دور الحكم بعدم الدستورية في حماية الحقوق والحريات الاجتماعية في قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر :

حرص الدستور المصري النافذ لسنة 1971 على كفالة العديد من الحقوق الاجتماعية. فقد قام بوضع أساس الديمقراطية الاجتماعية في مادتين:- المادة السابعة، التي جعلت المجتمع يقوم على التضامن الاجتماعي. والمادة الثامنة، التي أوجبت على الدولة أن تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين. ولقد تتابعت في دستور 1971 المواد التي تذهب الى إقرار العديد من الحقوق الاجتماعية. ففي المادة العاشرة ينص الدستور على أن: تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة وترعى النشأ والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم . وفي المادة الحادية عشر : تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة والرجل نحو الأسرة وعملها في المجتمع ومساواتها بالرجل .. والعمل بعد ذلك حق وواجب وشرف تكفله الدولة (م13) ، ويتمتع المحاربون القدماء والمصابون في الحرب أو بسببها وزوجات الشهداء وأبناؤهم بأولوية في فرص العمل (م15) . وتكفل الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية ، وتعمل بوجه خاص على توفيرها للقرية في يسر وانتظام (م16) . كما تكفل خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعاً (م17). والتعليم حق تكفله الدولة ، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية (م18). والنصوص في معظمها توجيهية ، تحتاج إلى تدخل البرلمان لاصدار تشريعاته بصددها ووضعها موضع التنفيذ ، على ان لا تخالف هذه التشريعات النصوص الدستورية والا تعرضت للحكم عليها بعدم الدستورية . ولما كانت الأحكام الصادرة بعدم الدستورية في مجال الحقوق والحريات الاجتماعية من الكثرة بحيث تستعصي على الحصر – نظراً لتنوع الحقوق الاجتماعية – لذا فاننا سنكتفي بإيراد البعض منها كأمثلة على دورها البارز في هذا المجال. أولاً: حق التعليم وحظر التمييز في المجال التعليمي.

أدت المحكمة الدستورية العليا دوراً بارزاً في حماية الحق في التعليم من خلال إبطالها للعديد من النصوص التشريعية التي حاولت إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه. ويتضح ذلك من خلال أحكامها الآتية:-

أ. حكمها الصادر في 1/2/1992 ، بعدم دستورية القرار الصادر من المجلس الأعلى للجامعات بتاريخ 20 سبتمبر 1984 ، فيما تضمنه من قبول افراد الفئات المشار إليها فيه ، في الكليات والمعاهد العالية بمجموع يقل عن الحد الأدنى للقبول العادي في كل كلية بما لا يجاوز 5% من مجموع الدرجات في شهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها. وقد استندت المحكمة الدستورية العليا إلى الأسس الآتية في حكمها اعلاه:-

1-ان كفالة الدستور لحق التعليم انما جاء انطلاقاً من حقيقة ان التعليم يعد من أهم وظائف الدولة وأكثرها خطراً – وأنه أداتها الرئيسية التي تنمي في النشأ – القيم الخلقية والتربوية والثقافية وتعده لحياة أفضل يتوافق فيها مع بيئته ومقتضيات انتمائه إلى وطنه ويتمكن في كنفها من اقتحام الطريق إلى افاق المعرفة وألوانها المختلفة.

2-أن الحق في التعليم – الذي أرسى الدستور أصله – فحواه أن يكون لكل مواطن الحق في ان يتلقى قدراً من التعليم يتناسب مع مواهبه وقدراته – وأن يختار نوع التعليم الذي يراه اكثر اتفاقاً وميوله وملكاته – وذلك كله على وفق القواعد التي يتولى المشرع وضعها تنظيماً لهذا الحق بما لا يؤدي إلى مصادرته أو الانتقاص منه – وعلى الا تخل القيود التي يفرضها المشرع في مجال هذا التنظيم بمبدأي تكافؤ الفرص والمساواة امام القانون اللذين تضمنهما الدستور بما نص عليه في المادة 8 من أن “تكفل الدولة تكافؤ الفرص والمساواة لجميع المواطنين” وفي المادة 40 “المواطنون لدى القانون سواء – وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة – لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة” .

3-لما كانت الدولة مسؤولة عن كفالة التعليم العالي الذي يخضع لإشرافها حسبما نصت عليه المادة 18 من الدستور ، وكانت الفرص التي تلتزم بأن تتيحها للراغبين في الالتحاق بالتعليم العالي ، مقيدة بإمكانياتها الفعلية التي قد تقصر عن استيعابهم جميعاً بكلياته ومعاهده المختلفة ، فإن السبيل إلى فض تزاحمهم وتنافسهم على هذه الفرص المحدودة ، لا يتأتى الا بتحديد مستحقيها وترتيبهم فيما بينهم على وفق شروط موضوعية ترتد في أساسها إلى طبيعة هذا التعليم وأهدافه ومتطلبات الدراسة فيه ، ويتحقق بها ومن خلالها التكافؤ في الفرص والمساواة لدى القانون ، بما يتولد عن تلك الشروط في ذاتها من مراكز قانونية متماثلة تتحدد على ضوئها ضوابط الأحقية والتفضيل بين المتزاحمين في الانتفاع بهذه الفرص ، بحيث إذا استقر لأي منهم الحق في الالتحاق باحدى الكليات او المعاهد العالية على وفق هذه الشروط ، فلا يحل من بعد أن يفضل عليه من لم تتوافر فيه ، وإلا كان ذلك مساساً بحق قرره الدستور (1).

ب. وحكمها الصادر في 7/4/2001 ، بعدم دستورية نص الفقرة (ب) من المادة (11) من اللائحة الداخلية لكلية الطب بجامعة الاسكندرية – مرحلة البكالوريوس – الصادرة بقرار وزير التعليم رقم 1479 في 24/9/1996 ، فيما تضمنه من بقاء الطالب للإعادة في الفرقة الثانية وعدم نقله إلى السنة الثالثة اذا رسب في غير العلوم الطبية المقررة في المرحلة الاولى.

وأستندت المحكمة في حكمها هذا الى الأسس الآتية:-

1-المادة 18 من الدستور تنص على أن “التعليم حق تكفله الدولة .. وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي ، وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والانتاج ” وكفالة الدستور لحق التعليم – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – انما جاء انطلاقاً من حقيقة أن التعليم يعد من أهم وظائف الدولة ، وأكثرها خطراً ، بحسبانه أداتها الرئيسية في تنمية القيم الخلقية والتربوية والثقافية لدى النشأ والشبيبة ، إعداداً لحياة أفضل يتوافق فيها الإنسان مع بيئته ومقتضيات انتمائه إلى وطنه ، ويتمكن في كنفها من اقتحام الطريق إلى آفاق المعرفة والوانها المختلفة.

2-لما كانت الدولة مسؤولة عن كفالة حق التعليم ، وكانت العلوم الطبية الأساسية هي عماد التعليم في المرحلة الأولى من الدراسة بكلية الطب ، فان تقييد انتقال الطالب إلى المرحلة الثانية من هذه الدراسة بأمر اخر غير النجاح في تلك العلوم ، يعني إهدار عام جامعي كامل في دراسة صنوف من العلوم أدنى إلى المواد الثقافية ، ولا تربطها صلة عضوية بالدراسات الطبية ، ونزفاً لموارد الجماعة التي توجهها إلى هذا النوع من التعليم . وتعطيلاً لثروتها البشرية ، بما يناقض حقيقة أن سلطة المشرع في تنظيم الحق في التعليم مقيدة بأن يكون هذا التنظيم على وفق شروط موضوعية ترتد في أساسها إلى طبيعة هذا التعليم، ومتطلبات الدراسة فيه ، وما يرنو اليه المجتمع من ورائه.

3-ان التعليم بقدر ما هو حق للفرد على مجتمعه ، فانه – وبذات القدر – أداة هذا المجتمع إلى التقدم والنماء ، وإذ لم يلتزم النص المطعون فيه – هذه القاعدة ، وعد الرسوب في غير العلوم الأساسية الطبية قيداً على النجاح والنقل إلى الفرقة الثالثة بكلية الطب جامعة الاسكندرية من دون نظيراتها من كليات الطب بالجامعات الأخرى ، متحيفاً الحق في التعليم ، ومتنكباً بالتالي الهدف الذي ابتغاه الدستور من تقريره ، ومنتهكاً مبدأ المساواة في هذا الحق، فإنه يكون من ثم مخالفاً لحكم المادتين (18،40) من الدستور (2).

ثانياً: الحق في التأمين الاجتماعي .

في مجال حماية الحق في التأمين الاجتماعي برز دور المحكمة الدستورية العليا ، حيث أرست العديد من المبادئ التي تكفل الحماية الفعالة لهذا الحق ، بما يفي للمواطنين باحتياجاتهم الضرورية التي يتحررون بها من العوز ، وينهضون معها بمسؤولية حماية أسرهم والارتقاء بمعاشها ، تحقيقاً للتكافل والتضامن بين أفراد المجتمع . ومن أحكامها بهذا الصدد:-

أ. حكمها الصادر في 4/12/1999 ، بعدم دستورية عجز الفقرة الأولى من المادة 197 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983 فيما نصت عليه من “ويخفض المعاش إلى النصف بالنسبة للمحامين العاملين بأحكام قانون التأمين الاجتماعي وذلك عن كل سنة من سنوات التأمين الاجتماعي”. ومن المبادئ المهمة التي أرستها المحكمة في هذا الحكم ، هي :-

1-إن مبدأ مساواة المواطنين امام القانون – وبقدر تعلقه بالحدود التي تباشر فيها هذه المحكمة ولايتها – مؤداه ، انه لا يجوز أن تخل السلطتان التشريعية أو التنفيذية في مجال مباشرتهما لاختصاصاتهما التي نص عليها الدستور بالحماية المتكافئة للحقوق جميعها ، سواء في ذلك تلك التي قررها الدستور أو التي ضمنها المشرع . إذ كان ذلك ، وكان النص المطعون فيه قد مايز بين فئتين من المحامين الذين اكتملت في شأنهم شرائط استحقاق المعاش الكامل ، إحداهما تلك التي يباشر أفرادها المحاماة لحسابهم الخاص وأخراهما هي التي يمارس أفرادها المحاماة بالتبعية للجهات التي يعملون فيها ، والمعاملين – من ثم – بنظام التأمين الاجتماعي ، من دون أن يستند هذا التمييز إلى أسس موضوعية ، ذلك أنه اختص الفئة الأولى بصرف الحق التأميني كاملاً بينما حجب عن الفئة الثانية نصف هذا الحق ، ومن ثم فإن إقامة ذلك التمييز التحكمي بين الفئتين يكون مناقضاً للمساواة التي فرضتها المادة 40 من الدستور.

2-إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – هو إطلاقها ما لم يقيدها الدستور بقيود معينة تبين تخوم الدائرة التي لا يجوز أن يتدخل المشرع فيها هادماً لتلك الحقوق أو مؤثراً في محتواها بما ينال منها ، فلا يكون تنظيم المشرع لحق ما سليماً من زاوية دستورية إلا فيما وراء هذه الحدود ، فإن اقتحمها بدعوى تنظيمها إنحل عدواناً عليها. متى كان ذلك ، وكان النص المطعون فيه قد توخى اقتطاع نصف ما استحقه المؤمن عليهم – الذين عناهم – من المعاش ، مخلاً بذلك – بمركزهم القانوني الذي اكتملت في شأنهم شرائط تكوينه ، بما مؤداه حرمان هؤلاء المؤمن عليهم مزية تأمينية كفلتها أحكامه ، مخالفاً بذلك ما استهدفه الدستور من ضمان حق المواطن في المعاش.

3-إن الحماية الخاصة التي كفلها الدستور لحق الملكية الخاصة ، تمتد إلى كل حق ذي قيمة مالية ، سواء أكان حقاً شخصياً ام عينياً ، ام كان من حقوق الملكية أو الأدبية أو الصناعية، وهو ما يعني اتساعها للأموال بقدر عام . وكان النص المطعون فيه قد أنتقص – دون مقتض – من الحقوق التي تثرى الجانب الايجابي للذمة المالية للمخاطبين بحكمه ، فإنه يكون قد انطوى بذلك على عدوان على الملكية الخاصة بالمخالفة للمادتين 32،34 من الدستور (3).

ب. وحكمها الصادر في 14/12/2003 ، أولاً: بعدم دستورية نص البند “2” من المادة 106 من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 . وثانياً: بعدم دستورية نص البند “4” من المادة 112 من القانون المذكور فيما لم يتضمنه من أحقية الزوج في الجمع بين معاشه عن زوجته وبين معاشه بصفته منتفعاً بأحكام هذا القانون ، وكذا الجمع بين معاشه عن زوجته وبين دخله من العمل او المهنة وذلك دون حدود . وقد استندت المحكمة الدستورية العليا في حكمها هذا على الأسس الآتية:-

1- إن مبدأ مساواة المواطنين امام القانون يعد ركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها. وأساساً للعدل والسلام الاجتماعي ، غايته صون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها ، أو تقيد ممارستها ، وباعتباره وسيلة لتقرير الحماية المتكافئة للحقوق جميعها ، إلا أن مجال إعماله لا يقتصر على ما كفله الدستور من حريات وحقوق وواجبات ، بل يمتد – فوق ذلك – إلى تلك التي يقررها التشريع . وإذا كانت صور التمييز المجافية للدستور يتعذر حصرها إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون. أو يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً للانتفاع بها.

2- إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة ، أن مناط دستورية أي تنظيم تشريعي أن لا تنفصل نصوصه أو تتخلف عن أهدافها ، ومن ثم فاذا قام التماثل في المراكز القانونية التي تنتظم بعض فئات المواطنين وتساووا بالتالي في العناصر التي تكونها ، استلزم ذلك وحدة القاعدة القانونية التي ينبغي ان تنتظمهم ، ولازم ذلك ، أن المشرع عليه أن يتدخل دوماً بأدواته لتحقيق المساواة بين ذوي المراكز القانونية المتماثلة . أو لمعالجة ما فاته في هذا الشأن . و تطبيقاً لما سلف فان قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 وإن وحد بين الزوج والزوجة الخاضعين لأحكامه سواء في حقوقهما التأمينية أم التزاماتهما المالية وفي الأسس التي يتم على ضوئها حساب معاشيهما ، إلا أنه حين نظم شروط استحقاق كل منهما للمعاش المستحق عن الاخر أضاف بالنسبة للزوج بنص المادة 106/2 شرطاً مؤداه أن يكون عاجزاً عن الكسب ، ثم قرر بنص المادة 112/4 أحقية الأرملة في الجمع بين معاشها عن زوجها وبين معاشها بصفتها منتفعة بأحكام هذا القانون . من دون تقرير ذات الحق للزوج ، وهما النصان محل الطعن الماثل ، ومن ثم يكون قد أقام في هذا المجال تفرقة غير مبررة مخالفاً بذلك مبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور (4).

_____________________

([1]) حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 41 لسنة 7 قضائية “دستورية” ، جلسة 1 فبراير 1992 ، مجموعة أحكام م . د. ع ، الجزء الخامس – المجلد الاول – ، ص132 وما بعدها

(2) حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 18 لسنة 22 قضائية “دستورية” ، جلسة 7 أبريل 2001 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء التاسع ، ص888 وما بعدها ، وللمحكمة الدستورية العليا أحكام عديدة بعدم الدستورية في مجال حماية الحق في التعليم ، منها :-

القضية رقم 106 لسنة 6 قضائية “دستورية” ، جلسة 29 يونيو 1985 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الثالث ، ص229 وما بعدها ، والقضية رقم 40 لسنة 16 قضائية “دستورية” ، جلسة 2 سبتمبر 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السابع ، ص194 وما بعدها

(3) حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 99 لسنة 20 قضائية “دستورية” ، جلسة 4 ديسمبر 1999 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء التاسع ، ص409 وما بعدها

(4) حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 14 ديسمبر 2003 ، ورد كاملاً في مجلة الدستورية ، العدد الخامس ، السنة الثانية ، أبريل 2004 ، ص ص62-63 ، ومن أحكام المحكمة الدستورية العليا في مجال حماية الحق في التامين الاجتماعي : القضية رقم 16 لسنة 15 قضائية “دستورية” ، جلسة 14 يناير 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الخامس – المجلد الأول – ، ص103 وما بعدها ، والقضية رقم 1 لسنة 18 قضائية “دستورية” ، جلسة 9 سبتمبر 2000 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء التاسع ، ص721 وما بعدها

دور الحكم بعدم الدستورية في حماية الحقوق والحريات الاجتماعية في القضاء الدستوري العراقي :

نص القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 في المادة 16 منه على حق الطوائف المختلفة في تأسيس المدارس لتعليم أفرادها بلغاتها الخاصة والاحتفاظ بها على شرط ان يكون ذلك موافقاً للمناهج العامة التي تعين قانوناً. ونص في مادته الثامنة عشر على الحق في تقلد الوظائف العامة (العراقيون متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية … واليهم وحدهم يعهد بالوظائف العامة مدنية كانت ام عسكرية ، …) اما دستور 21 ايلول 1968 المؤقت، فقد تناول العديد من الحقوق الاجتماعية وأهمها حق العمل ، الذي نظمته المادة (11) فنصت على ان “العمل في الجمهورية العراقية حق وواجب وشرف لكل مواطن قادر ، والوظائف العامة تكليف للقائمين بها ويهدف موظفو الدولة في إداء اعمالهم ووظائفهم الى خدمة الشعب ” . كما نظم حق الضمان الاجتماعي الذي نصت عليه المادة (9/ب) بقولها “تكفل الدولة خدمات الضمان الاجتماعي، ويكون للعراقيين الحق في المعونة في حالة الشيخوخة والمرض والعجز والبطالة”. وكذلك نصت المادة (9/آ) على أن “تكفل الدولة دعم الأسرة وحماية الطفولة والأمومة وفقاً للقانون”. ومن بين الحقوق الاجتماعية المهمة التي ضمنها الدستور ، حق التعليم الذي نصت عليه المادة (35) بقولها : “التعليم حق للعراقيين جميعاً تكفله الدولة بانشاء المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات الثقافية والتربوية ويكون التعليم فيها مجاناً وتهتم الدولة خاصة برعاية الشباب بدنياً وعقلياً وخلقياً”. كما لم يغفل الدستور عن تنظيم حق الرعاية الصحية ، فجاء في المادة (37) ان “الرعاية الصحية حق تكفله الدولة بانشاء المستشفيات والمؤسسات الصحية وفقاً للقانون”. اما قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 ، فقد نصت المادة الرابعة عشر منه على ان: “للفرد الحق بالأمن والتعليم والعناية الصحية والضمان الاجتماعي، وعلى الدولة العراقية ووحداتها الحكومية وبضمنها الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية ، بحدود مواردها ومع الاخذ بالاعتبار الحاجات الحيوية الاخرى ان تسعى لتوفير الرفاه وفرص العمل للشعب”. وبالنسبة إلى دستور جمهورية العراق النافذ لسنة 2005 فقد خصص الفرع الثاني من الفصل الأول للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . فنصت المادة (22) منه على حق العمل وجعله لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة. كما وخصص المادة (29) منه لحقوق الأسرة فبين في الفقرة أولاً ان الأسرة أساس المجتمع ، وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والاخلاقية والوطنية، وان الدولة تكفل حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشأ والشباب، وأعطت للاولاد حق على والديهم في التربية والرعاية والتعليم ، وللوالدين حق على اولادهم في الاحترام والرعاية ، كما وحظرت جميع صور الاستغلال الاقتصادي للأطفال وكل أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمدرسة والمجتمع. اما المادة (30) فقد نصت على ان تكفل الدولة للفرد والأسرة – ولاسيما الطفل والمرأة – ، الضمان الاجتماعي والصحي ، والمقومات الأساسية للعيش في حياة كريمة. كما وكفلت الضمان الاجتماعي والصحي لكافة العراقيين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز أو التشرد أو اليتم او البطالة. وذهبت المادة (31) إلى أن لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية ، وتعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل توفير وسائل الوقاية والعلاج. ونصت المادة (32) على أن ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة ، وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع . اما المادة (33) فقد كفلت الدولة بموجبها حماية البيئة والتنوع الاحيائي والحفاظ عليهما ، وان لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة. اما حق التعليم فقد نصت عليه المادة (34) من الدستور على ان التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة ، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية ، وتكفل الدولة مكافحة الامية. كما نصت على ان التعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله . اما التعليم الخاص والأهلي مكفول وينظم بقانون….

دور الحكم بعدم الدستورية في حماية الحقوق والحريات الاجتماعية في قضاء المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية :

أدت المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية دوراً بارزاً في حماية الحقوق والحريات الاجتماعية ، لاسيما الحق في التعليم وحظر التمييز في المجال التعليمي ، والحقوق الزوجية والعائلية.

أولاً : الحق في التعليم وحظر التمييز في المجال التعليمي .

في عام 1938 ، بدأت المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية التخفيف من الفصل العرقي في مؤسسات التعليم العالي والمهني ، والخروج على مبدأ ” الفصل مع المساواة ” (1) في قضية Missouri exrel. Gaines v. Canda ، حكمت المحكمة في هذه القضية بعدم دستورية قانون ولاية Missouri ، الذي يحول دون قبول طالب أسود كفء بكلية حقوق مخصصة للبيض (ولم يكن هنالك كلية مناظرة للقانون على المستوى نفسه للسود في الولاية) (2). وفي عام 1950 ، في قضية Swealt v. Painter ، قررت المحكمة الاتحادية العليا ان كلية الحقوق المنفصلة للسود بجامعة تكساس ليست على قدم المساواة ، فيما يتعلق بالمكانة أو السمعة ، مع كلية الحقوق التي لا يلتحق بها إلا البيض بجامعة تكساس (3). الأمر الذي مهد الطريق لصدور القرار التاريخي في قضية Brown v. Board of Education (1954) (4). في قضية (Brown I) ، التي صدر الحكم فيها في 17 ما يو 1954 ، قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية الفصل العنصري في العملية التعليمية القائم على أساس العنصر ، والمخالف لشرط الحماية المتساوية التي نص عليها التعديل الرابع عشر من الدستور . وجاء في حكم المحكمة انه قد ” عرضت علينا هذه القضايا من ولايات تكساس وكارولينا الجنوبية وفرجينيا ودلاوار ، واذا كانت تلك القضايا تختلف باختلاف ظروف كل منها كما تختلف طبقاً لظروفها المحلية فان إشكالاً قانونياً عاماً يجمعها ، ففي كل هذه القضايا يسعى المتقاضون ، وهم من صغار الزنوج ، إلى ان تقوم المحاكم بمعاونتهم في الحصول على حق الالتحاق بالمدارس العامة بدون تفرقة عنصرية وفي كل هذه الحالات ، حرم هؤلاء الصغار من الالتحاق بالمدارس التي يدرس بها الاطفال البيض طبقاً لقوانين تبيح التفرقة العنصرية . ومن شأن هذه التفرقة حرمان الشاكين مما يتمتعون به من مساواة في حماية القوانين لهم تمشياً مع التعديل الرابع عشر في الدستور الأمريكي . … ويقول المدعون : ان المدارس العامة التي تطبق فيها التفرقة العنصرية ليست متساوية ولا يمكن جعلها متساوية ، ولذا فانهم محرومون من المساواة في حماية القوانين لهم ” (5). وهنا أخذت المحكمة في تعداد ما للتعليم من أهمية في ابراز المواطن الصالح مما القى عبء تنظيمه على الدولة وعلى الادارات المحلية . وتقول في ذلك : ” انه يجب عدم حرمان أي طفل من حق التعليم إذ أن التعليم يعده للحياة ، وما دامت (الدولة) قد أخذت على عاتقها تهيئة فرصة التعليم لكل المواطنين فيجب ان يمارس هذا الحق على قدم المساواة بالنسبة للجميع ” . وهنا تسأل المحكمة السؤال التالي : ” هل الفصل بين الاطفال في المدارس العامة على أساس العرق – حتى ولو بقيت المرافق المادية والعوامل ” الملموسة ” الاخرى متساوية ، يحرم الاطفال المنتمين إلى مجموعة أقلية من فرص تعليمية متساوية ؟ ” وتجيب المحكمة عن هذا التساؤل بقولها : انها تعتقد ذلك ، ولذلك تقول ، انها عندما أصدرت حكمها في القضية المعروفة Mclaurin v. Oklahoma State Regents ، هذا الحكم الذي يقضي بإباحة إتحاق طالب زنجي بمدرسة البيض مع معاملته مثل الطلبة الاخرين ، كان رائدها في ذلك ليس العوامل ” الملموسة ” ، بل الاعتبارات غير الملموسة ، وتسرد المحكمة هذه الاعتبارات بقولها انها ” قدرة الطالب على الدراسة وقدرته على المشاركة في المناقشات وتبادل وجهات النظر مع الطلبة الاخرين ، وبالاختصار قدرته على تعلم المواد المتصلة بمهنته ” . ثم تضيف المحكمة ” ان فصل هؤلاء الاطفال عمن هم في مثل أعمارهم ومؤهلاتهم بسبب العنصر وحده يولد شعوراً بالدونية بالنسبة لمكانتهم في المجتمع المحلي الأمر الذي قد يؤثر على قلوبهم وعقولهم بطريقة من المحتمل أن يصعب معها محو آثارها (6).. ونستنتج انه لا مكان في حقل التعليم العام للمفهوم الذي يقول : ” منفصل لكن متساو ” فالمرافق التعليمية المنفصلة بطبيعتها غير متساوية .. ولذلك بشكل عام يعد هذا الفصل إنكاراً لمبدأ الحماية المتساوية امام القوانين ” (7). وفي عام 1955 ، في قضية Brown v. Broad of Education (Brown II) ، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا حكمها بانهاء الفصل العنصري في المدارس العامة ، على ان يكون هذا الفصل ” باقصى سرعة ” ، حيث أمر رئيس المحكمة العليا Warren قضاة المحاكم الادنى مرتبة، ومجالس المدارس بان يعملوا ” بكل سرعة وتصميم ” على تطبيق مبدأ إلغاء الفصل العنصري في المدارس العامة (8). وكان نتيجة قضية (Brown II) عملية بطيئة من المقاومة في إلغاء التمييز العنصري ، وفي النهاية عدت المحكمة ” ان الاستمرار في إدارة مدارس ذات التمييز العنصري تحت راية السماح” ، لم يعد جائزاً دستورياً . وبمقتضى أحكام واضحة لهذه المحكمة ، ” فإن التزام كل منطقة مدرسية يتمثل بانهاء النظم المزدوجة فوراً ، وانه يجب من الان فصاعداً ان تدار جميع المدارس بطرق موحدة ” (قضية Alexander v. Hdmes Country Broad of Education 1969 ) . وفي حكم آخر لها تقول : ” واليوم اذا وجدت المحاكم ان نظاماً مدرسياً يطبق التمييز العنصري المتعمد بصفة رسمية ، فإن على النظام المدرسي واجباً حتمياً بإلغاء التمييز العنصري، وأن يتخذ أية خطوات ضرورية للتحول إلى نظام موحد تزال منه التفرقة العنصرية من جذورها ” (قضية Green v. Country School Bd. Of Newkent Country 1968) . وعدت المحكمة الاتحادية العليا ان ” أية تصرفات يتخذها مجلس أية مدرسة بمقتضى هذا الواجب الإلزامي ، يكون من اثره عرقلة إلغاء التمييز العنصري تنتهك الحماية المتساوية ” (قضية Wright v. Council of Emporia 1972 ) (9). وقد أيدت المحكمة العليا منح القضاة في القضايا المتعلقة بإلغاء الفصل العنصري في المدارس سلطات واسعة ، تشمل سلطة فرض برنامج نقل الطلاب في الباصات (City’s Busing Program or Busing) (10) على إدارات المدارس ، وذلك بغرض تأمين اندماج المدارس في المناطق المفصولة عرقياً ، وفرض حصص عرقية في مجالس الطلاب وهيئات التدريس . وأول قضية عرضت على المحكمة العليا بخصوص تطبيق هذا البرنامج هي قضية Swann v. Charlotte Mecklenburg Board of Education (1971) ، والتي ذهبت فيها المحكمة إلى أن ” التمييز العنصري الموجود في مدارس Charlotte كان نتيجة لسنوات من سياسات التمييز المتعمدة من قبل إدارات المدارس . والتي يجب ان يتم تصحيحها ، واذا كان تطبيق برنامج (نقل الطلاب في الباصات) هي الطريق لذلك ، فيجب حينئذ اتباعه وتنفيذه ” (11). كما حكمت المحكمة الاتحادية العليا في قضية North Carolina State Bd. Of Ed. v. Swann (1971) بان قوانين الولايات التي تمنع تطبيق برنامج (نقل الطلاب في الباصات) ، على الاقل عندما يكون الفصل العنصري موجوداً بصورة رسمية ، تعتبر غير دستورية . كما حكمت في قضية مشابهة Washington v. Seattle School dist No. 1 (1972) بانه ” عندما يغير التشريع العملية المعتادة لصنع قرارات السياسة المدرسية بحرمان مجلس أية مدرسة من سلطة الأمر باستخدام برنامج (نقل الطلاب في الباصات) ، فإن القانون يكون قائماً على الصفة العنصرية للسياسة ” (12). هذا وان حظر التمييز في المجال التعليمي الذي انتهجته المحكمة الاتحادية العليا من خلال أحكامها بعدم الدستورية لم يقتصر على التشريعات التي تكرس هذا التمييز بالنسبة للزنوج فقط ، وانما شمل جميع الطوائف والاقليات الاخرى الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية بما فيهم الأجانب، ففي عام 1982 قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية قانون لولاية تكساس يستثنى بموجبه الاطفال غير الحاملين لهويات ، المولودين من مهاجرين غير قانونيين ، من الدخول إلى المدارس الحكومية المجانية ، وأكدت المحكمة على أهمية التعليم بالنسبة لتطور الطفل في المستقبل(13). واخيرا لابد من الإشارة إلى أن دلائل التقدم التي أحرزت في مجال حظر التمييز التعليمي (سياسة الدمج العرقي وحماية حقوق الاقليات في التعليم) ، قد أضعفت في التسعينات من القرن العشرين ، حيث صدرت قرارات عديدة للمحكمة الاتحادية العليا في هذا الخصوص منها قرارها الصادر في 15 كانون الثاني 1991 في القضية Board of Education of Oklahoma City Public School V. Dowell ، والذي أجازت فيه للمحاكم الفيدرالية ان تنهي رقابتها على مجالس المدارس المحلية اذا ما بينت هذه الاخيرة حسن نيتها وإذعانها لأوامر المحكمة في تطبيق سياسة الدمج العرقي ، واستطاعت ان تثبت بان الآثار الماضية للتمييز العنصري قد أزيلت . وبهذا القرار تكون المحكمة العليا قد فتحت الباب للتراجع والانسحاب بصدد سياسة الدمج العرقي. ثم جاء الحكم في قضية Freeman v. Pitts (1992) ليثبت هذا التراجع ويفتح الباب بشكل اوسع له ، حيث أعطت المحكمة الاتحادية العليا في هذا الحكم للمحاكم الادنى اعظم تفاوت مسموح به لسحب اشرافها القضائي عن سياسة الدمج العرقي . واذا كان هناك أي شك بصدد سياسة المحكمة الاتحادية العليا الجديدة هذه ، فانها قد إزالته من خلال حكمها في القضية Missouri v. Tenkins (1995) ، والذي لفتت من خلاله انتباه المحاكم الأدنى إلى ضرورة التحرر من سياسة الدمج العرقي . وهذا يعد تهديداً واضحاً وصريحاً إلى المبدأ الأساسي الذي تم إرساءه وإقراره في قضية بروان التاريخية (1954) (14).

ثانياً : الحقوق الزوجية والعائلية .

حرصت المحكمة الاتحادية العليا على حماية الحقوق الزوجية والعائلية من خلال احكامها بعدم دستورية التشريعات التي تحاول انتهاكها او الانتقاص منها . في قضية Cleveland Bd. Of Education v. Lafleur (1977) ذكرت المحكمة الاتحادية العليا ان ” هذه المحكمة اعترفت منذ فترة طويلة بان حرية الاختيار الشخصي في مسائل الزواج والحياة العائلية هي احدى الحريات التي تحميها فقرة الإجراءات القانونية الأصولية الواردة في التعديل الرابع عشر ” (15). وعندما يلقي قانون ما أعباء مهمة على ممارسة الاختيارات في الزواج والحياة العائلية بغرض تنظيمها ، فإن على المحكمة أن تبحث بعناية مصلحة الحكومة في هذا التنظيم ، والمدى الذي يخدمها فيه . وقد لجأت المحكمة الاتحادية العليا في قضية Moore v. City of East Cleveland ، Ohio (1977) إلى الحكم بعدم دستورية قانون محلي يحدد شغل المنازل لا فراد أسرة واحدة نتج عن تطبيقه استبعاد حفيد لجدة يعيش معها في المنزل نفسه ، وذلك لاعتبار هذا القانون مخالفاً لمبدأ الإجراء الواجب اتباعه (لحماية حقوق الأسرة) الوارد في التعديل الرابع عشر . وقد جاء في قرار المحكمة ” إن قرارتنا تثبت أن الدستور يحمي حرمة الأسرة تماماً لأن مؤسسة الأسرة راسخة بعمق في تاريخ وتقاليد هذه الأمة . فمن خلال الأسرة نغرس وننقل الكثير من أكثر قيمنا الاخلاقية والثقافية إعزازاً ” ، كما أن هذه الحماية المتساوية لم تكن مقصورة على الأسرة النواة ، بل إلى تقاليد الأسرة الممتدة التي ” لها جذور موغلة جديرة بالاعتراف الدستوري على حد سواء ” (16). ومن القضايا العائلية التي عملت المحكمة الاتحادية العليا على معالجتها ضمن أحكامها بعدم الدستورية هي مشكلة الاباء غير الشرعيين في الولايات المتحدة الأمريكية ، نظراً لتزايد العلاقات غير الشرعية وما ينجم عنها من أطفال ، وعادة ما تتمثل القضايا المتعلقة بالآباء غير الشرعيين في طعون على قوانين الولاية بعدم دستوريتها لانتهاكها للتعديل الرابع عشر من الدستور لمعاداتها للأب لصالح الام بالرغم من وحدة المركز القانوني لكليهما . ولا جدال في أن القوانين التي تحكم العلاقة الأسرية هي نتاج المجتمع الذي ولدت فيه ، وفي القانون الانكليزي تعطى الحضانة للآباء مقتصرة عليهم ، والأم يصلها بالطبع كامل الحب والاحترام من أطفالها اما الحضانة فهي للأب . ولم تتبع المحاكم الأمريكية وجهة النظر الانكليزية السالفة ، إذ رفضت فكرة الحضانة المقصورة على الأب من دون الام . وعلى الرغم من أحقية الولايات في تمتع قوانينها الأسرية بقرينة الدستورية إلا انه حال انطوائها على إخلال بالحماية المتساوية ، فإنه على الولاية حينئذ واجب إظهار أن التفرقة كانت ضرورية لحماية مصلحة ملحة لها وإلا كان النص غير دستوري (17). ففي قضية Caban v. Mohammed (1978) طعن الأب غير الشرعي على إعطاء الأم وزوجها الجديد حق تبني أطفاله وحرمانه هو من هذا الحق بموجب أحكام المادة 111 من قانون العلاقات الأسرية الذي ينص على ذلك ، ورأى ان هذه المادة تنتهك حقوقه الدستورية في الحماية المتساوية والإجراء الواجب اتباعه قانوناً . ورأت ولاية نيويورك والأم ” المدعى عليهما ” أن القانون يتفق مع أحكام الدستور ، إذ ان دافعه هو تحقيق أفضل مصلحة للأطفال . ورفضت المحكمة الاتحادية العليا هذا التفسير وأكدت بداءة انها لا تنكر حق الولاية في وضع التشريع الذي يحمي العلاقة الحميمة بين أحد الأبوين وأطفاله ، إذ ان هذا الهدف من الأمور القيمة التي تستأهل الإشادة ، إلا انها ذهبت إلى فشل الولاية في إظهار العلاقة المنطقية التي تربط بين المعاملة المختلفة للأب غير الشرعي ومصلحة الولاية في توفير الرعاية عن طريق التبني لاطفاله غير الشرعيين . وبمعنى آخر فإنه لا يوجد دليل يثبت أن إعطاء الأب ذات الفرصة المعطاة للأم في التبني سوف يعرقل تلك الإجراءات . وهكذا خلصت المحكمة إلى أن حرمان الأب دون الأم من السير في إجراءات التبني هو أمر يستند إلى الجنس فحسب وليس لأي سبب آخر ، ومن ثم ينتهك فقرة الحماية المتساوية المنصوص عليها بالتعديل الرابع عشر ” لا يحق لأي ولاية أن تحرم شخصاً من الحياة أو الحرية أو الممتلكات بدون تطبيق القانون على الوجه الأكمل ، ولا يحق لها ان تحرم أي شخص داخل نطاق سلطاتها من المساواة في الحماية امام القانون ” (18). كما عملت المحكمة الاتحادية العليا على حماية حق الزواج ضد التشريعات المبنية على أسس عنصرية وذلك من خلال الحكم بعدم دستوريتها ، وخير مثال يمكن سوقه في هذا المجال هو قضية Loving v. Virginia (1967) ، حيث حكمت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية قانون ولاية فرجينيا الذي يمنع الزواج بين أجناس مختلفة ، لانتهاكه لمبدأي الحماية المتساوية والإجراء الواجب اتباعه قانوناً الواردين في التعديل الرابع عشر . وجاء في قرار المحكمة ” أن حرية الزواج كان معترفاً بها منذ زمن بعيد باعتبارها واحدة من الحقوق الشخصية الحيوية واللازمة للسعي المنظم نحو السعادة من جانب الافراد الاحرار . والزواج أحد الحقوق المدنية الأساسية للإنسان وهو أساسي لوجودنا ذاته وبقائنا . وهو حق حيوي للغاية لا يمكن الانتقاص منه بواسطة قوانين تستهدف تحقيق تفرقة عنصرية بغيضة . والمسائل المماثلة تتصرف فيها المحكمة غالباً بمقتضى مبدأ الحماية المتساوية الوارد في التعديل الرابع عشر”(19).

_____________________________

([1]) في أواخر الثمانينات من القرن التاسع عشر أصدرت العديد من الولايات قوانين مؤداها فصل السود عن البيض في المرافق العامة . ففي عام 1890 ، على سبيل المثال ، أصدرت ولاية لويزيانا قانوناً يقضي بوجود وسائل نقل في السكك الحديدية منفصلة ولكن متساوية للسود والبيض . وجاء التحدي لهذا القانون بعد عامين . حيث اعترض Homer Adolph Plessy ، الذي كان من أصل أسود ، على قانون لويزيانا برفضه أن يترك مقعداً في عربة البيض في القطار الذي كان مسافراً من نيو أورليانز الى وفينجتون بولاية لويزيانا . وبالقبض عليه واتهامه بخرق التشريع البرلماني ادعى Plessy أن هذا القانون غير دستوري لخرقه فقرة الحماية المتساوية الواردة في التعديل الرابع عشر . وفي قضية Plessy v. Ferguson (1896) أقرت المحكمة العليا تشريع لويزيانا . ومن ثم أسست المحكمة سياسة ” التفرقة مع التساوي ” والتي استمر العمل بها حوالي ستين عاماً . وخلال هذه المدة عمدت ولايات عديدة من خلال قوانينها على ان تجلس الاجناس المختلفة في أماكن مختلفة في الحافلات والقطارات ومواقف الحافلات والمسارح ، وكان يمنع السود من دخول المطاعم والمكتبات العامة . وربما الأهم من ذلك ان التلاميذ كانوا عادةً يلتحقون بالمدارس الأدنى درجة .

انظر روبرت أ. كارب ورونالد ستيدهام ، الاجراءات القضائية في أمريكا ، مرجع سابق ، ص 46 ، وانظر ايضاً

Connor (Karen O.) and Sabato (Larry J. ); The Essentials of American Government (Continuity and Change ) ، Longman ، Inc. ، 2002 Edition، P. 137

(2)Epstein (Lee) and Walker (Thomas G. ); Costitutional Law for Changing America، Ibid، P. 634.

(3)Swealt v. Painter 339 U.S 629 (1950)

نقلا عن Ibid ، pp. 636 – 637

(4)Brown v. Board of Education (I) 347 U.S 483 (1954)

نقلا عن Ibid، P. 638

(5) Epstein (Lee) and Walker (Thomas G.); Ibid ، P. 638 – 641

(6) اعتمدت المحكمة في رأيها هذا على عدد من الدراسات النفسية والاجتماعية التي اجريت في هذا المجال .

Mckenna (George) ; the Drama of Democracy (American Government and Politics)، 3ed Ed. ، Mc Graw Hill ، Boston، 1998، P. 146

(7) Ibid ، pp. 640 – 641

(8)Brown v. Board of Education of Topeka Kansas (Brown II)، 349 U.S. 294 (1955) “ To admit to public Schools on aracially non – discriminatory basis with all delibrate speed”، Lowi (Theodore J.) and Ginsberg (Benjamin); American Governement (Freedom and power) ، 5th . Ed.، W.W. Norton & Company Inc. ، New York ، 1998، P. 135

(9) انظر جيروم أ. بارون و س. توماس دينيس ، الوجيز في القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص 204

(10) يقضي هذا البرنامج بان ينقل عدد من الطلبة الافارقة الامريكيين (الزنوج) في المدارس التي غالبيتها من الزنوج الى المدارس التي تكون غالبيتها من الطلبة البيض في ضواحي المدينة ، ونقل عدد من الطلبة البيض في المدارس التي تكون غالبيتها من البيض الى داخل مدارس المدن التي تكون غالبيتها من الطلبة السود عادة وذلك بغرض تطبيق سياسة الدمج العرقي . انظر في ذلك Mckenna (George ) ; the Drama of Democracy ، Ibid ، P. 146

([1]1)Swann v. Charlotte Mecklenbery Board of Education، 402 U.S. 1 (1971)

Ibid ، PP. 146 – 147

(2[1]) انظر جيروم أ. بارون و س. توماس دينيس ، الوجيز في القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص 206

(3[1]) انظر تينسلي باريرو ، حماية حقوق الاقليات ، أوراق ديمقراطية ، رقم 11 ، صادر عن المكتب الاعلامي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية ، واشنطن ، 2001 ، ص 4

(4[1]) Board of Education of Oklahoma City Public School v. Dowell، 111 S.Ct. 630 (1991)،

Freeman v. Pitts، 503 U.S. 467 (1992)

Missouri V. Jenkins ، 115، S.Ct. 2038 (1995)

نقلا عن Lowi (Theodore J.) and Ginsberg (Benjamin); American Government ، Ibid، PP. 141 – 142

(5[1])Gleveland Bd. Of Ed. v. Lafleur ، 414 U.S. (1947)

انظر جيروم أ. بارون ، و س. توماس دينيس ، الوجيز في القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص 174

(6[1])Moore v. City of East Cleveland، Ohio، 431 U.S. 424 (1977)

نقلا عن المرجع السابق نفسه ، ص 175

(7[1]) انظر د. هشام محمد فوزي ، رقابة دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص 145

(8[1])Caban v. Mohammed، 441 U.S. 380 (1978)

انظر د. هشام محمد فوزي ، رقابة دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص 146

(9[1])Loving v. Virginia، 388 U.S. 1 (1967)

انظر Epstein (Lee) and Walker (Thomas G. ); Constitutional Law for Achanging America، Ibid، PP. 656 – 660

المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .