مشكلة إدارة العدالة وعدالة الإدارة في ظل النظام القضائي الجديد
د. رفيق سلام
الدولة الحديثة هي دولة المؤسسات أي الدولة ذات الأركان الثابتة القوية، هي دولة السلطات الثلاث وهذا شأن كافة الدول المتقدمة الآن حديثها وقديمها.. والسلطات الثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، أما السلطة التشريعية فهي التي تقوم بسن القوانين عن طريق مجلس تشريعي متخصص عادة ما يكون منتخباً، والتشريع هنا يكون عن طريق أهل العلم والفقه، والحقيقة أن المجلس لا يقوم بذاته وإنما تكون هناك لجنة متخصصة تسمى باللجنة التشريعية هي التي تتولى ذلك، ولا يقتصر ذلك على الدول ذات التشريعات الوضعية وإنما يشمل الدول الإسلامية أي الدول التي تأخذ بالتشريعات الإسلامية إذ أن هذا المجلس أو هذه اللجنة داخل المجلس هي التي تتولى صياغة جرائم الحدود والقصاص والتعزيرات في صورة نصوص قانونية بين دفتر كتيب أو كود وفقاً للتخصص المطلوب من خلال ما اجمع عليه الفقه الإسلامي سواءً من حيث الوقائع المجرمة أو من حيث العقوبات المقررة.

وكذلك الشأن في كافة أفرع الأنظمة الأخرى مدنية وتجارية وأحوال شخصية وما شابهها.ولا شك أن ذلك يحقق فوائد جمة للدولة والقضاة والمتقاضين، فالدولة تكون قد وضعت أسساً تشريعية راسخة لا تتغير بتغير الزمان ونصوصاً أخرى قابلة للتغير والتعديل وفقاً لمصلحة الأمة الإسلامية وذلك فيما يتعلق بالتعزيرات. وبالنسبة للقضاة فإن هذه التشريعات وبما تعطيه له من سلطات تخييرية وفقاً لاختلاف الجناة عند إنزال العقوبة، فإنها تحميه من الزلل وتحمى الهيئة القضائية من تضارب الأحكام وما قد يستبعها من الثقة في قضائها.

وبالنسبة للمتقاضين فإنها تحقق صوالح عديدة أهمها معرفة كل مواطن بحقوقه وواجباته فقبل ارتكاب الخطيئة يعلم أنها مجرمة والعقوبة المقررة لها وحال ارتكابها أو اتهامه بارتكابها يستطيع الدفاع عن نفسه أو الطعن في الأحكام الصادرة كما أن ذلك يسهل مهمة من يتولون الدفاع عن موكليهم.

وأما السلطة القضائية، فإنها تقوم بوضع هذه الأنظمة – حدود وقصاص وتعزيرات – موضع التطبيق على ما يعرض عليها من أقضية دون تمييز بين المتقاضين، والتشريع هنا يمكن محاكم الاستئناف من مراقبة صحة تطبيق المحاكم كما أن المحكمة العليا تتولى ذلك للأحكام الصادرة من المحاكم الاستئنافية.

وأما السلطة التنفيذية ممثلة في رأس الدولة والحكومة تتولى أعمال تطبيق هذه الأنظمة وما يصدر من أحكام في كافة أنحاء المملكة بيد قوية لا يشوبها ضعف أو هوان.

والفصل بين السلطات يعني آلا تطغى أي سلطة من هذه وإلا أضحت الدولة دولة ديكتاتورية متسلطة مهيمن عليها سلطة واحدة ألا وهي السلطة التنفيذية، إلا أن هذا الفصل لا يعني الفصل التام المطلق وإلا أصبحت الدولة مجموعة من الجزر المتفرقة المتصارعة، ولكن فصلاً تنظيمياً يسمح بوجود صلات ودية دائمة وقوية بين هذه السلطات الثلاث بالسماح لكل سلطة في حدود ضيقة واستثنائية بممارسة بعض اختصاصات السلطة الأخرى في ظروف معينة، فالسلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة تتولى التشريع في حدود معينة ضيقة كما هو الحال بالنسبة لإصدار اللوائح وهي تأتي في مرحلة تالية للتشريع، والسلطة القضائية تتولى أعمال السلطة التنفيذية في بعض الأحيان كحالة تعيين موظفيها وتأديبهم ونقلهم وترقيتهم، والسلطة التشريعية تمارس بعض أعمال السلطة القضائية الضيقة كحالة تأديب أعضائها عند خروجهم عن قواعد الالتزام.

وفي ذلك لا يعتبر اعتداء من أي سلطة على اختصاصات الأخرى فالفصل بين السلطات هنا هو فصلاً مرناً يعطي دفعة قوية لسير كافة مرافق الدولة بانتظام وباطراد.

وعودة إلى السلطة القضائية وهو موضوع حديثنا عن كيفية إدارة العدالة في المملكة، فقد كانت هذه السلطة مفرقة في أنحاء المملكة مهدرة في استقلالها ووحدتها حتى صدور نظام القضاء ووضع هيئتين فقط هما القضاء العادي (الجنائي والمدني والتجاري) والقضاء الإداري (ديوان المظالم) لذلك تجد المادة الأولى من النظام القضائي الجديد تقضى على أن “القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية، والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في أحكام القضاة”.

وما تقضي عليه المادة / 25من ذات النظام تحت عنوان ولاية المحاكم من أنه “دون إخلال بما يقتضى به ديوان المظالم، تختص المحاكم بالفصل في جميع القضايا، وفق قواعد اختصاص المحاكم المبينة في نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية”.

ومن ثم وبالبناء على ما سبق لا يجوز لأي جهة لا تنتهي لأحد فرعي القضاء سالفي الذكر أن تمارس أو تتولى أعمالا تدخل في اختصاصهما وإلا عُد ذلك غصباً لسلطة القضاء وانتهاكاً لحرمته، واعتداءً صارخاً على مبدأ الفصل بين السلطات.

ولعل المتتبع والمراقب لهذا الغصب والانتهاك يجده قائماً اليوم وبالرغم من صدور هذا النظام القضائي الجديد، تجده أولاً :فيما تم حصره مما تسمى باللجان ذات الاختصاص القضائي وعددها نحو 34لجنة. هذه اللجان كانت ومازالت قائمة وتمارس اختصاصاً من صميم الهيئتين القضائيتين العادي والإداري منها على سبيل المثال (لجنة الاعتراض على ضريبة الدخل، لجان الحكم في مخالفات نظام الموانئ ولمرافئ البحرية، لجنة الحكم في مخالفات نظام المطبوعات والنشر، لجنة الحكم في مخالفات نظام المؤسسات الطبية الخاصة، لجان الصيد والغوص، لجنة الحكم في نظام السجل التجاري، لجنة الحكم في مخالفات نظام حماية حقوق المؤلف، لجنة تسوية الخلافات العمالية، لجنة الفصل في منازعات الأوراق التجارية، واللجان الجمركية، لجان مكافحة الغش التجاري، ولجنة تسوية المنازعات المصرفية… الخ. وكافة هذه اللجان -كما ذكرنا- واردة على سبيل المثال هنا، ويمكن حصرها من حيث إنشائها واختصاصها من خلال كتاب دليل الجهات القضائية في المملكة العربية السعودية الصادر عن الغرفة التجارية الصناعية بالرياض.

وثانياً: فيما يتم إعداده حالياً من قوانين وأنظمة تستمر في غصب اختصاصات السلطة القضائية منها على سبيل المثال مشروع نظام التأجير التمويلي فقد تضمن في المادة (4) منه على أنه “تخضع المنازعات وإيقاع العقوبات في عقد التأجير التمويلي لاختصاص لجنة الفصل في المنازعات المالية المنصوص عليها في نظام مراقبة شركات التمويل، ويستثني من ذلك عقد التأجير التمويلي إذا كان محلة عقاراً”.

ومن ثم نجد هذا النص أيضا يغصب اختصاصات القضاء في نظر المنازعات التي قد تنشأ عن تنفيذ عقود التأجير التمويلي.

ثالثاُ: في صدور بعض الأنظمة بتشغيل لجان الفصل في المنازعات مع تحصين قراراتها من أي طعن على سبيل المثال لجنة الحكم في مخالفات نظام الآثار ولا شك أن ذلك ينطوي على انتهاك صارخ لسلطات القضاء وبحقوق الأفراد.

ولا شك أن الاستمرار في هذا الغصب لسلطات الهيئة القضائية سواء بالإبقاء على هذه اللجان المسماة بالقضائية أو بالنص عليها في مشروعات القوانين الجارية، له مسالب عدة أهمها:

الإخلال البين بمبدأ الفصل بين السلطات، إذ أن معظم هذه اللجان لا تشكل تشكيلاً قضائياً (أي من رجال القضاء) ولا يتبع أمامها الإجراءات القضائية الواجبة حيث قواعد الإعلان والدفاع والطعن.

الإخلال بمبدأ وحدة القضاء كهيئة مستقلة تتولى الفصل في جميع النزاعات والقضايا، وذلك بتشتيت اختصاصاته من لجان عدة تجعل من الهيئة القضائية جزراً منفصلة متباعدة.

عدم توافر الخبرة المطلوبة في هذه اللجان، أما لعدم دراسة الأنظمة المختلفة دراسة فقهية متخصصة، وإما لعدم توافر الملكة القضائية لإصدار الأحكام وتحريرها إذ أن كفاية الأحكام صنعه لا يملكها إلا أهل الهيئة وهم القضاء.

حرمان المتقاضين من حقوقهم الطبيعية ابتداء بنظر الدعوى، وانتهاء بالطعن فيما يصدر من أحكام أو قرارات وما ينالهم من ظلم وجور.

فقدان القضاء لهيبته استقلاله، وفقدان المواطنين والمتقاضين للشعور بالعدالة. وبما يؤثر ذلك على الشعور بالانتماء والمواطنة.

ولكن كيف يمكن إدارة الدفة إلى بر الأمان ؟! يكون ذلك بإجراءات سهلة وبسيطة وميسرة، وذلك أولاً بالأخذ بمبدأ تخصص القضاة، وقد أخذ بذلك النظام القضائي الجديد، بالتمييز بين القضاء العادي، والقضاء الإداري.

ثانياً بإنشاء دوائر متخصصة داخل كل هيئة قضائية (عادية – إدارية) تتولى الفصل في هذه الأقضية التي تختص بها هذه اللجان.

ثالثاً وبتوزيع هذه الدوائر المتخصصة على المحاكم في كافة مناطق ومحافظات المملكة للتيسير على المتقاضين.

رابعاً وبأعداد دورات قضائية متخصصة للسادة أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام، والسادة القضاة، في هذه الأنظمة المتخصصة. بما يتيح لهم ويمكنهم من الإلمام الدقيق بها وكيفية التحقيق والحكم فيها وخامساً بإلغاء كافة هذه اللجان.

أخيراً ندعو لولاة الأمور بالتوفيق والسداد بما يحقق صوالح هذه الأمة وتقدمها المنشود.

@ أستاذ القانون الجنائي بمعهد الإدارة العامة – الرياض

إعادة نشر بواسطة محاماة نت