القانون الإداري في السودان :

كان السودان قبل الاستقلال يتبع النظام الإنجليزي فيما يتعلق بالقانون الإداري والرقابة القضائية على الأعمال الإدارية، أما بعد الإستقلال فقد اتبع نهج الرقابة القضائية على أعمال الإدارة. (1)ويطبق في ذلك نظاماً يتضمن نوعاً واحد من المحاكم تختص بالفصل في كافة صور المنازعات، سواء أكانت بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة ولو كانت هذه الأخيرة تتصرف بإعتبارها سلطة عامة، وتوجد محكمة عليا واحدة على رأس النظام القضائي الذي يتميز بالوحدة لا بالإزدواج وتطبق المحاكم في السودان علي نشاط الإدارة نفس القواعد التي تحكم نشاط الأفراد. إلا أن هذا لا يجعلنا نكرر العبارة التي تقول أن القانون الإداري يدور مع وجود قضاء إداري مستقل كما هو حادث في الفقه اللاتيني ، فلا أحد يستطيع أن ينفي وجود القانون الإداري في ظل الدولة الحديثة، فالسودان يعرف القانون الإداري بالمعنى الضيق أو الفني، ذلك لأن القانون السوداني يعرف المنازعة الإدارية ويميزها عن سائر أنواع المنازعات ويخصها بأحكام تتميز في كثير من الحالات عن قواعد القانون الخاص(2)، وذلك في ظل القضاء الموحد بإنشاء دوائر مختلفة تختص كل منها بنوع من أنواع المنازعات علي مستوى المحكمة العليا الإتحادية أو الولائية. وإلي جانب المحاكم العادية التي تفصل في المنازعات الإدارية توجد اللجان الخاصة، والتي تفصل في أمور فنية ذات طبيعة خاصة تقتضي إلماماً بأمور ليست في متناول المحكمة العادية، وهذه اللجان لها دور أشبه بدور المحاكم في الفصل في المنازعات وجاء تشكيل هذه اللجان الخاصة لكثرة القوانين المتعلقة بالنشاط الإداري مثل الإسكان وتخطيط الأراضي وتوزيعها والنزاعات العمالية والمسائل المتعلقة بالتأمينات الإجتماعية ولجنة استئناف العاملين بالخدمة العامة فيما يتعلق بتطبيق قوانين الخدمة العامة، والتي خلفها ديوان العدالة للعاملين بالخدمة العامة(3)، وتخضع هذه اللجان الخاصة للرقابة القضائية في ظل القضاء الموحد بحيث يمكن للمتظلم أن يستأنف قرار هذه اللجان أمام المحاكم ذات الاختصاص في الفصل في الطعون الإدارية وفق قانون القضاء الإداري. ونجد ثمة إختلافاً في سبل التظلم القضائي حسب التشريع الذي يحكم عمل هذه اللجان.(4) ونادي بعض فقهاء القانون العام في السودان بضرورة اتباع نظام ازدواج القضاء من خلال مداولات مؤتمر العدل والإصلاح القانوني الذي انعقد في مارس 1991م ولم يجد هذا النداء استجابة من قبل المؤتمرين. وأرى أن نظام وحدة القضاء ، هو النظام الأمثل الذي يمكن اتباعه في السودان، ويمكن علاج المشكلات الواردة في إطار القضاء الموحد وذلك بالعمل علي قيام قضاء إداري متخصص وغير مستقل، ويمكن البدء فيه بتوسيع الدوائر الإدارية في محكمة الاستئناف والمحكمة العليا، حتى تضع لنا هذه الدوائر نظريات ومبادئ قانونية منفصلة عن القانون الخاص لتشكل قواعد قانون إداري من صنع هذا القضاء المتخصص – أكثر مرونة لإحتواء المنازعات الإدارية، ونقصد بالقضاء أن يكون القاضي الذي ينظر الدعاوي الإدارية متخصص وملم بطبيعة الروابط القانونية في هذه الدعاوي وما ينبغي أن تكون عليه لتعلقها بالمرافق العامة وحسن سيرها من جهة وضرورة حفظ وصيانة حقوق الأفراد من الجبهة الأخرى والمواءمة بينهما. ولابد أيضاً من التخلص من مشاكل إزدواجية الرؤية القانونية والقضائية السائدة في الأحكام الصادرة من المحكمة العليا نتيجة لتبني مذاهب وفلسفات قانونية متباينة لدى القضاة.

______________

1- راجع مؤلف مولانا – محمد محمود أبو قصيصة نائب رئيس القضاء في السودان -مبادئ القانون الإداري، دار جامعة أم درمان الإسلامية للطباعة والنشر ، ط. 1990م ، ص 7.

2- راجع الفصل الثامن من قانون الإجراءات المدنية 1983م.

3- راجع مولانا محمد محمود أبو قصيصة – المرجع السابق ص 34.

4-المرجع السابق ص 34.

معيار تطبيق القانون الإداري في السودان :

بطبيعة الحال لا يعرف القانون الإداري في السودان أي معيار لإنطباقه … وذلك لإعتناقه نظرية وحدة القانون ووحدة القضاء، لأن الأساس في إيجاد معيار انطباق القانون الإداري هو توزيع الاختصاصات بين القضاء العادي والقضاء الإداري علاوة على أن القانون السوداني لا يميز الإدارة بقواعد قانونية تختلف عن القواعد القانونية التي تحكم نشاط الأفراد، فليس في النظام السوداني ما يسمى بالعقد الإداري فكل العقود تخضع لقواعد واحدة هي المنصوص عليها في قانون المعاملات المدنية 1984م سواء أكانت هذه المعاملات بين الأفراد فيما بينهم أو بين الأفراد والإدارة وتفصل في المنازعات الناشئة عن عقود الأفراد مع الإدارة ذات المحاكم المدنية التي تفصل في منازعات الأفراد. إن كان القانون السوداني يعرف دعوى إلغاء القرار الإداري (الطعن في القرار الإداري) إلا أنه لا يخصص قضاءً مستقلاً لمنازعات الإدارة فينظر في الطعن الإداري في ذات المحكمة التي قد يكون لها اختصاصاً مدنياً وجنائياً في آن واحد

القانون الإداري في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية :

نهتم بدراسة القانون الإداري في إنجلترا وأمريكا باعتبارهما ينتميان إلي الفقه الأنجلوسكسوني وهو الفقه الذي نشأ منه القانون السوداني. كثير من الفقهاء يربطون بين وجود قضاء إداري مستقل عن القضاء العادي – له حق الفصل في المنازعات الإدارية دون التقيد بمبادئ وأحكام القانون الخاص القائم في الدولة – ووجود قانون إداري مستقل في تلك الدولة أما إذا لم يوجد مثل هذا القضاء الإداري المستقل فإن وجود قانون إداري أمر مشكوكاً فيه(1). والقانون الإداري بالمعنى السابق، هو نظام قانوني له نظرياته الخاصة ومبادئه الخاصة التي تحكم نشاط السلطات الإدارية بوجه عام، ويقرر هذا القانون للسلطة الإدارية حقوقاً وامتيازات ليست مقررة للأفراد. ومثل هذا القانون بالتحديد السابق لا وجود له في إنجلترا وأمريكا، للاختلاف الجوهري بين المبادئ الدستورية والقانونية التي يقوم عليها نظام الحكم والإدارة في هاتين الدولتين من ناحية وفي فرنسا من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعل من المتعذر نشوء قانون إداري علي غرار القانون الإداري الفرنسي في كل من إنجلترا وأمريكا، ذلك لأن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه نظام الحكم والإدارة في إنجلترا وأمريكا يقتضي إنفراد كل سلطة بوظائفها دون أن يشاركها في مباشرة هذه الوظيفة غيرها من السلطات بمعنى أن السلطة القضائية تختص بالوظيفة القضائية وتتمتع في مباشرة وظيفتها بحق السيادة وبهذه الصفة تفرض سلطاتها علي السلطة الإدارية والأفراد على السواء وفقاً لمبادئ وقواعد قانون واحدة(2). ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يوجد في إنجلترا أمريكا هيئة واحدة قضائية تنظر في المسائل والمنازعات الإدارية وأنه لا توجد في هاتين الدولتين قواعد قانونية تنظم السلطة الإدارية وتحدد اختصاصاتها وحقوقها وسلطاتها. ففي أمريكا توجد جهات إدارية لها بعض الإختصاصات القضائية غير أن هذه الجهات الإدارية – تعتبر في علاقتها بالقضاء العادي مجرد محاكم درجة أولى أو محاكم ابتدائية ولا يمكن إعتبارها قضاءاً إدارياً مستقلاً عن القضاء العادي الموحد. ومن امثلة تلك اللجان ؛ لجنة التجارة ؛ لجنة العمل الفيدرالي ؛ لجنة التامين الاجتماعي.

وفي إنجلترا توجد لجان إدارية ذات اختصاص قضائي يعهد إليها القانون بنظر بعض المسائل الإدارية وهي هيئات إدارية تنشأ للنظر في موضوع محدد ويشترك في عضويتها موظفون إداريون كما أن هذه الهيئات لا يمكن اعتبارها قضاءاً إدارياً مستقلاً. وظهرت هذه اللجان في مجالات الزراعة والصحة والنقل والتامينات الاجتماعية وضرائب الدخل لتكون بمثابة نوع من المحاكم الادارية ؛ وتؤدي هذه اللجان مهمتها في الرقابة علي اعمال الادارة وتحت رقابة القضاء العادي الذي يختص بالنظر في الطعون التي تقدم ضد قرارات هذه اللجان استئنافاً او نقضاً ؛ولقد انشئي مجلس قومي للاشراف علي هذه اللجان مع بقائها خاضعة لرقابة القضاء العادي ؛إلا أن نظام الحكم في إنجلترا قد تطور في السنوات الأخيرة تطوراً واضحاً ، وأن التشريعات التي صدرت في هذه الفترة أدت إلي تدخل الحكومة في شئون الأفراد واتساع نطاق وظائف الدولة مما أدى إلي إنشاء محاكم ليست لها كيان مستقل(3).

______________

1- 38. مبادئ وأحكام القانون الإداري ، د. محمد فؤاد مهنا ، مؤسسة شباب الجامعة، ط 1973م ، القاهرة ،ص 87.

2- راجع المصدر السابق ص 91.

3- Willin . A. Robson : Justice and Administrative Law – 2nd edition 1947 p30

المؤلف : يوسف حسين محمد البشير
الكتاب أو المصدر : مبادئ القانون الاداري

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .