المسؤولية الطبية بين التراث الطبي العربي الإسلامي – دراسة مقارنة

تعتبر المسؤولية الطبية وأخطاء الأطباء من المواضيع التي لازمت ممارسة الطب منذ قديم الأزمنة، وقد وضعت التشريعات والنصوص المحددة لتلك المسؤولية. ولعل أقدم تلك التشريعات التي نملكها ما تضمنته قوانين شريعة حمورابي في ذلك. وبتطور العلوم الطبية عبر مختلف العصور، فقد تطورت تلك التشريعات أيضا وبشكل ينسجم مع تطور الطب.

ولما جاء الإسلام وضع ضوابط وقوانين لممارسة الطب والتي يشكل محورها حديث النبي عليه الصلاة السلام “من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن”. وبناء عليه فقد حدد الأطباء العرب القدامى وعلماء الشريعة الإسلامية شروطا لانتفاء مسؤولية الطبيب في حالة وقوع الخطأ الطبي.

وابن قيم الجوزية، في كتابه الطب النبوي، هو أحد الذين فصّـلوا وفنّدوا تلك الشروط. ولما ازداد عدد الأطباء والصبادلة الممارسين لصناعة الطب في البلاد العربية والإسلامية، كان من الضروري إنشاء نظام يتولى مراقبة سلامة هذه المهنة، وخاصة بعد انتشار المتعلم الماهر والدجال الجاهل، وهذا النظام سمي حينئذ بنظام الحسبة، وقد ألفت العديد من الكتب التي تبحث في هذا النظام وتطبيقاته.

إلا أنه حديثا وبسبب التقدم الكبير الذي حدث في مجال الطب، سيما خلال العقود القليلة الماضية، خاصة فيما يتعلق بمجال جراحات زرع الأعضاء أو الجراحات التجميلية، بالإضافة إلى تطور وسائل التشخيص والعلاج كما في حالة الأمراض الخبيثة منها أو المستعصية، فقد تعددت صور المسؤولية الطبية وتشعبت إلى الحد الذي يتطلب إعادة مناقشة تطوير القوانين التي تضبط مسؤولية الطبيب في حالة وقوع الخطأ، وعلى نحو يفي بالحاجة إلى ممارسة مهنة الطب في جو يشجع الأطباء على أدائها وفق أحدث الطرق العلاجية، دون التفريط بحقوق المريض عند وقوع الخطأ.

هدف هذا البحث هو اسـتعراض صور المسـؤولية الطبية عبر العصور كمـا وردت في بعض مؤلفات الطب العربي، ثم التعرض لذكر بعض صور المسؤولية الطبية التي فرضها تطور الطب حديثا، وأخيرا وضع تصور عن المسؤولية الطبية يرتكز أساسا على تراثنا الطبي العربي وينسجم مع متطلبات تطور الطب حديثا.

تعتبر المسؤولية الطبية Medical Responsibilityوأخطاء الأطباء من المواضيع التي لازمت ممارسة الطب منذ قديم الأزمنة، وقد وضعت التشريعات والنصوص المحددة لتلك المسؤولية.

ولعل أقدم تلك التشريعات التي نملكها ما تضمنته قوانين شريعة حمورابي الذي حكم بلاد الرافدين في القرن السابع عشر قبل الميلاد. وقد ضم هذا التشريع تسع فقرات تتعلق بأجور الأطباء وبالعقوبات التي تفرض عليهم في حال وقوعهم في الخطأ. من هذه القوانين:
– إذا عالج الطبيب رجلا مصابا بجرح خطير بواسطة مشرط معدني وشفي ذلك الرجل، أو إذا شق الطبيب خراجا في عين مريض وشفاه، فإنه يتقاضى عشر شواقل[1] من الفضة.

– إذا عالج الطبيب رجلا حرا مصابا بجرح خطير بواسطة مشرط معدني وأدى ذلك لوفاة الرجل، أو إذا شق الطبيب خراجا في عين مريض، ونتج عن ذلك ضياع عينه، تقطع يد الطبيب[2]. ولكي نتمكن من تقدير الأجر الذي كان يتقاضاه الطبيب، ونقارنه مع العقوبة التي كانت تفرض عليه عند حصول الخطأ في المعالجة، يكفي أن نذكر أن أجرة العامل في اليوم الواحد كانت تعادل خمس شاقل من الفضة، وأجر المنزل من الحجم المتوسط هو خمسة شواقل من الفضة.

وقد اشترط أقدم الأطباء اليونانيين أسقلوبيوس Aesculapius على من يريد أن يتعلم هذه الصنعة أن يكون من أسرته المقدسة، أو على الأقل من أسرة معروفة بحسبها ونسبها وشرافة أعسالها[3]. كما وضعت أنظمة لمعاقبة من يسيء إلى شرف المهنة أو يستغلها بجشع. وكان الأطباء اليونانيون يعتمدون واحدا من بينهم معروفا بالمروءة والتجربة في الطب، وذلك لمراقبة أعمال الممارسين والنظر في شكاوي الناس منهم[4].

المسؤولية الطبية بعد الإسلام:

إن المستند الرئيسي لفقهاء الشريعة الإسلامية في تحديد مسؤولية الطبيب هو الحديث النبوي الشريف، وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وصححه الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن”[5]. وفي رواية لأبي نعيم “من تطبب ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن”.

وقد قال ابن القيم الجوزية في كتابه الطب النبوي: وقوله صلى الله عليه وسلم: “من تطبب” ولم يقل من طبّ لأن لفظ التفعيل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسرة وكلفة، وأنه ليس من أهله كتعلم وتشجع وتصبر ونظائرها[6].

ولقد لخص ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد الحكم الفقهي المتعلق بالمسؤولية الطبية فقال: “وأما الطبيب وما أشبه إذا أخطأ في فعله وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس والدية على العاقلة (يعني العصبة) فيما فوق الثلث، وفي ماله فيما دون الثلث. وإن لم يكن من أهل المعرفة، فعليه الضرب والسجن والدية، قيل في ماله وقيل على العاقلة”[7].

وقال الكحال بن طرخان في كتابه الأحكام النبوية: قال الخطابي: “لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا، والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعدّ. فإذا تولد عن فعله التلف ضمن الدية وسقط القَوَد[8] لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته”[9].

لقد نقل ابن قيم الجوزية هذا القول في كتابه الطب النبوي ثم فصّل فقال: قلت الأقسام خمسة:
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقا فإنها سِرايةُ مأذون فيه. وهكذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسنه قابل للختان، وأعطى الصنعة حقها، فتلف العضو أو الصبي لم يضمن. وكذلك إذا بطّ[10] من عاقل أو غيره ما ينبغي بطّه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن، وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها.

القسم الثاني: متطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف به، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له وأذن له في طبه لم يضمن. ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث، فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غرّ العليل وأوهمه أنه طبيب وليس كذلك. وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته، ضمن الطبيب ما جنت يده. وكذلك إن وصف له دواء يستعمله والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ضمنه، والحديث ظاهر فيه أو صريح.

القسم الثالث: طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة [11] فهذا يضمن لأنها جناية خطأ، ثم إن كانت الثلث فما زاد فهو على عاقلته، فإن لم يكن عاقلة فهل تكون الدية في ماله؟ أو في بيت المال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد. وقيل إن كان الطبيب ذميا ففي ماله، وإن كان مسلما ففيه الروايتان؛ فإن لم يكن بيت المال أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية؟ أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان، أشهرهما سقوطها.

القسم الرابع: الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء، فأخطأ في اجتهاده فقتله. فهذا يخرج على روايتين: إحداهما أن دية المريض في بيت المال، والثانية أنها على عاقلة الطبيب. وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطأ الإمام والحاكم.

القسم الخامس: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها، فقطع سلعة[12]، من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه، أو ختن صبيا بغير إذن وليه فتلف، فقال بعض أصحابنا يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه. وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي أو المجنون لم يضمن[13].

بالنظر إلى ما سبق ومما ذكره ابن قيم الجوزية في هذا المجال فإنه يمكن القول أن هناك إجماعا على عدم مسؤولية الطبيب إذا أدى عمله لنتائج ضارة فيما إذا توافرت الشروط الآتية:
أولا- أن يكون طبيبا عن معرفة ودراية لا عن زعم وادعاء، ولا يفيد أن تكون له شهرة لا تستند إلى خبرة حقيقية.
ثانيا- أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية (أو بقصد تنفيذ الواجب الشرعي).
ثالثا- أن يعمل طبقا للأصول الفنية التي يقررها فن الطب وأهل العلم به، فما لم يكن كذلك فهو خطأ جسيم يستوجب المسؤولية.

رابعا: أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كذوي المريض أو الوالي.
وبالرغم من أن الحديث النبوي الشريف الذي ذكر آنفا يشير إلى صورة محددة من صور المسؤولية الطبية، وهو مزاولة المهنة دون تأهيل، فإن العبرة كما يقول أهل العلم بعموم النص لا بخصوص السبب، فيؤخذ من قول النبي عليه الصلاة والسلام أن كل ممارسة طبية تتحقق فيها الشروط التي ذكرناها للضمان، فإنها تقع تحت المسؤولية ويحاسب عليها من ارتكبها.

ومما يجدر ذكره أنه بالرغم من إجماع الأطباء العرب القدامى والفقهاء على رفع المسؤولية عن نتائج فعل الطبيب حين توافر الشروط السابقة، إلا أنه اختلفت وجهات نظرهم في تعليل نفي المسؤولية، وهذا يدل على التقدير الخاص لشأن هذه المهنة وخطورتها في آن واحد. فبعضهم يرى أن العلة هي الحاجة إلى ممارسة المهنة في جو يشجع الأطباء على أدائها، لا سيما عندما يقترن ذلك بالإذن.

وبعضهم يرى أن العلة بالإضافة للإذن أن الغرض من الفعل هو قصد العلاج لا الضرر، والقرينة على هذا القصد وقوعه موافقا للأصول الفنية. ويرى البعض أن العلة هي الإذن في صورته المزدوجة المركبة من إذن الحاكم بممارسة المهنة وإذن المريض بأداء ما تقضي به من أعمال[14].

ولما ازداد عدد الأطباء والصبادلة الممارسين لصناعة الطب في البلاد العربية والإسلامية، خصوصا في العصر العباسي، كان من الضروري إنشاء نظام يتولى مراقبة سلامة هذه المهنة، وخاصة بعد انتشار المتعلم الماهر والدجال الجاهل، وهذا النظام سمي حينئذ بنظام الحسبة، وقد ألفت العديد من الكتب التي تبحث في هذا النظام وتطبيقاته. وكان رئيس الأطباء وقتئذ يتعهد أمام المحتسب أن لا يتساهل في شؤون مراقبة أعمال الأطباء، وأن يأخذ عهد أبقراط بأن لا يعطوا دواء فتاكا، وأن لا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال دواء يقطع النسل، وأن يغضوا من أبصارهم عن المحارم عند دخولهم بيت المرضى، وأن لا يفشوا أسرار ما يرونه فيها[15].

وقد كان الأطباء يخضعون لامتحان قبل السماح له بمزاولة المهنة. فكان الكحالون[16] مثلا يمتحنهم المحتسب بكتاب حنين بن اسحق[17]، فمن وجده فيما امتحنه به عارفا بتشريح العين وعدد طبقاتها السبع، وعدد رطوباتها الثلاث، وعدد أمراضها الثلاثة، وكان خبيرا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس، وأن لا ينبغي أن يفرط في شيء من آلات صنعته مثل سنانير السبل[18] والظفرة [19]ومحك الجرب ومباضع الفصد ودرج المكاحل وغير ذلك[20].

لقد كان الطبيب العربي سنان بن ثابت يمتحن الأطباء والجرائحيين والكحالين والصيادلة. وقد ذكر الطبيب عبد الرحمن بن نصر الشيزري في كتابه “نهاية الرتبة في طلب الحسبة” كثيرا من مشاهداته فيما يتعلق بأنواع الغش، وسوء ممارسة الطب وأخطاء الأطباء. وقد جاء في نهاية كتابه: “إن كحالي الطرقات لا يوثق بأكثرهم، ولا ينبغي لأحد أن يركن إليهم في معالجة عينه ولا يثق بأكحالهم وشيافاتهم”. وعند الكلام عن الجراحين يقول: “أما الجرائحيون فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس المعروف بقطاجنس في الجراحات والمراهم”[21].

المسؤولية الطبية من الوجهة الفقهية:
أدركت المذاهب الفقهية المختلفة طبيعة العمل الطبي وما ينطوي عليه من أخطار ومضاعفات Complications لا يستطيع معها الطبيب مهما أوتي من علم وخبرة أن يتجنبها، لذلك اتجه الفقهاء لرعاية الطبيب والتخفيف عن مسؤوليته عن المضاعفات التي قد تنتج عن عمله، واتفقوا على أنه لا ضمان على الطبيب ومن في حكمه من ممرضين وفنيين ونحوهم إذا ما روعيت الشروط التالية[22]:

أولا- أن يكون من ذوي المعرفة في صناعة الطب. وهو ما يعبر عنه حاليا بالحيازة الرسمية للشهادات العلمية التي تثبت دراسته للطب.

ثانيا- أن يؤذن له بمزاولة المهنة. وهو ما يعبر عنه حاليا بحيازة شهادة مزاولة الطب والتي تمنحها وزارات الصحة، كل حسب تخصصه.

ثالثا- أن يأذن له المريض بمداواته. وهذا الأمر له أهميته خصوصا عندما يتغيب طبيب ما عن مكان عمله، ويوكل طبيبا آخر للقيام بمهامه. ففي مثل هذه الحالة على المريض أن يُعلم بذلك، فهو قد يرفض تلقي العلاج من طبيب غير طبيبه الأصلي، وإلا يعتبر الطبيب الوكيل هنا مسؤولا في حالة وقوع اختلاط ما؛ لأنه لم يؤذن له من قبل المريض بمداواته.

رابعا: أن لا يتجاوز ما ينبغي له في المداواة: كأن يعطي جرعة من الدواء أكبر من المحددة فأدى ذلك إلى تضرر المريض.

لقد أقرت مؤخرا المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، والتي مقرها الكويت، في الدستور الإسلامي للمهنة الطبية شروطا أساسية يمكن معها نفي المسؤولية عن الطبيب في حالة حدوث الضرر، وهذه الشروط هي:

1- إذن الشارع بمزاولة المهنة. وهذا ما يعني اليوم الحصول على الترخيص بمزاولة مهنة الطب وفق تخصص معين وذلك من جهات معنية وهي غالبا ما تكون وزارة الصحة.
2- رضاء المريض بالعلاج.
3- قصد الشفاء عند الطبيب.
4- عدم وقوع الخطأ الفاحش من الطبيب. والخطأ الفاحش هو الذي لا تقره الأصول الطبية ولا يقره أهل الفن والعلم[23].

وفي الحقيقة أكثر ما يثير الجدل هو البند الأخير. فالخطأ الفاحش قد يختلف في تقديره من بلد لبلد ومن شخص لآخر، فما يعتبر خطأ فاحشا عند البعض قد يعتبر غير فاحش أو حتى قضاء وقدرا عند البعض الآخر. وكثيرا ما يختلف أهل نفس الاختصاص في تقدير ذلك.

المسؤولية الطبية في الممارسات الطبية الحديثة:
لابد لكي تقع المسؤولية الطبية على الطبيب من تحقق شرطين؛ أولهما وجود الأذى والضرر لدى المريض، والآخر وجود صلة بين الضرر الحاصل والخطأ الطبي الواقع. وفي الممارسة الطبية الحديثة لا تصح المطالبة بتعويض عن الضرر الحاصل إلا إذا قام الطبيب بعمله دون أن يكون له حق بذلك أو يكون قد انتهك حرمة القوانين المرعية بهذا الشأن أو أنه تجاهل الالتزامات التي قيد نفسه بها.

إن ما يطلب من الطبيب هو أن يقدم لمريضه العناية اللازمة حسب ما يقتضيه الوجدان والعلم، ولا يسأل إلا إذا أهمل ذلك. وقد يتعرض الطبيب إلى انتقادات متباينة ومتعاكسة أحيانا، فقد يتهم بالتقصير لعدم لجوئه إلى أساليب حديثة ذكرها علم الطب، كما قد يتهم بالتهور للجوئه إلى أساليب حديثة لم يثبت بعد شأنها.

وهكذا نرى الطبيب المحافظ كالطبيب المقدام كلاهما عرضة للانتقاد والنقد من الناحية الفنية. كما قد يتهم الطبيب أحيانا بعدم التبصر وبالإهمال وعدم الروية وغير ذلك من أمور عامة ليست خاصة بالطب والأطباء[24].

صور من المسؤوليات الطبية الحديثة:
أولا- المداخلات الطبية الاستثنائية بدون أخذ موافقة المريض:
يعتقد بعض الجراحين أن لهم ملء الحق بإجراء أي تداخل يوصل مريضهم إلى الشفاء. ويزعم بعضهم إمكانية إجراء هذا التداخل على الرغم من ممانعة المريض أحيانا. إلا أنه وكما لاحظنا من خلال شروط انتفاء مسؤولية الطبيب حال وقوع الضرر هو تفويض المريض بإجراء العلاج دوائيا كان أو جراحيا. ويستثنى من ذلك التفويض حالتان[25]:

الحالة الأولى: وهي الحالات الخطرة التي تهدد حياة المريض بالموت، أو تهدد بتلف عضو من أعضائه، ويكون فيها فاقدا للوعي أو أن حالته النفسية لا تسمح بأخذ إذنه، ولا يكون ولي الأمر حاضرا لأخذ الإذن. ويدخل ضمن هذه الحالة أيضا في حالات كون المريض مخدرا من أجل عملية معينة، وقد تبين أثناء المداخلة الجراحية أن الواجب يحتم إجراء عملية أخرى ضرورية بنفس الوقت.

الحالة الثانية: الحالات التي تقتضيها المصلحة العامة، كالأمراض المعدية التي تهدد المجتمع بانتشار الوباء، فيجوز في هذه الحالة للسلطات الصحية أن تجبر فردا أو جماعة من الناس على العلاج أو تعاطي وسيلة من وسائل الوقاية ما دام في ذلك مصلحة مشروعة للمجتمع.

ثانيا- رفض الطبيب تقديم العلاج لمريض ما:
ليس هناك ما يرغم الطبيب على العمل إلا إذا كان مصادرا لجهة ما، فعليه أن يعمل لصالح تلك الجهة ويعالج كل مرضاها. أما إذا تقاعس عن الاستمرار بزيارة مريض تبنى علاجه مسبقا، كما لو وعد بعلاج امرأة حامل ومن ثم توليدها، فإذا تقاعس عن ذلك ودون عذر مبيح ونجم عن ذلك ضرر أصاب المرأة عندها يعتبر الطبيب مسؤولا. إلا أنه هناك بعض الحالات التي تجعل الطبيب في حل من تعهده لعلاج مريض ما، كأن يكون المريض مهملا لتعاليم الطبيب، أو أن يكون ذووه متقاعسين عن تنفيذ ما يطلب منهم لمصلحة المريض. وفي مثل تلك الحالات على الطبيب، أن يبين للمريض أو لذويه ذلك حل من التزامه بالعلاج، وأمام شهود.

ثالثا- هجر المريض:
يعتبر التشريع الطبيب الذي زار مريضا أو زاره مريض وقبل معالجته ملزما بإتمام المعالجة، مؤاخذا على إهمال المريض الذي عدت زيارة الطبيب الأولى له أو زيارته للطبيب بمثابة ارتباط أو عقد بينهما. ونفس الأمر ينطبق أيضا على التزام الطبيب بطبابة جماعة من الناس، ويعد نكوله عن العناية بالجماعة مخالفة داعية لتحمل المسؤولية.

رابعا- الإنابة ومسؤولية الطبيب الأصلي والطبيب العوض:
يجوز للطبيب عند تعذر استمراره في معالجة مريض ما لسبب أو لآخر أن ينيب عنه طبيب آخر ومن نفس اختصاصه. وينظر المريض وذووه عادة إلى الطبيب العوض نظرة فيها شيء من التردد والريبة، فإذا حدث أثناء سير المرض اختلاط ما عزي ذلك إلى تبديل الطبيب، وعدّ الطبيب الأصلي ملوما في نظر المريض وذويه. في الحقيقة لا يترتب على الطبيب الذي أناب عنه زميلا له يحمل نفس المؤهلات أي مسؤولية في حالة إصابة المريض بضرر ما، وذلك بشرط أن يبين الطبيب الوكيل أنه ليس الطبيب الأصلي، بل هو بديل عنه.

خامسا- الخطأ في التشخيص:
يجب أن لا يعتبر الطبيب مسؤولا عن الخطأ في التشخيص إذا استعمل الوسائل الممكنة والمتاحة لتشخيص المرض. أما إذا أهملها دون ما سبب معقول فيعتبر عند ذلك مسؤولا عن الخطأ في التشخيص. ويجب الإشارة هنا إلى أن علم الطب هو علم لم يكتمل بعد، وعليه فإنه تقتصر محاسبة الأطباء على الأصول العلمية الثابتة، فلا يصح أن يسأل الطبيب عن أمر مختلف عليه فنيا، كما في حالات اللجوء لبعض الإستقصاءات التشخيصية لتأكيد المرض، والتي قد تكون صعبة المنال في بعض الأمكنة، أو أنه لم يبت الطب في فائدتها بعد.

سادسا- مسؤولية الخطأ في تحرير الوصفات:
يطلب من الطبيب عند كتابته لأي وصفة طبية أن تكون الكتابة واضحة؛ فقد حدث في كثير من الأحيان أن أعطي المريض دواء غير الدواء الذي كتبه الطبيب. إذا نجم نتيجة ذلك أي ضرر للمريض يعد الصيدلاني هو المسؤول. لذلك من حق الصيدلاني رفض صرف أية وصفة يكون غير متأكد فيها من اسم الدواء.

سابعا- المسؤولية عن توابع العملية الجراحية:
لا يعتبر الجراح مسؤولا إذا كانت نتائج العملية الجراحية على غير ما يرام، وذلك إذا ثبت أنه لم يهمل في تقديم كل الأساليب والوسائل الفنية والحديثة المتوفرة. ويعتبر كل من طبيب التخدير والجراح كلاهما مسؤولين عن المريض في كل مراحل العملية، فقد حدث أحيانا أن أصيب المريض بحروق أثناء العملية كان غير شاعر بأثرها فيه، أو أن يسقط المريض من طاولة نقل المريض قبل أن يصحو فيصاب بأضرار بليغة.

لذلك كله يعتبر طبيب التخدير والجراح في هذه الحالة كلاهما مسؤولين لا عن العمل الجراحي فحسب بل عن المريض خلال فترة تخديره.

ثامنا- المسؤولية في جراحة التجميل:
تتميز جراحات التجميل عن غيرها من الجراحات بأن إجراءها هو أمر كمالي وليس ضروريا من أجل استمرار الحياة. لذلك كانت أكثر التشريعات صارمة فيما يتعلق بمسؤولية الطبيب في جراحة التجميل حين وقوع الضرر خلافا لما هو عليه في باقي أنواع الجراحات. ويذكر في هذا الصدد قصة السيدة لوغن التي هددت جراحا بالانتحار إذا لم يوافق على إجراء عملية جراحية لها تنحف ساقيها.

ولما لم تؤد العملية الجراحية إلى النتيجة المطلوبة بل رافقها اختلاطات أدت إلى بتر الساق، أقامت السيدة دعوى على الجراح مطالبة إياه بالعطل والضرر اللذين لحقا بها من جراء العملية فحكم عليه بذلك. ولما أراد في دفاعه أن يبين أن إقدامه على العملية وعدم نجاحها لا يختلف عن الإقدام على أية عملية جراحية ضرورية ومن ثم الفشل فيها، أجيب بأن المحكمة قانعة بخبرته ودرايته وحسن عمله، ولكنها مع ذلك تدينه ولا ترى مبررا لتبرئته لأن ما دفع السيدة لوغن للجراحة هو تجميل ساقيها لا الخطر على حياتها، وأنها إذا هددته بالانتحار إذا لم يقدم على إجراء العملية فهذا يزيد من مسئوليته إذ كان يجب عليه أن يدرك ضعف نفسيتها وأن يرشدها إلى طبيب نفساني ليعالج حالتها لا أن يجري لها العملية تلبية لإلحاحها[26].

تاسعا- المسؤولية الناتجة عن عمل الآخرين:
من المعروف أنه يساعد الأطباء في المشافي عدد من الأطباء المقيمين والمعاودين والممرضين والممرضات والفنيين، وإن نتيجة المعالجة مرتبطة إلى حد كبير بحسن عمل هؤلاء جميعا، فإذا أساء التصرف أحد هؤلاء ونجم عن ذلك ضرر ما للمريض فهل يكون الطبيب مسؤولا عن ذلك أم لا؟.

قضى العرف أن يحمل كل إنسان وزره، وعلى هذا تكون المسؤولية واقعة على المقصر أو المخطئ أو المهمل إلا إذا كان الشخص الذي نسب إليه الإهمال مرتبطا مباشرة بالطبيب ومرؤوسا منه. وفي الحقيقة هذا الأمر يختلف من مؤسسة لأخرى، خاصة فيما إذا كان المشفى هو حكومي أم مشفى خاص. ففي المشفى الخاص يكون الطبيب عادة مسؤولا عن جميع العاملين معه من مساعدين وممرضات وخدم لأنه رئيس لهم. وليس الأمر كذلك في المشافي الحكومية والتي تعد إدارة المشفى هي المسؤولة عن هؤلاء المساعدين.

في الختام:
يمكن أن نخلص من هذا البحث إلى أن تراثنا الطبي العربي ذاخر بأحكام المسؤولية الطبيبة، وبالرغم من التطور الهام والمنقطع النظير لما يشهده الطب حاليا، فإنه يمكن لبعض تلك الأحكام استخدامها كقواعد لتبنى عليها أحكام وقوانين حديثة تبين المسؤولية الطبية للطبيب اتجاه مريضه في حالة وقوع الضرر. وباختصار يمكن القول بأن الطبيب الحائز على ترخيص يؤهله بممارسة اختصاصه وفق القوانين التي يعمل بها مكان عمله، يجب أن لا يكون مسؤولا في حالة إصابة مريضه بضرر ناجم عن أي إجراء تشخيصي أو علاجي، إلا إذا كان هذا الضرر ناجما عن خطأ أو إهمال واضحين.

والمشكلة كلها تنحصر في تقدير فيما إذا كان الطبيب قد أهمل أو أخطأ فعلا. لذلك أرى أنه لحسم هذا الموضوع يجب على نقابات الأطباء أو المحاكم الخاصة للفصل في مثل تلك المسائل أن تعيّن لجان محاسبة مكونة من خبراء في الطب والفقه نزيهين ومن ذوي السمعة الحسنة، مهمتها التحقيق في أخطاء الممارسات الطبية وإبداء الرأي الفني والشرعي فيها، وتحديد المسؤوليات، وأن توضع القوانين التي تنظم عمل هذه اللجان والعقوبات التي تترتب على كل خطأ أو تقصير أو إهمال. كما أن مهمة هذه اللجان هي الفصل في الحكم هل الطبيب أخطأ أم لا؟ وما هو مقدار هذا الخطأ؟ وبحسب مقدار هذا الخطأ يتحمل الطبيب جزءا من تعويض المريض عن الضرر الذي أصابه أو لحق به، والجزء الآخر يجب أن يدفع من صندوق في نقابة الأطباء ومخصص لهذا الغرض.

المصادر والمراجع:
– ابن أبي أصيبعة، موفق الدين أبو العباس، أحمد بن القاسم بن يونس السعدي الخزرجي. عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق د. نزار رضا، دار مكتبة الحياة ، بيروت، بلا تاريخ.
– أبو غدة، د. عبد الستار. بحوث في الفقه الطبي والصحة النفسية من منظور إسلامي. دار الأقصى، القاهرة، 1991.
– البابا، د. محمد زهير. تاريخ وتشريع وآداب الصيدلة. مطبعة طربين، دمشق، 1986.
– الجوزية، ابن قيم. الطب النبوي. دار القلم العربي، حلب، 1995.
– السامرائي، د. كمال. مختصر تاريخ الطب العربي. دار النضال، بيروت، جزءان، 1989.
– الشطي، د. أحمد شوكت. تاريخ الطب وآدابه وأعلامه. مطبعة جامعة حلب، حلب، 1990.
– عيسى بك، أحمد. تاريخ البيمارستانات في الإسلام. دار الرائد العربي، بيروت، 1981.
– كنعان، د. أحمد محمد. الموسوعة الفقهية الطبية. دار النفائس، بيروت، 2000.
– نسيمي، د. ناظم. الطب النبوي والعلم الحديث. الشركة المتحدة للتوزيع، بيروت، ط1، 1984.
– المنظمة العالمية للطب الإسلامي، وثيقة الكويت، الدستور الإسلامي للمهنة الطبية، طباعة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت، 1981.

***