الجريمة والعقاب

الجزء الاول ـ الظاهرة الاجرامية

فارس حامد عبد الكريم

كان لتمثال اله الحرب ( كانيوس Janus) في الامبراطورية الرومانية وجهين ، الاول يتجه الى خارج حدود روما حيث يتربص بها العدو الاجنبي . بينما يتوجه وجهه الاخر نحو روما حيث يتربص بأبنائها العدو المحلي (المجرم) (1) . وكان الرومان يؤمنون ايماناً راسخاً بأنهم لن يستطيعوا الصمود امام العدو الاجنبي مادام السوس ينخر في داخلهم.

اثارت الجريمة والظاهرة الاجرامية اهتمام الانسان منذ القدم خاصة وان الحياة الانسانية على البسيطة ابتدأت بجريمة عندما قام قابيل بقتل اخيه هابيل . وبفعله هذا الذي ندم عليه فيما بعد ندماً شديداً ، يكون قد اعلن عن فتح باب الصراع الازلي بين الخير والشر الذي ما برح مستمراً ليوما هذا وسيستمر لا محالة مادام الانسان موجوداً الى جانب اخيه الانسان الاخر.

وقد نظمت القوانين القديمة قواعد الجريمة والعقاب ومنها ، قانون اورـ نمو وقانون حمورابي ( حوالي القرن العشرين قبل الميلاد ) وسارت على ذات النهج قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م) . كما ونظمت بعض الاديان السماوية وغير السماوية قواعد الثواب والعقاب بالنسبة لاعمال المكلفين . قال تعالى ( وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (2) . أي أن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها القدرة على التمييز بين الفجور والتقوى .

ولهذا فان الظاهرة الاجرامية ظاهرة تاريخية وواقعية وحقيقة انسانية دائمة ،لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات في كل زمان ومكان ولا يمكن انهائها مطلقاً الا انه يمكن الحد منها الى مستويات مقبولة .

وتثير الجريمة اهتمام وانتباه كل الناس على حد سواء ، بل ان اخبار الجرائم والروايات التي تتناول الظاهرة الاجرامية هي الاكثر انتشاراً وتوزيعاً في الاوساط العامة من بين ما عداها من اخبار وروايات .

ان السبب في ذلك حسب اعتقادنا هو الاحساس العام بان الجريمة تمس شعور كل فرد من افراد المجتمع ولو لم تقع عليه الجريمة مباشرة ، فالجريمة ابتداءاً ،هي اعتداء على فكرة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التضامن بين ابناء المجتمع فضلا عن انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح والقيم داخل المجتمع بما تمثله من اعتداء على تلك المصالح والقيم .

ان اولى الابتكارات البشرية لمواجهة الجريمة بشكل واقعي هو القانون ، فقد اولت التشريعات القديمة اهمية قصوى لتحديد الجرائم والعقوبات التي تناظرها ، وكانت العقوبات في تلك القوانين بدائية وقاسية جداً . ويذهب عالم الاجتماع اميل دوركهايم الى ان دراسة التاريخ تؤكد انه كلما اقترب المجتمع من التحضر كانت العقوبة اقرب الى الرحمة ، وكلما كان المجتمع متخلفاً برزت العقوبات البدائية التي تتميز بالعنف والقسوة ،كما ان العقوبات تكون مشددة وقاسية كلما كانت السلطة مركزية اقوى . ومن ذلك ان العقوبات في النظم الدكتاتورية تكون ذات طبيعة انتقامية لدرجة الوحشية .

ان تطور النظم القانونية والعلمية التي تواجه الجريمة قد قابله في ذات الوقت تطور على ذات المستوى في الاساليب الاجرامية ، فقد دخل العلم والتكنولوجيا والتنظيم المؤسسي الحديث عالم الاجرام واصبحت للجريمة منظمات دولية تمارس العمليات الاجرامية عبر القارات .

وكتعبير عن اهتمام الانسان بالجريمة تناولت الاساطير القديمة الظاهرة الاجرامية وفسرتها بطريقتها السحرية الميتافيزيقية ، وفي القرون الوسطى ساد الاعتقاد بان سبب الجريمة هو الارواح او الشياطين الي تتلبس الانسان فيتحول بالنتيجة الى مجرم .

وفي العصور الحديثة كانت الجريمة والظاهرة الاجرامية محل دراسة علوم مختلفة فقد اهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والقانون بدراسة وتحليل الظاهرة الاجرامية مما ادى الى نشوء علم مستقل هو علم الاجرام الذي تفرع بدوره الى ثلاثة فروع علمية تدرس الظاهرة الاجرامية هي علم الانثروبولوجيا الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي ،كما اهتم العلماء في مختلف الاختصاصات العلمية بايجاد الوسائل العلمية والتكنلوجية اللازمة لرصد الجريمة وتتبع اثارها وصولاً الى الكشف عنها .

ان اعتماد المنهج العلمي التجريبي في علم الاجرام يقتضي تحديد اوجه الظاهرة الاجرامية ، والحال ان للظاهرة الاجرامية وجهين ، وجه اجتماعي تبدو فيه الجريمة ظاهرة اجتماعية . ووجه فردي تبدو فيه الجريمة ظاهرة فردية تتمثل بالانسان المجرم ، كما ان للعلم الحديث دوره في رصد الجريمة والظاهرة الاجرامية .

المبحث الاول ـ الاجرام والظاهرة الاجرامية :

ان من بين اهم الوسائل اللازمة لمكافحة الظاهرة الاجرامية هو دراستها دراسة علمية وتحديد خصائصئها وعناصرها وصولا الى تحديد الخصائص المشتركة بين جميع الظواهر الاجرامية ، مما يسهل عملية تشخيص الظاهرة الاجرامية من قبل المختصين ورجال الشرطة وملاحقة مرتكبيها والقاء القبض عليهم لينالوا جزاءهم العادل على يد القضاء على ما ارتكبوه من جرائم بحق ابناء مجتمعهم او الاسرة الدولية عموماً .

تعريف الظاهرة الاجرامية : يمكننا تعريف الظاهرة الاجرامية بانها، مشروع اجرامي احترافي يقوم على تكرار وقوع نوع معين من الجرائم، باسلوب اجرامي واحد ، في منطقة جغرافية معينة ، وفي فترات زمنية متعاقبة ، وسواء قامت بها جماعة اجرامية واحدة او مختلفة .

اما الجريمة العادية فيمكن تعريفها مقارنة بالظاهرة الاجرامية بانها مشروع اجرامي يبدأ وينتهي باكتمال الوقائع المكونة له ولا يحمل معنى التكرار في الغالب وان تضمن معنى الاستمرار .

فهي جريمة تقع من فاعل او عدد من الفاعلين على ضحية او عدد من الضحايا في وقت واحد او اوقات متقاربة ومكان واحد او امكنة قريبة وتنهي الجريمة باكتمال عناصرها . مثل قيام فاعل او عدد من الفاعلين بقتل شخص او مجموعة من الاشخاص .

وفي ضوء ما تقدم فان مجرد تعدد النشاط الاجرامي لا يشكل بحد ذاته ظاهرة اجرامية ، ولا تعتبر الجريمة المستمرة ظاهرة اجرامية مثل استعمال الشخص لجواز سفر مزور لعدد من السنوات ، ولا الجرائم المركبة مثل جريمة القتل تمهيداً للسرقة ، والتعدد المادي للجرائم كما لو قتل المجرم عدة اشخاص في وقت واحد او اوقات متقاربة جداً ووقف عند حده ، وكذلك حالة التعدد الصوري للجريمة كأنطباق اكثر من نص على جريمة واحدة ، فهذه الصور من الجرائم لا تمثل ظاهرة اجرامية بالمعنى المقصود في تعريف الظاهرة الاجرامية المتقدم ذكره .

كما ان الجريمة العادية تقع على ضحية واحدة او عدد محدد من الضحايا. في حين ان الظاهرة الاجرامية تقع على عدد كبير من الضحايا وغير محدد سلفاً في الغالب .

والجريمة الاعتيادية تقع عادة في زمان واحد ومكان واحد او قريب من الفعل الاجرامي الاول ومع ذلك لا يغير من طبيعتها بعد المكان واختلاف الزمان مادام ان المشروع الاجرامي ينتهي بانتهاء الافعال المكونة له ، كما لو قام شخص بقتل شخص في بغداد وسافر للبصرة وقتل شخص اخر ، ووقف مشروعه الاجرامي عند هذا الحد .

في حين ان الظاهرة الاجرامية لا يحدها زمان او مكان اي انها تتم في اوقات زمنية مختلفة او متعاقبة وتقع في منطقة جغرافية اوسع .

الجريمة العادية مشروع فردي في الغالب لا يتسم بالديمومة في حين ان الظاهرة الاجرامية قد تكون مشروعاً فردياً وهذا امر نادر او مشروعاً جماعياً وهو الغالب وتتضمن معنى الديمومة والاحتراف المنظم حتماً .

خصائص الظاهرة الإجرامية :

ان تحديد خصائص الظاهرة الاجرامية ودراستها باسلوب علمي من اهم الوسائل للقضاء عليها اوالحد منها . ومن تحليل التعريف المتقدم ذكره للظاهرة الاجرامية يتضح انها تتميز بالخصائص الاتية :

اولاـ انها مشروع اجرامي احترافي : تقوم الظاهرة الاجرامية على اساس احتراف جاني او عدد من الجناة ، القيام بنوع معين من الجرائم ، كاحتراف السطو على المصارف او سرقة السيارات ، او ارهاب المواطنين .

ثانياً ـ انها مشروع منظم : تقوم الظاهرة الاجرامية على اساس تنظيم اداري ومالي وتخطيط مسبق للجريمة ، سواء كان هذا التنظيم بدائياً او متطوراً . فيتم قبل مباشرة المشروع الاجرامي توزيع الادوار المناطة بكل فرد من افراد العصابة . ويكون لذلك التنظيم مظاهر متنوعة فقد يتم تخصيص بعض افراد العصابة لجمع المعلومات الاولية عن الضحية والبعض الاخر للمراقبة بينما تتولى مجموعة اخرى مباشرة المشروع الاجرامي وقد تتولى مجموعة اخرى استلام محل الجريمة من المجموعة المنفذة ، وقد يتطلب الامر مجموعة اخرى لتسويق محل الجريمة او التفاوض عليه .

وفي مجال الظاهرة الاجرامية المؤدلجة كما في التنظيمات الارهابية التي تتسربل بسربال الدين فأنها تقوم على اساس تنظيم مؤسسي لا يفترق عن تنظيم اية مؤسسة اخرى من اشخاص القانون الخاص .

وقد يقوم التنظيم الاجرامي على اساس دولي من خلال شبكات موزعة على مختلف بقاع الارض مرتبطة فيما بينها بروابط ادارية او مصلحية ، ومن ذلك ارتباط المنظمات الارهابية مع شبكات المخدرات وشبكات غسيل الاموال القذرة .

وعرفت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية لعام 2000 الجماعة الاجرامية المنظمة بقولها ( يقصد بتعبير “جماعة إجرامية منظمة” جماعة محددة البنية، مؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر، موجودة لفترة من الزمن وتقوم معا بفعل مدبر بهدف ارتكاب واحدة أو أكثر من الجرائم الخطيرة أو الجرائم المقررة وفقا لهذه الاتفاقية، من أجل الحصول، بشكل مباشر أو غير مباشر، على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى …)

ثالثاً ـ انها مشروع يقوم على توظيف القابليات الخاصة : يتمتع الجناة في اطار الظاهرة الاجرامية عادة بقدر من البراعة والذكاء والخبرة المهنية او العلمية ، فاسلوب ارتكاب الجريمة في هذا الاطار عادة ما يتميز بالابتكار الذي يثير حيرة الناس ورجال الشرطة والمحققين ، كما ان تنفيذها يتطلب عادة اشخصا ذوي خبرة ، ففي ظاهرة سرقة المصارف يتولى المشروع الاجرامي اشخاص ذوي خبرة في فتح الخزائن المالية وفي حالة ظاهرة سرقة العجلات يتولى اشخاص ذوي خبرة في تصريف السيارات المسروقة سواء بتفكيكها وبيعها كادوات احتياطية او ذوي خبرة في عمليات بيعها او تصديرها ويمكن ايجادهم دائماً قرب معارض بيع العجلات، وفي مجال ظاهرة التزوير يقوم بالعملية اشخاص على قدر من الدراية الفنية ، بينما تتطلب الجرائم الارهابية المؤدلجة دينياً متخصصين في الامور الشرعية وخبراء في الاتصالات والاعلام والحاسوب والمتفجرات والتدريب العسكري وغسيل الاموال وخبراء في الاستثمار المالي والمصرفي والتجاري … .

وفي جرائم الانترنيت يقوم بالعمليات الاجرامية اشخاص ذوي تدريب عالي في مجال تكنلوجيا الاتصالات . وتهدف الجريمة الالكترونية كظاهرة اجرامية عالمية الى الاستفادة من تقنية المعلومات والاستيلاء على المعلومات المتوفرة على الشبكة الدولية بصورة غير قانونية ومن ثم ابتزاز الجهات المستفيدة من تلك الشبكة كالمصارف والمؤسسات الرسمية والخاصة لتحقيق مكاسب مالية او سياسية او لدعم النشاط الارهابي . وتعد هذه الجرائم من اكثر الجرائم المعاصرة خطورة لما تلحقه من خسائر اقتصادية ومادية على الدول والمؤسسات ، فضلا عن صعوبة اكتشاف الجاني .

ففي بلغاريا مثلا ضبطت الشرطة حوالي 600 الف ورقة يورو مزيفة قام بتزييفها بدقة متناهية متخصصين في مجال علوم الحاسوب .

رابعاًـ انها ظاهرة تتعلق بجانب من جوانب الحياة الاجتماعية : الظاهرة الاجرامية قد تكون ذات طابع اقتصادي تدخل في دورة الاقتصاد العام وتكون جزءاً منه كما في الجرائم المصرفية والتجارية عموماً مثل جرائم تزييف العملة وجرائم الاتجار بالمخدرات وحسب التقارير الامنية الروسية فان حجم الاموال التي تدار من العصابات المنظمة تصل الى 28 مليار دولار اي ما يشكل حوالي 45% من الاقتصاد الروسي . وتحترف هذه العصابات السرقة وتجارة الاسلحة والمخدرات وغسيل الاموال والدعارة .

او تكون ذات ذات طابع سياسي كما في ظاهرة اغتيال رجال الدولة او ذات طابع مؤدلج كما في المنظمات الارهابية التي تتستر بستار ديني . او ذات طابع جنسي كما في ظاهرة الاغتصاب . او تتخذ طابع المؤامرة والتخريب الاجتماعي وهدم البنية الثقافية الاجتماعية مثل ظاهرة اغتيال العلماء والمثقفين عامة مثل اساتذة الجامعات والاطباء والمهندسين والشعراء ورجال الاعلام ….

خامساً ـ الظهور المباغت: تتصف الظاهرة الاجرامية بانها تبرز للسطح فجأة مما يلفت انتباه الناس جميعاً اليها .

سادساً ـ الوضوح : اي وضوح الظاهرة الاجرامية التام بمعنى انها يمكن تمييزها كظاهرة اجرامية من قبل الناس العاديين ورجال الامن من دون عناء، حيث تبدو بصورة ارتفاع واضح للعيان في نسبة ارتكاب جرائم معينة ، كظاهرة جرائم الارهاب باسم الدين ،او ظاهرة جرائم التسليب في الطرق الخارجية . وتثير شكوى ومخاوف الناس من هذه الظاهرة .

سابعاً ـ تحديد الهدف: لكل لظاهرة اجرامية هدفا محدداً، فقد يكون الهدف منها اختلاس الاموال العامة او تقاضي الرشوة ، او سرقة المنازل ، او اغتصاب الفتيات او ان يكون هدفها سياسياً او دينياً مؤدلجاً .

ثامناً ـ ارتفاع عدد المجني عليهم: من البديهي ان يكون تكرار الجريمة سبباً في ارتفاع عدد ضحايا الظاهرة الاجرامية.

تاسعاً ـ الخطورة الإجرامية: الظاهرة الاجرامية اكثر خطراً على المجتمع من الجريمة العادية . لان الظاهرة الاجرامية تشكل تحدياً سافراً لسيادة الدولة وللامن العام وتؤدي الى زعزعة استقرار المجتمع وقد تؤدي الظواهر الاجرامية الكبرى الى زعزعة الاقتصاد الوطني وربما انهياره .

عاشراً ـ القابلية على الانتشار والامتداد جغرافياً: تتصف للظاهرة الإجرامية بصفة خطيرة تتمثل في قابليتها على الامتداد والانتشارفي مناطق جغرافية واسعة وقد تتحول من ظاهرة محلية الى ظاهرة دولية كما في حالة الارهاب الدولي مماينبغي التصدي لمواجهتها بسرعة وحزم وخنقها في مهدها قبل استفحال امرها . واذا استفحلت اصبح امر مكافحتها معقداً ولكنه ممكناً .

عناصر الظاهرة الاجرامية ـ تتحقق الظاهرة الاجرامية باجتماع عدد من العناصر هي :

1ـ تكرار الافعال الاجرامية: التكرار عنصر جوهري حيث لا تقوم الظاهرة الإجرامية على اساس واقعة اجرامية واحدة وانما على اساس تكرار الواقعة الاجرامية بشكل ملفت للنظر .

2ـ أن ينصب التكرار على نوع معين من الجرائم: اي أن تتطابق الجرائم المتكررة من حيث النوع ، بحيث يمكن القول إنها تكاد تكون واحدة، من شدة تماثلها.

ولكي يتحقق ذلك التماثل، لا بد من توافر حالتين ، اولهما وحدة محل الجريمة وثانيهما وحدة المشروع الاجرامي .

حيث يجب أن يكون محل الجرائم المتكررة واحدا، كان يكون محل الجريمة دائماً هو الانسان بصفة عامة او الفتيات او العجلات او المصارف او بنات الهوى. وان يكون المشروع الاجرامي واحداً ، كقتل انسان او مجموعة من الناس او خطفهم ،او اغتصاب الفتيات،او سرقة العجلات او سرقة النقود من المصارف ، او تهريب بنات الليل الى خارج البلد .

3ـ وحدة الاسلوب الاجرامي : للمجرم في اطار الظاهرة الاجرامية اسلوبه الخاص في كل جريمة يرتكبها، او كما يقول المختصين في العلوم الجنائية ان له ( ماركة تجارية ) او بصمة نفسية خاصة به تميزه عن غيره من المجرمين ، فيكون اسلوبه واحدا في كل مرة يقترف فيها الجريمة .

ويمكن تحديد وحدة اسلوب الجريمة من خلال المعايير التالية :

اـ موضوع الجريمة : مثل ظاهرة جرائم السرقة المقترنة بالقتل او السرقة غير المقترنة بالقتل كهروب الفاعل عند اكتشافه ، او ظاهرة جرائم السطو على المصارف او ظاهرة جرائم الرشوة . وهذه لا تجتمع كلها عادة في ظاهرة اجرامية واحدة .

ب ـ وقت الجريمة : اسلوب المجرم يقترن عادة بوقت معين لارتكاب جريمته مثل منتصف الليل او منتصف النهار او المساء …

ج ـ مكان الجريمة : يرتبط الاسلوب الاجرامي عادة بمكان محدد ايضاً مثل المنازل او النوادي الليلية او الاماكن المزدحمة او الطرق الخارجية او الاماكن النائية او البحار …

ء ـ ادوات الجريمة : لكل مجرم ادواته الخاصة التي تيسر له ارتكاب جريمته كالسلاح الناري او السكين او الحبال في جريمة القتل او العجلات اوالمراكب النهرية او الحيوانات في جريمة التهريب ….

هـ ـ مظهر الجاني : قد يظهر الجاني بمظهر رجل الاعمال دائما بينما يظهر اخر بمظهر الشحاذ بينما يعمد اخرون الى الظهور بمظهر رجال الدين …..

و ـ قصة الجاني : لكل مجرم قصته الخاصة التي يمهد بها للجريمة او لدخول مسرح الجريمة ، ففي ظاهرة جريمة النصب والاحتيال قد يدعي الفاعل انه فقد ماله وانه بحاجة لاستدانة بعض المال ، او انه وهو بصدد تصريف العملة الوطنية المزيفة يدعي انه يبيعها باقل من قيمتها لانه بصدد الهجرة للخارج … او يدعي انه مريض وبحاجة لاجراء عملية جراحية عاجلة كما في ظاهرة جريمة التسول ، او يدعي انه من رجال الامن وبصدد البحث عن مجرم داخل المنزل …، وهذه القصة هي ذاتها لكل مجرم في كل جريمة يرتكبها . وقصة المجرم من اهم عوامل تشخيصه والاهتداء اليه .

زـ شركاء الجاني : الظاهرة الاجرامية تقوم عادةعلى اشتراك عدد من المجرمين في مشروع اجرامي واحد ، سواء كانوا مساهمين اصليين او تبعيين ، يتم توزيع الادوار الاجرامية فيما بينهم .

ك ـ طريقة دخول مسرح الجريمة والهروب منه : لكل مجرم طريقته الخاصة في دخول مسرح الجريمة . فالبنسبة لسرقة المنازل فقد يتم عن طريق استعمال مفاتيح مصطنعة او كسر الابواب او النوافذ او استعمال الحبال ، وبالنسبة لظاهرة جرائم تهريب الاشخاص او البضائع فقد يستخدم الجاني المنافذ البرية او البحرية .

4ـ وجود علاقة بين الظاهرة الاجرامية والمنطقة الجغرافية محل ارتكابها :

عادة ما يختار المجرم او المجرمون في اطار الظاهرة الاجرامية منطقة جغرافية محددة لارتكاب جرائمهم ، لوجود علاقة ما تربطهم بمسرح الجريمة. فقد يكون المكان مرتبطا بمحل الظاهرة أو هدفها أو محل اقامة مرتكبيها فقد يكون الجناة مقيمين بالقرب من مسرح الجريمة أو ان احدهم مقيما به او بالقرب منه ، أو انهم يترددون عليه بشكل مستمر ،او أن يكون المكان ذو طبيعة خاصة كمنطقة تجارية أو سكنية او ميناء بحري او غيره.

5ـ الفاصل الزمني بين جريمة واخرى : عادة ما يكون الفاصل الزمني بين جريمة واخرى قصيراً ، فالظاهرة الاجرامية ما هي الا احتراف لنشاط اجرامي ومصدر للدخل غير المشروع في حقيقتها ومعناها ، والاحتراف يقتضي الاستمرارية.

المبحث الثاني : النظريات العلمية في تفسير الظاهرة الاجرامية :

تعددت النظريات التي طرحت بشأن تفسير الظاهرة الاجرامية ، فهي ظاهرة فردية وظاهرة اجتماعية في آن واحد ، وبالنظر اليها كظاهرة فردية اتخذ بحثها طابعاً بيولوجياً ونفسياً ، وبالنظر اليها كظاهرة اجتماعية اتخذ بحثها طابعاً اجتماعياً .

1ـ نظرية لومبروزو ونموذج الانسان المجرم بالولادة :

عمل الاستاذ سيزاري لومبروزو ( 1835ـ1909 ) في بداية حياته طبيباً في الجيش الايطالي ثم عين بعدها استاذاً للطب الشرعي والعقلي في جامعة بافيا ثم في جامعة تورينو . وبحكم امتلاك لومبروزو الروح التأملية وعمله في الجيش ومراقبته للسلوك الاجرامي للجنود قام بوضع اساس فكرته عن السلوك الاجرامي من خلال دراسته للظاهرة العضوية للمجرمين ، ووضع خلاصة بحوثه العلميه في مؤلفه الشهير ( الانسان المجرم ) .

حيث ابتدأ رحلته العلمية بالتأمل في سلوك الجنود المنحرفين عن طريق فحصهم ودراسة تكوينهم الجسماني . وكان لومبوزرو يهدف من وراء ذلك ايجاد الخصائص المشتركة بين الجنود المنحرفين ومن ثم مقارنتها مع الخصائص المشتركة للجنود الاسوياء .

وقد لاحظ لومبروزو ان الجنود المنحرفين يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الاسوياء، حيث لاحظ ابتداءا ومن الناحية الظاهرية ان الجنود المنحرفين يميلون الى احداث الوشم والرسوم القبيحة على اجسادهم كما وتبين له عند تشريحه لجثث عدد من المجرمين الذين ارتكبوا جرائم تتسم بالعنف والقسوة وجود عيوب خلقية في تكوينهم الجسماني وشذوذ في الجمجمة .

واثباتاً لدور الصفات العضوية قام لومبروزو بتشريح مايقرب من 383 جمجمة لمجرمين متوفين كما فحص حوالي 5907 من المجرمين الاحياء ، ومن ابرز الحالات التي درسها حالة لص وقاطع طريق خطر يدعى فيللا ، حيث فحصه اثناء حياته وشرح جثته بعد وفاته . وقد وجد تجويفاً في قاع جمجمته مشابهاً لما هو موجود لدى بعض الحيوانات الدنيا كالقرود والطيور ، كما وتوصل الى نتائج مشابهة عند دراسته حالة مجرم خطر اخر يدعى فرسيني الذي اعترف بقتل عشرين امرأة بطريقة وحشية وشرب دمائهن ، حيث تبين له اتصاف هذا المجرم ببعض الخصائص الجثمانية والتشريحية .

وقد ولد ذلك القناعة لدى لومبروزو بوجود نموذج للانسان المجرم بطبيعته ، وهو الشخص الذي ترشحه منذ ولادته خائص بيولوجية معينة لان يصبح مجرماً .

وحسب لومبروزو فأن المجرم نمط من البشر يتميز بخصائص عضوية ومظاهر جسمانية شاذة تنتقل بالوراثة ، اطلق عليها وصف علامات الرجعة ، يرتد بها المجرم إلى عصور ما قبل التاريخ حيث تتطابق الخصائص البيولوجية للانسان المجرم مع خصائص الانسان البدائي الاول .

بمعنى اخر ان الإنسان المجرم بنظر لومبروزو ما هو الا انسان بدائي يحتفظ عن طريق الوراثة بالصفات البيولوجية والخصائص الخلقية الخاصة بانسان ما قبل التاريخ .

وبالنظر لتعرض نظرية لومبروزو للنقد فقد قام بتعديل بعض ارائه في هذا الشأن ، فذهب بشأن الطبيعة الوراثية للاجرام الى ان العلامات الارتدادية لا تحدث لوحدها السلوك الاجرامي وانما يجب ان تتفاعل مع شخصية من يحملها اذا تهيأت الظروف لانتاج السلوك الاجرامي . وانتهى الى القول الى ان العلامات الارتدادية تكون موجودة لدى اغلب المجرمين ولكن ليس كلهم ، كما انها يمكن ان توجد لدى غير المجرمين . كما لا يمكن لعامل الوراثة بمفرده ان يرشح السلوك الاجرامي وانما ينبغي ان تتظافر معه عوامل اخرى يكتسبها الفرد بعد الميلاد .

وفي نهاية الامر توصل لومبروزو الى تقسيم المجرمين الى خمس فئات هي : المجرم بالولادة ، المجرم المجنون ، المجرم بالعاطفة ، المجرم بالصدفة والمجرم بالعادة .

وبالنسبة للانسان المجرم بالولادة ، وهو محور نظرية لومبروزو ، فانه يتميز عن الانسان العادي بخصائص ومظاهر شذوذ جسمانية من اهمها :

صغر حجم الجمجمة وعدم انتظامها، بروز عظام الوجنتين وضخامة ابعاد الفك والشذوذ في تركيب الأسنان ، شذوذ في حجم الاذنين ، وكثرة غضون الوجه ، عدم انتظام وتشابه نصفي الوجه ، ضخامة الشفتين وبروزهما ، غزارة شعر الرأس والجسم ،والطول المفرط للذراعين، ، واستعمال اليد اليسرى وضخامة الكفين .

كما يتميز المجرم بصفات نفسية مختلفة عما هو موجود لدى الانسان لعادي ومنها : القسوة البالغة وعنف المزاج وحب الشر ، انعدام الاحساس بالالم والميل الى الوشم ، اللامبالاة وعدم الشعور بتأنيب الضمير وعدم الحياء .

وبالاضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين.

فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه ، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الانف وغالباً ما يكون أشولاً .

ومع الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو فانه سيبقى المؤسس والرائد الأول لعلم الانتروبولوجيا الجنائية .

2ـ ارنست هوتون والانحطاط الجسماني

اعتمد الاستاذ هوتون على علم الاحصاء لدراسة الاجرام ،وكان موضوع الدراسة طيف واسع من المجرمين وغير المجرمين موزعين على ثمان ولايات امريكية ، وراعى في اختيارهم التماثل نسبياً من حيث الظروف ،وكانت العينة محل الدراسة مكونة من ( 13873) من السجناء ، اما الجماعة الضابطة ( معيار المقارنة ) فتكونت من ( 3230 ) انتقاهم هوتون من بين طلبة الجامعات ورجال الاطفاء والشرطة والمرضى الراقدين في المستشفيات ، من البيض والسود ، واستمرت الدراسة حوالي تسع سنوات .

وخلاصة ما توصل اليه ، ان المجرمين يختلفون عن الناس الطبيعين اختلافاً واضحاً في مقاسات اعضائهم الجسمانية ، وان مظاهر الشذوذ الجسماني هذه تشابه علامات الرجعة التي قال بها لومبروزو ، كما انهم يختلفون في الملامح الخارجية ، مثل شكل الانف والاذن والشفة والجبهة ولون العين .

فضلاً عن اتصاف المجرمين بانحطاط جسماني حدده هوتون بـ ( 107 ) صفات ترجع اساساً الى العوامل الوراثية. وقرر هوتون ، ان لهذا الانحطاط والشذوذ البدني اهميته البالغة في تبرير السلوك الاجرامي لانه علامة الانحطاط العقلي .

واعطى هوتون اهمية خاصة للمقارنة بين طوائف المجرمين حسب نوع الجريمة المرتكبة، وانتهى الى ان كل طائفة تتميز بنوع من الشذوذ البدني تمثل الميل الى ارتكاب نوع معين من الجرائم وهكذا فان الشذوذ والانحطاط الجسماني لدى القاتل هو غيره لدى السارق وعلى النحو الاتي :

ـ ان طوال القامة ضعاف الجسم يميلون الى ارتكاب جرائم القتل وجرائم النهب .

ـ ان طوال القامة ضخام الجسم يميلون الى ارتكاب جرائم الغش والخداع .

ـ قصار القامة ضخام الجسم يميلون الى ارتكاب الجرائم الجنسية .

3ـ فرويد والذات الدنيـا :

سيكموند فرويد ، عالم وطبيب نمساوي (1856ـ1939) اهتم بدراسة علم الاعصاب ، اتصف بالذكاء الشديد الذي دلت عليه براعته الفائقة في عرض افكاره واستنتاجاته. واثرت افكاره وما برحت تؤثر في نفوس عدد كبير جداً من العلماء والباحثين في نطاق المعمورة ودافعوا عنها بكل قوة كلما تعرضت للنقد والتجريح .

ومن اهم مؤلفاته ( مدخل الى التحليل النفسي ) ، ( نظرية الاحلام ) ، ( افكار لازمنة الحرب والموت ) ، ( الاضطراب النفسي في الحياة اليومية ) .

يذهب فرويد الى ان الكيان النفسي للانسان يتكون من ثلاث اقسام هي الذات الدنيا والذات والذات العليا .

الذات الدنيا : وتمثل الجانب الشهواني من النفس الذي يضم الغرائز والاحاسيس والنزعات الفطرية الموروثة من الانسان البدائي الاول . وهذه الذات ، بما تتضمنه من ميول ورغبات كالرغبة في الانتقام وتعذيب الخصوم والاعتداء والافعال الجنسية المحرمة، لا تتوافق مع النظام الاجتماعي المتطور وقيمه في الحياة المدنية المعاصرة .لذلك فان الانسان المعاصر يبقيها مكبوتة في اعماق نفسه بحكم عوامل التربية الاخلاقية التي تتطلب منه الخضوع لقيم ومعايير المجتمع السائدة .

غير ان هذه الغرائز المكبوتة تظهر للسطح كلما تهيأت لها ظروف واحوال ملائمة ، فيكون ظهورها اما ظهوراً صريحاً او ظهوراً مقنعاً ، بحثاً عن فرصة ذاتية للاشباع .

ويذهب فرويد الى ان الاحـلام تجسد الظهور بشكله المقنع للميول البدائية ، وتعبر عن الرغبات المكبوتة في اعماق النفس ، كالحب او الكراهية .

وعلى هذا التصور فان حالة النوم الطبيعي تقدم لنا مثلاً رائعاً عن مرونة الحياة العقلية وعن طريقها يمكن ان نفسر الارتداد في حياتنا الانفعالية الى احدى المراحل السابقة للتطور فيكون الحـلم ممثلاً للحياة النفسية اثناء النوم ومن ثم يكون موضوعا للتحليل النفسي .

ووفقاً لتصور فرويد فان الذات الدنيا هي العالم الذاتي الحقيقي الذي يحرص على بلوغ اللذة والابتعاد عن الألـم .

الذات (النفس) : وتجسد الجانب الواعي الذي ينسجم مع الواقع والعقل .

وتتصل الذات بالجانب الاجتماعي فتكون وظيفتها القيام بدور وسيط مهمته تحقيق التكييف او التوافق بين الميول والنزعات الغرائزية ولاسيما الجنسية منها من جهة وبين القيم الاجتماعية والاخلاقية والدينية والقانونية من جهة اخرى .

وفشل الذات في وظيفتها هذه قد يؤدي الى انفلات شهوات النفس البدائية من مكامنها بما يتعارض تماما مع تلك القيم ، او يؤدي الى التسامي بالنشاط الغريزي عن طريق الابقاء عليه مكبوتاً فيما وراء الشعور .

ويُشبه فرويد الذات بالفارس ، ويُشبه الذات الدنيا بالفرس الجامح ، فمهمة الفارس كبح جماح الفرس والسيطرة عليها ، والا انساق معها نحو الاخطار والاهوال .

الذات العليا : وتمثل ضمير الانسان والجانب المثالي من الحياة النفسية ، وفيه تكمن المباديء العليا والقيم السامية التي اكتسبها الانسان اثناء طفولته من والديه ومعلميه ورجال الدين ومن اعتبرهم مثالا يحتذى به اثناء مراحل حياته ومن القيم الاخلاقية والدينية .

والضمير مصدر ردع قوي للشهوات ومنه يستمد العقل القوة اللازمة لضبط الميول والنزعات والغرائز البدائية .

فوظيفة الضمير مراقبة العقل ومحاسبته عن اي توجه نحو اشباع النزعات بطريقة بدائية ويرشده الى الطريق المتزن لاشباع هذه الرغبات بطريقة مشروعة تتفق مع القيم السائدة ، وفي ضوء ما تقدم يرى فرويد ان تآلف وتفاعل الذات الدنيا والذات والذات العليا يحقق الاتزان الداخلي الذي يكون من سمات الشخص الاعتيادي .

الا ان هذا التفاعل لا يتحقق بسهولة فقد ينجم عن تفاعلهما حالة من الصراع وعدم الانسجام مما يؤدي بالفرد الى ارتكاب سلوك مخالف لنظام المجتمع وقيمه السائدة يتمثل في السلوك الاجرامي . فالسلوك الاجرامي هو اما نتيجة عجز الجانب العقلاني (الذات) عن اداء وظيفته ، واما نتيجة انعدام الجانب المثالي ، ومن ثم تقع الجرائم اما عن طريق انفلات الغرائز والميول الشهوانية ، واما عن طريق العقد النفسية التي تُكبت في الجانب اللاشعوري من العقل وتقوم بتوجيه سلوك الانسان وجهة اجرامية دون وعي او ادراك منه . وقد تجرف الذات الدنيا بتيارها الذات وتسخرها لتنفيذ رغباتها ونزعاتها الطائشة .

ويعطي فرويد امثلة عن الخلل والاضطراب الذي يصيب الكيان النفسي نتيجة عجز الضمير والعقل عن اداء وظيفتهما ، ومن هذه الامثلة عقدة اوديب وعقدة الذنب .

عقدة اوديب : تتسم العلاقات العاطفية لدى جميع الافراد بنظر فرويد بالازدواج ، اي مشاعر الحب والكراهية تجاه الشيء الواحد في نفس الوقت. وحينما يبلغ الطفل مرحلة السادسة من العمر مجتازاً مرحلته الجنسية الذاتية تتجه ميوله نحو اول كائن يؤثر فيه وهو امه ويحرص على ان لا يشاركه احد في حبها وان تبقى خالصة له الا ان امنيته هذه تصطدم بعقبة كبيرة تنافسه في حب امه هي الاب ، فيتولد لديه نوع من الغيرة والانانية فيبدأ بكراهيته وعدم الشعور بالراحة عند وجوده مع رغبة شديدة في التخلص منه . الا ان هذه الرغبة تصطدم بنزعة معاكسة لها وهي شعور الطفل بحب ابيه وعطفه وحنانه ورعايته فينشأ في نفس الطفل نوعين متناقضين من الرغبات تجاه الاب هي مشاعر الكراهية والحب . وان لم تقم الذات (العقل) في تكييف هذا الازدواج مع القيم الاجتماعية وذلك بتغليب شعور الحب نحو الاب فان عقدة نفسية خطيرة ستستقر في جانب اللاشعور من عقل الطفل تسمى عقدة اوديب .

ولهذه العقدة اثار سيئة منها ، انعدام القدرة على تكوين التوازن النفسي والتكييف الاجتماعي وبالتالي الاتيان بسلوك شاذ .

كما ان البغض اللاشعوري تجاه الاب يولد في نفس الابن شعور بالكراهية تجاه ممثل كل سلطة كالمعلم والمدير ورئيس الدولة وكل جهة سلطوية او رقابية ، ويميل الى انتهاك القوانين والانظمة المرعية رسمية كانت ام غير رسمية .

ومن مظاهر عقدة اوديب ان المصاب بها يتعرض لصدمة عنيفة قد تتطور الى انهيار نفسي عند وفاة امه .

ويرى بعض علماء الطب النفسي المعاصرين ، انه ينبغي على الوالدين الا يظهرا مشاعر الحب المتبادل امام الاطفال ، وانه اذا كان لابد من ذلك ، فيجب ان يشركا الاطفال في هذا الوجدان .

عقدة الذنب : تتحقق عقدة الذنب عندما يطغى على الانسان شعور بالذنب والتقصير ، بسبب مغالاة الضمير في تأنيب الذات نتيجة سيطرة استبدادية ، فاذا ما غالى الوالدان في توبيخ الطفل ومعاقبته بقسوة فان من شان هذا التصرف الخاطيء من جانب الوالدين ان يسبب خللا كبيراَ في الجانب المثالي للطفل فيكون هذا الجانب قاسياً وصارماً في رقابته وتوجيهه للطفل بحيث انه يجعل من ابسط الهفوات والاخطاء في نظر الطفل خطايا كبيرة يستحق من اجلها العقاب الشديد وبالتالي يستأثر هذا الشعور المرضي بعقل الصغير ويسيطر على ملكاته ويرى فرويد ان شدة الشعور بالخطيئة قد يكون من اقوى البواعث على الاجرام لا نتيجة ارتكاب الجرم ذاته .

ومن جانب اخر فان هذه العقدة تصيب الانسان فتظهر عليه علامات الاضطراب النفسي نتيجة غياب الذات العليا فيرتكب سلوكاً شاذاً غيرمألوف وان لم يصل الى حد الجريمة ، ثم يستعيد بعد ذلك الضمير قدرته على التوجيه والمحاسبة وهنا تنشأ عقدة الشعور بالذنب والخطيئة لديه .

ان هذا الشعور يضغط على صاحبه بالتأنيب المستمر ولا يستطيع منه فكاكاً ولا يتمكن من التخلص من هذا الشعور الا اذا عرض نفسه للمتاعب وقد يرتكب الجريمة ليثير نقمة المجتمع عليه ولا تهدأ نفسه الا اذا نال الجزاء المناسب.

4ـ بونجيه والعامل الاقتصادي

يذهب الاستاذ والعالم الهولندي وليم ادريان بونجيه ( 1876ـ 1940) استاذ علم الاجتماع في جامعة امستردام

الى ان الجريمة هي نتاج العوامل الاقتصادية السائدة في المجتمع الرأسمالي .

ويبدو تأثر بونجيه واضحاً بافكار كارل ماركس وسذرلاند ، حيث يرى ماركس ان كل الظوهر السلبية التي تظهر في المجتمع ومنها ظاهرة الجريمة ترجع اساساً الى الخلل الذي يصيب النظام الاقتصادي السائد ، ذلك ان نظام الانتاج الاقتصادي يتحكم في نواحي الحياة كافة ومنها النشاط الانساني المكون للسلوك الاجرامي ، وان مظاهر الخلل تصيب المجتمع الرأسمالي بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة وان اصلاح المجتمع كله يتأتي من اصلاح هذا النظام .

بينما يرجع الاستاذ سذلارند السلوك الاجرامي الى الانقلاب الحاصل في القيم والمفاهيم بعد الثورة الصناعة حيث انصب الاهتمام على جمع المال وتكنيزه باية وسيلة وبدون مشقة لتحقيق الرفاهية والسعادة ، بحيث ان المال والثروة اصبح يعني القيمة الاجتماعية العالية والادخار فضيلة من الفضائل في حين ان الفقر يعني المذلة والمهانة وقد ادى هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم الى زيادة الظاهرة الاجرامية اذ انصب الاهتمام على جمع المال وكنزه اكثر من الاهتمام بطريقة كسبه . فالتاجر في النظام الراسمالي يسعى لبيع سلعته باعلى ربح ممكن حتى لو حصل عليها بابخس الاثمان ويتبع في سبيل ذلك كل الوسائل غير المشروعة كالغش والتزوير والاحتيال والبلاغ الكاذب للصمود امام منافسيه بل وتشويه سمعتهم لازاحتهم عن طريقه لتخلو له الساحة ، والافعال المتقدمة ما هي الا جرائم .

وفي ضوء ذلك يذهب بونجيه الى ان ضغط النظام الاقتصادي الراسمالي على سلوك افراد المجتمع يرتب اثاراً سيئة على ذلك السلوك ومنها الانانية والشعور بالحقد مما يدفع البعض الى ارتكاب الجريمة .

فكل فرد حسب بونجية يكتسب غرائز اجتماعية ، ان لاقت ظروفاً اجتماعية صالحة ترسخت في الفرد الغرائز الجيدة مما يعني استبعاد الغرائز الفردية المتسمة بالانانية مما يجعل من سلوكه متسماً بالمحبة والسعي لفعل الخير ، بينما اذا لاقت ظروفاً سيئة تأكدت لدى الفرد مشاعر الحقد والانانية ومن ثم تجرف صاحبها نحو الشر والجريمة .

ويقرر بونجيه في النهاية بان الظروف الاقتصادية غير الملائمة للنظام الراسمالي بما تفرزه من فروق اجتماعية واسعة من شأنها ان تثير الحقد والانانية لدى الطبقة العاملة ضد طبقة الرأسماليين ومن ثم يندفع بعض افراد الطبقة العاملة ، تعبيراً عن هذه الغرائز الفردية، نحو طريق الشر والجريمة .

5ـ دي توليو والاستعداد الاجرامي

يرى الاستاذ والعالم الايطالي دي توليو ( di Tullio.B ) أن السلوك الإجرامي لا يمكن تفسيره بارجاعه إلى سبب واحد ، كالتكوين البيولوجي او النفي او العامل الاجتماعي او الاقتصادي كلا على انفراد ، بل ان اتحاد هذهالعوامل هو الذي يفسر السلوك الاجرامي . واساس نظريته في تفسير السلوك الاجرامي قائم على فكرة التكوين الاجرامي اي الاستعداد الفطري لارتكاب الجريمة وهو ـ حسب وجهة نظره ـ ما يميز المجرم عن غيره من الناس الاسوياء.

فقد ذهب دي توليو الى تصنيف المجرمين على أساس أن الجريمة هي نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل الداخلية

( البيولوجية ) مع مجموعة من العوامل الخارجية (العوامل الاجتماعية) .

ولذلك يذهب دي توليو الى أن هناك أفراد لديهم ميل أو إستعداد جرمي لا يتوافر لدى الاخرين ويستدل توليو على ذلك بالقول ان محفزاً او مؤثرا خارجيا واحدا قد يواجه شخصين الا ان ردة فعل كل منهما تختلف عن الاخر فقد يكون وقعه على احدهما شديداً مما يدفعه الى ارتكاب الجريمة بينما يتصرف الاخر باتزان ويحجم عن ارتكاب الجريمة . فهذه المؤثرات تكون بمثابة محفزات للنزعة الاجرامية الموجودة اصلاً ، وترتبط هذه النزعة لديهم بتكوينهم الجسمي والنفسي الخاص مما يميزهم عن الانسان العادي .

وفي ضوء هذا التصور قسم دي توليو الإستعداد الاجرامي من حيث مدى تأثير الاسباب التي تدفع الى ارتكاب الجريمة الى نوعين، الاستعداد الاجرامي العارض والاستعداد الاجرامي الاصيل .

النوع الأول منهما يرجعه الى عوامل إجتماعية وشخصية تكون اقوى من قدرة الجاني على ضبط توازن مشاعره فيخلق لديه استعداد عارض او فجائي يحرك عوامل الجريمة لديه واطلق عليه دي توليلو اسم (المجرم بالصدفة او العاطفي ) وهو ذلك الشخص الذي يقع في الجريمة تحت تأثير ضغط ظرف استثنائي خارجي مع توفر بعض العوامل الداخلية الخاصة ، اذ يصدر الفعل الجرمي عنه عرضا نتيجة لظرف خارجي كالبطالة والازمات الإقتصادية والهجرة او حالة نفسية طارئة كالاستفزاز الخطير او الانفعال الشديد كاليأس والحقد والشعور بالحيف الاجتماعي ، مما يخل بتوازن المانع من الجريمة مع الدافع اليها، ويؤدي ذلك الى تغليب الدافع على قوة المانع لديه فيترتب على ذلك احتمال ارتكابه للجريمة .

وعلى هذا فان الاجرام بالصدفة يرجع أساسا إلى ظروف خارجية تحيط بالمجرم فضلا عن ظروف شخصية … ، على أن العوامل الخارجية او النفسية الطارئة هذه لا تقلل من اهمية العوامل الداخلية لدى المجرم، إذ ليس كل من يتعرض لظروف إجتماعية قاسية او ظروف نفسية طارئة يرتكب جريمة .

اما النوع الثاني فيرجعه إلى التكوين الفطري للانسان من الناحيتين الجسمانية والنفسية ، وهذا هو الاستعداد الاجرامي الاصيل الذي يدفع الى ارتكاب الجرائم الخطرة واحتراف الاجرام . واطلق عليه دي توليو اسم ( المجرم بالعادة أو بالتكوين ) ، وهو الشخص الذي يعاني من نقص في تكوينه ، كالنقص الجسماني أو الخلل في الجهاز العصبي فان تاثير الحالة التكوينية على سلوكه يكون اكثر تاثيراً من الظروف الاجتماعية . ذلك ان المجرم بالعادة يتميز بتوافر ميل داخلي أو تكويني في شخصيته يدفعه الى الاجرام، ففي هذه الحالة تتضاءل المقاومة أو قوة المانع تضاؤلا جسيما امام قوة الدافع مما يخلق لديه ميلاً دائما الى ارتكاب الجريمة.

ويبدو واضحاً ان المجرم بالعادة او بالاصالة يكون اشد خطراً من المجرم بالصدفة ، لان المجرمين بالاصالة يتسمون بالعود الى ارتكاب الجريمة واحتراف الاجرام ولا يردعهم عقاب من ارتكاب الجريمة والعود اليها بالنظر لاتصاف استعدادهم الاجرامي بالثبات والاستمرار .

يتبع …

المبحث الثالث : الاساليب البحثية العلمية لمواجهة الظاهرة الاجرامية ,

الاحصاء ، جمع المعلومات الاستخبارية ، دراسة الحالة ، المسح الاجتماعي ، دراس البيئة , المقارنة

ـ ـ ـ ـ ـ

(1) ـ الاله الروماني كانيوس Janus، وهو اله الشمس، وكان يمثل حارس ابواب السماء كما يمثل اله الحرب والسلم ، ونسبة اليه سُمي شهر January ( يناير ) ويقال انه اله البدايات والنهايات .

(2) ـ اية الشمس

المراجع العلمية:

ـ د.احمد عوض بلال ، علم الاجرام ، ط1 ، دار الثقافة العربية ، القاهرة ، 1985.

ـ د. اكرم نشأت ابراهيم ، علم النفس الجنائي ، ط4، مطبعة المعارف ، 1968.

ـ د. جلال ثروت ، الظاهرة الاجرامية ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الاسكندرية ،1982.

ـ د. محمد شلال حبيب ، الخطورة الاجرامية ،رسلة دكتوراه مقدمة الى كلية القانون والسياسة ـ جامعة بغداد ط1،دار الرسالة للطباعة ، بغداد،1980

ـ د. محمد شلال حبيب ، اصول علم الاجرام ، ط2 ، مطبعة دار الحكمة ، بغداد ، 1990 .

ـ الاستاذ عبد الواحد إمام مرسي ، الظاهرة الاجرامية ـ اساليب الرصد والمواجهة ، بحث منشور في مجلة الامن والقانون ، العدد (1) سنة 2003 ، دبي ـ الامارات العربية المتحدة .

ـ د. عبد الفتاح الصيفي و د. زكي ابو عامر ، علم الاجرام والعقاب ،دار المطبوعات ، الاسكندرية .

ـ الاستاذ عبد الجبار عريم ، نظريات علم الاجرام ،ط6، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1960 .

ـ سيكموند فرويد ، مدخل الى اتحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، ط2، دار الطليعة، بيروت ، 1980.

ـ د.مأمون محمد سلامة ، اصول علم الاجرام والعقاب ، القاهرة ، 1979.

ـ د. فوزية عبد الستار ، مباديء علم الاجرام والعقاب ، بيروت ، 1978.

ـ د. رؤوف عبيد ، اصول علمي الاجرام والعقاب ، ط5، دار الجيل للطباعة ، القاهرة ، 1988.

ـ د.محمد سعيد نمور ،الخطورة الاجرامية ، مجلة مؤتة للبحوث والدراسات ، دورية سنوية ، العدد 3، المملكة الاردنية الهاشمية .

الجزء الثاني

جريمة سرقة المستقبل والحياة والعدالة (ظاهرة الفسـاد)

قال تعالى في محكم كتابه العزيز (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد َ) (1) وفي هذا الذكر الحكيم من وصف للولاية الفاسدة ما يغني عن أي وصف آخر ،فهي السبب في هلاك المجتمعات وتدهور الاقتصاد و انحدار الحياة الاجتماعية كما هو متفق عليه في الدراسات الحديثة.

وكشفت منظمة الشفافية الدولية المعنية برصد ظواهر الفساد في العالم مؤخرا في تقرير لها تحت عنوان مقياس الفساد حول العالم لسنة 2007 ( أن العاملين في مجالات الشرطة والقضاء والأحزاب السياسية والبرلمان والخدمات العامة هم الأكثر طلبا للرشوة في العالم ).

وأضاف التقرير(…وكان جهاز الشرطة هو الأكثر فسادا بالنسبة لمن استطلع رأيهم حول العالم حيث أشار ربع من شاركوا في الاستفتاء الى ان أقسام الشرطة طلبت منهم دفع رشاوى عندما اضطروا الى التعامل معها واضطر واحد من كل ستة الى دفع رشاوى تلتها المحاكم ثم قطاع التربية وبعده قطاع الصحة. وقالت رئيسة المنظمة هيويت لابيل في تصريح لها بمناسبة صدور التقرير ” ان ما يبعث على القلق ان القطاعات الأكثر فسادا هي القطاعات الأكثر تماسا مع حياة الناس مثل الصحة والتربية والقضاء والشرطة .) (2)

أولا ـ في معنى الفساد لغة واصطلاحاً

الفساد لغة من فسَدَ، والمفسدة نقيض المصلحة، قال تعالى “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون” (3) وفساد الشيء يعني تلفه وعدم صلاحيته ، ويطلق مصطلح الفساد ويراد به أيضا ، القحط والجدب واخذ المال ظلماً بغير حق ، وقد يشير الفساد إلى تجاوز الحكمة أو الصواب فيقال فسد الرجل أي جاوز الصواب، وفسد العقل أي بطل، وفسدت الأمور أي اضطربت وأدركها الخلل، والفساد في الإصلاح الشرعي هو خروج الشيء عن الاعتدال ، ومن ذلك جميع المحرمات والمعاصي(4).

وعرفت المنظمة الدولية للشفافية الفساد بانه:( إساءة استعمال السلطة التي أؤتمن عليها لتحقيق مكاسب شخصية ) ، وتفرق المنظمة بين نوعين من الفساد:

1ـ الفساد بالقانون (According to rule Corruption ) : وهي الرشاوى التي تدفع للحصول على الأفضلية في خدمات وتسهيلات يجيزها القانون .

بمعنى ان الراشي يدفع للحصول على حقه او للحصول على أسبقية في الحصول على حقه .كأن يدفع رشوة لموظف لاستثنائه من نظام الانتظار.

وحسب تجربتنا المستفادة من العمل فان هذا النوع من الفساد هو الأكثر انتشارا مقارنة بجرائم الفساد الاخرى ، اذ غالبا ما يلجأ الموظف الفاسد الى عرقلة طلبات أصحاب الحقوق لحملهم على دفع الرشوة مقابل الحصول على حقوقهم ، وهذا النوع وان كان اقل خطراً من غيره على المال العام الا ان له أثار سياسية سلبية كبيرة بحكم اتصاله المباشر مع حاجات كل الناس وحقوقهم فيولد لديهم الامتعاض والحقد على النظام السياسي ، اما جرائم الفساد الكبرى والتي لا تمس مصالح الناس مباشرة فانها تثير امتعاض النخبة المثقفة في المجتمع بحكم اطلاعهم على الدراسات والاحصائيات والتقارير الدولية التي لا يطلع عليها عامة الناس عادة ولا يدركون اثارها غير المباشرة على حياتهم ومستقبلهم لانها لا تسبب لهم الماً او ضرراً مباشرا .

2ـ الفساد ضد القانون (Against the rule Corruption): وهي دفع رشوة للحصول من مستلم الرشوة على خدمة ممنوع تقديمها . ويوقع هذا النوع من الفساد اكبر الضرر بالاقتصاد الوطني وحقوق المواطن والاجيال القادمة (5) .

ثانيا ـ خطر الفسـاد

يعد الفساد الجريمة الأكثر خطرا من بين الجرائم التي تنال من امن واستقرار المجتمع وقيم العدالة وسبل تنمية وتطور المجتمعات المعاصرة ، فهو العامل الأكثر تخريبا وتدميرا للمجتمعات الفقيرة والنامية وسببا مباشرا في ضياع فرص التقدم والرفاه الاجتماعي وإحباط خطط التنمية وفي زيادة الفقراء فقرا ، كما انه يفقد الناس ثقتهم بقادتهم ولو كانوا مخلصين وذوي نوايا حسنة ، وكثيرا ما قاد الفساد الدول، التي يجد له فيها مرتعا خصبا ،الى هاوية الانحدار الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي . وقد أشارت بحوث المنظمات الدولية ، كالأمم المتحدة ومنظمة الشفافية الدولية إلى عمق الدمار الذي الحقه ويلحقه الفساد باقتصاديات الدول النامية وفي دوام أسباب المرض والجهل والفقر والجريمة ، بالنظر لتسرب الأموال المخصصة لمكافحتها الى جيوب الفاسدين .

والنزاهة عماد التنمية وشرطها الاكنر اهمية ،أذ تدعم النزاهة الاقتصاد الوطني والبيئة السياسية والاخلاق العامة .وجاء في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2004 ( ان الدول الاطراف في هذه الاتفاقية ، اذ تقلقها خطورة مايطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها ، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة ، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر…. )

ثالثا ـ لمحة عن الفساد العالميلا يكاد يخلو مجتمع من ظاهرة الفساد ، الا ان نسبة الفساد تختلف من دولة الى اخرى ، واذا قيمنا الامور بمعيار النسبية فان هناك دول تعتبر نظيفة نسبيا من ظاهرة الفساد ، وهناك دول يكاد يغطي الفساد كل مؤسساتها وكل مظاهر انشطتها ، وتبرز بين حين واخر فضائح فساد كبيرة تشغل الرأي العام الدولي منها :

فضيحة وُتركيت : بسبب دوافع حزبية خاصة شكل الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون لجنة لدراسة الأوضاع السياسية والأمنية العامة في الولايات المتحدة الأمريكية وقد اصدرت هذه اللجنة ، بناءا على ضغوط الرئيس ، تقريرا تضمن خطة عرفت باسم خطة هيوستن التي مهدت لانشاء جهاز امن الدولة كجهاز ملحق بالبيت الابيض ، مما اتيح له جمع المعلومات عن المواطنين بصورة سرية خلافا للقانون على ان تصل هذه المعلومات للرئيس شخصياً ، وقد تمكن هذا الجهاز بسبب السرية التي يتمتع بها وعدم وجود رقابة على عمله من سلطة اخرى محايدة من توسيع دائرة أعماله ليقوم بجمع المعلومات عن السياسيين ورؤساء الاحزاب وكبار رجال الدين والمجتمع والصناعة . وعندما رشح الرئيس نيكسون للمرة الثانية سنة 1972 ، استغل هذه المعلومات للنيل من خصومه ومن ثم اعادة انتخابه رئيسا للولايات المتحدة . ولكن الصحافة الامريكية الحرة تمكنت من كشف قضية الفساد هذه ونشرتها للجمهور والتي عرفت بفضيحة ( وُتركيت ) والتي تسببت بأقالة نيكسون من منصبه وحل جهاز الأمن .

ـ حسب تقارير مكتب المخدرات والجريمة المنظمة في الامم المتحدة يدفع اكثر من ترليون دولار من الرشاوي سنوياً على مستوى دول العالم المتقدمة والنامية .

ـ حسب تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2005 ، تسببت اعمال التخريب واعمال النهب وتدمير الاصول في قطاع النفط العراقي (2003 ـ 2005 ) في فقد العراق ما يقرب من نصف ترليون دولار (500 مليار دولار ) من عائدات النفط المفترضة خلال هذه الفترة ويتوقع ان تبلغ الضعف بحلول 2015 .(6)

ـ هربَ الرئيس الزائيري السابق موبوتو سيسي سيكو مبلغ ( 5 ) مليار دولار الى خارج بلاده في الفترة ( 1965 ـ 1997 ) ، وهذا المبلغ الضخم كان من الممكن ان يرفع من مستوى الصحة والتعليم والاستثمار في بلد فقير يعاني اهله من الجوع والفقر الدائم .

ـ جمع شقيق كارلوس ساليناس الرئيس السابق للمكسيك مبلغ (120) مليون دولار من عمليات فساد .

ـ يكلف الفساد الاقتصاد الأفريقي ( 148 ) بليون دولار سنويا ، أي ما يعادل 25 % من الدخل القومي لافريقيا ، مما يسبب ارتفاعا في الاسعار بمعدل (20 % ) .

ـ هناك ترليون دولار تفقد كل عام من الاموال المرصودة لتنمية المجتمعات .(7)

رابعا ـ تحليل ظاهرة جرائم الفساد

تبرز جريمة الفساد كظاهرة إجرامية عندما تتوفر مجموعة من العوامل المساعدة ، حالها حال أية ظاهرة إجرامية أخرى ، كما ان للظاهرة الاجرامية بصفة عامة خصائص وعناصر مشتركة ، سبق ان تناولناها بالدرس والتحليل في مبحث سابق (8) . إلا ان لكل ظاهرة إجرامية خصائص خاصة بها تتميز بها عن غيرها من الظواهر الإجرامية . وعلى هذا النحو فان لظاهرة الفساد خصائص خاصة بها ، ومن هذه الخصائص :

1- من حيث الطبيعة ونوعية الجناة:

تعد جرائم الفساد من الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة العامة حسب الاصل، حيث ترتكب جرائم الفساد من قبل أفراد وجماعات تشغل وظائف عامة او تمارس تكليفاً عاماً . الا ان اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003 قد اطلقت ذات الوصف على نفس النوع من الجرائم المرتكبة من قبل افراد القطاع الخاص .

وينص على جرائم الفساد في القوانين العقابية على سبيل الحصر تطبيقاً لمبدأ ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ) ، وعلى هذا النحو اختلفت القوانين المقارنة في تحديد الأفعال والسلوكيات التي تعد جرائم فساد ، الا ان هناك جرائم فساد لا يخلو منها قانون عقابي ، منها جريمة الرشوة وجريمة الاختلاس .

وجريمة الرشوة هي الأخطر على المجتمع والاقتصاد والقيم الخلقية من بين جرائم الفساد كلها . حيث انها لا تترك خلفها اثراً مادياً يمكن ان يقتفيه المحقق في الأغلب كونها تتم خلف الأبواب الموصدة وخاصة جرائم الرشوة الضخمة .

وتتجسد خطورة الرشوة في إنها تدفع مقابل الحصول على معلومات عسكرية أو اقتصادية او لتمرير صفقات فاسدة او انها تتسبب في افساد القطاع الصحي او التعليمي او إيقاع ضرر في البيئة ، مما يهدد امن وسلامة المجتمع ككل .وتعرف الرشوة بانها ( متاجرة الموظف باعمال وظيفته للقيام بعمل او الامتناع عن عمل ) .

2ـ انها جريمة تنظيمية في وجه من وجوهها : والجريمة التنظيمية هي التي ينسب ارتكابها الى المرفق العام ذاته ويطلق على هذه الخصيصة وصف او مصطلح ( انحراف المؤسسات الحكومية ) وترتبط هذه الخصيصة بالمرفق العام لا بأعضائه من الموظفين .

حيث لفت انتباه الباحثين ان هناك مؤسسات حكومية ارتبطت بالفساد منذ نشأتها وبقي سمة ملازمة لها حتى بعد تغيير ادارتها المركزية او موظفيها عبر الزمن ، كالتقاعد او النقل او العزل او الاستبدال او الحل واعادة التأسيس اوغيره ، بمعنى اخر ان طبيعة عمل المرفق العام هي التي تشجع الموظف الذي لا يمتلك حصانة ذاتية مضادة للفساد على ارتكاب الجريمة ، وهكذا تتغير الوجوه ويبقى الفساد قائماً .

وتبدو هذه الخصيصة واضحة في المؤسسات العسكرية والتجارية وهيئات الضرائب ومكاتب منح الرخص واية مؤسسة لها صلة وثيقة بالأنشطة الاقتصادية كالاستيراد والتصدير والتموين ، حيث يبدو الفساد وكأنه مرض مزمن او عاهة مستديمة في اغلب هذه المؤسسات العامة .

وعلى سبيل المثال بدت هذه الخصيصة واضحة في المؤسسات الفاسدة التي حُلت واعيد تشكيلها بإدارة مركزية جديدة في العراق بعد سقوط النظام السابق في العراق ، حيث سارت على ذات النسق في ارتكاب جرائم الفساد.

3ـ انها ظاهرة ذات صلة وثيقة بالجريمة المنظمة : تعتمد مؤسسات الجريمة المنظمة على الفساد بصفة أصلية لتحقيق أهدافها ومشاريعها الإجرامية عبر القارات ، وتمرير صفقاتها واستردادها في حالة الحجز عليها ادارياً ، وهي تعتمد على الفساد ايضاً في حماية أعضائها من المساءلة في حالة القبض عليهم واعاقة سير العدالة .

ومن جانب اخر يُشجع الفساد على نشوء الجريمة المنظمة ، فالدولة التي ينخر الفساد جسدها تشكل عامل جذب للمنظمات الإجرامية الدولية . التي تدخل البلد على شكل شركات مقاولات او مؤسسات فنية او جمعيات خيرية وتمارس في الخفاء أعمال غسيل الأموال او تجارة المخدرات او الاتجار بالبشر او تجارة الأعضاء البشرية او الدعارة .

كما وتسهم الجريمة المنظمة في تعميق ظاهرة الفساد وتفشيها بما تضخه من اموال ضخمة كرشاوى للحصول على التراخيص والاعفاء الضريبي او الكمركي والمقاولات والمعلومات السرية واخفاء الادلة الجرمية والتأثير على سير العدالة وللتخلص من الرقابة او غلق التحقيقات التي تجري بشأنها او مقابل السكوت عن أنشطتها غير المشروعة ولتصريف اية أعمال من أعمالها .

وبالمقابل تدعم مؤسسات الجريمة الموظفين الفاسدين للوصول الى المناصب القيادية العليا سواء عن طريق الدعم في الانتخابات او استخدام النفوذ لدى القيادات العليا والأحزاب السياسية في حالة التعيين .

ويكاد يجمع الباحثون على انه لولا الفساد لما كانت هناك جريمة منظمة مطلقاً، فالفساد هو البيئة التي تنمو فيها ظاهرة الجريمة المنظمة.

وتبدو العلاقة واضحة بين الفساد والجريمة المنظمة في تعريف اللجنة الرئاسية الأمريكية بشأن الجريمة المنظمة التي عرفت الجريمة المنظمة بأنها ( جماعة مستمرة من الأشخاص الذين يستخدمون الاجرام والعنف والإرادة المتعمدة للإفساد والحصول على منافع مادية والاحتفاظ بالسطوة ) . ويتحقق كل ذلك في ظل غياب الشفافية والرقابة والمساءلة او عدم فعاليتها. (9)

ان استمرار العلاقة بين مؤسسات الجريمة المنظمة والمرفق العام رغم تبدل قياداته وموظفيه ، وهو خير مثال يستشهد به للدلالة على الانحراف التنظيمي الذي ينسب للمرفق العام ذاته وللدلالة على العلاقة بين الفساد والجريمة المنظمة ايضا .

4ـ السرية والسكوت: فشلت في كثير من الأحيان جهود مكافحة الفساد في مختلف دول العالم ، ذلك أن الفساد جريمة سرية ( ضبابية ) يصعب في كثير من الأحيان اثباتها من خلال الوسائل التقليدية للإثبات والتحقيق ، بالنظر لاحتياط الفاسدين بعدم تركهم ورائهم دليلا ماديا يشير الى تورطهم في هذه الجرائم ، أذ هي تتم في اغلب الأحيان بعيدا عن أعين الناظرين وخلف الأبواب الموصدة ، ويرتكبها في الغالب أشخاص على قدر من الدراية والمعرفة بأساليب الالتفاف على القانون وفي تسخير المعرفة التي يمتلكونها لاغراض دنيئة ، ولذا يعجز ضحية الفساد غالبا عن إثبات دعواه أمام القضاء فيرجع خائبا ومضطرا لان يكون ضحية للفساد في المرات المقبلة أيضا.

ومن جانب اخر فان شركاء جريمة الفساد المستفيدين منها وضحاياها في نفس الوقت ، يتكتمون على هذه الجريمة خشية فقدان المزايا التي اكتسبوها بوساطة الفساد . فمن يحصل على امتياز المرفق العام او من يحصل على شهادة مزورة او حكم قضائي لا يستحقه قانوناً لا يمكن ان يُبلغ عن هذه الجريمة ليخسر في النهاية ما كسبه بطريق غير مشروع .

وازاء هذا التحدي الكبير سعى فقهاء القانون والمعنيين بجهود مكافحة الفساد الى إيجاد أنظمة قانونية جديدة تتسم بالفعالية والمرونة في التطبيق تكفل الحد من هذه الظاهرة الخطيرة الى ابعد مدى ممكن ودراسة اسباب الفشل الذي اعترى وسائل مكافحة الفساد.

5ـ استخدام النفوذ : تتميز هذه الجريمة في انها ترتكب غالباً من قبل رجال السياسية والأحزاب والسلطة العامة عموماً ، ممن لديهم القابلية على النفاذ إلى مؤسسات الدولة الرسمية والقضائية والعسكرية ، والتأثير عليها بما يمتلكونه من نفوذ وسلطة وهيمنة ، فضلا عن قابليتهم على الحيلولة دون تقديم الشكاوى بالتهديد والوعيد او بدفع الأموال لشراء السكوت .

6ـ الواجهة الإجرامية : تمارس جرائم الفساد باستخدام اساليب ملتوية منها، انها تمارس بوساطة شركاء يمثلون الواجهة للفاسد الأصلي الذي يشغل عادة مركزاً مرموقاً او وظيفة ذات صلة مباشرة بحاجات الناس كالرخص الإدارية ، ويبقى الفاسد الأصلي خارج مدى الرؤيا والمسؤولية . ويظهر الفاسد عادة امام الناس ووسائل الاعلام بمظهر الشريف الطاهر .

ويُختار الشركاء عادة من بين البسطاء او من ذوي النفوس الضعيفة والضمائر المنحطة الذين يسهل التخلص منهم في نهاية الامر وذلك بالقاء المسؤولية الجنائية على عاتقهم او قتلهم اذا اقتضى الامر .

7ـ عدم اللجوء الى العنف على الأغلب : تمتاز الغالبية العظمى من جرائم الفساد بانها تتم باتفاق بين الجاني والضحية ، بل ان الضحية هو الذي يسهل في الغالب ارتكابها عليه ويوفر الظروف الملائمة لها

لتحقيق مصالحه غير المشروعة او لتحقيق مصالحه المشروعة بوسائل غير مشروعة ، وعلى هذا النحو لا حاجة للعنف .ذلك ان جرائم العنف غالباً ما تلفت انتباه المجتمع وتكون محل اهتمام السلطات مما يؤدى الى كشف الجريمة ودوافعها .

وسبق القول ان هذه الجريمة ترتكب من قبل أشخاص على قدر من الفهم والقابلية على تدارك الأوضاع السيئة ، وعلى هذا النحو فانهم لا يلجئون الى العنف الا كحل اخير عندما تتوفر معلومات عنهم لدى اخرين وتشكل خطراً على حياتهم ومستقبلهم المهني وبعد فشل الأساليب الأخرى لحمل صاحب المعلومات على السكوت .

8ـ انها ظاهرة ذات طبيعة اقتصادية :

تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد الوطني امر متحقق دائما ولذا يبدو انه من مستلزماته بل ونتيجة طبيعية له ولذا فانه يبدو كخصيصة من خصائص هذه الجريمة اكثر مما يبدو كأثر من اثاره .

ويقلل الفساد من فرص الاعمار والتنمية وفرص الاستفادة من المعونات والقروض الدولية ويخفض من معدلات النمو بصورة كبيرة ، كما يؤدي الى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة.

وأكد تقرير منظمة الشفافية الدولية لسنة 2005، أن الرشاوى التي يستولي عليها قلة من البشر على حساب غالبية المواطنين، تؤثر بشكل كبير على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: القضاء على الجوع الذي يعاني منه 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار في اليوم، وتعميم التعليم الابتدائي، بحيث يستوعب 113 مليوناً من الأطفال محرومين من فرص التعليم في العالم، وتخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بواقع الثلثين، حيث يموت 11 مليوناً من الأطفال الصغار سنوياً.

ويقول رئيس المنظمة، بيتر ايجن، في عرضه لتقرير عن الفساد لعام 2005، ) يعد الفساد في المشاريع العامة الكبيرة الحجم، عقبة كبيرة أمام التنمية المستدامة، ويعد كارثة كبيرة على الدول المتطورة والنامية على حد سواء”، مضيفاً “أنه عندما يغلب الإنسان المال على القيم، تكون النتيجة إنشاءات رديئة الجودة وإدارة ضعيفة للبنى التحتية، وأن في ذلك مضيعة للمال، ونهبا لموارد الدول، وقتل أرواح في الكثير من الأحيان”، مؤكداً على ضرورة “المحافظة على الأموال والمعونات المخصصة لمشاريع إعادة البناء في بعض الدول، مثل العراق من خطر الفساد”، مضيفاً “يجب أن تكون الشفافية الشعار الأول، وخصوصا في هذا الوقت الذي تقوم فيه الدول المانحة بضخ مبالغ هائلة من أجل إعادة البناء في الدول الآسيوية التي تضررت بفعل مد تسونامي).

ويقول ايجن، “إن الفضيحة التي تم الكشف عنها في برنامج “النفط مقابل الغذاء”، الخاص بالعراق، أظهرت الحاجة الملحة لوضع قوانين صارمة فيما يتعلق بتضارب المصالح، وأهمية الانفتاح في عملية المناقصات(10).

و تخلص أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي (1000 بليون دولار أميركي) تدفع رشاوي كل عام . وأن هذا الرقم لا يتضمن اختلاس الأموال العامة أو سرقة الموجودات العامة. وتبين أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسّن سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما قد يبلغ أربعة أضعاف على المدى الطويل ويمكنها أن تخفض وفيات اَلرُّضَّع فيها بنحو 75 في المائة. وان بلدا يبلغ نصيب الفرد فيه من الدخل 2000 دولار ، يمكنه اذا جابه الفساد وعمل على تحسين نظام الادارة العامة وسيادة القانون فيه ، ان يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه الى 8000 دولار امريكي على المدى الطويل (11) .

خامسا : صور واثـار الفســـاد :

ومن جانب اخر فان لظاهرة الفساد صور متنوعة تترتب على كل منها جملة من الاثار السلبية الخطيرة ،وكما يأتي:

الصورة الاولى ـ الفساد يهدد التنمية الإنسانية :

يشكل الفساد اعتداءاً على حق الانسان في التعليم الجيد والرعاية الصحية الجيدة وحقه في العيش في بيئة نظيفة .

أ ـ الفساد في قطاع التربية والتعليم ( جريمة سرقة المستقبل )

التعليم هو بناء القدرة البشرية كما ويعتبر حجر الزاوية في التنمية الإنسانية، وهو حق وهدف وغاية في حد ذاته ، فالمعرفة قوة بحد ذاتها ، فضلا عما يوفره التعليم من من فرص لتحسين الرفاه الاجتماعي وتأثيره المباشر على نمو الاقتصاد ورفع مستوى القيم والتحضر في المجتمع . وخلصت دراسة اشار اليها تقرير الامم المتحدة للتنمية الانسانية للعام 2002 الى ان راس المال البشري والاجتماعي ـ المتعلم ـ يساهم بما لا يقل عن 64 % من أداء النمو ، بينما يسهم راس المال المادي ـ الالات والبنى التحتية الأساسية ـ بنسبة 16 % من النمو ، بينما يسهم رأس المال الطبيعي بالنسبة المتبقية . وتظهر التقديرات العالمية الى ان زيادة نسبة خريجي المرحلة الثانوية بنسبة 1 % تقترن بزيادة تتراوح بين 6 ـ 15 % في دخل 40 % من أفقر السكان . وعليه كما يؤكد التقرير فان التعليم يخدم النمو والمساواة ، وان تكاليف تحسين التعليم قد تكون ضخمة الا ان كلفة استمرار الجهل لا حدود لها . (12)

وعلى اساس هذا الوعي للدور للخطير الذي يمكن ان يلعبه التعليم في حياة المجتمع تخصص اغلب الدول ميزانيات ضخمة للتعليم مدعومة غالباً بمساعدات دولية ، ألا ان الفساد يمتص اغلب هذه الموارد ويحرف المتبقي منها عن أهدافه . حيث يؤدي الفساد الى انحدار مستوى التعليم وضياع فرص توفر تعليم شامل عالي الجودة ، وبالتالي تدني مستوى التعليم الى أدنى مستوياته ، مما يلحق اكبر الضرر بفرص التقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي، وتشكل الميزانيات الضخمة التي تخصصها الدول لقطاع التعليم هدفا للفاسدين (13) .

وقد أطلق بحق على جريمة الفساد في نطاق التعليم وصف ( جريمة سرقة المستقبل ) .

ويتجسد الفساد في أطار التعليم في الصور التالية:

1ـ عدم وجود ستراتيجية واضحة للنظام التعليمي بما في ذلك تحديد نوع القيم التي يجب ان يوفرها التعليم للتلاميذ والطلبة ، وكذلك عدم وجود برنامج لتقييم الاداء والجودة في قطاع التعليم ، وعدم الاهتمام بنوعية وكفاءة القائمين على التعليم ، يعتبر نوعا من الفساد الاداري ، من وجهة نظرنا .

كما تعتبر اللامبالاة وعدم الاهتمام بالمظهر الخارجي للطالب ومراقبة نظافته، كما كان سائداً من قبل ، نوعا من الفساد .

2ـ عزوف المعلمين والمدرسين عن أداء واجباتهم التعليمية بصورة صحيحة في نطاق المؤسسة التعليمية كوسيلة للضغط على الطلبة لدفع الرشاوى المبطنة عبر واجهة الدروس الخصوصية.

3ـ إيقاع نسبة رسوب كبيرة بين الطلبة بوسائل متعددة منها وضع أسئلة تعجيزية او تحتمل عدة وجوه للإجابة ، مما يثير الذعر بين أوساط الطلبة وعوائلهم ومن ثم يضطرون الى دفع الرشاوى والهدايا الثمينة .

وتؤدي صور هذا النوع من الفساد الوارد في الفقرتين ( 2 و3 ) الى ضياع فرصة تمييز الطالب الموهوب المتفوق او العبقري عن أقرانه من أصحاب الكفاءات المتوسطة أو المتدنية ، وهذه ولاشك نتيجة خطيرة ، ذلك ان شخص موهوب او عبقري واحد يمكن ان يغير وجهة التاريخ .

4ـ وفي اطار الإدارة التعليمية المحلية ، تعتبر المشتريات المدرسية من اهم وسائل امتصاص الأموال المخصصة للتعليم ، حيث تدون في قوائم المشتريات أسعار تزيد عن الأسعار الحقيقية للشراء تصل إلى عدة أضعاف . وتصل الفروق بين السعر الحقيقي والسعر المزيف أحيانا الى مليارات الدنانير .

5ـ تعتبر مقاولات الأبنية المدرسية الأشهر في قضايا الفساد ، حيث تستخدم مواد أولية مخالفة للمواصفات المطلوبة مما يقلل من العمر التشغيلي لهذه الأبنية فضلا عن تدني كفاءة الأجهزة والأدوات المخصصة للمؤسسة ، كالمختبرات ومقاعد الجلوس ووسائل الإيضاح ، مما يستدعي استبدالها في أوقات قصيرة لتكون محلاً للفساد مرة أخرى .

6ـ تخصيص الدراسات العليا والمنح الدراسية على أساس الانتماء الحزبي والمحسوبية او المنسوبية او مقابل الرشاوى ، مما يعني استبعاد اصحاب الكفاءات الحقيقية الذين يمكن ان يقدموا انجازات علمية وفنية وثقافية حقيقية للبلد ، والنتيجة حملة شهادات عليا لا يملكون من قدرات الخلق والابداع شيئاً يذكر وهكذا تضيع فرص التقدم والتطور ، ويبقى المجتمع يدور في حلقة الجهل والتخلف.

7ـ الغش في الامتحانات : الغش في الامتحانات والتغاضي عنه اكبر خديعة ترتكب بحق المجتمع بل هي مؤمراة وخيانة كبيرة للمجتمع ، فالغشاش يمكن ان يتخرج من كلية الطب ليكون طبيباً لا يعرف معنى الامانة الطبية او من كلية القانون ليكون قاضيا مرتشياً غير عادل او محاميا متآمرا على العدالة او سفيرا او رجل دولة انتهازي او صيدلي يمارس بيع الادوية المغشوشة او استاذا يبيع الاسئلة .. فلا يتوقع ممن كان وصوله عن طريق الغش ان يكون مستقيماً وفاضلاً، ذلك ان الفضيلة تعني استعداداً دائماً ومستمراً للنفس البشرية لفعل الخير ورد الشر ونبذ الغش والفساد ، فالفضيلة تحمل طابع الدوام والثبات والتعود ، اما اذا اتخذ السلوك الفاضل صفة التقطع فلا يعد فضيلة ، لان التقطع يرتبط بالانتهازية والتحيز والفساد ، وعلى هذا النحو فان الانسان اما ان يكون فاضلاً على طول الخط او لا يكون .

ب ـ الفساد في قطاع الرعاية الصحية ( جريمة سرقة الحياة )

ان مفهوم الرعاية الصحية الجيدة ـ كما يشير تقرير التنمية الانسانية 2002 ـ يقوم على عنصري الجودة والعدالة ، وتعني الجودة وجود نظام صحي يستجيب بشكل جيد لما يتوقعه منه الناس ، اما العدالة فتعني استجابته على قدم المساواة لكل فرد دون تمييز (14) ، ويتسبب الفساد والغش في القضاء على الجودة وفي هدر المساواة مما يفرغ مفهوم الرعاية الصحية من محتواه الفني والإنساني . حيث تشكل الميزانيات الضخمة التي تخصصها الدول للرعاية الصحية هدفاً مغرياً للفساد.

ويؤدي الفساد في مجال الخدمات الصحية الى وفاة الملايين من البشر سنوياً اغلبهم من الاطفال والنساء والحوامل رغم ان حجم الانفاق الدولي السنوي على قطاع الرعاية الصحية يقدر بحوالي ( 3) تريليون دولار.

وتتخذ جرائم الفساد في القطاع الصحي صوراً متعددة منها :

1 ـ في قطاع استيراد الادوية والاجهزة الطبية تحال مناقصات الشراء على الشركات التي تدفع عمولات او رشاوى اكثر من غيرها بناءاً على مساومات بين الشركات المجهزة والموظفين الفاسدين ، مما يدفع الشركات المجهزة الى اخذ ذلك بنظر الاعتبار اما من حيث تخفيض مستوى النوعية او رفع الاسعار المعروضة .

2 ـ استبدال الادوية ذات الجودة العالية باخرى اقل جودة او مغشوشة لاستخدامها في المستشفيات العامة ، في حين تباع الادوية الجيدة للقطاع الخاص .

على سبيل المثال تم في نيجيريا ضبط حالات تم فيها سرقة مادة الادرينالين المخصصة لانقاذ الحياة واحلال الماء بدلا عنها .

3 ـ الاتجار بالأعضاء البشرية عبر خداع البسطاء والمعوزين لبيع أعضائهم او إحالتهم لإجراء عمليات جراحية بهدف سرقة أعضائهم .

4 ـ استدراج المرضى الى العيادات الخاصة من خلال التشكيك في جدوى المستشفيات العامة .

5 ـ عمليات الفساد في عقود الشراء المحلية واعمال مقاولات بناء المستشفيات والمراكز الصحية .

6 ـ السرقة المباشرة للادوية والمستلزمات الطبية والاغذية المخصصة للمرضى من قبل موظفي المستشفيات وبيعها في الاسواق المحلية .

7 ـ الرشاوى التي تتلقاها فرق التفتيش مقابل غض النظر عن المخالفات الصحية في المصانع والمحلات العامة.

8 ـ الفساد في منظمات المجتمع المدني التي تتلقى المساعدات الانسانية الطبية ومواد الاغاثة والتموين من المجتمع الدولي وتتصرف فيها من خلال بيعها في الاسواق المحلية واختلاس الأموال المقدمة كمساعدات .

9 ـ التزوير والغش في نظام التأمينات الصحية من خلال ادراج اسماء اشخاص وهمية او وصفات طبية تصرف لغرض السرقة .

الصورة الثانية ـ الفساد يهدد العدالة ( البقشيش لميزان العدالة ):

قراءة في تقرير الفساد العالمي لعام 2007 ـ الذي اعدته مؤسسة كلوبل لصالح منظمة الشفافية الدولية .

حسب تقرير الشفافية الدولية لسنة 2007 فأن الفساد يقوض النظم القضائية في العالم ، ويحرم المواطنين من الوصول الى العدالة ، وتعزيز حق الإنسان الأساسي في محاكمة عادلة ونزيهة ، وأحيانا حتى الحق في محاكمة على الإطلاق .

وتقول هوجيت لابيل ـ رئيسة منظمة الشفافية الدولية ( فساد القضاء يعني أن أصوات الأبرياء تذهب أدراج الرياح ، بينما يفلت المذنب دون عقاب )

مؤكدة ( إن المساواة أمام القانون هي دعامة المجتمعات الديمقراطية. وعندما تفسد المحاكم بسبب الجشع او الانتهازية السياسية ، تجنح موازين العدالة ويعاني المواطنون العاديين )

وحسب التقرير ، يقسم الفساد القضائي عادة الى نوعين : النوع الأول هو التدخل السياسي في العملية القضائية من قبل السلطة التشريعية او السلطة التنفيذية . والنوع الثاني هو الرشوة .

ويكشف احدث مسح استقصائي عالمي لمنظمة الشفافية الدولية حول المواقف من الفساد في اكثر من خمسة وعشرين بلدا ، ان على الاقل واحدة من كل عشرة اسر ( 10 % ) اضطر لدفع رشاوى للحصول على العدالة.

وفي اكثر من عشرين دولة ، قال اكثر من ثلاثة من كل عشر اسر ( 30 % ) ان الرشوة كانت الوسيلة لتأمين الوصول الى العدالة او لحكم عادل في المحكمة .وكانت هذه النسبة مرتفعة في كل من البانيا واليونان واندونيسيا والمكسيك ومولدوفيا والمغرب وبيرو وتايوان وفنزويلا .

ويشير التقرير الى انه وفقا لدراسة استقصائية اجريت عام 2002 فإن ( 96 % ) من الذين استجابوا للدراسة في باكستان ممن كان لهم اتصال مع المحاكم الابتدائية قد واجهوا ممارسات فاسدة ، بينما في روسيا تقدر مبالغ الرشاوى بمبلغ ( 210 ) مليون دولار يعتقد انها تدفع سنوياً في المحاكم .

ويرى تقرير الفساد العالمي لسنة 2007 انه رغم مرور عقود من الإصلاحات من اجل حماية استقلال السلطة القضائية في العالم ، لكن الضغوط على الأحكام لأسباب او مصالح سياسية ما زال كثيفاً ، ورغم ان العديد من القضاة في كل انحاء العالم تتصرف بنزاهة ، ولكن ما زالت المشاكل موجودة .

ويمضي التقرير قائلاً : ان خطر الانتقام السياسي من القضاء النزيه الذي يرفض المساومة قد يكون سريعاً وقاسياً .وان إجراءات لتأديب وعزل القضاة الفاسدين يمكن ان تنتهي بها المطاف بأستخدامها لعزل القضاة المستقلين عن التأثيرات السياسية او نقلهم الى اماكن نائية .

كما ان الفشل في تعيين القضاة على أساس الجدارة يمكن ان يؤدي الى اختيار أشخاصا يسهل التأثير عليهم وإفسادهم . كما يمكن نقل القضاة ( المزعجين للسلطة ) او نقل القضايا الهامة للقضاة الأكثر تساهلا ، وهي الأساليب التي استخدمها رئيس بيرو السابق البرتو فوجيمري .

ويؤكد التقرير ان الفساد يتيح للسياسيين شراء الغطاء القانوني لتغطية الاختلاسات والمحسوبية والمحاباة والقرارات السياسية غير المشروعة . ان هذا التدخل يمكن ان يكون سافراً بالإيذاء البدني والتهديدات والتخويف ، او عن طريق غير مباشر عن طريق التلاعب بالتعيينات القضائية ورواتب وشروط الخدمة .

تعتبر الرشوة الجانب الاخر المظلم للفساد القضائي ، والتي يمكن ان تتم من خلال نسيج العملية القضائية نفسها ، ويشير التقرير الى ان التقارير القطرية تشير لـ (32) دولة ان القضاة قد تقبل الرشاوى لإبطاء او تسريع النظر في القضايا وقبول او رفض الاستئناف والتأثير في قضاة آخرين او لمجرد الحكم في القضية بطريقة معينة .ويسعى موظفي المحاكم الى الحصول على رشاوى مقابل الخدمات التي ينبغي ان تكون مجانا .

وقد يطلب المحامون اجور اضافية لتعجيل او تأخير القضايا او توجيه العملاء والقضايا الى قضاة معروفين بقبولهم للرشاوى .

واشار التقرير الى ان ضعف الراتب يعتبر من العوامل التي تؤثر على قابلية القاضي للفساد ، على سبيل المثال لا الحصر ، ان عدم وجود امان وظيفي بالإضافة الى ظروف وشروط العمل وعدم العدالة في الترقية والنقل وانعدام التدريب المستمر ، كلها أسباب ، تجعل القضاة وغيرهم من موظفي المحكمة عرضة للرشوة .

وتعزز إجراءات المحاكم المبهمة من عمليات الرشوة حيث تمنع وسائل الاعلام والمجتمع المدني من رصد نشاط المحاكم وفضح الفساد القضائي .

الحلول: الاستقلال، الانفتاح، توفير موارد كافية، المساءلة.

يقدم تقرير الفساد العالمي لعام 2007 توصيات مفصلة لتعزيز استقلالية القضاء والمساءلة والنزاهة الشخصية ، ويتلخص أهمها بما يأتي :

1ـ يجب ان تكون تعيينات وعزل القضاة والنيابة العامة شفافة ومستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ، وعلى أساس الخبرة والأداء .

2ـ يجب اعطاء الصحافة حرية المتابعة والتعليق على الاجراءات القانونية والمحاكمات . ونشر التقارير والمعلومات الموثقة بشأن القوانين واقتراحات التغيير في التشريعات وإجراءات المحاكم وإصدار الأحكام .

3ـ ان دور المجتمع المدني امر حتمي ، كما يؤكد التقرير ، عن طريق الرصد والتعليق على اختيار القضاة وانضباط قضاة المحاكم .

4ـ يجب ان تعكس رواتب القضاة الخبرة والأداء والتطوير المهني ، وينبغي توفير رواتب تقاعدية مناسبة.

5ـ يجب ان تستند التنقلات القضائية الى معايير موضوعية لحماية القضاة المستقلين والمحايدين.

6ـ حصول القضاة على حصانة محدودة للأعمال المتعلقة بواجباتهم القضائية.

7ـ يجب التحقيق في الادعاءات ضد القضاة بدقة عن طريق هيئة مستقلة .

8ـ يجب ان تكون عملية عزل القضاة شفافة ونزيهة مع معايير صارمة ودقيقة ، واذا كان هناك أي اتهام بالفساد ، يقدم القاضي للمحاكمة .

9ـ يجب ان توفر السلطة القضائية للجمهور معلومات موثوق بها عن انشطتها ونفقاتها .

10ـ اتاحة الحصول على المعلومات عن القوانين والتغييرات المقترحة في التشريعات واجراءات المحاكم والوظائف الشاغرة والتعيينات .

11ـ يجب ان تكون الاجراءات القضائية علنية ومسببة مع السماح بنشرها .

وتوجد توصيات اضافية وتفصيلية في تقرير الفساد العالمي لعام 2007 .

ويشير التقرير الى ان جهود منظمة الشفافية الدولية في مكافحة الفساد في النظم القضائية متنوعة منها :

1ـ مراقبة القضاة وحضور المحاكمات وتقييم جودة الأحكام .

2ـ المساعدة في فرز المرشحين لمناصب القضاة ، وتأكيد شفافية التعيين على اساس الجدارة .

3ـ تقديم المشورة المجانية لضحايا الفساد من خلال (16) مركز للمشورة القانونية في (12) دولة.(14)

الصورة الثالثة ـ الفساد يهدد القيم الاجتماعية:

فضلا عن كون الفساد يؤدى إلى القضاء على هيبة القانون، فإنه يؤدى إلى انهيار شديد فى البيئة الاجتماعية والثقافية. وعندما تقبل أجيال المواطنين الفساد كأسلوب فى العمل وطريقة للحصول على مزايا فى المجتمع يبدأ النسيج الأخلاقي المجتمعي في الانهيار، والى بروز ظواهر الإحباط وأنتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع وبروز التعصب والتطرف في الآراء والمعتقدات وانتشار الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص.

وفي ظل حكم الفساد تنشأ ممارسات لا أخلاقية للتعيين والترقية وشغل المناصب العليا أساسها التملق والنميمة والكذب والغش والتزوير والانتهازية .. وتهمل في المقابل معايير الكفاءة العلمية والمهنية والأمانة والاجتهاد والحرص ،ويترتب على ذلك وفقا للنتيجة الطبيعية لتسلسل الأحداث الى استبعاد أصحاب الكفاءة والعلم والمعرفة .. مما يؤدي بالتالي إلى فقدان الشعور الوطني وانحدار قيمة العمل وروح المبادرة والتقبل النفسي لفكرة التفريط في أداء الواجب العام والاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وزيادة حجم المجموعات المهمشة والمتضررة ، بينما يتزايد عدد الصاعدين بالوسائل اللااخلاقية فتتكون بالنتيجة نخبة سياسية متسلطة فاسدة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت