بحث يوضح هل الموثق نائب للقاضي وهل ولايته تكون بشكل عام أم جزئي؟

كتب – د/ عبد الله بن محمد بن سعد الحجيلي
الأستاذ المشارك في قسم القضاء والسياسة الشرعية
بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية – المملكة العربية السعودية

حصر بعض الفقهاء المصنفين في علم الأحكام السلطانية والولايات الدينية أنواع الولايات الدينية، وليس قصدهم عند ذكرهم العدد الحصر، إنما هو تفصيل بعض أحكام الولايات الذائعة المشهورة في عصرهم، ومن هؤلاء الأئمة الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي في كتابة “الأحكام السلطانية”، والإمام الماوردي الشافعي كذلك، ومن المتأخرين الإمام ابن جماعة الشافعي، والإمام القرافي المالكي، والإمام ابن فرحون المالكي وغيرهم، وهذا سرد مجمل لأهم الولايات الدينية التي ذكروها كما نص عليها الإمام أبو يعلى الحنبلي:

1 – الإمامة العظمى “الخلافة”.

2 – الوزارة.

3 – إمارة البلدان والأقاليم.

4 – ولاية القضاء.

5 – ولاية المظالم.

6 – ولاية النقابة على ذوي الأنساب.

7 – ولاية الإمامة على الصلوات.

8 – ولاية الحج.

9 – ولاية الصدقات.

10 – ولاية الجرائم.

11 – ولاية الحسبة، وغير ذلك كثير.

وكلٌ من الإمامين أبي يعلى الفراء والماوردي لم يذكرا ولاية التوثيق صراحة ضمن الولايات الدينية إنما ذكروا أحكامها مندرجة ضمن ولاية القضاء.

ولكن هنالك من ذكرها صراحة كالإمام القرافي في الأحكام، والإمام ابن خلدون في مقدمته، والإمام ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك، فهي عند الإمام القرافي خمسة عشر ولاية، هي([1]):

1 – الإمامة الكبرى.

2 – الوزارة.

3 – ولاية الإمارة على البلدان والأقاليم.

4 – وزير الأمير المولى على القطر.

5 – الإمارة الخاصة بتدبير الجيوش.

6 – ولاية القضاء.

7 – ولاية المظالم

8 – ولاية نواب القضاة.

9 – ولاية الحسبة.

10 – الولايات الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم [كولاية التوثيق].

11 – الولاية المستفادة من آحاد الناس (التحكيم).

12 – ولاية السعاة وجباة الصدقة.

13 – ولاية الخرص.

14 – ولاية قسم الغنائم ونحوها.

15 – ولاية المقوم والمترجم.

فالإمام القرافي بعد هذا التعداد تكلم عن الفروق بينها، وعد ولاية التوثيق ولاية جزئية، أما الإمام ابن خلدون فعدها ولاية عامة، وذكرها كإحدى “الخطط الدينية الخلافية”.

ومما قاله: “اعلم أًنًّ الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، داخلة فيها، لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم”([2])، ثم ذكر الخطط الدينية الخلافية ومنها:

1- إمامة الصلاة.

2- خطة الفتيا.

3- خطة القضاء.

4- خطة النظر في المظالم.

5- خطة صاحب الشرطة.

6- خطة العدالة [أي ولاية التوثيق].

7- خطة الحسبة والسكة.

وماذكره الإمام ابن خلدون فيما مضى من إندراج كل الوظائف الإدارية والدينية والأمنية والحربية تحت مظلة الإمامة الكبرى، هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وتابعه في هذا القول الإمام ابن الأرزق في كتابة (بدائع السلك في طبائع الملك)، ومما قاله:

“إن حقيقة الخلافة نيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، وأن الملك مندرج فيها، وتابع للقصد بها، وعند ذلك، فتمام القيام به اتباعاً لمقاصد الخلافة ما أمكن ذلك، متوقف على تولية خططها، من يقوم بها على التعين، لتعذر وفاء السلطان بها مباشرة، وأمهات ما يذكر منها جملة”([3]).

ثم ذكر أمهات الخطط الدينية وهي([4]):

الخطة الأولى: “إمامة الصلاة”.

الخطة الثانية: “الفتيا”.

الخطة الثالثة: “التدريس”.

الخطة الرابعة: “القضاء”.

الخطة الخامسة: “العدالة” [أي ولاية التوثيق].

الخطة السادسة: “الحسبة”.

الخطة السابعة: “السكة”.

ونختم الحديث عن الخطط الدينية بقول الإمام ابن خلدون: “وبالجملة فقد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول في هذا العهد”، وما قاله الإمام ابن خلدون حق وصدق، فكل الولايات الحكومية، هي ولايات شرعية مهما كان نوعها وحالها، وقد نصَّ على ذلك الإمام ابن تيمية حين قال: “جميع الولايات هي في الأصل ولايات شرعية، ومناصب دينية، فكل من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأبرار الصالحين، وكل من ظلم وعمل فيها بظلم فهو من الفجار الظالمين، وإنما الضابط قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}([5])، [والآيتان من سورة الانفطار (13،14)].

ولاية التوثيق ولاية عامة أم جزئية؟
تمهيد: حدود الولاية الشرعية:
ذهب الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم والإمام ابن فرحون معتمدا على كلامهما، مورده في مجال الاستشهاد بهما والانتصار لهما، أن الولاية الشرعية لا حد لها في عرف الشرع، وأًن هذا راجع إلى العرف والعادة والتنظيمات التي يقوم ولي الأمر بإصدارها والعمل بها في أي زمان أو مكان، قال الإمام ابن فرحون عن الولاية الدينية:

“واعلم أن الذي ينبغي أن يعول عليه العرف، وقد قال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية الحنبلي: “اعلم أن عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية، يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة، ما يدخل في ولاية الحرب، وقد يكون في بعض الأمكنة والأزمنة قاصرة على الأحكام الشرعية فقط”([6]).

وقال الإمام ابن تيمية في تفصيل أكثر لما شاع في عصره من تنوع اختصاصات أصحاب الولايات الشرعية قال:

“فولاية الحرب في عرف هذا الزمان في هذه البلاد الشامية والمصرية تختص بإقامة الحدود التي فيها إتلاف، مثل قطع يد السارق، وعقوبة المحارب، ونحو ذلك، وقد يدخل فيها من العقوبات ما ليس فيه إتلاف كجلد السارق، ويدخل فيها الحكم في المخاصمات والمضاربات، ودواعي التهم التي ليس فيها كتاب ولا شهود، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود، وكما تختص بإثبات الحقوق والحكم في مثل ذلك، والنظر في حال نُظَّار الوقوف، وأوصياء اليتامى، وغير ذلك مما هو موقوف، وفي بلاد أخرى كبلاد المغرب، ليس لوالي الحرب حكم في شيء، وإنما هو منفذ لما يأمر به متولي القضاء، وهذا اتباع للسنة القديمة”([7]).

فيستفاد من ولاية القضاء في كل قطر ما جرت به العادة واقتضاه العرف، وهذا هو التحقيق في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

واستشهد الإمام ابن فرحون على صحة ما ذهب إليه الإمام ابن القيم بذكر واقعة تاريخية فقال: “وقد جمع للقاضي أبي العباس عبد الله بن أحمد بن طالب -قاضي أفريقيا- النظر والولاية”([8])

فهذا القاضي له ولايات متعددة ولم يحصره ولي الأمر بالقضاء بل أطلق يده في كل الولايات، وهذا جائز شرعاً وعرفاً، ولا حجر في الاصطلاح الشرعي لمصطلح الولاية.

ولاية التوثيق ولاية كاملة أم جزئية:
مرَّ معنا أن الولاية الشرعية لا حدَّ لها في الشرع المطهر، فقد تكون في بعض العصور ولاية تامة كاملة، وقد تكون في بعض العصور ولاية جزئية متحدة مع بعض الولايات الشرعية الأخرى كالقضاء، وهذا ما رجحه بعض الأئمة كالإمام ابن تيمية وابن القيم وابن فرحون وغيرهم وقالوا: لا حد لها في الشرع المطهر، بل ذلك راجع إلى العرف والعادات والمصالح الراجحة، وما قيل عن بعض الولايات الشرعية، ينطبق على ولاية التوثيق، وهذا يعرف من خلال الاستقراء لبعض النصوص التاريخية كشواهد علمية لما ذهبت إليه.

كانت كتابة الوثائق في كثير من الدول الإسلامية الماضية عملاً رسمياً من أعمال الدولة، بل ولاية من ولاياتها، وخطة من خططها كبقية الولايات الإسلامية، لهذا أفردها في أبواب مستقلة كخطة من الخطط الإسلامية الإمام ابن الأزرق وابن خلدون في كتبهما تحت مسمى (خطة العدالة)، وفي كتاب الصلة لابن بشكوال في ترجمة (أحمد بن محمد الأموي) قال عن بعض ولاياته الرسمية: “وتولى عقد الوثائق لمحمد المهدي أيام تولية الملك بقرطبة”([9]).

وقال ابن بشكوال في ترجمة الحسين بن حي التجيبي: “ولي خطة الوثائق السلطانية في صدر دولة المظفر عبد الملك بن عامر”([10]).

والخطة الولاية الكاملة؛ بل إن التجيبي بعد ولايته لخطة الوثائق السلطانية تولى القضاء في عدد من مدن الأندلس كباجة ومدينة سالم وجيان وغيرها.

وفي الغالب لا يتولى هذه الخطة الشريفة إلا من برع في فقهها، فها هو الإمام أحمد بن محمد بن عفيف بن عبد الله الأموي ، -الماضي ذكره- يقول عنه ابن بشكوال: “وعني بالفقه، وعقد الوثائق والشروط فحذقها، وشهر بتبريزه فيها”([11])، فلما فاق المعاصرين من أقرانه كان جديراً بأن يتولى هذه الولاية العظيمة التي عرف أسرارها، وأجاد فقهها، وحذق فنونها.

وقد فصل القول الإمام القرافي في حديثه عن الولايات الشرعية وأحكامها وما تفيده كل ولاية وهذا بعض ما قاله:

“من الولايات ما لا يفيد أهلية شيء من الأحكام، ومنها ما يفيد أهلية الأحكام كلها، ومنها ما يفيد أهلية بعض الأحكام، ومنها ما يحتملها من حيث الجملة، ثم الولاية لها طرفان وواسطة، فأعلاها الخلافة التي هي الإمامة الكبرى، وأدناها التحكيم الذي يكون بين المتنازعين، وبين هذين الطرفين وسائط كثيرة”([12])، ثم سرد الولايات الشرعية وأنواعها وأحكامها، وقال عن الولاية الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم -ككتاب الوثائق، ومأذوني الأنكحة، وغيرهم، وجعلهم في الرتبة العاشرة من الولايات الشرعية- ما نصه:

“الولاية الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم كمن يتعاطى العقود والفسوخ في الأنكحة فقط، أو النظر في شفاعات الأيتام أو عقودهم فقط، فيفوض إليه في ذلك النقض والإبرام على ما يراه من الأوضاع الشرعية، فهذه الولاية شعبة من ولاية القضاء، وله إنشاء الأحكام في غير المجمع عليه، وذلك كله فيما وليه فقط، وماعداه لا ينفذ له في حكم البتة”([13]).

أما إذا عُدَّت ولاية التوثيق خطة مستقلة، وولاية منفصلة، كما في بعض العصور الإسلامية الماضية، كما هو الحال في عصرنا، فيُعدُّ الموثق نائباً عن القاضي، وقال القرافي عن نواب القضاة وهم في المرتبة الثانية ضمن درجات الولايات الشرعية، ما نصه:

“نواب القضاة في كل عمل من أعمالهم ومطلقاتهم، مساوون للقضاة الأصول، في أن لهم إنشاء الحكم في غير المجمع عليه، وتنفيذ المجمع عليه، إذا قامت الحجاج، وتعينت الأسباب، وولايتهم مساوية لمنصب الحكم من غير زيادة ونقصان، غير أن الفرق بقلة العمل وكثرته من جهة كثرة الأقطار وقلتها”([14]).

قائمة المراجع:

([1])الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص(83-87).

([2])مقدمة ابن خلدون: ص219، وانظر الصفحات (218-226) من المقدمة.

([3])بدائع السلك: 1/236.

([4])انظر بدائع السلك: 1/236-268.

([5])مجموع الفتاوى 28/69.

([6])الطرق الحكمية: ص199، انظر: تبصرة الحكام: 1/18.

([7])مجموع الفتاوى: 8/29.

([8])تبصرة الحكام: 1/19.

([9])الصلة: 1/543.

([10])الصلة: 1/139.

([11])نفس المصدر السابق.

([12])الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص83.

([13])المصدر السابق: ص85، قارن بكتاب تبصرة الحكام: 1/20.

([14])المصدر السابق: ص85.

([15])قضاة قرطبة: ص115.

([16])انظر نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي “السلطة القضائية” للقاسمي(1/295-303).

إعادة نشر بواسطة محاماة نت