المنازعات الهندسية التي يتم تسويتها عن طريق التحكيم الهندسي
د. محمد عرفة

دشن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام يوم الثلاثاء 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2007 الموافق الخامس من شوال 1428هـ، المؤتمر الدولي الثالث للتحكيم الهندسي, الذي تنظمه الهيئة السعودية للمهندسين بدعم من الأشغال العسكرية في وزارة الدفاع والطيران. وقد تناولت في مقال سابق أهمية التحكيم في عقود التشييد والبناء, في ظل ما شهدته السعودية في السنوات الأخيرة من تطورات اقتصادية وتجارية ملحوظة من شأنها أن تفتح آفاقاً جديدة في التجارة الدولية وللعلاقات الخاصة الدولية بصفة عامة مُستقبلاً، ورأيت أن هذا التطور يفرض ضرورة تحديث الأنظمة المعمول بها حتى تواكب المُتغيرات الدولية المعاصرة والمتلاحقة؛

كما أن ذلك يتطلب إعطاء أهمية خاصة لمنازعات عقود التشييد والبناء أو ما يعرف بالمنازعات الهندسية, وذلك بوضع قواعد قانونية مُحددة في تلك الأنظمة تُحدد كيفية تسويتها عن طريق التحكيم التجاري الدولي, ولكن هذا يتطلب تحديد المقصود بتلك المنازعات, وأنواعها, والجوانب التي تُثير خلافات في الواقع العملي, وهذا ما سأوضحه فيما يلي: فيُقصد بالمنازعات الهندسية تلك المنازعات التي تنشأ عن عقد مقاولات أعمال الهندسة المدنية الذي يتم إبرامه بين صاحب العمل ومقاول؛ حيث يرتب هذا العقد عدة التزامات قانونية على عاتق كل من طرفيه، بحيث يترتب على عدم وفاء أي منهما بالتزاماته أن يُطالبه الآخر بتنفيذها, وإلا لجأ إلى القضاء الوطني أو إلى التحكيم التجاري الدولي, مُستنداً إلى نصوص العقد لإجباره على التنفيذ أو طلب التعويض عن عدم التنفيذ. وهنا يتم إعمال القواعد العامة التي تحكم العقود في النظام القانوني الوطني. ومن ثم فالمنازعات الهندسية تتمثل, من ناحية, في مُطالبات المقاول لصاحب العمل بتعويضات نتيجة إخلاله بالتزاماته الناشئة عن هذا العقد، أو نتيجة خطأ المهندس الاستشاري؛

كما تتمثل, من ناحية أخرى, في مطالبات صاحب العمل للمقاول بتعويضات نتيجة تأخره في تنفيذ التزاماته الناشئة عن العقد أو تنفيذها بطريقة غير مُطابقة لشروط العقد. وقد يكون عقد مقاولات أعمال الهندسة المدنية وطنياً خالصاً إذا كانت جميع عناصره من أشخاص ومحل وسبب تنتمي للنظام القانوني للدولة التي يتم تنفيذ الأعمال الهندسية والإنشائية فيها، فيخضع هذا العقد لقواعد القانون الداخلي لهذه الدولة؛ وقد يكون عقداً دولياً، إذا تطرق العنصر الأجنبي إلى أحد عناصره. وفي الواقع إن عقود الإنشاءات, لاسيما العقود الدولية, تتسم بذاتية خاصة تُميزها عن غيرها من العقود المدنية الداخلية والدولية، وتُثير مُنازعات قانونية مُعقدة ومُركبة، سواء في العلاقات القانونية التي تنشأ بين أطراف العقد أو بالنظر للجوانب الفنية محل العقد.

ولهذا فإن هناك مُنازعات ترتبط بعملية الإنشاء ولا تنشأ بالضرورة عن عقد الإنشاء ذاته، مثل تلك التي تنشأ بين صاحب العمل والمهندس الاستشاري, وهي مُنازعات تتصل بعقد الاستشارات الهندسية المُبرم بينهما؛ كما أن عملية الإنشاء تقتضي إبرام سلسلة من العقود المُتعلقة بالتأمين أو المقاولات من الباطن، وعقود العمل، وتأجير معدات وأدوات وغيرها. وتُثير هذه العقود مُنازعات عديدة تتطلب حلها باللجوء إلى طرق تسوية المُنازعات المعروفة في العقود؛ كما تتطلب تحديد القانون الواجب التطبيق عليها من بين القوانين المتنازعة بشأنها. وتثور المنازعات المُتعلقة بعقود التشييد إما بخصوص تأخير تنفيذ المشروع وإما نتيجة التنفيذ غير المطابق للمواصفات أو غير المُكتمل له، أو التنفيذ بتكلفة عالية، مثال ذلك أن يتأخر المهندس الاستشاري في اعتماد إحدى العمليات المُسندة إلى المُقاول, ما يترتب عليه وجود عمالة عاطلة في الموقع فيُطالب الُمقاول رب العمل بأجورها. وقد يطلب صاحب العمل من المقاول تنفيذ بند غير موجود أصلاً في عقد المقاولة المُتفق عليه بينهما فيستعين هذا الأخير بعمالة جديدة ويُطالب بأجورها من صاحب العمل. وقد يتسبب المهندس الاستشاري في وجود مُعدات عاطلة بالموقع، ما يدفع المُقاول إلى المطالبة بتعويض عن تعطل هذه المُعدات. وهذا التعويض قد يتم بالاتفاق عليه مُقدماً في بنود العقد (كأن يُذكر به ساعة العمل للمُعدة بما فيها السائق والمصاريف والتأمين والمحروقات والصيانة).

وقد يرتكب المهندس الاستشاري خطأً في تسلم الأعمال من المُقاول، أو قد يتعسف معه في طلب مواصفات مُعينة ثم يتضح أن هذا الأخير قد أوفى بالمواصفات المطلوبة.

وقد يحدث خطأ المهندس الاستشاري في الرسوم الهندسية للمشروع، مثال ذلك أن يُصمم المهندس تصميماً مُعيناً للمبنى بمواصفات مُحددة ويقوم المُقاول بتنفيذها بالفعل، ثم يتضح بعد التنفيذ أن الأعمدة لا تتحمل المبنى لخطأ في التصميم وليس في التنفيذ، فيطلب صاحب العمل من المُقاول عمل دعامات حتى لا يتصدع المبنى، فيُنفذها ويُطالب بالمواد الزائدة التي أضافها. وفي الحقيقة إن المُتعاملين في مجال التشييد والبناء يواجهون عدة صعوبات عند صياغة عقد مقاولات أعمال الهندسة المدنية، الذي من المفترض أن يوفق بين مصالح أطرافه المُتقابلة بل المتعارضة أحياناً، إذ قلما توجد نماذج لهذه العقود في الأنظمة الداخلية، وحتى إذا وجدت مثل هذه النماذج فقد يرفض الطرف الأجنبي الأخذ بها على إطلاقها، لهذا فإن الطرفين يدخلان في مفاوضات عند إبرام العقد، وقد يستعينان بشروط نموذجية تُصدرها هيئات مُتخصصة في هذا المجال, مثل الشروط التي أصدرها الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين, المعروفة اختصاراً باسم شروط ( الفيديك) FIDIC وهي اختصار لمصطلح Fédération Internationale des Ingénienrs Conseils وتنص هذه الشروط على القواعد القانونية التي تسري على عقد مقاولات أعمال الهندسة المدنية, ولأهميتها سأتناول أحكامها في مقال لاحق إن شاء الله.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت