( تعدد الزوجات بين التقييد والإطلاق ) – قانون الزواج و الطلاق الليبي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت

يعتقد البعض بأن الحل الأمثل للعنوسة يكون بتعدد الزوجات ؟
وينكرون على القانون رقم 10 لسنة 1984م بشأن الزواج والطلاق مرجعيته إلى الدين الإسلامي في هذا السياق ؟
بطلان الزوجة الثانية المقرر قانونا غير شرعي ؟ وتسبب في إهدار حقوق المرأة وإرباك تسجيل الأبناء الشرعيين ؟

من نافلة القول التذكير بأن تعدد الزوجات ليس بظاهرة عربية أو إسلامية ، بل ظاهرة إنسانية قديمة عرفتها المجتمعات البدائية التي لم تنظم الزواج بالمعني المتعارف عليه الآن ، الأمر الذي لازال سائدا في بعض القبائل الأفريقية لأسباب أهمها التخلف والجهل ، ووفق المصادر التاريخية فقد ظل التعدد حتى العصور الوسطي لدي اليهود دون تقيد بعدد معين إلى أن حرمه الحبر غرشوم الأشكنازي (960-1040م) في بداية القرن الحادي عشر ؛ ولقد جاء التحريم في سياق الإصلاحات التي قام بها في القوانين اليهودية ، ونذكر بأن عددا من الأنبياء كان لهم أكثر من زوجة منهم يعقوب عليه السلام الذي تزوج بامرأتين ، وكان لسليمان ألف امرأة حسب العهد القديم . أما الطوائف المسيحية وهي : الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية التقليدية فقد حظرت تعدد الزوجات ، بينما أباحت طائفة المورمون في أمريكا التعدد الزوجات دون التقييد بعدد ، وهو ما يدحض حجة القائلين أن الرأي الذي ينادى بتنظيم التعدد في الدول الإسلامية متأثر بالغرب الرافض لهذا النهج ، لأن ما يحدث ببعض تلك البلاد – حاليا – يتفق مع عصر الجاهلية الأولي الذي جاءت الدعوة المحمدية للخروج به من الضلالة إلى الهداية واستهدفت تعليمه الحياة الحضارية التي تكفل للإنسان ؛ رجل كان أم امرأة الحياة بكرامة وفق اختياراتهما .
ونعتقد بأن الدين الإسلامي وهو دين الحضارة لا يسمح بإباحة التعدد إلا بقيود ، لأن سياسته الشرعية التي انتهجت سياسة التدرج لم تحظر بصورة حدية ومطلقة لتقدير الشارع العظيم قيمته وأهميته باعتباره مصدر تفاخر للجاهلي ومظهرا لرجولته كما وأنه عادة متأصلة عند العرب في ذلك الزمن ، لذلك أراد الباري العظيم بسياسته الحكيمة النزول بالتعدد إلى حد أدنى وحث العاقلين المفكرين ممن يدخلون الإسلام على التمعن في أسباب البحث عن الزوجة الأخرى وعن قدرته على العدل باعتباره رخصة ، وإذا كانت السياسة الشرعية قوامها جلب المصالح ودرء المفاسد عن الناس ؛ وان هذا الأخير مقدم على جلب المصالح من اجل إصلاح الفرد والمجتمع ، فأن ما ينظر إليه على انه مصلحة في عصر قد لا يكون كذلك في مجتمعات أخرى ، لذلك فقد حمل عمر بن الخطاب المطلق ثلاثا في كلمة واحدة المسؤولية الكاملة مستهدفا معالجة فوضي الطلاق في ذلك العصر وعودة الزواج في شكله الجاهلي بسبب كثرة السبي من العراق والشام وتعلق الرجال بجمال النساء ومفاتهن مما دفعهن لاستبدال واحدة بأخرى دون مراعاة لحقوق المرأة الطلقة المعنوية والمادية ، وذلك ليس بغريب على الفاروق [ المرحوم عبد السلام العالم في كتابه نظرية السياسة الشرعية ] .
وإذا كان الباري عز وجل أقر التعدد المقيد بشروط عدة ؛ هي العدد بأن لايزيد على أربع ، والعدل ، وعدم الهجر مصداقا لقوله تعالي :” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ “ [ من سورة السناء الآية 3 ]
وبحسب ما قاله الضحاك في تفسير القرطبي فأن الآية الكريمة تفيد وجوب عدم الميل لأحدهما دون الأخرى حتى في المحبة والجماع والعشرة أي المساواة المطلقة ، ” ذلك أدنى ألا تعولوا أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : عال الرجل يعول إذا جار ومال . ومنه قولهم : عال السهم عن الهدف مال عنه . قال ابن عمر : إنه لعائل الكيل والوزن ” .
أما الطبري فقد كان أكثر دلالة عندما طرح تساؤل :” هل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب؟ ” فقيل: نعم ، والدليل على ذلك قوله : ” فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” ، فكان معلوما بذلك أن قوله : ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء ” ، وإن كان مخرجه مخرج الأمر ، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجور فيه من عدد النساء ، لا بمعنى الأمر بالنكاح ، فإن المعني به : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ، فتحرجتم فيهن ، فكذلك فتحرجوا في النساء ، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه منهن ، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع ” وأكد ذلك بقوله :” وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد ، كما قال جل ثناؤه : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ سورة الكهف : 29 ] ، وكما قال : ( ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ) [ سورة النحل : 55\ سورة الروم : 34 ] ، فخرج ذلك مخرج الأمر ، والمقصود به التهديد والوعيد والزجر والنهي ، فكذلك قوله : ” فانكحوا ما طاب لكم من النساء ” ، بمعنى النهي : فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء ”
ومن التفاسير اجتهاد جمال البنا في كتابه :” المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء ” ، بقوله في سورة النساء الآية الثالثة : ” ومن الواضح أن السياق كله سياق تواصل ورحمة وتحذير … فإذا خيف عدم العدل فواحدة ، فالآية يحكمها شرط سابق ويختمها شرط لاحق ، وقد فتح بابها الخوف من عدم القسط وأغلقها الخوف من عدم العدل ” ، وخلص إلى رأى عقلاني بقوله أنه لو كانت فكرة مبدئية مطلقة ما جاءت في هذا السياق العسير المخاض الصعب ” ، فالتعدد أذن رخصة أقرتها سياسته الشرعية التي تتسم بالسماحة واليسر لا التضييق فإذا انتهت الظروف فلا مبرر له ، ولقد رفض الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يتزوج على أبن أبي طالب رضي الله عنه على فاطمة بما لايبرر للآخرين القول أن التعدد حق وليس برخصة .
فهل نترك فهمنا لهذه التفاسير الفقهية لنأخذ بأقوال بعض الفقه ممن يقول أن العدل يتحقق بالإنفاق دون تطلب ما عداها ، وأن الأصل في التعدد هو الإطلاق لا التقييد ، ونتغاضى عن مشروعية تدخل ولي الأمر الذي يملك تنظيم السياسة الشرعية وفقا لما يحدث من متغيرات ، كما جاء في القانون رقم 10 الذي خول المحكمة منح الأذن بالزواج بأخرى والذي أن رفضه جانب من الفقد المتشدد فقد أيدته التفاسير المشار إليها و جانب من الفقه منهم المرحوم عبد السلام المذكور أنفا بقوله :”وبذلك يكون النص الأصلي منسجما مع ضوابط السياسة الشرعية إذ من حق ولي الأمر أن يحتاط ، ويراقب ويفرض في إباحة التعدد ما شرطه الإسلام لكون التعدد أبيح لضرورة اجتماعية وليس لمجرد طلب الشهوة والمتعة ” [ ص 174 مرجع سابق الإشارة ] وهو ما يؤيده الشيخ زكي الدين شعبان الذي يرد على القائلين أن العدل العاطفي غير متطلب في الشريعة الإسلامية بقوله :” فأنه – سبحانه – أمر بالاقتصار على زوجة واحدة إذا علم الإنسان أو ظن انه سيجور ولا يعدل بين زوجاته ” اتفاقا مع قوله جل وعلا :” وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ” [ سورة النساء الآية 129] ؛ عليه فأن التدخل القضائي الذي أيده الكثيرين كان بهدف ضمان الشرط الذي من أجله أقر الله تعالى تعدد الزوجات ، وهو شرط الأمن من الجور في حق الزوجات تحقيقا للعدل ، ولقد أوصي صلوات الله وسلامه عليه بالنساء خيرا .
ومع ذلك لا ننكر تأثير الاختلاف الفقهي على ما يحدث في الواقع ؛ خاصة وأن المشرع الليبي قد جانبه الصواب عندما قرر إبطال زواج الزوجة الثانية في حال عدم إتباع الإجراءات المنصوص عليها في القانون رقم 10 سالف الذكر ، وهو ما ينافي حكم الشريعة الإسلامية وأثر سلبا على تنظيم التعدد بموجب القانون المذكور الذي ينسجم مع السياسة الشرعية الإسلامية ، وكان عليه حماية حق المرأة في الاختيار والأطفال في النسب ؛ و الاكتفاء بالتعزير لمخالفة أمر ولي الأمر المعبر عنه في منظومة القوانين التي تنظم حياتنا ، وهو ما سيرفضه الكثير ممن ينادى بإطلاق التعدد ، مما يستدعى العمل على تربية الإنسان ليكون له من ضميره وازعا بمراقبته الله في تصرفاته دون انتظار تدخل المشرع ، الذي لا يتدخل إلا عندما يستشعر وقوع تهديد على مصالح الأفراد وانتهاك القيم الأخلاقية للمجتمع ، وأذكر من يبرر التعدد بمحاربة الزنا بالقول أن الدول الإسلامية التي تتفاخر بتمسكها بالدين وتقر التعدد لم تتمكن من القضاء على هذه الظاهرة ؛ بل باتت تعاني من المثلية بين شبابها ، والمتابع للأحداث الصادق مع نفسه سيقر بذلك ، أما من يقول بان عدد الرجال أكثر من النساء وأن التوازن يقتضي مباركة التعدد المطلق أرد عليه بالقول أن عدد الرجال يفوق النساء في ليبيا بحسب آخر إحصاء رسمي ، وبأن الزواج سنة جميلة وسكنى ورحمة وهو ما يعطى الأسرة مكانة خاصة وقدرة على بناء الأمم التي تهاوت بسبب الاختلاف حول الشكليات ، والبحث عن الملذات والمتع بإباحة زواج المتعة والمسيار وغيرهما وإطلاق التعدد لغير القادر حتى على إعالة نفسه من منطلق الذكورة ، إذ من آيات الله الذي كرمنا أن جعل الزوجين لبعضهما البعض سترا ودعما في قوله :” هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ” ، فهل نعتبر تقييد التعدد بدعة أم سنة حميدة ؛ لأنه في حقيقته لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ؟ وأن لم يعرف في عصر الصحابة ولا عصر التابعين ، مع إيماني أن الفاروق رضوان الله عليه ، لو عاش في هذا الزمان لكان له رؤيته الخاصة والمميزة ، ونتسأل هل عرفت تلك العصور عقد الزواج عبر الانترنت ؟
للأسف أن اهتمامنا بالقضايا الخلافية يفوق مراعاة القيم التي ترسخ للإستقرار وإعمار الوطن ، فلماذا لا نفكر في سبل مساعدة الشباب على الزواج ، وتيسير حياتهم بما يحقق أمن المجتمع واستقرارهم ؟ لا تلك التي تدفعهما للخمول كتوزيع الثروة على من لا يعمل ليزداد كسلا ويندفع وراء شهواته باحثا عن زوجة ثانية تاركا أطفاله في عوز وحاجة لأن تربيته لم تجعل منه أهلا لتحمل المسؤوليات واحترام عقد الزواج والتزاماته .

د : فائزة الباشا