتيش الأشخاص دلت عليها النصوص الشرعية، وأوضحت أنه يجوز لولي الأمر أو من ينوب عنه بذلك – ومنهم المحققون – التفتيش على المتهم ومسكنه ومتاعه للكشف عن الجريمة، إذا كان ذلك مما يفيد في التحقيق. ومن ذلك ما ورد في قصة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76))( ). فقد فتش يوسف – عليه السلام – أمتعة المتهمين، حتى استخرج صواع الملك من رحل أخيه.
وتفتيش المتهم قد يكون إجراء تابعاً بعد القبض عليه، فمتى كانت إجراءات القبض نظامية كانت عملية التفتيش الجنائي نظامية أيضاً، وطبقاً للقواعد العامة، فإن نطاق تفتيش الأشخاص يشمل كل الحالات التي يجوز فيها القبض عليهم، فالقاعدة الثابتة هنا: أنه إذا جاز القبض على شخص جاز تفتيشه، وذلك باعتبار أن القبض أكثر مساساً بالحرية الشخصية، فهو يتضمن المساس الذي يضمنه التفتيش، بل يزيد عليه. والأصل أن السلطة التي تمتلك الأكثر فإنها تملك الأقل، وأن من يخضع – قانوناً – للإجراء الأشد يخضع بالضرورة للإجراء الأخف. ويسوغ هذا المبدأ أيضاً: أن مصلحة التحقيق قد تقتضيه، وذلك من أجل سد الذريعة، وهي قيام المقبوض عليه بمحاولة إتلاف ما يتعلق بالجريمة أو تشويهه وتغيير معالمه ( ).
وقد بينت الأنظمة الجنائية السعودية الحالات التي يجوز فيها تفتيش المتهم، فقد نص نظام الإجراءات الجزائية على أنه: “يجوز لرجل الضبط الجنائي في الأحوال التي يجوز فيها القبض نظاماً على المتهم أن يفتشه، ويشمل التفتيش جسده وملابسه وأمتعته …” ( ).
وقد أجاز النظام لرجل الضبط الجنائي تفتيش المتهم إذا توافرت قرائن قوية ضده، تؤكد أنه يخفي أشياء معه قد تفيد المحقق في كشف الحقيقة، كما أعطي رجل الضبط الحق في تفتيش الأشخاص غير المتهمين، إذا توافرت ضدهم قرائن كافية على حيازتهم ما يفيد في كشف أدلة الجريمة ( )، فنص على أنه: “إذا قامت أثناء تفتيش منزل متهم قرائن ضده أو ضد أي شخص موجود، على أنه يخفي معه أشياء تفيد في كشف الحقيقة جاز لرجل الضبط الجنائي أن يفتشه” ( ).
وللمحقق أيضاً تفتيش المتهم أو غيره في وقت لاحق متى ما ظهرت قرائن جديدة قوية تفيد حيازة أشياء جديدة تفيد المحقق في كشف أسرار الحقيقة، فقد نص نظام الإجراءات على أن: “للمحقق أن يفتش المتهم، وله تفتيش غير المتهم إذا اتضح من أمارات قوية أنه يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة، ويراعى في التفتيش حكم المادة الثانية والأربعين من هذا النظام” ( ).
ويتضمن تفتيش الشخص المتهم البحث في جسمه وملابسه الداخلية والخارجية، وما قد يحمله من ممنوعات وأشياء تفيد في كشف أسرار الجريمة. وقد يظن البعض أن تفتيش المتهم إجمالاً يكفي في استيفاء شروط التفتيش، فإذا كان الإذن بالتفتيش لذات الشخص فلا يقتضي ذلك تفتيش المسكن، والعكس صحيح، وحجتهم هي: أن الإذن بالتفتيش يجب أن يكون مسبباً ومعيناً، وهذا اعتقاد لا ينطبق مع ما ورد في بعض النصوص القانونية الجنائية، فهناك حالات التلبس التي يجوز أن يباشرها رجل الضبط الجنائي وليس المحقق فقط؛ لذا جاز تفتيشه من قبل رجل الضبط الجنائي دون الحاجة إلى أخذ الإذن المسبق في ذلك. كما إن هذا الاعتقاد لا يتوافق مع مبادئ نصوص القوانين الجنائية لبعض الدول الأخرى، فهناك بعض الحالات التي تتطلب عدم أخذ الإذن من الجهة المختصة والمتمثلة في صلاحيات النيابة العامة، بمعنى: أن الذي يقوم بالتفتيش في هذه الدول هو رجل الضبط الجنائي في النيابة العامة، وليس عضو هيئة التحقيق والادعاء العام كما هو الحال في أنظمة المملكة العربية السعودية. ولا ريب أن تقدير مدى كفاية القرائن المسوغة لمثل هذه الحالات من التفتيش تخضع لسلطة المحقق، الذي يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في هذه الحالة.
ونستنتج مما سبق، أن الأصل في التفتيش الجنائي للأشخاص المتهمين مقيد بتوافر شروطه، فمتى توافرت هذه الشروط جاز إجراؤه على أي شخص تشير مدلولات الجريمة على تورطه.
ويجب أن يجعل في الحسبان أن التشريعات القانونية تعطي بعض الأشخاص حصانة خاصة تحول دون تفتيشهم، وسبب هذه الحصانة يرجع إلى حماية مصالحة التي يرى ولي الأمر أنها جدية بالحماية، لذا فإنها تتقدم على مصلحة التحقيق، كالحصانة الدبلوماسية مثالاً، والتي تقضي قواعد العرف الدولي بتقديمها للأشخاص الدبلوماسيين المبعوثين، فالحصانة الدبلوماسية ليست مانعاً تحول دون توقيع العقوبة عليهم، وليست سبباً من أسباب الإباحة، وإنما هي سبب يحول دون سريان بعض أحكام الأنظمة الجنائية عليها بصفة خاصة استثنائية، فإن القواعد والمعايير العامة للحصانة الدبلوماسية تقضي بعدم خضوع الدبلوماسيين وأفراد أسرهم للإجراءات الجنائية المقررة للأفراد العاديين ( ).
ومن الحصانات الأخرى المستثناة من تطبيق بعض أنظمة الإجراءات الجزائية: تلك التي تقتضيها بعض الوظائف العامة في الدولة، كحصانة الوزراء. وحصانة أعضاء المجلس التشريعي أو ما يسمى (الحصانة البرلمانية)، والحصانة الممنوحة للقضاة وغيرهم.
ب‌- تفتيش المرأة:
إجراءات تفتيش المرأة لها ضوابط دلت عليها أحكام الشريعة الإسلامية، وأجازت القيام بها إذا كان الهدف تحقيق مصلحة أكبر للتحقيق تؤدي إلى الكشف عن حقيقة أمر ما. ومن ذلك ما ورد في السنة النبوية بشأن قصة الظعينة التي أرسلها حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – حين كتب إلى أهل مكة عام الفتح يخبرهم بمسير النبي  إليهم، ظهر أمر الكتاب، فبعث النبي  من يفتش حالم الكتاب، فقد روى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: “بعثني رسول الله  وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام – وكلنا ف ارس – قال: انطلقوا حتى تأتوا (روضة خاخ) فإن بها امرأة من المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله ، فقلنا: أين الكتاب؟ فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله ، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها – وهي محتجزة بكساء – فأخرجته، فانطلقنا بها على رسول الله ، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال النبي : ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله ، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي : صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر:؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، أو: فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم” ( ).
فهذا يوضح أنهم قد فتشوا متاعها أولاً، فلم يجدوا كتاباً، ثم أمروها بإخراج الكتاب أو أنه سيجري تفتيشها، فلما رأت ذلك أخرجت الكتاب من حجزتها.
ومفهوم التفتيش الجنائي للأنثى يعني: تحسس جميع مواضعها البدنية الظاهرية والمخفاة، من أجل الكشف عليها، ويشمل ذلك فحص ملابسها. والمقصود بالمواضع الظاهرية منها: الوجه واليدان والقدمان والملابس الخارجية، أما المواضع المخفاة فهي: تلك الأجزاء الداخلية في جسم المرأة التي تخدش حياءها إذا فتشت بواسطة الغير وتمكن من مشاهدتها ( ).
وفي هذا الجانب يرى البعض: “أن تفتيش الأنثى هو التفتيش الظاهري، أي تحسس الملابس وفحصها، وكذلك فحص الجسد من الظاهر، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتطرق فحص الجسد إلى مواضع العفة في الإنسان، فهذا امتهان خطير للإنسان لا تسوغه أية مصلحة عامة، ويكون جناية هتك عرض” ( ).
والتفتيش الجنائي للمرأة يعد من أهل الإجراءات الجنائية التي يجب التعامل معها بحذر شديد، وذلك بحكم اختلاف طبيعتها وتكوينها، فهو يتطلب بعض الإجراءات الخاصة التي تفرضها طبيعة تفتيش الأنثى. ومن أهم العناصر الخاصة بإجراءات تفتيش المرأة: مدى أهمية وحساسية المساس بجسم المرأة والنظر إلى جسمها، لأنه إجراء يشكل تعدياً على خصوصيتها، وقد يتسبب في إقامة دعوى جنائية منبثقة تساهم في تمييع الجريمة الأساسية القائمة، وتحول دون سيران مجريات العدالة؛ لذلك حرصت أغلب التشريعات على تضمين القوانين قواعد ومبادئ خاصة للأنثى، أغلبها يتضمن مبدأ أن يتم تفتيش المرأة بواسطة امرأتين، وذلك سداً لذريعة المساس بكرامتها، وتأكيداً على صيانة عرضها وشرفها، لضمان حسن سير الإجراءات المتخذة، وتحقيقاً لحماية أفراد المجتمع.
المطلب الثالث: أنواع التفتيش
ينقسم التفتيش بحسب الهدف والغاية إلى عدة أنواع مختلفة، تتمثل في التفتيش الجنائي، والتفتيش الوقائي، والتفتيش الإداري. وسوف أناقش هذه الأنواع في التفصيل الآتي:
1- التفتيش الجنائي:
ويقصد به بشكل محدد: التفتيش المتعلق بإجراءات التحقيق الذي تقوم به السلطة المختصة، ورخص النظام فيه بالتعرض لحرمة شخص ما، بغرض البحث عن أدلة جريمة وقعت أو ترجح وقوعها، تغليباً للمصلحة العامة على مصالح الأفراد الخاصة، لاحتمال الوصول إلى دليل مادي يفيد في كشف الحقيقة. وقد سبق التطرق بشكل مفصل إلى هذا النوع من التفتيش في المطلب الثاني، وسوف نكتفي بما ورد سابقاً في هذا الجانب خشية التكرار. وهذا النوع من التفتيش هو المنصوص عليه في الأنظمة الجنائية المختلفة فقط، ولا يتضمن تلك الصور الأخرى التي يجرى إسباغ وصف التفتيش عليها، وترمى في الغالب إلى تحقيق أغراض إدارية محضة.
2- التفتيش الوقائي:
هو: تلك الإجراءات التفتيشية الوقائية الأولية الهادفة إلى الحصول على بعض المعلومات العامة، وهو إجراء وقائي يساعد في كبح وقوع الجرائم والمخالفات وغيرها، ومثال ذلك ما يحدث من إجراءات أمنية وقائية في نقاط التفتيش على الطرق العامة. وقد يتضمن التفتيش الوقائي أيضاً تلك الإجراءات التفتيشية التي يكون الهدف منه تجريد المراد تفتيشه مما يحمله من سلاح أو أدوات قد يؤذي بها نفسه، أو أنها تشكل خطراً على من يقوم بتفتيشه أو غيره من عامة أفراد المجتمع ( ). وحتى لا يتعدى التفتيش الوقائي حدوده وأهدافه فيجب الاقتصاد على التفتيش الخارجي للمشتبه فيه، ويُكتفى بمجرد المرور على ملابسه من الخارج دون التنقيب بداخلها ( )، إلا إذا ظهرت قرائن بوجود شيء خطر يحمله المشتبه فيه، كالسلاح أو السكين، أو حيازة المخدرات مثالاً، فيجوز لرجل الضبط الجنائي استخراجه والتحقق منه ( ).
والتفتيش الوقائي بهذا المفهوم لا يعد من أساسيات أعمال التحقيق الجنائي، بل هو إجراء احتياطي لمنع وقوع جريمة أو مخالفة قانونية تضر بالمصلحة العامة، فهو إجراء تمليه ضرورة الأمن والحفاظ على سلامة الجماعة والفرد، ولذلك جرى الاصطلاح على تسميته “بالتفتيش الوقائي” الذي يختلف عن التفتيش الجنائي، فإن التفتيش الوقائي مدعوم بإذن مسبق عام لرجل الضبط الجنائي يقوم به وفقاً للضوابط القانونية، ولا يتطلب أن يكون القائم به هو المحقق فقط أو مأمور الضبط القضائي، بل هو مباح أيضاً لجميع رجال الضبط الجنائي، كل بحسب تخصصه وحدود صلاحياته النظامية، كما إن التفتيش الوقائي لا يستلزم النص عليه قانوناً، بحكم أنه إجراء قد تمليه متطلبات الضرورة ومقتضيات استتباب الأمن في المجتمع.
3- التفتيش الإداري:
هو ذلك الإجراء التفتيشي الذي يرمي إلى تحقيق أغراض إدارية محضة تهدف إلى التحقق من تنفيذ تطبيق الأنظمة واللوائح وسلامة هذا التطبيق، دون البحث عن أدلة جريمة معينة، ومثال ذلك: تفتيش الأشخاص المسافرين وأمتعتهم الخاصة في المطارات والمحطات النقلية، وكذلك تفتيش المسجونين بواسطة مسؤول السجون، ويدخل في ذلك أيضاً تفتيش عمال المصانع والشركات وغيرها. فهو بشكل عام يُجرى لغرض إداري بحت ليس له علاقة بجريمة معينة، ولا يدخل ضمن أساسيات نطاق إجراءات التحقيق الجنائي، ولا يعد أيضاً تفتيشاً بالمفهوم الجنائي للتحقيق. وحتى يصبح تفتيشاً إدارياً محضاً فإنه يستلزم أن تتوافر فيه جميع الشروط والقيود التي حددتها التعليمات الخاصة في هذا الشأن ( ).
وتجيز القوانين والأنظمة إجراء بعض التفتيشات الإدارية، على أنها إجراءات احتياطية في أوقات متعددة، مساهمة في تعزيز منع وقوع الجرائم، أو في اكتشافها بعد وقوعها، ومن ذلك مثالاً: أن يشتبه مأمور السجن في أحد الزائرين، بحمله لأشياء ممنوعة، فإذا كان ذلك جاز له أن يأمر بتفتيشه، فإذا عارض الزائر على التفتيش جاز منعه من الزيارة، ومن ذلك أيضاً، تفتيش المسجونين أثناء دخولهم السجن أو أثناء قضائهم مدة العقوبة، بحكم أن تفتيش إداري يبيحه النظام والقانون، فإذا أسفر التفتيش عن وجود ما يخالف الأنظمة، أو كشف عن جريمة جديدة، فيطبق على الشخص في هذه الحالة أحكام التبلس، ويكون التفتيش للمتهم قانونياً ( ).
ومن صور التفتيش الإداري أيضاً: التفتيش في الدوائر الجمركية، فإن هذه الدوائر أعطيت صلاحيات قانونية للقيام ببعض الإجراءات التفتيشية بقيود معينة، منها: تفتيش الأشخاص الذين يدخلون إليها أو يخرجون منها أو يمرون بها، بصرف النظر عن رضاهم عن هذا التفتيش، مادام مطابقاً لأحكام الأنظمة واللوائح الجمركية، التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة بالكشف عن الممنوع أو التهريب أو غيره، ويقوم به من تتوافر لديهم صفة مأمور الضبط الجنائي أو القضائي، وفقاً للأنظمة المرعية في كل بلد، ولا يتطلب إجراء هذا النوع من التفتيش شروط توافر معايير القبض والتفتيش المنظمة بقوانين الإجراءات الجنائية، أو توافر قرائن كافية على وقوع جريمة معينة، لأنه يقوم على قرينة الشك بمخالفة قانونية كالتهريب مثالاً ( ).
ويدخل أيضاً ضمن هذا النوع من التفتيش أيضاً، التفتيش الإداري بحكم الضرورة، مثل: ما يقوم به رجل الإسعاف من البحث في ملابس المصابين، أو الشخص الغائب عن الوعي، قبل نقلهم إلى المستشفى، وذلك بهدف جمع ما في ملابسهم وحصره، فهذا الإجراء لا يخالف القانون، بحكم أنه من الواجبات التي تمليها عليهم – أي رجال الإسعاف – ظروف عملهم لتقديم خدماتهم المطلوبة منهم نظامياً. ويعتبر إجراء التفتيش في هذه الحالة ضرورة ملحة، تقتضيها الحاجة إلى التعرف على شخصية المصاب، إذا كان لديه أمراض مزمنة قد تسبب الحالة، كداء السكري مثالاً، لمحاولة إنقاذه بشكل سليم، وقد يكون الهدف من التفتيش هنا حفظ ما مع المصاب من نقود وأوراق، فهو في مثل هذه الحالات جائز، دون الحاجة إلى أخذ الإذن من صاحب الشأن، مادام لم يخالف الأنظمة السارية( ).

المبحث الثاني: إجراء تفتيش المرأة
تمهيد: نظمت التشريعات القانونية، وخاصة القوانين العربية، تفتيش المرأة تنظيماً دقيقاً، ووضعت معايير خاصة لمباشرته والقيام به، تؤكد أهمية مراعاة مبدأ كون الأنثى إنساناً له طبيعته الفطرية الخاصة، وينبغي التعامل معها بشكل يناسب طبيعتها، آخذين في الاعتبار أن الحياء والخجل صفة ملازمة لها، وهذا يستوجب ألا يتخذ في مباشرة إجراء تفتيشها أي إجراء يخدش حياءها أو يشكل مساساً بعرضها.
ونظراً لما للمرأة من طبيعة خاصة، فقد شددت بعض القوانين الإجرائية الجنائية في مسألة تفتيشها، ومنها – على سبيل المثال – الأنظمة السعودية التي نصت وأكدت على مبدأ عدم جواز تفتيش الأنثى إلا بواسطة أنثى. وانطلاقاً من هذا المبدأ فإن تفتيش المرأة محدود بعدم المساس بعرضها أو خدش حيائها، فتجاوز هذا الشرط ممنوع شرعاً ونظاماً في المملكة العربية السعودية، لأن تفتيش المرأة بشكل عام يكون على ما تحوزه من أشياء تحملها، كحقيبة يدها أو في جيوبها الخارجية، مع مراعاة أهمية الحفاظ على كرامتها الإنسانية، وعدم إيذائها جسدياً أو معنوياً. أما إذا كان مقتضى التفتيش يتطلب المساس بأي من الأجزاء الحساسة في جسم المرأة، بحيث توافرت قرائن كافية تستوجب ذلك، فيتم التفتيش هنا وفقاً للحاجة النظامية، ولا يجوز لرجل الضبط الجنائي أو المحقق مباشرة مثل هذا الإجراء بنفسه أو حتى مشاهدة هذا الجزء، باعتباره عورة من عورات النساء يخدش الحياء، وهذا ما أكدت عليه بعض التشريعات القانونية العربية، التي نصت بالتأكيد على ضرورة أن يكون تفتيش الأنثى بواسطة أنثى.
ولأهمية موضوع إجراءات تفتيش المرأة وخصوصيته، فسوف يركز هذا المبحث على بيان هذه الإجراءات بالتفصيل، وذلك في ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: أحكام تفتيش المرأة في الشريعة الإسلامية
إن للمرأة في الإسلام مكانة عالية وعظيمة فقد رفع الإسلام منزلتها، بعد أن كانت مهانة عند الأمم الأخرى، فجعلها في منزلة واحدة مع الرجل من حيث قبول الأعمال الصالحة. قال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)) ( )، وورد في الحديث الصحيح: “إنما النساء شقائق الرجال” رواه أبو داود – واللفظ له- والترمذي ( ).
كما إن الشريعة الإسلامية أعطتها حقوقها المعنوية، كالكرامة الإنسانية، وحقوقها المالية، والاجتماعية، وغيرها من الحقوق التي تتطلبها خصوصية الأنثى، فقد راعت تكوينها فخصتها ببعض الحقوق والواجبات التي تنسجم مع طبيعتها. وتتجلى عظمة الشريعة الإسلامية والأحكام الفقهية المستمدة منها، في كونها تعتمد على ثوابت أساسية مقننة على شكل قواعد كلية مجملة، وأخرى جزئية تفصيلية، تختلف وتتغير، وفقاً لتغير الأحوال والأزمان والأمكنة، حتى تواكب متطلبات المستجدات الحديثة وتلبي حاجاتها، وهذا مما يؤكد مرونة هذه الأحكام الشرعية وشموليتها للقديم والحديث، وفقاً لما يحقق المصالح المعتبرة شرعاً.
وقد سبق الإيضاح، بأن إجراءات التفتيش دلت عليها النصوص الشرعية، وأوضحت أنه لا يجوز لولي الأمر أو من ينوب عنه بذلك – ومنهم المحققون – تفتيش المتهم ومسكنه ومتاعه للكشف عن الجريمة، إلا إذا كان ذلك مما يفيد في التحقيق. وقد ورد ذلك في قصة يوسف عليه السلام حينما فتش أمتعة المتهمين، حتى استخرج صواع الملك من رحل أخيه. وكذلك في قصة الظعينة التي سبق ذكرها في المبحث الأول.
وقد تناول فقهاء السلف بعض الجوانب الإجرائية المتعلقة بالمرأة بذكر بعض أحكامها الشرعية الكلية، وتطرقوا إلى مسائل لها علاقة بالمرأة وطبيعتها، كمسائل الحجاب، والخلوة بأجنبي، وأحكام الاختلاط، والمساس بعورة المرأة وكشفها. وهذه أحكام شرعية لها صلة بإجراءات تفتيش المرأة وخصوصيتها. وبيان هذه الأحكام الشرعية يوضح القواعد العامة التي تستند عليها كافة الضوابط النظامية في المملكة العربية السعودية بشأن تفتيش المرأة، حتى يؤكد أنها لم تخرج عن إطارها الشرعي المستمد من الكتاب والسنة، وأن الأحكام الواردة في أنظمتها تعتبر مستندة إلى جزء من عموميات الأحكام والقواعد لبعض المسائل الفقهية الشرعية المرتبطة بموضوع تفتيش المرأة، ومن ذلك الاهتمام بالحجاب الشرعي، وتحريم كشف العورات، والخلوة بالأجنبية. وبيان هذه المسائل الفقهية يمكن إيجازه في النقاط التالية:
أولاً: الحجاب الشرعي:
لا شك أن موضوع خصوصية تفتيش المرأة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحجاب الشرعي الذي قررته أحكام الشريعة الإسلامية، والمقصود بالحجاب الشرعي هو: حجب ما يحرم على المرأة إظهاره، أي: وجوب ستره، كالوجه وغيره، لقوله تعالى: (وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ (31)) ( )، والخمار هو: ما تضعه المرأة على رأسها ليغطيها ويسترها. والغاية العظمى من إقرار الحجاب الشرعي هو إبعاد المرأة المسلمة عن مواطن الفتنة وأسبابها ( )، وتفتيش المرأة أثناء التهمة من قبل الرجال الأجانب يترتب عليه إخلال بهذه الأحكام الشرعية، وقد يؤدي إلى مفاسد عظيمة، قد تستلزم إقامة دعاوى وقضايا جديدة، تنحرف بمسار التحقيق، وتساهم في الإخلال بالعدالة الجنائية، لذلك حرم الإسلام تفتيش الرجل للمرأة، وشدد على أن يكون إجراء ذلك بوجه شرعي يوافق طبيعتها وخصوصيتها.
ثانياً: أحكام الخلوة:
يرتبط تفتيش المرأة بأحكام الخلوة في الشريعة الإسلامية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خلوة الرجل بالمرأة غير ذات المحرم، فعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان”. وهو حديث صحيح أخرجه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ( )، والمقصود بالمحرم لغة هو: ذات الرحم في القرابة، أي من لا يحل تزويجها له، يقال: هو ذو رحم منها، إذا لم يحل له نكاحها. وذوي المحرم: من لا يحل له نكاحها من الأقارب، كالأب والابن والعم ومن يجري مجراهم ( ).
وإذا كان مع المرأة من تزول به الخلوة، من وجود امرأة أخرى أو أكثر، فإن ذلك يزيل الخلوة غير الشرعية، فحكمة الشرع تتجلى في كون بقاء المرأة مع رجل أجنبي بحال قد يفضي إلى مفسدة، وأن كسر القاعدة بطرف ثالث يؤدي إلى انتهاء المخالفة الشرعية بزوال الخلوة المحرمة ( )، قال الشوكاني: “فالخلوة بالأجنبية مجمع على تحريمها، كما حكى ذلك الحفاظ في (الفتح). وعلة التحريم ما في الحديث من كون الشيطان ثالثهما، وحضوره يوقعهما في المعصية، وأما مع وجود المحرم فالخلوة بالأجنبية جائزة، لامتناع وقوع المعصية مع حضوره” ( )، وانتفاء الخلوة بالأجنبية بوجود المحرم لا يجوز للمحقق تفتيش المرأة، لأن تفتيش المرأة بواسطة الرجل الأجنبي محرم شرعاً، ومخالف لأحكام النظام، فلأن يكون الاختلاء بها محرماً، فتفتيشها بواسطة الرجل أولى بالتحريم، فلا يكون إلا بواسطة أنثى مثلها، مراعاة، لخصوصيتها وطبيعتها.
ثالثاً: حكم كشف عورات النساء والمساس بها:
الأحكام الشرعية الواردة بشكل عام في موضوع كشف عورات النساء، لها ارتباط بدهي بمسألة إجراءات تفتيش المرأة، وفي بعض الحالات قد يتطلب تفتيش الأنثى قدراً من الخبرة الطبية، تستوجب استعانة المفتشة بإحدى الطبيبات أو الممرضات أو من في حكمهن من النساء من أصحاب الخبرة، وقد يستلزم الأمر اللجوء إلى طبيب ذكر في حال استحالة توافر الأنثى عند حلول الضرورة القصوى، كخطر يهدد حياة المتهمة، أو ظهور الحاجة لإخراج المخدر من بطنها في حال ابتلاعها أكياس مخدرات مثالاً، أو غير ذلك من حالات الضرورة المعتبرة شرعاً لتحقيق المصالح العامة، التي تجيز مثل هذا الإجراء. وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – يرحمه الله – عن كشف الأطباء على عورات النساء للعلاج وخلوتهم بهن، فأجاب:
“أولاً: إن المرأة عورة، ومحل مطمع للرجل بكل حال، فلهذا لا ينبغي لها أن تمكن الرجال من الكشف عليها أو معالجتها.
ثانيا:ً إذا لم يوجد الطبيبة المطلوبة فلا بأس بمعالجة الرجل لها، وهذا أشبه بحال الضرورة، ولكنه يتقيد بقيود معروفة، ولهذا يقول الفقهاء: الضرورة تقدر بقدرها، فلا يحل للطبيب أن يرى منها، أو يمس ما لا تدعو الحاجة إلى رؤيته أو مسه، ويجب عليها ستر كل ما لا حاجة إلى كشفه عند العلاج.
ثالثاً: مع كون المرأة عورة؛ فإن العورة تختلف، فمنها عورة مغلظة ومنها ما هو أخف من ذلك، كما إن المرض التي تعالج منه المرأة قد يكون من الأمراض الخطرة التي ينبغي تأخر علاجها حتى يحضر محرمها ولا خطر، كما إن النساء يختلفن، فمنهن القواعد من النساء، ومنهم الشابة الحسناء، ومنهن ما بين ذلك، ومنهن من تأتي وقد أنهكها المرض، ومنهن من تأتي إلى المستشفى من دون أن يظهر عليها أثر المرض، ومنهن من يعمل لها بنج موضعي أو كلي، ومنهن من يكتفي بإعطائها حبوباً لنومها، ولكل واحدة من هؤلاء حكمها …” ( ).
ويتضح في هذه الفتوى أنها لا تجيز للطبيب معاينة المرأة الأجنبية إلا في حال الضرورة القصوى، ويشترط على المرأة عدم الدخول للطبيب إلا في حال عدم وجود طبيبة نسائية.
وهذا الرأي يوافق الأحكام الشرعية المتصلة بمسائل حجاب المرأة، وضوابط الخلوة، ومعايير الاختلاط، وهذه كلها لها ارتباط مشابه لحالة تفتيش المرأة المتهمة، فينطبق عليها حكمها.
ويتبين من ذلك أن مسألة تقنين إجراءات تفتيش المرأة في حال التهمة بأحكام خاصة تتناسب مع طبيعتها، لم تخرج عن الإطار الشرعي الذي كفل للمرأة كرامتها وصيانة عرضها، ويمكن أن نستنتج بعض ضوابط التفتيش المتصل بهذه المسألة مما ورد من الأحكام الشرعية المذكورة أعلاه، وإجمال ذلك في الآتي:
1- تحريم كشف عورة المرأة عند رجل أجنبي كالمحقق وغيره، إلا في حال الضرورة القصوى، وبوجود محرم.
2- تحريم الخلوة غير الشرعية بين الرجل والمرأة مطلقاً، ومن ذلك خلوة المحقق بالمرأة المتهمة.
3- تحريم خلع حجاب المرأة في حضرة أي رجل أجنبي، إلا للضرورة الملحة وبوجود محرم.
4- الخلوة غير الشرعية تتحقق بوجود طرفين: امرأة ورجل أجنبي، وفي حال وجود أكثر من امرأة، فلا يتوافر الركن المادي للخلوة الغير شرعية.
ومما سبق ذكره، نستخلص أن رجل الضبط الجنائي لا يجوز له أن يفتش المرأة المتهمة؛ لن تفتيشها يقتضي كشف عورتها والمساس بها، وهذا يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصافح النساء في البيعة، وبناء عليه فإنه يحرم على المسلم مجرد لمس الأجنبية ولو ظاهرياً؛ لذا فإن تفتيش المرأة بواسطة امرأة مثلها هو إجراء تتطلبه قواعد الشريعة وغاياتها، فهو يتفق مع طبيعة المرأة ويحترم كرامتها، ويحقق صيانة شرفها وعرضها، كما إنه ينسجم مع خصوصيتها، ويوافق مبادئ العدل والإنصاف في التعامل معها. وقد حققت الشريعة الإسلامية بهذه المعايير والأحكام صدارتها في السعي إلى صيانة كرامة المرأة، التي يجب حمايتها وحفظها من أي اعتداء تعسفي على جنسها البشري.
المطلب الثاني: ضوابط إجراءات تفتيش المرأة في الأنظمة الجنائية السعودية
تتميز الأنظمة في المملكة العربية السعودية عن غيرها من التشريعات الأخرى بأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأحكام الشريعة الإسلامية، وتتأثر بها، ويعود ذلك إلى أن الأحكام التشريعية في كافة شؤونها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية مستمدة من المصادر الإسلامية الأصلية، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والمصادر الفقهية الشرعية المختلفة، التي يعتمد عليها ولي الأمر، فيما يصدره من أنظمة وأوامر وتعليمات وإجراءات مختلفة تنظم الجوانب الحياتية للفرد والمجتمع.
لذلك نحد أن الأنظمة في المملكة لا يمكن أن تصدر بمعزل عن تعالي هذه المصادر الشرعية، وقواعدها الكلية والجزئية. ولأن المسائل المتعلقة بالمرأة نظمتها الشريعة الإسلامية، وركزت على صيانة كرامتها وشرفها، واعتبرتها من شقائق الرجال، فقد حرصت الأنظمة في المملكة على أن تعطي المرأة حقوقها بما يحقق مكانتها التي كفلها لها الشرع، وأن تساهم في عجلة التنمية الشاملة، باعتبارها عنصرا ًفاعلاً وركيزة أساسية من ركائز المجتمع. لذا ضمن النظام السعودي للمرأة كافة حقوقها الشرعية، ومن بين تلك الأنظمة: نظام الإجراءات الجزائية، الذي يتضمن تنظيم جانب حقوق المرأة أثناء توجيه الاتهام إليها بارتكاب جريمة جنائية.
وعند النظر في هذه الأنظمة، نجد أن المملكة العربية السعودية قد ركزت بشكل كبير على حرمة انتهاك خصوصيات المرأة، وأكدت على عدم جواز التعدي عليها أو تفتيشها دون وجه حق، وهذا الاهتمام لم يكن وليد العصر الحاضر، بل هو موجود منذ عهد الملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله -. واستمر هذا الاهتمام حتى عصرنا الحاضر، وفقاً لتوجيهات ولاة الأمر وفقهم الله وحفظهم وأعز بهم الإسلام والمسلمين، فإنهم يجتهدون لتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها، التي يقوم عليها دستور الدولة منذ تأسيسها؛ فقد ورد في النظام الأساسي للحكم بأن: “المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها هي اللغة العربية …”. ويبين هذا النص أن تعاليم الحكم وأحكام الأنظمة في المملكة العربية السعودية تستمد من تعاليم وقواعد الشريعة الإسلامية، وقد ورد تأكيد ذلك في هذا النظام أيضاً بما نصه: “يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة” ( ). فأي إجراء يتعارض مع الأحكام الشرعية لا يعتد به، بحكم أنه باطل من الأصل، وهذا ما أكده أيضاً نظام الإجراءات الجزائية بأن: “تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة، وتتقيد في إجراءات نظرها بما ورد في هذا النظام …” ( )، وكذلك نص النظام على أن: “كل إجراء مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة المستمدة منها يكون باطلاً” ( ).
وامتثالاً لهذه السياسة الحكيمة، نجد أن الأنظمة السعودية استمرت على هذا النهج في جميع أحكامها، ومن ذلك: تنظيم مسألة تفتيش الأنثى، ووضع ضوابط إجراءاتها ومعايير تنفيذها، بما يضمن عدم التعدي على حرمتها وانتهاك خصوصياتها، التي كفلتها لها الشريعة الإسلامية، ونادت بها حديثاً جمعيات حقوق الإنسان الدولية والأممية، ومن شواهد ذلك ما ورد في نظام مديرية الأمن العام، فقد نص على أنه: “عند تفتيش النساء يجب أن يتم ذلك بواسطة امرأتين من الموثوق بأمانتهن وصدقهن بعد تحليفهن اليمين الشرعية” ( ). وقد أكد ذلك أيضاً ما ورد في نظام الإجراءات الجزائية من أحكام تؤكد مبدأ خصوصية الأنثى وعدم تفتيشها دون وجه حق، وما أوضحه من نصوص تبين الحالات التي يجوز فيها القبض على المتهم وتفتيشه، فقد نص على أنه: “يجوز لرجل الضبط الجنائي في الأحوال التي يجوز فيها القبض نظاماً على المتهم أن يفتشه، ويشمل التفتيش جسده وملابسه وأمتعته، وإذا كان المتهم أنثى وجب أن يكون التفتيش من قبل أنثى يندبها رجل الضبط الجنائي” ( ). وذكرت ذلك أيضاً اللائحة التنظيمية لنظام هيئة التحقيق والادعاء العام ( ).
وبناء عليه، فإنه ليس للمحقق أو أي رجل من رجال الضبط الجنائي الحق في أن يفتش المرأة بنفسه، حتى ولو لم يوجد امرأة توكل إليها مهمة التفتيش. لأن نص النظام صريح في أن تفتيش المرأة يتم من خلال أنثى يندبها رجل الضبط الجنائي.
وقد استثنى النظام الحالات العاجلة المرتبطة بالضرورة القصوى، مثل حالة التلبس فقد أكد أنه: “يجوز لرجل الضبط الجنائي في حال التلبس بجريمة أن يفتش منزل المتهم، ويضبط ما فيه من الأشياء التي تفيد في كشف الحقيقة؛ إذا اتضح من أمارات قوية أنها موجودة فيه” ( ). ولكمنه لم يوضح الحالة التي تكون فيها المرأة هي المتلبسة بالجريمة، وإجراءات تفتيشها في مثل هذه الحالة، ومن الذي يحق له القيام بذلك، فإن نص المادة (42) – السابق ذكرها – يؤكد أن النظام قد ضمن للمرأة حقها في عدم التعدي على حقوقها من خلال السماح لرجل الضبط الجنائي بتفتيشها، وإنما جعل التفتيش من خلال امرأة يندبها رجل الضبط الجنائي، وأنه يجوز للمرأة التي تزاول مهمة التفتيش أن تفتش جسد المرأة وملابسها وأمتعتها، كما يفهم من النص.
ويجب أن يتضمن محضر التفتيش البيانات الآتية:
1) اسم من قام بإجراء التفتيش ووظيفته وتاريخ التفتيش وساعته.
2) نص الإذن الصادر بإجراء التفتيش، أو بيان الضرورة الملحة التي اقتضت التفتيش بغير إذن.
3) أسماء الأشخاص الذين حضروا التفتيش وتوقيعاتهم على المحضر.
4) وصف الأشياء التي ضبطت وصفاً دقيقاً.
5) إثبات جميع الإجراءات التي اتخذت أثناء التفتيش والإجراءات المتخذة بالنسبة للأشياء المضبوطة ( ).
ويحظر على من له السلطة بالتفتيش إجراء ذلك ليلاً، بعد غروب الشمس أو قبل شروقها، إلا في حال التلبس بالجريمة، وفقاً لأحكام نظام الإجراءات الجزائية الذي نص على أنه: “يجب أن يكون التفتيش نهاراً، من بعد شروق الشمس، وقبل غروبها في حدود السلطة التي يخولها النظام، ولا يجوز دخول المساكن ليلاً إلا في حال التلبس بالجريمة” ( ).
كما بين نظام الإجراءات أنه: “إذا لم يكن في المسكن المراد تفتيشه إلا المتهمة وجب أن يكون مع القائمين بالتفتيش امرأة” ( )، وهذا يؤكد الحرص على توفير الحماية للمرأة المتهمة، لأن هذه الضوابط والتعليمات الواردة في النص، تلزم رجل الضبط الجنائي بأخذ المزيد من الاحتياط للتأكد نم عدم السماح بالاختلاء بالمرأة أثناء تفتيش المسكن، وهذا يتوافق مع ضوابط تفتيش المرأة في الفقه الإسلامي المتعلقة بمسائل الحجاب والخلوة وغيرها.
وإذا كان في المسكن المراد تفتيشه عدد من النساء، ولم يكن الغرض من الدخول ضبطهن أو تفتيشهن، فقد أوجب النظام في هذه الحالة أن يكون برفقة القائمين بتفتيش المسكن امرأة، فقد نص على الآتي: “مع مراعاة حكم المادتين الثانية والأربعين والرابعة والأربعين من هذا النظام، إذا كان في المسكن نساء، ولم يكن الغرض من الدخول ضبطهن ولا تفتيشهن؛ وجب أن يكون مع القائمين بالتفتيش امرأة، وأن يمكن من الاحتجاب، أو مغادرة المسكن، وأن يمنحن التسهيلات اللازمة لذلك، بما لا يضر بمصلحة التفتيش ونتيجة” ( )، فينبغي على رجل الضبط مراعاة هذه الضوابط وعدم تجاوزها.
أما إذا كانت المتهمة من الأحداث فإن الأنظمة السعودية خصصت أحكاماً وشروطاً معينة تناسب الفتيات، فإنه يتم تسليمهن لمؤسسة رعاية الفتيات. وقد شددت التعليمات النظامية على تطبيق ما ورد بخصوص إجراءات تسليمهن وإخراجهن لدواعي التحقيق، بما يضمن الحفاظ عليهن. ويتم التحقيق معهن وتفتيشهن ومحاكمتهن داخل مؤسسة رعاية الفتيات، ما لم ينص القاضي على خلاف ذلك. وتتولى مؤسسة رعاية الفتيات تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة بحقهن ( ).
وينبغي أن يكون تفتيش الأنثى غالباً على ما تحوزه من أشياء تحملها، كحقيبة يدها أو ما تخبئه في جيوبها الخارجية، وأن يجعل في الحسبان أهمية الحفاظ على كرامتها الإنسانية وعدم إهانتها، أو إيذائها جسدياً أو معنوياً، وذلك تطبيقاً للمدبأ العام الذي أكده نظام الإجراءات الجزائية بقوله: “لا يجوز القبض على أي إنسان، أو تفتيشه، أو توقيفه، أو سجنه، إلا في الأحوال المنصوص عليها نظاماً، ولا يكون التوقيف أو السجن إلا في الأماكن المخصصة لكل منهما وللمدة المحددة من السلطة المختصة. ويحظر إيذاء المقبوض عليه جسدياً، أو معنوياً، كما يحظر تعريضه للتعذيب، أو المعاملة المهينة للكرامة” ( )، وقد استثنى من هذا حالة التلبس، فقد ذكر النظام أنه: “في غير حالات التلبس، لا يجوز القبض على أي إنسان أو توقيفه إلا بأمر من السلطة المختصة بذلك، ويجب معاملته بما يحفظ كرامته، ولا يجوز إيذاؤه جسدياً أو معنوياً، ويجب إخباره بأسباب إيقافه، ويكون له الحق في الاتصال بمن يرى إبلاغه” ( )، وهذه المادة ل م توضح تلك الحالات من التلبس التي يكون فيها الجاني امرأة، ولم يرد في ذلك في النظام مطلقاً، وينبغي الإشارة إليه في اللائحة التنفيذية للنظام لأهميته، لأن مشروع لائحة النظام لم يتطرق إليها ( ).
وبناءً على ما ذكر أعلاه، فإن الأحكام المتعلقة بتبتفيش المرأة في الأنظمة الإجرائية الجنائية السعودية تعتبر مستندة إلى الأحكام الشرعية، فإن المعايير التي يستند عليها النظام الجنائي السعودي في مسألة تفتيش المرأة لم تخرج عن إطارها الشرعي المستمد من الكتاب والسنة، فالأنظمة السعودية كفلت للمرأة المهمة الحماية القانونية، وخاصة فيما يتعلق بمعاملتها معاملة إنسانية كريمة تليق بطبيعتها البشرية.
المطلب الثالث:
معايير إجراءات تفتيش المرأة في القوانين والتشريعات الدولية
يعتبر تفتيش المرأة في أغلب القوانين العربية والمعاهدات والأعراف الدولية، من أهم الإجراءات التي يجب التعامل معها بحذر شديد محاط بمفهوم وضوابط التفتيش. لذلك قررت بعض هه القوانين أن يكون إجراء تفتيش الأنثى بواسطة أنثى مثلها، قاعدة دائمة تقتضيها مبادئ احترام خصوصية الأنثى، وتمليها ضرورة حماية الآداب العام ( )، التي لا تملك الأنثى حق التنازل عنها أو الرضا بما يغايرها، لأن مخالفة هذه الآداب يترتب عليها البطلان المطلق لجميع الإجراءات، بل إن مخالفتها من ذات القائم بالتفتيش تعد جناية أو جنحة، وذلك حسب الحال والمكان ( ).
ومسألة وجوب أن يكون تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى أصل عرفي في المجتمعات الإنسانية المحافظة، ينبع من متطلبات الحفاظ على الأخلاق والحياء التي تحقق المصلحة العليا للجماعة، ومخالفة تلك القاعدة تعد في تلك المجتمعات جريمة يعاقب عليها القانون. والهدف من تقنين وجوب تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى هو الحفاظ على حيائها من الخدش، باطلاع رجل أجنبي، حتى وإن كان الاطلاع لا يعني الملامسة، فالغاية هنا تشمل كل ما يمكن أن يخدش الحياء، ولو كان ذلك بمجرد النظر، وعدم اعتراض المرأة على حضور رجل أثناء التفتيش لا يغير من الأمر شيئاً ( )؛ فالمنطق والعقل يقرر أنه من الصعب تصور حدوث رضا صحيح يعتد به صادر من أنثى، بأن يجري تفتيشها في حضور أحد الرجال ( )، لأنه من المتوقع الجواب بالرفض في حال سؤال أي امرأة: هل توافق على حضور الرجل الأجنبي أثناء تفتيشها؟ ويستوي في ذلك أن يكون هذا الشخص يملك صفة الضبط والتفتيش القانونية أو غير ذلك، فالتفتيش في هذه الحالة يعتبر باطلاً، متى ثبت حضوره بلا مبرر، حتى ولو كان هذا الشخص هو رجل الضبط الجنائي أو القضائي.
وفي هذا السياق، يرى بعض رجال القانون أن ضرورة تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى يكون في جمع الأحوال وبشكل عام، دون اشتراط أن يكون في المواضع الجسمانية التي لا يجوز لرجل الضبط الاطلاع عليها ( ). والعلة في ذلك أنه متى كانت عبارة القانون واضحة لا لبس فيها، فإنها تعد تعبيراً صادقاً عن إرادة الشارع، ولا يجوز الانحراف عنها بطريق التغيير أو التأويل مهما كان الباعث على ذلك، ولا يجوز الخروج عن النص ما دام واضحاً جلي المعنى، وقاطعاً في الدلالة لا يحتمل الشك، حتى وإن كان هذا التأويل أو التغيير بحجة البحث في حكمة التشريع ودواعيه، لأن هذا يكون فقد عند غموض النص أو وجود لبس فيه، وليس هناك محل للاجتهاد في مجال نصوص القانون الواضحة والصريحة.
وفي القانون المصري نجد أن حضور رجل الضبط الجنائي أو القضائي أو حضور غيره أثناء تفتيش الأنثى لا يبطل التفتيش، إلا إذا اعترضت المرأة التي يجري تفتيشها على هذا الحضور ( )، ويرى بعض الكتاب المختصين في القانون المصري عدم جواز أن يتعدي التفتيش المدى المحدد لتفتيش المرأة، وحجتهم في ذلك هي: أن كون غاية قاعدة تفتيش الأنثى بواسطة أنثى مثلها تختص بصيانة عرض المرأة، حتى ولو كانت متهمة، فإن هذه القاعدة قد لا تجد تطبيقاً لها إذا كان تفتيش المرأة لا ينطوي على مساس جزء مما يعد عورة؛ فحدود تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى إنما هو في المواضع الجسمانية التي لا يجوز لرجل الضبط القضائي الاطلاع عليها ومشاهدتها، باعتبارها من عورات المرأة التي تخدش حياءها؛ أما إذا كان تفتيش المرأة لا ينطوي عليه مساس جزء منها يعد عورة، فإن تفتيشها بمعرفة مأمور الضبط القضائي يعد صحيحاً، ويجوز الاستناد إلى دليل الإدانة الناتج عنه ( )؛ لذلك فإن رجل الضبط لا يكون قد خالف القانون إذا هو التقط – على سبيل المثال – لفافة المخدر التي رآها بشكل ظاهر وواضح أثناء التفتيش بين أصابع قدم المتهمة، أو جذب المخدر من بين يديها، ولا يعد – من باب أولى – مخالفاً للقانون قيام المتهمة بنفسها بتقليب جيوبها وإخراج علبة المخدر منها أمام رجل الضبط، أو استتار المتهمة خلف حاجز وتغطية جسمها وإخراجها المخدر بنفسها طواعية من بين ملابسها ( )، ويبدو لي أنه حتى في هذه الأحوال لا بد من وجود محرم أو امرأة أخرى مع المتهمة أثناء تفتيشها، حتى ولو كان التفتيش بشكل سطحي لا ينطوي عليه مساس جزء منها يعد عورة.
أما ما يخص الشروط الواجب توافرها في الأنثى القائمة بالتفتيش، فلم تنص عليها أغلبية قوانين الإجراءات الجنائية المعاصرة، فلم تذكر أي شروط خاصة للأنثى التي يندبها مأمور الضبط القضائي للتفتيش ( )، ولم تتطلب التشريعات العربية حلف الأنثى المنتدبة – لإجراء التفتيش – باليمين قبل قيامها بالتفتيش؛ ويستثنى من ذلك القانون اليمني، الذي قرر ذلك في قانون الإجراءات الجزائية بما نصه: “إذا كان المتهم أنثى وجب أن يكون التفتيش بمعرفة أنثى تندب لذلك بعد تحليفها اليمين” ( )، ويستنثى من ذلك أيضاً نظام مديرية الأمن العام السعودي، الذي نص على أن تفتيش النساء يجب أن يتم بواسطة امرأتين من الموثوق بأمانتهن وصدقهن بعد تحليفهن اليمين الشرعية ( )، ويلاحظ أن نظام الإجراءات الجزائية السعودي اللاحق لنظام مديرية الأمن العام، لم ينص على ذلك، ولعل هذا عائد إلى فرضية الاستناد على تلك الشروط العامة المتعارف عليها في المجتمع القانوني، التي يجب توافرها فيمن يقوم بأداء الواجب الوظيفي: ومنها: أنه يجب في الأنثى المنتدبة للتفتيش أن تكون محل ثقة ومشهوداً لها بالأمانة والفطنة، وأن يراعى في الحسبان ألا تكون لها صلة قرابة أو علاقة زمالة بالمتهمة، لأن الاستعانة بها في هذه الحال إذا لم يبطل إجراء التفتيش، فإنه قد يشكك المحكمة في مدى صحة هذا الإجراء.
ويعتمد ندب الأنثى لإجراء التفتيش على قبولها، فمجرد صدور أمر الندب من مأمور الضبط القضائي لا يلزمها، إذا كانت ظروفها الطبيعية النفسية في ذلك الوقت لا تسمح لها بالقيام بمثل هذا العمل، فلا يجوز إجبارها عليه، لن احترام الحرية الشخصية التي أكدتها التشريعات والقوانين، توجب ترك الحرية الكاملة للمرأة في قبول القيام بهذا الإجراء أو رفضه ( )، ويكفي أن يكون الندب من مأمور الضبط القضائي عند ندبه أنثى لإجراء التفتيش شفهياً، مع إثبات اسم الأنثى المنتدبة لهذا الغرض، وكذلك عنوانها حتى يمكن اتسدعاؤها لأداء الشهادة. ويراعى في الحسبان أنه متى كان التفتيش سيجري في أحد مواضع المرأة التي تعد عورة، فليس لمأمور الضبط القضائي الحق في حضور هذا التفتيش مطلقاً.
وعند النظر في القانون المصري نجد أنه قرر أنه يكون تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى مثلها يندبها مأمور الضبط القضائي، فيلزم ضرورة تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى دون قيد أو شرط، وجعل القانون المصري هذا القيد إلزامياً على مأمور الضبط القضائي، فليس لمأمور الضبط أن يفتش الأنثى بنفسه، ولو لم يجد أنثى أخرى يندبها لذلك الغرض ( )، جاء في قانون الإجراءات: “في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانوناً على المهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه. وإذا كان المتهم أنثى وجب أن يكون التفتيش بمعرفة أنثى يندبها لذلك مأمور الضبط القضائي” ( )، وهذا يتفق مع تعاليم الشريعة الإسلامية التي تحرم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، ويتلو ذلك أن كل ما من شأنه المساس بحياء المرأة وحرمة جسدها، يكون محرماً في القانون المصري، حتى لو كان مجرد الملامسة لمواضع العورات في الجسم، أو حتى مجرد النظر إلى أي من هذه المواضع في جسم المرأة.
وإضافة إلى القانون المصري اتجهت غالبية التشريعات العربية إلى النص على هذه القاعدة، ومن ذلك مثالاً ما ورد في القانون الأردني بما نصه: “للمدعي العام أن يفتش المشتكى عليه وله أن يفتش غيره إذا اتضح من أمارات قوية أنه يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة. وإذا كان المفتش أنثى يجب أ، يكون التفتيش بمعرفة أنثى تنتدب لذلك” ( ).
وقد قرر هذا المبدأ القانون اليمني، فحظر على مأمور الضبط القضائي تفتيش المرأة عند القبض عليها للاشتباه بارتكابها للجريمة، وأكد أن يكون القائم بالتفتيش امرأة مثلها، حفظاً لكرامتها وشرفها. فقد نص على أنه: “لا يجوز تفتيش الأنثى إلا بواسطة أنثى غيرها، يدعو لذلك من يقوم بالتفتيش ويدون اسمها ورقم بطاقتها في المحضر، ويجري التفتيش بحضور شاهدين من النساء” ( )، كما أوضح أيضاً أن: “لمن يقوم بتنفيذ أمر القبض تفتيش المقبوض عليه لتجريده من الأسلحة وكل ما يحتمل استعماله، وإذا كان المقبوض عليه أنثى فلا يجوز تفتيشها إلى بمعرفة أنثى طبقاً للمادة 143( )، فهذه النصوص القانونية تتضمن حكماً عاماً يسري على كل تفتيش يكون محله الأنثى.
وقد فرق المنظم الكويتي بين تفتيش الرجال والنساء ( )، فقد نص قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي على أن: “تفتيش النساء يجب في جميع الأحوال أن تقوم به امرأة تندب لذلك بمعرفة المحقق، وكذلك يكون شهوده من النساء” ( ).
وقد نصت على ذلك أيضاً بقية القوانين الإجرائية الجنائية لدول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك القانون الجنائي السوداني، والعراقي، والسوري، وغيرها، فقد أوجبت ضرورة تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى مثلها، ولم تسمح لرجل الضبط أن يفتشها بنفسه بأي حال من الأحوال ( ).
وفي المقابل نجد أن بعض الدول العربية قد أغفلت النص على مسألة تفتيش الأنثى بواسطة أنثى أخرى، مثل الجزائر والمغرب، وإغفال النص عليها في هذه الدول قد لا يستلزم إباحة تفتيش المرأة بواسطة مأمور الضبط من الرجال، فخصوصية الأنثى تعد في الغالب مبدأ عاماً، وعرفاً شائعاً يؤخذ به في جميع البلدان العربية ( ).
كما إن العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية والأممية قد أغفلت أيضاً النص المباشر على مسألة تفتيش الأنثى بواسطة أنثى أخرى، فقد اطلعت على عدد نها، ولم أجد ما ينص على ذلك ( )؛ إلا أن ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي قد ذكر بطريق غير مباشر نصاً في موضوع المساواة بين الرجال والنساء، نستنتج منه أن مبدأ المساواة لا يمنع مراعاة الإجراءات التي تكفل مزايا معينة لصالح الجنس الأقل تمثيلاً، ويمكن أن نستنبط من هذا إمكانية مراعاة اعتبار خصوصية بعض الجنسين بشكل عام في بعض الإجراءات، فقد نص على أن: “تكفل المساواة بين الرجال والنساء في كافة المجالات بما في ذلك الوظيفة والعمل والأجر، ولا يمنع مبدأ المساواة تبني الإجراءات التي تكفل مزايا معينة لصالح الجنس الأقل تمثيلاً” ( ).
وقد اطلعت على “قواعد الأمم المتحدة بشأن حماية الأحداث”، فلم أجد أيضاً ما ينص مباشرة على ضرورة تفتيش الأنثى بواسطة أنثى، ولم أجد إلا عموميات، منها ما يتعلق بخصوصية حجز الأحداث، ومن ذلك ما نصه: “لا يحتجز الأحداث إلا في ظروف تراعي تماماً احتياجاتهم الخصوصية وأوضاعهم والمتطلبات الخاصة المتصلة بهم، وفقاً للعمر والشخصية والجنس ونوع الجرم، وكذلك الصحة العقلية والبدنية …” ( ).
ويلاحظ المطلع على المواثيق والإعلانات الدولية الخاصة بالمرأة، أنها ركزت بشكل واضح وشاد للانتباه، على ضرورة مساواة المرأة مع الرجل دون قيود، متناسية بذلك مراعاة خصوصيتها، ومتناقضة مع بعض تعليماتها القانونية حول حقوق المرأة، التي سبق ذكرها، فميثاق الأمم المتحدة نص في بيان مقاصد الأمم المتحدة على : “تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك، إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تمييز بين الرجال والنساء”( ). كما نص الميثاق على أن: “لا تفرض الأمم المتحدة قيوداً تحد بها جواز اختيار الرجال والنساء للاشتراك بأي صفة وعلى وجه المساواة في فروعها الرئيسية والثانوية” ( ).
أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد أكد صراحة المبدأ الأساسي في المساواة بين الجنسين، وهو: أن جميع الناس يولدون أحراراً ومتساويين في الكرامة والحقوق ( )، كما نص على أن: “لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون أو الجنس، أو اللغة، أو أي وضع آخر” ( )، وهذا مبدأ صحيح أقره الإسلام، ولكنه لا يعني شرعاً جواز عدم التمييز بين الرجل والمرأة في التفتيش، ومبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات تقرره أيضاً المواثيق الدولية الخاصة، ومنها: العهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان. واللذان قررا كلاهما أن تتعهد الدول الأطراف بضمان مساواة الذكور والإناث في جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها ( ).
وقد أكدت المعاهدات والمواثيق الدولية والأممية، أنه لا يجوز مطلقاً أن يكون الاختلاف في الجنس سبباً في تباين الحماية القانونية، أو اختلاف أو إنقاص الحقوق بسبب الجنس، أو إتاحة كامل الفرص للذكور، بحجة أن الذكر أقوى أو أقدر أو أكثر إدراكاً من الإناث؛ ولكن هذه المعاهدات والمواثيق تغافلت أو تناست مسألة النص المباشر على مراعاة الفروق والخصوصيات الفطرية في طبيعة الأنثى، والمقررة بموجب أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا بلا شك مخالف للقيم الإنسانية الفطرية والشرعية.

الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: بعد استكمال مناقشة مسألة تفتيش المرأة في الشريعة الإسلامية، والأنظمة الجنائية السعودية، ومقارنته ببعض القوانين والتشريعات الدولية، ظهرت بعض النتائج في هذه الدراسة، والتي يمكن على ضوئها استنباط بعض التوصيات المتعلقة بموضوع البحث، وتفصيل ذلك في النقاط الآتية:
أولاً – النتائج:
1- أن الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية تسهم في بيان أسس القواعد الإجرائية والمبادئ المتصلة بضوابط تفتيش المتهم في حال سير الدعوى الجنائية.
2- أن الفقه الإسلامي لم يتطرق بالتفصيل لكافة فروع الإجراءات الجنائية الحديثة المتعلقة بتفتيش المرأة في العصر الحاضر، وذلك لا يعني خلو كتب الفقه من بيان بعض أحكامها الشرعية الكلية، فقد تطرقوا إلى مسائل لها علاقة وثيقة بالمرأة وطبيعتها، كمسائل الخلوة، والاختلاف، والمساس بعورة المرأة وكشفها. وهذه الأحكام الشرعية لها صلة مباشرة بموضوع تفتيش المرأة وخصوصيتها، فقد تناولت جوانب الحفاظ على كرامتها، وكافة المسائل المتصلة بشؤون حياتها.
3- إن إجراء التفتيش عموماً فيه تعد وضرر على أسرار الناس، وانتهاك لمصالح محمية شرعاً، لكن أحكام الضرورة المعتبرة شرعاً ونظاماً، تبيح إجراء التفتيش في حال وجود التهمة، لما يترتب عليه من تحقيق مصالح عامة تحقق العدالة الاجتماعية؛ لذلك أجازه الفقهاء وفقاً لضوابط شرعية، فالضرورة تقدر بقدرها.
4- أن الأنظمة في المملكة العربية السعودية ركزت بشكل كبير على حرمة انتهاك خصوصيات المرأة، وأكدت على عدم جواز التعدي عليها أو تفتيشها دون وجه حق، وهذا الاهتمام موجود منذ تأسيسها في عهد الملك المصلح الموحد / عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، فالأنظمة الجنائية السعودية كلت للمرأة المتهمة الحماية القانونية والجنائية، للتعامل معها معاملة إنسانية كريمة تليق بطبيعتها.
5- أن الاهتمام بشؤون المرأة واحترام كيانها، لا يزال يحظى بقدر وافر من توجيهات ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية، وهذا الاهتمام فيه تطبيق لقواعد الشريعة الإسلامية التي يقوم عليها دستور الدولة منذ تأسيسها؛ والقاعدة الثابتة في المملكة أن كل إجراء مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة المستمدة منها يكون باطلاً، لذلك نستطيع القول بأن الأحكام المتعلقة بتفتيش المرأة في الأنظمة الإجرائية الجنائية السعودية تعتبر جزءاً من تعالي القواعد الشرعية، التي تجرم تلك الأفعال الواقعة على المرأة بهدف إيذائها أو الأضرار بها جسدياً ونفسيا،ً أو معاملتها معاملة لا تتوافق مع طبيعتها وتتسم بالقسوة أو الاحتقار أو التمييز.
6- أن وقت إجراء مهمة تفتيش الممتلكات الخاصة تكون قبل غروب الشمس وبعد شروقها، ولا يستثنى من ذلك إلا حال التلبس بالجريمة، أو توافر الضرورة النظامية، كالحريق، والاستغاثة، وغيرها.
7- أنه يلاحظ على نظام الإجراءات الجزائية في المملكة العربية السعودية أنه لم يحدد بصورة دقيقة مفهوم رجل الضبط الجنائي الذي يملك سلطة التفتيش، ولم يفرق بينه وبين رجل الضبط القضائي، المتمثل في عضو هيئة التحقيق والادعاء العام، بل اكتفى بذكر المحقق فقط. كما إنه لم يوضح متى يكون التفتيش إجراء من إجراءات الاستدلال، أو يكون إجراء من إجراءات التحقيق.
8- أنه تبين أن تفتيش المرأة في القوانين الإجرائية الجنائية لدول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك أغلبية قوانين الدول العربية، يعد من أهم الإجراءات التي يجب التعامل معها بحذر شديد، لذلك أوجبت هذه القوانين أن يكون إجراء تفتيش الأنثى بواسطة أنثى، قاعدة دائمة تقتضيها مبادئ احترام خصوصية الأنثى. كما إنها لم تسمح لرجل الضبط أن يفتشها بنفسه. وفي المقابل فإن بعض الدول العربية، والعديد من المعاهدات والمواثيق الدولية والأممية، قد أغفلت النص مباشرة على مسألة تفتيش الأنثى بواسطة أنثى مثلها.
9- أن التشريعات الدولية تعطي بعض الأشخاص حصانة خاصة تحول دون تفتيشهم، كالحصانة الدبلوماسية مثالاً، وتلك الحصانة تحول دون سريان بعض أحكام الأنظمة الجنائية بصفة خاصة استثنائية، فإن القواعد والمعايير العامة للحصانة الدبلوماسية تقضي بعدم خضوع الدبلوماسيين وأفراد أسرهم إلى بعض الإجراءات الجنائية المقررة للأفراد العاديين. كما إن هناك حصانات أخرى مستثناة من تطبيق بعض أنظمة التفتيش في الإجراءات الجزائية، تمنح لبعض أفراد الوظائف العامة في الدولة، كحصانة الأمراء والوزراء، والقضاة وغيرهم.
ثانياً – التوصيات:
1- يفضل أن يكثف الباحثون في المسائل القانونية، الاهتمام بالمسائل الإجرائية لتفتيش المرأة، فإنها لا تقل أهمية عن القواعد الموضوعية الفقهية، وذلك لفرضية أن هذه القواعد الموضوعية لا تستطيع السير بالدعوى الجنائية وحدها، فينبغي تدعيمها بالقواعد الإجرائية لتحقيق مقاصدها وغاياتها.
2- يستحسن أن توضح اللائحة التنفيذية لنظام الإجراءات الجزائية السعودي بصورة أدق مفهوم رجل الضبط الجنائي “سواء أكان رجلاً أم امرأة”، وتفرق بينه وبين رجل الضبط القضائي، المتمثل في عضو هيئة التحقيق والادعاء العام.
3- من المناسب أن تتضمن اللوائح التنفيذية للأنظمة الجنائية زيادة في توضيح مسألة متى يكون التفتيش إجراء من إجراءات الاستدلال، أو يكون إجراء من إجراءات التحقيق؟ ومن له الحق في إجراء كل منهما؟
4- يفضل تضمين اللائحة التنفيذية لنظام الإجراءات الجزائية السعودي أحكام حالات التلبس التي يكون فيها الجاني امرأة، وكيفية إجراءات تفتيشها في مثل هذه الحالة.
5- أن تتوسع لائحة نظام الإجراءات الجزائية في بيان الفرق بين ضوابط دخول الممتلكات الخاصة وتفتيشها، وبين الدخول للممتلكات المستثناة لظروف قاهرة، كقضايا الإرهاب مثالاً، أو المستثناة بحصانات خاصة معتبرة نظامياً، لأن لكل منهما مسوغاً قانونياً يختلف عن الآخر.
6- من الأفضل تعديل اسم (نظام الإجراءات الجزائية) ليكون: (نظام الإجراءات الجنائية)، لأن الجزاء يشمل الثواب والعقاب، والأحكام الجزائية تعد جزءاً من الإجراءات الجنائية. وفي تعديل الاسم موافقة تامة لترجمته المعتمدة دولياً باللغة الإنجليزية.
7- يجب زيادة الجهود المبذولة للإشارة في وسائل الإعلام المختلفة، والمحافل الدولية وهيئات الأمم المتحدة، بأن القوانين الإجرائية الجنائية السعودية أكدت على ضرورة مراعاة حقوق المرأة، والحفاظ على خصوصيتها وطبيعتها الفطرية عند تفتيشها بألا يفتشها إلا أنثى مثلها، في حال أن العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية والأممية، قد أغفلت النص المباشر على هذه المسألة المهمة في جانب حقوق الإنسان. كما يجب تكثيف الإشادة بالجهود العظيمة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية في مجال الاهتمام بحقوق المرأة، لسد الطريق أمام بعض الحاقدين، الذين يحاولون الإساءة إلى سمعة هذا البلد الطاهر، بلد الحرمين الشريفين ومنبع رسالة الإسلام، متناسين تلك الجهود الجبارة التي تبذلها الدولة في سبيل المحافظة على حقوق الإنسان في شتى المجالات بين كافة أفراد المجتمع.
أسأل الله جلت قدرته، أن يديم عزنا وأمننا في وطننا، وأن يحفظ ولاة أمرنا ويوفقهم وينفع بهم الإسلام والمسلمين، إنه سميع مجيب. انتهى وبالله التوفيق.