نظرية الالتزام

الالتزام l’obligation واجب قانوني يتعين فيه على شخص معين، هو المدين أو الملتزم، القيام بأداء مالي يتمثل في القيام بعمل أو الامتناع عن عمل لمصلحة شخص آخر هو الدائن أو صاحب الحق الشخصي.

ويلاحظ في هذا التعريف أن الالتزام واجب قانوني، وبهذا تستبعد الواجبات غير القانونية، كالواجبات الأخلاقية التي لا تدخل في إطار القانون. وهو واجب على شخص معين، وبهذا تستبعد الواجبات العامة التي تقع على جميع الناس، كواجب احترام القانون مثلاً أو واجب احترام حقوق الآخرين وعدم الاعتداء عليها، وهو أخيراً واجب القيام بأداء مالي، وبهذا تستبعد الواجبات القانونية التي تقع على أشخاص معينين من دون أن تتضمن القيام بأداءات مالية، كواجب الأب مثلاً في تربية أبنائه أو المرأة في طاعة زوجها، وهي واجبات يفرضها القانون، ولكنها لا تعد التزامات بالمعنى الدقيق للكلمة.

وتجدر الإشارة إلى أنه إذا كان من الضروري، بحسب الرأي السائد، أن يكون الأداء الذي يقع على الملتزم أداء مالياً، أي مما يقوم بالمال أو مما يمكن أن يكون له مقابل مالي، فلا ضرورة لأن تكون مصلحة الدائن مالية أيضاً، بل يمكن أن تكون مالية أو معنوية، وعلى هذا، فإن الالتزام الذي يقع على الطبيب مثلاً بمعالجة المريض أو على المدرس الخصوصي بتدريس الطالب، هو التزام بمعنى الكلمة مادام يمكن أن يكون له مقابل مالي، وإن كانت المصلحة التي تعود على المريض أو الطالب من ذلك ليست مصلحة مالية أو اقتصادية.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنه إذا كان لابد من أن يكون الملتزم أو المدين معيناً منذ نشوء الالتزام، فإنه يكفي أن يكون الدائن قابلاً للتعيين عند نشوء الالتزام، على أن يعين، فيما بعد، عند تنفيذه. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الوعد الموجه إلى الجمهور بجائزة عن عمل معين، فإن الملتزم، وهو الواعد، يتحدد منذ قيام الوعد، أما صاحب الحق في الجائزة فيتحدد فيما بعد عند قيامه بالعمل المطلوب.

واعتماد هذا التعريف للالتزام يقتضي إيضاح أن هذا التعريف يختلف عن التعريف السائد في الفقه الفرنسي وفي قسم من الفقه القانوني العربي. فقد جرى معظم رجال القانون في فرنسة، وتبعهم في ذلك عدد من رجال القانون العرب، منهم المغاربة.على تعريف الالتزام، وتعريف الحق الشخصي أيضاً، بأنه: رابطة قانونية بين شخصين يلتزم بمقتضاها أحدهما، وهو المدين، بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل لمصلحة الآخر، وهو الدائن (مع ملاحظة أن العمل والامتناع عن عمل يجب أن تكون لهما قيمة مالية).

وهذا التعريف، المستمد من تعريف فقهاء القانون الروماني للالتزام، يبدو غير دقيق من ناحيتين:

فمن جهة، يلاحظ أن إِطلاق التعريف نفسه على كل من الحق الشخصي والالتزام يؤدي إلى جعلهما مصطلحين مترادفين. وفي الواقع، إِن الحق الشخصي والالتزام، على الرغم من تلازمهما المطلق، ليسا مفهومين مترادفين، وإنما هما مفهومان متقابلان يختلف كل منهما عن الآخر في المعنى. فالحق الشخصي يتمثل بسلطة صاحب الحق أو قدرته على اقتضاء أداء مالي من الملتزم، وعلى إِجباره، بوجه عام،على هذا الأداء. أما الالتزام فهو واجب الملتزم في أداء ما التزمه لصاحب الحق.

ومن جهة ثانية يكون من غير المستساغ تعريف الالتزام والحق الشخصي بأنهما رابطة قانونية بين شخصين، فهما ليسا هذه الرابطة ذاتها، وإنما ينشآن عن وجودها فيكون لأحد الشخصين الحق وعلى الآخر الالتزام.

الحق الشخصي والالتزام

تنقسم الحقوق المالية قسمين رئيسيين: الحقوق العينية ، والحقوق الشخصية.

والحق العيني هو حق لشخص على شيء معين تكون معه لصاحب الحق سلطة مباشرة على الشيء يستطيع ممارستها من دون وساطة. والسمة البارزة في الحق العيني أنه لا يوجد فيه إلا طرف واحد هو صاحب الحق الذي يمارس سلطته مباشرة على الشيء محل الحق، كما في حق الملكية مثلاً.

أما الحق الشخصي، ويطلق عليه أيضاً اسم حق الدائنية، فهو حق لشخص تجاه شخص آخر، يتوجب معه على هذا الشخص الآخر، ويطلق عليه اسم المدين أو الملتزم، القيام بأداء مالي لمصلحة صاحب الحق، الذي يطلق عليه اسم الدائن أو الملتزم له، ويتمثل هذا الأداء المالي في القيام بعمل ما أو الامتناع عن عمل. ومن أبرز ما يختلف به الحق الشخصي عن الحق العيني هو وجود طرفين، أحدهما هو صاحب الحق أو الدائن والثاني هو الملتزم أو المدين، ولا يتحقق حق الطرف الأول إلا بتنفيذ الالتزام الذي يقع على الثاني، كحق البائع على المشتري مثلاً في أداء الثمن، وحق المستأجر على المؤجر في تمكينه من الانتفاع بالمأجور، وحق رب العمل على العامل في القيام بالعمل المتفق عليه ونحو ذلك. وهكذا يكون الحق الشخصي والالتزام مفهومين متقابلين متلازمين لا يُتصور وجود أحدهما من دون الآخر.

وبعبارة أخرى، إِن وجود الحق الشخصي يقتضي وجود الالتزام، كما أن وجودهما معاً يقتضي وجود رابطة قانونية بين صاحب الحق والملتزم، ولكن هذه التعابير الثلاثة ليست بمعنى واحد، بل يختلف كل منها في معناه عن التعبيرين الآخرين.

وقد عمد بعض رجال القانون من العرب والفرنسيين، إلى إجراء تعديل في تعريف الالتزام المذكور آنفاً، وذلك بالاستعاضة عن تعبير (رابطة قانونية) بتعبير (حالة قانونية) أو بتعبير ( نظام قانوني)، ولكن هذا التعريف، مع أنه أفضل من سابقه، لا يضيف شيئاً جديداً بذكره أن الالتزام والحق الشخصي حالة قانونية أو نظام قانوني، لأن هذا الوصف لا يقتصر على الالتزامات والحقوق الشخصية، وإنما يمكن أن يطلق على غيرهما من الحقوق والواجبات.

المذهب الشخصي والمذهب المادي في الالتزام

إن وجود الالتزام والحق الشخصي يفترض وجود رابطة قانونية بين المدين أو الملتزم من جهة والدائن أو صاحب الحق من جهة ثانية. كما يلاحظ أن محل الالتزام، وهو في الوقت نفسه محل الحق الشخصي، هو الأداء المالي الذي يتعين على المدين القيام به لمصلحة الدائن، والذي يتمثل في القيام بعمل أو الامتناع عن عمل. وقد تنازع مذهبان فقهيان النظر إلى جوهر الالتزام، فاعتدّ أحدهما بالرابطة القائمة بين المدين والدائن، وهذا هو المذهب الشخصي، واعتدَ الآخر بالأداء المالي الذي يلتزم المدين، القيام به، وهذا هو المذهب المادي.

فأنصار المذهب الشخصي، وهو المذهب الفرنسي التقليدي، يرون أن جوهر الالتزام يكمن في العلاقة أو الرابطة التي تقوم بين الدائن والمدين. وقد تأثروا في ذلك برأي فقهاء القانون الروماني الذين كانوا أول من عرّف الالتزام بأنه رابطة قانونية بين الدائن والمدين، بل إن القانون الروماني كان، في بداية عهده، يمنح الدائن سلطة على شخص المدين تجيز له استرقاق المدين أو قتله إذا لم يف دينه. وإذا كانت العلاقة بين الدائن والمدين قد تطورت منذ عهد الرومان، لاعتبارات إنسانية وحضارية، وأصبحت أموال المدين، لاجسمه، هي الضامنة للوفاء بديونه، فقد بقيت هذه العلاقة أو الرابطة جوهر الالتزام في نظر أصحاب المذهب الشخصي.

ومن الآثار التي تترتب على فكرة الارتباط بين الدائن والمدين، أن الالتزام، حين ينشأ بفعل الإرادة، يحتاج لنشوئه إلى اتفاق إرادتي الدائن والمدين معاً، عن طريق العقد، ولا تكفي إرادة المدين وحده. ونشوء الالتزام، بوجه عام، يقتضي تعيين المدين والدائن معاً ووجودهما منذ نشوئه، ولا يكفي تعيين المدين وحده على أن يعين الدائن فيما بعد. كما أنه يصعب في ظل هذه الفكرة تصور انتقال الالتزام من المدين إلى غيره، عن طريق حوالة الدين، وانتقال الحق الشخصي من الدائن إلى غيره، عن طريق حوالة الحق على الرغم من أن القانون الفرنسي قد أجاز حوالة الحق.

أما المذهب المادي، وقد نادى به عدد من الفقهاء الألمان وتبعهم في ذلك بعض الفقهاء الفرنسيين، فلا يقيم وزناً كبيراً للرابطة بين الدائن والمدين، وإنما يذهب أنصاره إلى أن الأمر الجوهري في الالتزام هو محله، أو الأداء المالي الذي يلتزمه المدين، فالمهم في الالتزام، بحسب هذا المذهب، هو قيمته المالية لا الرابطة الشخصية بين الدائن والمدين، ومن ثمَّ فإن الالتزام يبدو أقرب ما يكون إلى علاقة بين ذمتين ماليتين منه إلى علاقة بين شخصين.

ويختلف هذا المذهب في نتائجه اختلافاً كبيراً عن المذهب السابق، فقد أصبح من الممكن في ظله نشوء الالتزام بإرادة منفردة، هي إرادة المدين وحده. وأصبح من الممكن أيضاً عدم تعيين الدائن عند نشوء الالتزام اكتفاء بتعيينه عند تنفيذه، كما في حالة الوعد الموجه إلى الجمهور بجائزة مثلاً وفي حالة السند لحامله. وأصبح من السهل أخيراً الأخذ بحوالة الحق وحوالة الدين اللتين تؤدي الأولى منهما إلى انتقال الحق الشخصي وتؤدي الثانية إلى انتقال الالتزام.

وإذا كانت ضرورة وجود رابطة بين المدين والدائن أمراً لا ينكر، فوجود هذه الرابطة هو من أبرز ما يميز الحق الشخصي من الحق العيني، فإن إبراز المذهب المادي أهمية القيمة المالية للالتزام كان له تأثيره الكبير، ولاسيما من جهة ما يؤدي إليه من نتائج عملية صالحة ومفيدة.

المديونية والمسؤولية في الالتزام

يذهب بعض الفقهاء من المعاصرين متأثرين برأي عدد من رجال القانون الألمان، إلى تحليل الالتزام إلى عنصرين: عنصر المديونية من جهة وعنصر المسؤولية من جهة ثانية.

ويقصد بعنصر المديونية: الواجب المترتب على المدين بتنفيذ الأداء الذي التزمه، أما عنصر المسؤولية فيتمثل بإمكانية إجبار المدين على هذا التنفيذ، إذا لم يقم به من تلقاء نفسه.

والأصل أن يتضمن الالتزام العنصرين معاً، ولكن قد ينفصل أحد العنصرين عن الآخر، كما في الالتزام الطبيعي الذي يتوافر فيه عنصر المديونية فقط من دون عنصر المسؤولية

الالتزام الإرادي والالتزام غير الإرادي: الالتزام الإرادي هو الذي ينشأ بفعل الإرادة، أو هو الذي تتجه الإرادة إلى إحداثه في الحدود التي يسمح فيها القانون بذلك، كالالتزام الذي ينشأ مثلاً عن اتفاق إرادتي المتعاقدين في العقد. أما الالتزام غير الإرادي فهو الذي يرتبه القانون عند حدوث واقعة معينة، من دون أن يكون لإرادة المدين أو الدائن أثر في إنشائه، وذلك كالالتزام بالتعويض الذي يترتب على الشخص الذي سبب بخطئه ضرراً للغير.

والعبرة في التفريق بين الالتزام الإرادي والالتزام غير الإرادي هي في اتجاه الإرادة إلى إنشاء الالتزام نفسه، وليس إلى إحداث الواقعة أو الفعل الذي تولد عنه هذا الالتزام. فمن يتعمد مثلاً الإضرار بالغير يكون التزامه التعويض التزاماً غير إرادي أيضاً، لأن إرادته، وإن كانت قد اتجهت إلى إحداث الضرر، لم تتجه إلى إنشاء الالتزام بالتعويض عنه.

ويمنح القانون الإرادة المشتركة للمتعاقدين في العقد سلطة تكاد تكون مطلقة في إنشاء الالتزامات، مادامت هذه الإرادة لا تتجه إلى ما يخالف النظام العام. وتعد الالتزامات التي تقررها القواعد القانونية المكملة أو المفسرة التزامات إرادية أيضاً، إذ يفترض أن هذه القواعد تعبر عن إرادة المتعاقدين الضمنية عند عدم الاتفاق على ما يخالف أحكامها.

وحين يكون الالتزام الإرادي ناشئاً عن اتفاق إرادتي المتعاقدين في العقد يطلق عليه أيضاً اسم الالتزام التعاقدي.

2ـ الالتزام المدني والالتزام الطبيعي: يختلف الالتزام المدني عن الالتزام الطبيعي في أن الالتزام المدني يتضمن عنصري المديونية والمسؤولية معاً، أمَّا الالتزام الطبيعي فلا يتوافر فيه سوى عنصر المديونية.

فإذا انقضى التزام المدين بالتقادم لا يكون ثمة مجال لإجباره على الوفاء به، ولكن يتخلف عن التزامه المدني الذي انقضى التزام طبيعي يترتب في ذمته ويترك أمر تنفيذه لمحض اختياره.

ويقع الالتزام الطبيعي في موقع وسط بين الواجب الأخلاقي المحض والالتزام المدني فهو في الأصل واجب أخلاقي. ولكنه واجب أخلاقي دخل في نطاق القانون، لما يتمتع به في نظر المجتمع من أهمية خاصة، فأصبح التزاماً قانونياً، ومع هذا فهو التزام ناقص، يقل مرتبة عن الالتزام المدني، لعدم إمكان الإجبار على تنفيذه.

وينتج من عدّ الالتزام الطبيعي نوعاً من أنواع الالتزام، أن وفاء المدين به بإرادته المحضة الخالية من العيوب، لا يكون دفعاً لغير المستحق ولا تبرعاً، وإنما هو وفاء بدين مترتب في ذمته. كما أن تعهد المدين بالوفاء بهذا الالتزام، إذا تمّ بإرادته السليمة الخالية من العيوب أيضاً، يؤدي إلى نشوء التزام مدني عليه يجبر على تنفيذه، ولذلك يقال إن الالتزام الطبيعي يصلح سبباً لالتزام مدني.

إن كلمة الالتزام، إذا لم تقترن بوصف معين، يقصد بها الالتزام المدني لأنه هو الأصل.

3ـ الالتزام بإعطاء شيء والالتزام بعمل والالتزام بالامتناع عن عمل: الأداء المالي، الذي هو محل التزام المدين وحق الدائن، يتمثل بقيام المدين بعمل لمصلحة الدائن أو امتناعه عن عمل. ويطلق على التزام المدين القيام بعمل اسم الالتزام الإيجابي، وعلى التزامه الامتناع عن عمل اسم الالتزام السلبي.

وقد جرت العادة، تمشياً مع ما سار عليه الفقهاء الرومان، على تقسيم الالتزام بعمل إلى نوعين: التزام بإعطاء شيء، والتزام بعمل من دون أن يتضمن إعطاء شيء. وعلى هذا تكون للالتزام، بالنظر إلى محله، ثلاثة أنواع هي: التزام بإعطاء شيء، والتزام بعمل، والتزام بالامتناع عن عمل.

آـ ويقصد بالالتزام بإعطاء شيء: التزام المدين أن ينقل أو ينشئ للدائن حقاً عينياً على شيء ما، كالتزام البائع نقل ملكية المبيع إلى المشتري أو كالتزام شخص إنشاء حق انتفاع أو رهن على شيء لمصلحة شخص آخر، مع ملاحظة أن الشيء، إذا كان منقولاً معيناً ومملوكاً لمن تصرف به تنتقل ملكيته أو ينشأ الحق العيني عليه بمجرد العقد، أثراً لهذا العقد.

ب ـ ويقصد بالالتزام بالعمل الذي لا يتضمن إعطاء شيء: الالتزام بأي عمل آخر لا يؤدي إلى إنشاء حق عيني أو نقله. والأعمال التي يمكن أن يلتزم المدين القيام بها لمصلحة الدائن أكثر من أن تحصى، كالتزام العامل العمل في مصنع أو متجر ما والتزام المقاول الأمر المتفق عليه، والتزام الناقل نقل الراكب، والتزام المودع لديه حفظ الوديعة وغير ذلك. ويدخل في الالتزام بعمل التزام المدين تسليم شيء ما، وهو يختلف عن الالتزام بإعطاء شيء، كالتزام البائع تسليم المبيع إلى المشتري تبعاً لانتقال ملكية هذا المبيع إليه والتزام المؤجر تسليم العين المؤجرة إلى المستأجر ليتمكن من الانتفاع بها.

أما الالتزام بالامتناع عن عمل فيقصد به التزام المدين أن يمتنع عن القيام بعمل ما كان يحق له القيام به لولا وجود هذا الالتزام. ومن أمثلة ذلك، أن يتفق تاجران على أن يمتنع أحدهما عن ممارسة تجارة معينة في منطقة الآخر، تجنباً لمنافسته فيها، أو يتفق ممثل شركة مع شركة إنتاج معينة على أن يمتنع عن تمثيل غيرها، طول مدة عمله معها، فتنشأ في جميع هذه الأمثلة التزامات بالامتناع عن عمل على عاتق التاجر أو الممثل، وهي التزامات ذات قيمة مالية.

ج ـ الالتزام بنتيجة والالتزام بعناية: يقسم الالتزام، بالنظر إلى محله أيضاً، قسمين: التزام بنتيجة أو بغاية والتزام بوسيلة أو بعناية.

أما الالتزام بنتيجة أو بغاية، وهو الغالب، فهو التزام المدين تحقيق نتيجة معينة تكون هي ذاتها الغاية التي يهدف الدائن إلى بلوغها، كالتزام المدين نقل الملكية مثلاً أو تسليم شيء أو توصيل بضاعة أو إنشاء مبنى أو الامتناع عن ممارسة تجارة معينة في منطقة الدائن أو غير ذلك.

وأما الالتزام بوسيلة أو بعناية فهو التزام المدين بذل الجهد والعناية في أمر ما سعياً لتحقيق الغاية التي يهدف إليها الدائن، كالتزام الطبيب العناية بالمريض، والمحامي بالقضية الموكل فيها.

ويبدو الفرق واضحاً بين نوعين من الالتزام: ففي النوع الأول، لا يُكتفى من المدين ببذل الجهد والعناية، بل لابد له من تحقيق نتيجة محددة. أما في النوع الثاني فلا يتطلب من المدين تحقيق الغاية التي يرجوها الدائن وإنما بذل العناية اللازمة في سبيل ذلك، وهي من حيث المبدأ، عناية الشخص العادي ما لم يلتزم المدين، بمقتضى القانون أو الاتفاق، عناية أكثر من ذلك أو أقل.

يترتب على هذا أن المدين، في الالتزام بنتيجة أو بغاية، يكون مسؤولاً عن عدم تنفيذ التزامه لمجرد عدم تحقق النتيجة المطلوبة، من دون حاجة إلى إثبات خطئه أو تقصيره، ولا يستطيع المدين، في هذه الحالة، أن يدفع المسؤولية عن نفسه إلا إذا أثبت أن عدم تحقق النتيجة يرجع إلى سبب أجنبي لا يدَ لَهُ فيه. أما في الالتزام بوسيلة أو بعناية، فإن عدم تحقق النتيجة المرجوة لا يؤدي بذاته إلى عدِّ المدين مسؤولاً، وإنما لابد من أن يقوم الدائن بإثبات تقصير المدين في بذل العناية اللازمة.

ويعد كل من الالتزام بإعطاء شيء والالتزام بالامتناع عن عمل التزاماً بنتيجة أو بغاية. أما الالتزام بعمل، فقد يكون في بعض الأحوال التزاماً بنتيجة، وفي أحوال أخرى التزاماً بعناية، وفقاً للمقصود منه.

مصادر الالتزام وأحكامه

تنظم قواعد الالتزام عادة في إطار نظرية عامة يطلق عليها اسم «النظرية العامة للالتزام» وتتألف هذه النظرية من قسمين، يخصص أحدهما لمصادر الالتزام، والآخر لأحكامه.

مصادر الالتزام:

هي الأسباب التي تؤدي إلى نشوئه ووجوده.خمسة مصادر هي: العقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون.

آـ العقد: ويطلق عليه أيضاً اسم الاتفاق، وهو توافق إرادتين أو أكثر، على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه. والعقد هو أهم مصادر الالتزام جميعاً وأكثرها إنشاء له.

ب ـ الإرادة المنفردة: وهي إرادة شخص واحد تستطيع، في الحالات التي يحددها القانون، إنشاء التزام على صاحبها لمصلحة شخص آخر، ومن أبرز تطبيقاتها الوعد بجائزة.

ج ـ العمل غير المشروع: ويطلق عليه أيضاً اسم الفعل الضار، وهو فعل خاطئ يرتكبه الشخص ويسبب به الضرر للغير مما يؤدي إلى ترتب مسؤولية عليه، تسمى المسؤولية التقصيرية، وإلى التزامه، نتيجة لذلك، التعويض على المضرور، والشخص لايسأل عن أفعاله الخاطئة فقط، وإنما قد يسأل في بعض الحالات عن فعل الغير، كمسؤولية متولي الرقابة عن فعل الخاضع للرقابة و مسؤولية المتبوع عن فعل التابع، كما قد يسأل أيضاً عن الأضرار التي تسببها للغير الأشياء الواقعة تحت حراسته.

د ـ الإثراء بلا سبب: ويطلق عليه أيضاً اسم الفعل النافع، وهو إثراء شخص على حساب آخر من دون سبب مشروع يسوغ هذا الإثراء مما يؤدي إلى نشوء التزام على من أثرى بالتعويض، في حدود ما أثرى به، عن الخسارة التي لحقت الشخص الآخر. ومن تطبيقات الإثراء بلا سبب دفع غير المستحق و الفضالة.

هـ ـ القانون: وتنسب إليه مباشرة أسباب متفرقة لنشوء الالتزام لايمكن إدراجها ضمن المصادر السابقة، كما في حالة الالتزام بالنفقة مثلاً وحالة الالتزام بالضريبة.

وهذا التقسيم لمصادر الالتزام يَفْضُل بكثير ماجاء به القانون المدني الفرنسي من تقسيم هذه المصادر إلى: العقد وشبه العقد (وهو يقابل الإثراء بلا سبب)، والجرم وشبه الجرم (وهما يقابلان معاً العمل غير المشروع) والقانون. وقد انتقد عدد من الفقهاء الفرنسيين التقسيم الذي جاء به القانون الفرنسي والمستمد إلى حد كبير من القانون الروماني.

إن إدراج القانون بين مصادر الالتزام قد يوهم بأن دوره في هذا المجال محدود، وأنه لايعدو أن يكون واحداً من مصادر خمسة. والواقع أن القانون هو المصدر الحقيقي للالتزامات جميعاً، لأنه هو الذي يحدد الالتزامات ويعتمد أسباب نشوئها، فلا يمكن لأي منها أن يكون مصدراً للالتزام إذا لم يقر القانون بذلك. وكل ما في الأمر أن هناك أنواعاً كثيرة من التصرفات والوقائع من شأنها أن تؤدي، بمقتضى القانون، إلى نشوء الالتزام، وقد أمكن جمع معظم هذه التصرفات والوقائع في زمر موحدة متجانسة هي زمرة العقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب، وتبقى بعد هذا وقائع متفرقة يمكن أن تتولد عنها بعض الالتزامات، كالالتزام بالنفقة والالتزام بالضريبة اللذين أشير إليهما، وهذه الوقائع لا تندرج تحت أي من الزمر الأربع المذكورة، كما لا يمكن أن تؤلف منها زمرة موحدة متجانسة، لعدم وجود جامع يجمع بينها، ولذا نسبت إلى القانون مباشرة.

ومصادر الالتزام الخمسة التي ذكرت يمكن أن تجمع في قسمين: المصادر الإرادية من جهة، والمصادر غير الإرادية من جهة ثانية.

والمصادر الإرادية، ويطلق عليها أيضاً اسم التصرفات القانونية، وهي التي تبنى على الإرادة، أو هي التي تتجه الإرادة فيها إلى إحداث آثار قانونية. ويدخل في هذه المصادر العقد، وهو يقوم على اتفاق إرادتين أو أكثر، والإرادة المنفردة، وهي تقوم على إرادة شخص واحد.

أمَّا المصادر غير الإرادية، ويطلق عليها أيضاً اسم الوقائع القانونية، فهي أمور تقع فيرتب القانون عليها آثاراً معينة من دون أن تتجه الإرادة إلى إحداث هذه الآثار. وتشمل هذه المصادر العمل غير المشروع، والإثراء بلا سبب، والقانون.

ويتلاقى هذا التقسيم للمصادر، إلى حد كبير، مع تقسيم الالتزامات إلى إرادية وغير إرادية. فالمصادر الإرادية تؤدي أساساً إلى إنشاء التزامات إرادية باستثناء الالتزامات التي تنشئها القواعد الآمرة المطبقة من خلال هذه المصادر. أمَّا المصادر غير الإرادية فتؤدي إلى إنشاء التزامات غير إرادية.

أحكام الالتزام:

تتناول أحكام الالتزام مسائل متعددة تتصل به هي: آثار الالتزام، وأوصافه، وانتقاله، وانقضاؤه. وفي بعض التشريعات تدخل ضمن أحكام الالتزام أيضاً القواعد المتعلقة بإثبات الالتزام.

آـ آثار الالتزام: الأثر الذي يترتب على وجود الالتزام هو وجوب تنفيذه. والتنفيذ إما أن يقوم به المدين من تلقاء نفسه، وهذا هو الوفاء الذي يعد السبب الأول من أسباب انقضاء الالتزام، أو يجبر المدين عليه إذا لم يقم به باختياره، وهذا هو التنفيذ الجبري الذي تُنظم قواعده الموضوعية تحت عنوان آثار الالتزام (أما قواعده الشكلية فيتضمنها قانون أصول المحاكمات).

ب ـ أوصاف الالتزام: وهي بضعة أوصاف تلحق ببعض عناصر الالتزام فتعدل من أثره، ولذا يطلق عليها اسم الأوصاف المعدلة لأثر الالتزام. وهذه الأوصاف هي: الشرط ، والأجل ، والالتزام التخييري، والالتزام البدلي، والتضامن بين الدائنين أو بين المدينين، وعدم قابلية الالتزام للانقسام.

ج ـ انتقال الالتزام: وانتقال الحق الشخصي أيضاً، ويتم ذلك عن طريق الحوالة، وهي إما حوالة حق، ويتم بها انتقال الحق الشخصي من دائن إلى آخر، أو حوالة دين ينتقل بها الدين من المدين إلى غيره.

د ـ انقضاء الالتزام: ويتم أساساً عن طريق الوفاء عيناً بالالتزام ذاته، ولكنه قد يتم بطرق أخرى، بعضها يؤدي إلى انقضاء الالتزام بما يعادل الوفاء وهي الوفاء بمقابل والتجديد والإنابة والمقاصة واتحاد الذمة، وبعضها الآخر يؤدي إلى انقضاء الالتزام من دون الوفاء به وهي الإبراء واستحالة التنفيذ والتقادم.والاقالة الاختيارية.الفصل 319ق.ل.ع.م.

أما قواعد الإثبات أو البينات، وهي التي نظمت في القانون المدني الفرنسي وبعض القوانين التي استمدت منه ضمن أحكام الالتزام وتحت عنوان إثبات الالتزام، فإن القوانين الحديثة تتجه إلى إخراجها من إطار النظرية العامة للالتزام، لأن مجال تطبيقها لا يقتصر على الالتزام وحده وإنما يمتد ليشمل جميع فروع القانون أو معظمها. وفي نهاية هذا العرض، لابد من الإشارة إلى الأهمية البالغة لقواعد الالتزام التي تعد بحق العمود الفقري للقانون المدني، بل وللقانون الخاص بوجه عام. ففضلاً عن فائدتها العملية الكبيرة، كونها تطبق باستمرار في معظم العلاقات الخاصة بين الأشخاص، لها فائدتها العلمية التي لا تنكر لأنها، باعتمادها على المنطق القانوني وعلى التعميم والتجريد، تؤدي إلى إغناء الفكر وتنمية الملكة القانونية.