الشريعة والنظام السياسي

كل دولة لها نظامها السياسي، والنظام معناه نسق من العلاقات بين مجموعة من المؤسسات بغرض تحقيق أهداف النظام ومقاصده، وكل نظام سياسي في الواقع هو نتاج فعل إنساني وبشري للتعبير عن ثقافة من أنتجوه، والنظام السياسي الإسلامي هو أداة الدولة الإسلامية في تحقيق مقاصدها، وأول مقاصد الدولة الإسلامية تمكين المسلمين من أن يعيشوا وفق عقيدتهم، فالدولة الإسلامية هي دولة عقيدية بمعني أنها قامت من أجل الاستجابة لمنهج الله في تحقيق شريعته كواقع معيش علي الأرض، وهي تعبير عن إعلان المسلمين جميعاً لعبوديتهم لله، فإذا كان المسلم علي المستوي الفردي يحقق عبوديته لله بالقيام بفروض العين التي لا يجوز لأحد أن يؤديها غيره، فإن المسلمين كأمة بإقامتهم لدولة الخلافة ولنظامها السياسي إنما يعلنون عبوديتهم لله علي المستوي الجماعي.

ولذلك عرف العلماء الخلافة كنظام سياسي إسلامي بأنها حمل الكافة علي مقتضي النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلي اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة ” خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به “، فالشريعة هي المرجع وحراسة الدين مقصد وسياسة الدنيا به غاية.

وكما في الشريعة محكمات واضحة بذاتها لا تحتاج لبيان غيرها وهي بمثابة القواعد الراسخة التي لا تزول في العقيدة والعبادات والمعاملات فإن لها محكمات في تأسيس النظام السياسي للإسلام نحن نعبر عنها بالتعبير المعاصر ” القيم السياسية “.
1- العدل هي القيمة المحورية، والعدالة كقيمة تعني أنها تنتشر وتتخلل النظام السياسي كله، فرأس النظام يجب أن يكون عادلا وأن تتوفر فيه شروط العدالة أي الاستقامة والنزاهة وحسن السيرة ونظافة اليد، وجميع المناصب التي يتولاها المرشحون للنظام السياسي يجب أن يتوافر فيهم شرط العدالة.”وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”
2- الشورى هي أحد القيم المهمة التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام ” وأمرهم شوري بينهم ” وهي قيمة بمعني أنها تتخلل النظام السياسي كله من أعلى مستوي إلى أدناه، من المركز إلي كل الأطراف والنواحي.
3- الأمانة أي تحقق الكفاءة التي يتطلبها المنصب ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها ” وقوله صلي الله عليه وسلم ” إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ” وضياعها ” إسناد المناصب إلي من لا تتوافر فيهم شروط القيام بها “.
4- الاختيار بمعني حق الأمة أن تختار من يحكمها ومبدأ الاختيار أحد المبادئ الرئيسية في النظام السياسي الإسلامي، فالأمة هي التي تختار إمامها في الحكم كما تختاره في الصلاة والترجمة العملية للاختيار هي ” الرضى والاطمئنان والثقة ” تجاه من يتولى شئون الأمة. وفي كتاب ” الأحكام السلطانية ” نجد مصطلح ” الاختيار ” و”أهل الاختيار”، فلا شرعية لمن يتولى السلطة بالقوة من غير اختيار المسلمين ورضاهم، ولا شرعية لمن يورث الحكم غصباً عن الأمة. ففي الأحكام السلطانية للماوردي ” فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة أحدها:العدالة الجامعة لشروطها، والثاني: العلم الذي يتوصل به إلي معرفة من يستحق الإمامة، والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلي اختيار من هو للإمامة أصلح.
5- المسئولية والرعاية لقوله صلىالله عليه وسلم ” كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ” فالحاكم راع ومسئول عن رعيته ” لا يغشهم ولا يخون الأمانة التي أوكلوها إليه.

فهذه هي القواعد الحاكمة للنظام السياسي، ومن قبل ذلك كله ما يثيره علماء السياسة عن أصل المشروعية أو أصل السلطة وقد أشرنا إليها فيما يعرف بالقواعد المؤسسة ( بكسر السين ) وهي أن السيادة والحاكمية العليا هي لله سبحانه وتعالي ولشريعته، ثم تأتي القيم العليا أو المُحكمة للنظام السياسي وهي مستمدة من الشريعة أيضاً ثم تأتي القواعد ” المؤسسة (بفتح السين) وهي التي تجعل من الأمة وممثليها ” أهل الاختيار ” و” أهل الحل والعقد ” وغيرهم ممن يمثلون القوى الاجتماعية والسياسية في الأمة يؤسسون للنظام السياسي، فالنظام السياسي وآلياته وقواعده ونظم عمله الإداري ( مركزي )، ( لامركزي )، وطرق الرقابة وأجهزة المحاسبة والمحاكمة، ونظام الشورى وقواعده ومن يتوافر فيهم شروط أهل الشوري وأهل الاختيار وأهل الولاية ( المرشحون لمنصب الولاة )، ونظام القضاء والمحاكم وطرق عملها وعلاقتها بالإفتاء ومؤسساته كل ذلك من المتغير الذي يضعه العقل المسلم وهو مجال الاجتهاد الذي نطلق عليه ” الاجتهاد السياسي ” وهو مساحة واسعة للاستفادة من العصر ومنجزاته وأفكاره فيما لا يتعارض مع القواعد المؤسسة ( بكسر السين ) ولا يتعارض مع ” القواعد الحاكمة ” بل هو سعي دؤوب لاختبار الواقع والتعامل معه بما يحقق للقواعد فاعليتها وحضورها وتجليها.

فنحن هنا أمام ثابت هو القواعد، وأمام متغير هو العصر ونظمه وآلياته وأدواته، وعلينا تطويع العصر ومكتشفاته، لتتحقق للقواعد الثابتة حيويتها وقدرتها علي الحكم , ومن هنا تبقى الشريعة وقواعدها وأحكامها مصدر الشرعية لأي نظام سياسي في أي عصر كان حتى تقوم الساعة، فالشريعة لا تعطي شرعية إلا لذلك النظام الذي يلتزم قواعدها، ويبقى أي نظام سياسي مهما كان امتلاكه لأدوات القمع وأسباب القوة فاقداً للشرعية طالما أنه لم يكن تعبيراً عن قواعد الشريعة وأحكامها. وتظل علامة الاستفهام قائمة حول شرعيته، ويظل أمل الناس وسعيهم لايتوقف من أجل نظام شرعي وليس نظاماً قويا.