دراسة وبحث قانوني كبير عن الأنظمة الدستورية الكبرى

أولا- النظام البرلماني والنظام الرئاسي

الفرع الأول: النظام البرلماني

يتميز النظام البرلماني بالتعاون بين السلطات. إن كل جهاز يمتلك وظيفته الأساسية لكنه يساهم في تعيين الأجهزة الأخرى وفي ممارسة وظيفتها. إن الأجهزة تتوفر على وسائل ضغط فيما بينها مما يساعد على تحقيق التوازن عند ممارسة سلطاتها.

وإذا كان المعيار الأساسي لتحديد مفهوم النظام البرلماني يتمثل في المسؤولية الجماعية للوزراء أمام البرلمان مقابل إمكانية حل البرلمان من قبل الجهاز التنفيذي، فإن هذا النظام يستلزم توفر العناصر التالية:

· ثنائية الجهاز التنفيذي؛

· تقلص سلطة رئيس الدولة؛

· مسؤولية الحكومة أمام البرلمان؛

· حق حل البرلمان.

إن هذا النظام الذي عرفته معظم الدول الغربية (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا) قد انتقل إلى عدة دول إفريقية وآسيوية في بداية استقلالها (الهند، باكستان، السنغال، …).

وسنعالج هذا النظام من خلال دراسة السلطة التنفيذية (أولا) ثم السلطة التشريعية (ثانيا) ثم العلاقة بينهما (ثالثا).

أولا: السلطة التنفيذية

تقوم السلطة التنفيذية في النظام البرلماني الكلاسيكي على أساس ثنائية الجهاز التنفيذي: رئيس الدولة (أ) ثم رئيس الحكومة (ب).

أ‌ – رئيس الدولة

يتسع النظام البرلماني لجميع أشكال الحكم سواء كان النظام ملكية أو جمهورية أو إدارة جماعية. ورغم اختلاف طرق تعيينه فإن رئيس الدولة غير مسؤول سياسيا.

ففي النظام الملكي يتولى الملك الحكم بالوراثة وليس للبرلمان أي دور في تعيينه. أما في النظام الجمهوري فإن رئيس الدولة ينتخب عادة من طرف البرلمان، سواء كان يتكون من مجلس واحد أو كان مكونا من مجلسين . وقد تتبع بعض الدول مسطرة خاصة تجعل انتخاب الرئيس من اختصاص هيأة تتكون من بعض نواب المجلس وممثلي قادة القبائل.

وبغض النظر عن طريقة الانتخاب فإن ذلك لا يضعف من مركز رئيس الدولة لأنه غير خاضع للهيأة التي انتخبته إذ يعد غير مسؤول من الناحية السياسية ولا يمكن عزله إلا عند الخيانة العظمى أو خرق الدستور، وبمسطرة طويلة ومعقدة. وإذا كان رئيس الدولة في الأنظمة الجمهورية مسؤول مع ذلك عن الجنح والجنايات التي يقترفها، فإن رئيس الدولة في الأنظمة الملكية معفى من كل مسؤولية سياسية كانت أو جنائية.

ب‌ – الحكومة

تعتبر الحكومة وخاصة رئيسها، الرأس الآخر للجهاز التنفيذي. وينبغي أن تتمتع الحكومة كهيأة وزارية بثقة البرلمان، ولذلك لا بد من موافقته على تعيين رئيس الدولة للوزير الأول ثم اختيار الوزراء من بين النواب. إن رئيس الدولة يعين الوزير الأول فقط وهذا الأخير هو الذي يختار الوزراء أعضاء الحكومة ويعرضهم على رئيس الدولة. وتختلف الإجراءات المعتمدة من نظام إلى آخر، فقد يتعلق الأمر بقبول ضمني من قِبل البرلمان لأعضاء الحكومة (1) أو قد تتبع إجراءات أمام البرلمان لتنصيب الحكومة(2).

1. القبول الضمني: تستمد الحكومة وجودها في بعض الدول من تعيين رئيس الدولة وليس من تصويت البرلمان. إن الأمر يتعلق بقبول ضمني من طرف البرلمان، غير أن كل تصويت بالرفض من قبله يؤدي إلى استقالة الحكومة. وفي هذه الحالة يتمتع رئيس الدولة بسلطة واسعة في تعيين الوزراء، كحالة المغرب إلى غاية 1992 حيث كان للملك حق تعيين الوزراء وإقالتهم دون أن يحتاج ذلك إلى تصويت البرلمان أو إلى موافقة الوزير الأول.

وفي الأنظمة البرلمانية ذات الجهاز التنفيذي المزدوج لابد للوزير الأول من الحصول على ثقة البرلمان وثقة رئيس الدولة في نفس الوقت. أما في الأنظمة ذات الرأس الواحد فإن البرلمان لا يتدخل إلا شكليا في تعيين الحكومة لأن قرار رئيس الدولة وحده كاف لتشكيلها.

ويلعب النظام الحزبي دورا مهما في تحديد مجال حرية رئيس الدولة في اختيار الوزير الأول. فهذه الحرية تتوسع في حالة التعددية الحزبية، كما أنها تتقلص إذا كانت تكريسا لواقع انتخابي.

2. التنصيب: إن النظام البرلماني في بعض الدساتير يضمن تفوق البرلمان بسلطة الموافقة بالتصويت على أعضاء الحكومة من طرف رئيس الدولة. وهذا يؤدي إلى سقوط الحكومة في حالة رفض البرلمان للتعيين الصادر عن رئيس الدولة. وهو ما يطبق في المغرب انطلاقا من دستور 1992.

إن الحكومة في هذا النظام تستمد وجودها من تنصيبها من قبل البرلمان.

وتُسنَد إلى الحكومة إدارة السياسة الحكومية التي لا تدخل في نطاق مهام رئيس الدولة (لأنه غير مسؤول سياسيا أمام البرلمان)، لأنها هي التي تتحمل مسؤولية تطبيق هذه السياسة.

ثانيا: السلطة التشريعية

يمارس البرلمان السلطة التشريعية. وهو يتكون من غرفة واحدة أو غرفتين حسب ظروف كل مجموعة من البلدان:

· فبعض الدول تعرف وجود غرفة ثانية كنتيجة لتركيبها الفيدرالي، إذ تمثل الغرفة الأولى المواطنين وتمثل الغرفة الثانية الولايات الأعضاء في الاتحاد،

· كما أن هناك دول أخرى تهدف من تأسيس غرفة ثانية توجيه النظام عن طريق الحد من سلطة المجلس المنتخب بخلق غرفة ثانية غير منتخَبة.

· أما بعض الدول الأخرى، فتعتمد غرفة ثانية لضمان تمثيل نخبة معينة مكونة من الأعيان أو ممثلي الغرف المهنية أو المجالس المحلية. فالأردن يعرف مجلس النواب إلى جانب مجلس الأعيان أو ممثلي الغرف المهنية أو المجالس المحلية.

· وتذهب دساتير دول أخرى في اتجاه تأسيس غرفة ثانية تتكون من أعضاء منتخبين وأعضاء معينين بنسب متفاوتة،

· وتكتفي الدول البسيطة باعتماد برلمان من غرفة واحدة.

إن الاختيار بين برلمان مكون من غرفة واحدة أو غرفتين يقوم على أساس وأهداف متعددة، أهمها أن الغرفة الثانية تضمن تحقيق التوازن مع الغرفة المنتخَبَة بالاقتراع العام المباشر من أجل دعم الاستقرار الحكومي. وتتشبث دول أخرى بنظام الغرفة الواحدة رغم أن بعض المنظرين يعتبرون أن الازدواجية على مستوى السلطة التنفيذية يجب أن تقابلها ازدواجية على مستوى السلطة التشريعية لتفادي احتمال دكتاتورية برلمان قوي على حساب حكومة ضعيفة.

وقد عرف المغرب تطورا في هذا المجال إذ عرف في البداية برلمانا مكونا من مجلسين (1962)، ثم إدماجهما في مجلس واحد (1970،1972،1992)، وأخيرا تمت العودة إلى نظام المجلسين (1996).

أما من حيث الاختصاصات فإن المهمة الأساسية للبرلمان تتمثل في التصويت على القوانين وخاصة القانون المالي. إلا أن الملاحظ هو أن دور البرلمان أخذ يتقلص إلى مجال محدد (بناء على تأثير الدستور الفرنسي لسنة 1958).

وقد تعمد بعض الدول إلى منح الغرفتين اختصاصات متساوية، أو قد تعطي لإحداهما اختصاصات أقوى من الأخرى.

ثالثا: العلاقة بين السلطات

تقوم العلاقة بين السلطات في النظام البرلماني على أساس التعاون (أ) والتوازن (ب).

أ‌. التعاون

رغم أن الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي يمارسان مهامهما الرئيسية، فإن كلا منهما يساهم في بعض وظائف الجهاز الآخر.

· فالسلطة التنفيذية تساهم في وضع القوانين، وفي بعض الأنظمة تعطى الأسبقية لمشاريعها، ولرئيس الدولة حق طلب قراءة جديدة، كما أنه يمارس سلطة إصدار الأمر بتنفيذ القانون…

· أما السلطة التشريعية فتساهم في أعمال السلطة التنفيذية عن طريق إقرار القانون المالي والتشريعات اللازمة، والمصادقة على المعاهدات، إضافة إلى مراقبة العمل الحكومي بوسائل مختلفة كالأسئلة الكتابية، والشفوية، والاستجوابات، والتحقيقات…

ب‌. التوازن

يتحقق التوازن في النظام البرلماني من وسائل الضغط المتبادلة: المسؤولية السياسية (1) وحق الحل (2).

1. المسؤولية السياسية

يقصد بهذا المبدأ بصفة عامة أن الحكومة لا يمكن أن تمارس السلطة إلا بعد الحصول على ثقة البرلمان. إن ممارسة الحكم رهينة باكتساب ثقة الأغلبية البرلمانية، وكل سحب لهذه الثقة يترتب عنه سقوط الحكومة. ولذلك لم يعد من الضروري أن يتمتع الوزراء بثقة رئيس الدولة والبرلمان في آن واحد إلا بالنسبة لعدد قليل من الدول.

وتعتبر المسؤولية السياسية الوسيلة الأساسية لممارسة البرلمان مراقبة حقيقية للعمل الحكومي. وهي تتعلق كما رأينا سابقا بعمل الوزراء لا بعمل رئيس الدولة. ويمكن أن تكون إما فردية أو جماعية، ولو أنه عادة ما يطبع هذه المسؤولية طابع التضامن الوزاري.

وتمارَس المسؤولية السياسية بمسطرتين مختلفتين حسب الطرف الذي يتخذ المبادرة:

· طرح مسألة الثقة إذا تم ذلك بمبادرة حكومية.

· ملتمس الرقابة إذا تم ذلك بمبادرة برلمانية

ونظرا لما يمكن أن تشكله هذه الإجراءات من خطر على الاستقرار الحكومي، فإن النظام البرلماني يفترض وجود أغلبية متماسكة، إلا أنها قد لا تكون متوفرة في حالة التعددية الحزبية. وقد عملت الدساتير على تنظيم هذه الإجراءات ببعض الصرامة.

فالحكومة ليست ملزمة بتقديم استقالتها إلا بعد طرح مسألة الثقة أو بعد تصويت إيجابي على ملتمس الرقابة تفاديا لإثارة المسؤولية الوزارية بشكل مفاجئ، كما أن الدساتير تنص على ضرورة احترام أجل معين بين طرح الملتمس والتصويت عليه؛ وعادة لا يقبل ملتمس رقابة ثاني إلا بعد مدة معينة، إضافة إلى ضرورة التصويت بنسبة هامة من أعضاء المجلس: الأغلبية المطلقة من الأعضاء أو ثلثي الأعضاء.

2. حل البرلمان

يقصد بهذا الإجراء العمل على عرض الخلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على الناخبين. ويعرف الحل بأنه قرار رئيس الدولة بوضع حد لممارسة البرلمان لمهامه قبل انقضاء المدة العادية لولايته التشريعية.

وتعتبر هذه الممارسة تحريفا للنظام البرلماني المطبق في بريطانيا مهد هذا النظام، حيث أن هذا الحق يملكه الوزير الأول.

إن الدساتير تخول هذا الحق لرئيس الدولة (رئيسا أو ملكا) ليمارسه بمقتضى سلطته التقديرية، أو وفق شروط دقيقة للحد من فعاليته: كحالة حصر استعمال هذا الحق بعد وقوع أزمات وزارية متعددة، أو قد يمنع من استعمال هذا الحق خلال أجل محدد.

أما بالنسبة للدول التي تبنت ثنائية المجلس، فإن الحل قد يشمل مجلسي البرلمان، أو قد يقتصر على المجلس الممثل للسكان لوحده.

الفرع الثاني: النظام الرئاسي

يتميز النظام الرئاسي في شكله الأصلي كما تم تطبيقه في الولايات المتحدة الأمريكية بالفصل الكامل بين السلطات مع قيام توازن بينهما.

أولا: السلطة التنفيذية

يمارس رئيس الدولة السلطة التنفيذية بأكملها بما في ذلك السلطة التنظيمية. فهو الذي يسير السياسة الخارجية، وهو القائد الأعلى للقوات العسكرية، كما يوجه العمومية ويعين كبار الموظفين. وإذا كان مجلس الشيوخ الأمريكي يتدخل في مسطرة التعيين فإن ذلك لا يطبق في دول أخرى خاصة من العالم الثالث.

كما أن الرئيس يتدخل في المجال التشريعي إما عن طريق الخطابات التي يوجهها للبرلمان، وإما عن طريق تقديم مشاريع قوانين بواسطة أعضاء حزبه.

ويلاحظ أن سلطة الرئيس تتسع في المجال التشريعي بواسطة حف الاعتراض على النصوص الصادرة عن البرلمان، وذلك قبل إصدارها، بشكل لا يُمَكن من إعادة إصدار نفس النص إلا بموافقة أغلبية الثلثين. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد نظام الاعتراض الشامل على النص كله قبولا أو رفضا، فإن دساتير أمريكا الجنوبية مثلا تعتمد صيغة الاعتراض الجزئي، أي أن رئيس الدولة يمكن أن يعترض على بعض الفصول من النص دون فصول أخرى.

أما في حالة الاستثناء، فإن سلطات الرئيس تتعزز، رغم أن مسطرة إعلانها تختلف من دولة إلى أخرى.

ثانيا: السلطة التشريعية

لقد تبنت معظم الدول ازدواجية التمثيل. ويعود ذلك أساسا إلى الطبيعة الفدرالية، أو إلى الرغبة في تمثيل المجالس المحلية والهيئات المهنية. وقد أحدثت بعض الدساتير لجنة دائمة منبثقة عن البرلمان مهمتها النيابة في الفترة الفاصلة بين الدورات.

أما من حيث الاختصاصات، فإن البرلمان إضافة إلى سلطته في مجال الميزانية، يمارس السلطة التشريعية بأكملها، لكن مع إمكانية تفويض تلك السلطة لفائدة سلطة أخرى.

ثالثا: العلاقة بين السلطات

يملك البرلمان بعض الوسائل لمراقبة العمل السياسي لرئيس الدولة الذي يمكن أن تُطَبَّق عليه مسطرة الاتهام التي تؤدي إلى إقالته. وخارج ذلك فإن الرئيس غير مسؤول سياسيا، وفي مقابل ذلك فإنه لا يمتلك حق حل البرلمان.

ثانيا- النظام البرلماني في بريطانيا

تعتبر بريطانيا مهد الديمقراطية البرلمانية في العالم. ففيها نشأت و توطدت الركائز الأساسية لهده الديمقراطية ومنها انتشرت إلى مختلف الدول التي تبنتها فيما بعد.

والميزة الرئيسية التي يتصف بها النظام البرلماني في بريطانيا تكمن في انه يقوم بالأساس على مجموعة من القواعد القانونية الدستورية العرفية. ودلك بالإضافة إلى بعض القوانين العادية ذات الطابع الدستوري التي أقرتها البرلمانات في فترات متباعدة.

ولقد مر النظام السياسي في بريطانيا، عبر تاريخه الطويل بمراحل مختلفة إلى أن استقر على الوضع الذي هو عليه الآن.

الفقرة الأولى: التطور التاريخي للنظام البرلماني البريطاني

تعود الأصول التاريخية للنظام البرلماني القائم حاليا في بريطانيا إلى بدايات القرون الوسطى. فمنذ ذلك الحين عرف هذا النظام تطورات هامة بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في جسم المجتمع البريطاني.

ويمكن تلخيص هذا التطور التاريخي بثلاث مراحل رئيسية استمرت الأولى من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، وتميزت بالصراع بين الأرستقراطية والملك من أجل توطيد الحريات العامة والحد من السلطة الملكية المطلقة. ودامت الثانية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتم فيها توطيد سلطة البرلمان وإقامة الأسس التقليدية للنظام البرلماني. وأما المرحلة الثالثة التي بدأت خلال النصف الأول من القرن الماضي فقد كانت مرحلة النضال في سبيل إرساء قواعد النظام الديمقراطي.

أولا: الصراع من أجل الحريات العامة، والحد من السلطة الملكية المطلقة

تميز تاريخ بريطانيا منذ استيلاء النورمانديين عليها في عام 1066 بصراع مرير على السلطة بين الملوك الذين كانوا يطمحون لحكم مطلق و بين طبقة النبلاء الأرستقراطيين،ملاكي الأراضي، الذين كانوا يحرصون على صيانة امتيازاتهم ويطمعون بالحد من سلطات الملك المطلقة لمصلحتهم.

و خلال هدا الصراع الطويل الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر اضطر الملوك أمام ضغط النبلاء و تمردهم للتخلي عن جزء من سلطاتهم وللاعتراف للنبلاء ببعض الحقوق والحريات. إلا أن تراجع الملوك في هدا الصدد لم يخل من عدة محاولات ناجحة لإعادة بسط الحكم المطلق الذي لم يتم وضع حد نهائي له ألا بعد ثورة 1688.

ولقد تجلت انتصارات النبلاء خلال هدا الصراع بعدد من الشرع التي أعلنها الملوك أو اضطروا للقبول بها و التي كان من أهمها الماكناكارتا، وعريضة الحقوق، وقانون الهابياس كوربوس (أو قانون سلامة الجسد)، ولائحة الحقوق.

1- الماكنكارتا ( Magna – Carta) أو الشرعة الكبرى وأصدرها عام 1215 الملك جون، المعروف باسم جون بلا أرض (Jean sans terre) على أثر الثورة التي أعلنها الأرستقراطيون ورجال الدين بعد أن أخذ حكم الطاغي يهدد مصالحهم. فما كان منهم إلا أن تمردوا على سلطته ونشروا لائحة ضمنوها مطالبهم، ولم يعودا للطاعة إلا بعد أن رضخ الملك ووافق على الاعتراف لهم بالحقوق الواردة في لائحتهم.

ولقد تضمنت الشرعة عددا من المواد المتعلقة بحقوق النبلاء الإقطاعيين وخاصة لجهة صيانة ممتلكاتهم من تعديات الملك وتأمين حرية الكنيسة في اختيار رؤسائها والتزام النزاهة والعدالة في الإدارة والقضاء وضمان الحرية الشخصية لأفراد الطبقة الأرستقراطية.

كما نصت الشرعة على اعتراف الملك بحق البرلمان في الموافقة على فرض الضرائب، وفي تقديم العرائض والاقتراحات له. واشترطت الشرعة تشكيل لجنة من 25 عضوا من الطبقة الأرستقراطية مهمتها مراقبة تنفيذ أحكامها، وذلك تحت طائلة استئناف التمرد في حال مخالفة الملك لها أو نقضه لأحكامها.

إلا أن الملك جون تنكر في العام التالي لهذه الشرعة وتمكن من تجاهل ما جاء فيها من بنود. وهكذا عاد الحكم المطلق للظهور، وظل قائما حتى مطلع القرن السابع عشر. وطوال تلك المدة كانت الماكناكارتا تمثل رمزا للصراع في سبيل الحرية، ومن هنا استمدت قيمتها كأهم وثيقة دستورية في تاريخ بريطانيا السياسي، باعتبارها المصدر الأول وحجر الزاوية للحريات الإنجليزية الحديثة.

ومع ارتقاء الملك جاك الأول، أول ملوك أسرة الستيوارت، عرش بريطانيا في عام 1603، واستئنافه للحروب التاريخية ضد ملوك فرنسا، سنحت الفرصة ثانية للنبلاء للمطالبة بحقوقهم. واتخذت هذه المطالبة شكل صراع بين الملوك والبرلمان الذي يمثله حول حق هذا الأخير في الموافقة على فرض الضرائب. لما كان الملك الجديد مضطرا للحصول على الأموال اللازمة لتغطية نفقات الحرب اضطر لتنازل أمام البرلمان ووافق على منحه حق التصويت علة فرض الضرائب.

2- عريضة الحقوق (Pétition of right) وزهي الوثيقة التي أصدرها الملك شارل الأول في عام 1628 بعد تجدد الخلاف الذي نشب بينه وبين البرلمان الذي اعترض على محاولة الملك فرض ضرائب جديدة على النبلاء دون موافقته. وقد أكدت العريضة، مرة أخرى، على حقوق البرلمان ولاسيما في مجال مناقشة المسائل الضريبية وإقرارها، كما تضمنت تأكيد على مبدأ الحرية الشخصية وتحريم توقيف الكيفي للمواطنين.

ورغم إعلان الملك لهذه العريضة فقد تفاقم الصراع بينه وبين البرلمان إلى أن انتهى بقيام ثورة 1642 التي قادها أوليفر كروموبل (O. Cromwell) وحظيت بتأييد البرلمان، ولاسيما مجلس العموم، والتي قامت بإعلان الجمهورية في عام 1649، وبإصدار أول دستور خطي حديث في بريطانيا والعالم. لكن الجمهورية الجديدة لم تصمد إلا أشهرا قليلة بعد وفاة زعيمها في عام 1658، حيث عاد النظام الملكي مجددا إلى البلاد باعتلاء الملك شارل الثاني العرش في عام 1660 بعد أن تعهد للبرلمان باحترام سلطاته وحقوقه، واعترف للمواطنين بالحرية الدينية.

3- قانون الهابياس كوربوس ( Habeas Corpus Act) (أو قانون سلامة الجسد) وهو قانون أصدره البرلمان البريطاني في عام 1679. واضطر الملك شارل الثاني للموافقة عليه. والغاية منه ضمان الحرية الشخصية للمواطنين و حمايتها من تعسف السلطة. و يتضمن القانون القواعد الأساسية المتعلقة بحماية المواطن من الاعتقال، وبالإجراءات القانونية اللازمة للآعتقاله و لتقديمه للمحاكمة أمام القضاء بعد ذلك. ويعتبر هذا القانون الهام المحور الأساسي للحريات الشخصية التي ما يزال يعتد بها في بريطانيا.

4- لائحة الحقوق (Bill of rights) وهي إعلان دستوري وضعه البرلمان ووافق عليه الملك ويليم الثالث، في عام 1689، بعد اعتلائه العرش بدعوة من البرلمان على إثر الثورة التي نشبت في العام السابق ضد الملك جيمس الثاني، آخر ملوك آل ستيوارت، الذي حاول العودة بالبلاد، مرة أخرى، إلى عهود الحكم المطلق. وقد وضعت هذه الثورة واللائحة التي نجمت عنها حدا نهائيا للحكم الملكي المطلق في بريطانيا وفتحت المجال لعهد جديد هو عهد الملكية البرلمانية. فقد تخلى الملك بموجب هذه اللائحة عن حقه السابق في التشريع، وفي تعليق مفعول القوانين. كما أكدت اللائحة حرمان الملك من فرض أية ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان، وأقرت حق هذا الأخير في مراقبة نفقات الدولة وتحديدها سنويا، وحظرت على إنشاء المحاكم بدون موافقة البرلمان، كما منعته من القيام بأي تجنيد منظم للقوات في وقت السلم، وأقرت اللائحة، أخيرا، عددا من الحريات الشخصية واعترفت للمواطنين بحق تقديم العرائض.

ثانيا: قيام النظام البرلماني

أخذت ملامح النظام البرلماني في بريطانيا تبرز منذ أواخر القرن السابع عشر وخاصة بعد ثورة 1688. ثم ما لبثت أسس هذا النظام وقواعده التقليدية أن اتضحت وترسخت خلال القرنين التاليين. فالصراع الذي دار بين الملك والبرلمان، الممثل للأرستقراطية، خلال القرون الخمسة السابقة أدى تدريجيا إلى ضعف وزن الملك وتأثيره في الحياة السياسية في حين انتقلت مهام ممارسة الحكم إلى حكومة متضامنة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت مراقبته. وهكذا أصبح البرلمان، الممثل للإرادة “الشعبية” المصدر الأساسي للسلطة بينما تحولت الملكية إلى مؤسسة رمزية تتولى ولا تحكم.

ولقد لعبت بعض الظروف التاريخية الطارئة دورا مساعدا وهاما في قيام النظام البرلماني وتوطيد أسسه.

ومن أهم هذه الظروف أن الملك ويليم الثالث اضطر للتخلي عن جزء هام من مقاليد الحكم ومهامه إلى وزرائه، وذلك نتيجة انهماكه بأمور الحرب مع الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، في بداية القرن الثامن عشر. ونظرا لما كانت تتطلبه هذه الحرب من نفقات باهضة لابد من تغطيها بواسطة الضرائب الجديدة التي لا سبيل لفردها إلا عن طريق البرلمان، فقد اضطر الملك لاختيار وزرائه من بين أعضاء البرلمان، وخاصة من الأعضاء المنتمين لحزب الأغلبية فيه وذلك رغبة في كسب تأييده ودفعه للموافقة على الاعتمادات التي تتطلبها الحرب. وهكذا نشأ واستقر العرف البرلماني المتمثل بأن يترك الملك شؤون الحكم الفعلية لوزارة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت إشرافه ومراقبته. وبعد وفاة الملك ويليم الثالث، وخليفته الملكة أنا، تولى العرش للملك جورج الأول، (1714)، وكان هذا الملك الألماني الأصل يجهل اللغة الإنجليزية تماما لذا كان لا يستطيع المشاركة في مناقشات مجلس الوزراء. وأدى هذا الأمر لنشوء واستقرار قاعدة عرفية جديدة في النظام البرلماني البريطاني وهي أن يجتمع الوزراء فيما بينهم فيتداولوا ويقررا ما يشاءون في أمور الدولة بغياب الملك، وبدون أخذ رأيه فيها.

وأدة قيام الوزراء بممارسة مهام الحكم الفعلي بعيدا عن تأثير وتدخل الملك الذي كان مضطرا لاختيارهم من بين أعضاء البرلمان، لظهور القاعدة البرلمانية الجوهرية المتمثلة بمسؤولية الحكومة سياسيا أمام البرلمان، وكان وزراء الملك في السابق، المختارين من قبله بحرية ليعاونوه في شؤون الحكم، مسؤولين مباشرة أمامه فقط. وهكذا أضيفت إلى مسؤولية الوزراء السابقة أمام الملك، مسؤولية جديدة أمام البرلمان. وقد استمرت قاعدة المسؤولية السياسية المزدوجة هذه طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت خلال ذلك تتحول شيئا فشيئا ومع ازدياد سلطة البرلمان ونفوذه لتصبح مسؤولية وحيدة اتجاه البرلمان فقط.

ولم يكن الوزراء في البدء مسؤولين أمام البرلمان إلا انفراديا، كما كان حالهم أمام الملك. وقد بدأت هذه المسؤولية بالظهور في الميدان الجنائي حيث كان باستطاعة مجلس العموم أن يوجه للوزراء الاتهام في حال ارتكابهم لجرم ما، ويؤدي هذا الاتهام لتقديمهم للمحاكمة أمام مجلس اللوردات، وشيئا فشيئا أخذ البرلمان يعتبر ارتكاب الوزراء لأخطاء سياسية فادحة بمثابة جرم يمكن أن يؤدي إلى توجيه اتهام يكون من نتيجته على الأقل إجبار وزير على استقالته.

لما كان الوزراء قد اعتادوا أن يجتمعوا فيما بينهم ويتداولوا ويقرروا ما يشاءون من أمور متعلقة بقضايا الحكم، فقد ظهر لديهم شعور من التكافل والتضامن ما لبث أن تطور تدريجيا ليأخذ شكل المسؤولية التضامنية أمام البرلمان باعتبارهم يشكلون هيئة جماعية واحدة.

ومقابل تخليه لوزرائه عن مهام الحكم الفعلي، احتفظ الملك لنفسه بحق اعتباره غير مسؤول عن أعماله اتجاه أي سلطة أخرى. وإذا كانت حرمة الملك وقدسية شخصه قاعدة مؤكدة منذ القدم ومستندة للاعتقاد القائل بأن الملك لا يمكن أن يخطأ فإن هذه القاعدة أصبحت مقبولة بصورة أفضل بعد ابتعاد الملك فعليا عن ممارسة مسؤوليات الحكم.

وهكذا استقرت من خلال الظروف والممارسات العرفية مجموعة القواعد الأساسية التي اتصف ويتصف بها النظام البرلماني.

ثالثا: إرساء أسس الديمقراطية

كانت الديمقراطية بمعناها الواسع، الذي يفترض مشاركة جميع المواطنين، على قدم المساواة، في تقرير شؤون الحكم وتسيير القضايا العامة، غير معروفة في المجتمع البريطاني حتى بداية القرن الحالي. فالنظام البرلماني الذي أمكن تحقيق خلال المرحلة السابقة من خلال الصراع بين الأرستقراطية والملك. كان نظاما غير ديمقراطي لأنه كان يحصر قضية المشاركة في الحياة السياسية بفئة قليلة من أفراد الشعب تضم بشكل رئيسي أبناء الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، في حين أن الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب كانت مستبعدة عن الحياة العامة ومحرومة من أبسط الحقوق السياسية.

ولقد تصدت الطبقة البرجوازية منذ بداية القرن التاسع عشر لقيادة الحركة الديمقراطية وذلك خدمة لمصالحها السياسية وتلبية لمطالب جماهير سكان المدن الكبرى التي كانت ترى أن من غير الطبيعي استمرار إبعادها عن الحياة السياسية بعد أن ازداد وزنها وتأثيرها في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.

وقد استهدف نضال الحركة الديمقراطية تحقيق أمرين رئيسيين القضاء على نظام الانتخاب القديم وإقرار مبدأ الانتخاب العام و الشامل، وإعطاء الأولوية في الحياة السياسية لمجلس العموم باعتباره المجلس المنتخب من الشعب والمعبر بالتالي عن إرادته.

1- نظام الانتخاب: كانت المؤسسات السياسية التمثيلية التي قامت في بريطانيا منذ عدة قرون، لا تعبر إلا عن إرادة جزء يسير من الشعب البريطاني. أما الأغلبية الساحقة من هذا الشعب فلم يكن لها أي دور في الحياة السياسية. فنظام الانتخاب الذي كان معتمدا لاختيار أعضاء مجلس العموم كان نظاما مقيدا يحصر حق الانتخاب بفئة قليلة من المواطنين، الذكور والأغنياء الذين يؤدون للدولة مقدارا مرتفعا من الضرائب. أما القسم الأكبر الباقي من المواطنين فكان محروما من جميع الحقوق السياسية ولاسيما حق الانتخاب والتوظيف وذلك بسبب الوضع الاجتماعي (البرجوازية الصغيرة والعمال) أو المذهب الديني (الكتوليك واليهود والبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية) أو ضعف الولاء للتاج (الإرلنديين) كما كان نظام الانتخاب نظاما غير متكافئ لا تتمثل بموجبه مختلف المدن والمقاطعات بنسبة عدد سكانها. فقد كانت المقاعد المخصصة للمدن والمقاطعات في مجلس العموم محددة بإرادة ملكية منذ زمن بعيد. ولم يطرأ عليها تعديل يذكر رغم التغيير الجذري الذي حدث في المجتمع البريطاني، خلال القرنين الماضيين، نتيجة الثورة الصناعية، و الذي أدى إلى تضخم عدد سكان المدن بشكل كبير بالنسبة لعدد سكان المقاطعات الريفية، و إلى ظهور مدن صناعية جديدة وهامة لم يكن لها أي ممثل في المجلس.

ولقد بدأت الحركة الديمقراطية بتحقيق أولى انتصاراتها في هذا المجال في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ففي 1828 تمكنت من دفع البرلمان لإصدار قانون يتضمن الإقرار بالحقوق السياسية للبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية، وفي العام التالي دفعت البرلمان أيضا لإصدار قانون مماثل يقر بهذه الحقوق للأقلية الكاثوليكية.

وفي عام 1832 وبعد فترة من النضال والاضطرابات الثورية العنيفة.حققت الحركة الديمقراطية انتصارا هاما تمثل بصدور “قانون الإصلاح” الذي زاد عدد مقاعد مجلس العموم ووزعها على المدن والمقاطعات التي كانت محرومة منها، كما وسع حق الانتخاب ليشمل فئات جديدة من المواطنين وذلك بتخفيض المقدار المطلوب من الضرائب السنوية التي يجب على المواطن دفعها لخزينة الدولة من أجل التمتع بحق الانتخاب.

إلا أن هذا الانتصار، على أهميته، لم يؤد إلى دائرة توسيع نطاق الجسم الانتخابي، إلا بحدود ضيقة استفادت منه بالدرجة الأولى الطبقة البرجوازية الكبيرة التي زادت عدد ممثليها في مجلس العموم، ولهذا استمر نضال الحركة الحيمقراطية الشعبية من اجل التوسيع التدريجي لحق الانتخاب، وظهرت في عام 1838، الحركة الشارتية (اللائحية) التي أعلنت أن هدف نضالها النهائي يتمثل بتحقيق مبدأ الانتخاب العام والشامل والسري. ولقد أثمرت جهود هذه الحركة شيئا فشيئا ففي عام 1876 صدر قانون يقضي بتخفيض مقدار الرسم الانتخابي، وفي عام 1884 صدر قانون آخر ألغيت بموجبه فروقات تمثيلية بين المدن والأرياف، وفي 1918 توجهت الحركة الديمقراطية الشعبية انتصاراتها بإقرار حق الانتخاب العام والشامل للرجال والنساء مع تميز واحد يكمن في أن الرجال يبلغون سن الرشد الانتخابي في الواحدة والعشرين، في حين أن النساء لا يبلغونه إلا في الثلاثين وقد ألغي هذا التمييز بموجب قانون صدر في عام 1928. وفي عام 1970 صدر قانون جديد قضى بتخفيض السن الانتخابي للرجال والنساء إلى 18 سنة.

2- ازدياد وزن مجلس العموم: إن توسيع حق الانتخاب ليشمل كافة القطاعات الشعبية كان بحاجة لكي يأخذ كل معانيه السياسية أن يقترن بتغيير وزن المجلس الممثل للإدارة الشعبية داخل البرلمان.

فحتى عام 1909 كان مجلس اللوردات متمتعا بسلطات تشريعية ومالية وقضائية تميزه عن مجلس العموم وتعطيه مركز الأولوية داخل البرلمان. وكان لابد للحركة الديمقراطية أن تتعرض بالنقد لهذه المؤسسة الأرستقراطية وذلك من أجل إضعافها لصالح مجلس العموم لقد سنحت الفرصة للحركة الديمقراطية لتحقيق هذا الهدف على إثر الخلاف الذي نشب في عام 1909، بين حكومة الأحرار ومجلس اللوردات حول إقرار مشروع قانون الموازنة العامة الذي كان يتضمن بعض التدابير الإصلاحية ومن بينها فرض ضريبة على الدخل. وقد اعتبر المجلس أن من شأن هذه التدابير إحداث تغيير جدري للمجتمع يهدد مصالح أرستقراطية، ولذلك قام برفض الموافقة على المشروع، وإزاء هذا الموقف، قررت الحكومة الاستمرار في المواجهة وإدخال الشعب في القضية، فطلبت إلى الملك حل مجلس العموم وإجراء انتخابات جديدة \يمكن من خلالها معرفة ما إذا كانت الأغلبية الشعبية تساند الحكومة في موقفها أم تعارضها وتؤيد مجلس اللوردات. وعندما أسفرت الانتخابات عن فوز الأكثرية الجديدة من حزب الأحرار تأكدت الحكومة من تأييد الشعب لها فزادت من ضغطها على مجلس اللوردات الذي لم يجد أمامه إلا الإذعان بالإرادة الشعبية فرضخ للحكومة المجسدة لها، واضطر في عام 1911 للتصويت بالموافقة على مشروع قانون هام عرف فيما بعد “بالقانون البرلماني” الذي نص على حصر جميع الصلاحيات المالية بمجلس العموم فقط، وعلى قصر صلاحيات مجلس اللوردات، في المجال التشريعي العادي، على تصويته بالفيتو على مشاريع القوانين التي يقرها مجلس العموم. وكان من شأن هذا التصويت تأجيل تنفيذ القانون لمدة عامين، وفي عام 1949 أقر البرلمان البريطاني قانونا جديدا خفض بموجبه هذه المدة وجعلها تقتصر على عامل واحد فقط.

وهكذا أصبح مجلس العموم المنتخب من الشعب هو المجلس الأهم في البرلمان البريطاني، في حين تراجع مجلس اللوردات ليكتفي بدور رمزي وهامشي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية في النظام البرلماني البريطاني

يقوم النظام البرلماني في بريطانيا على أساس تفاعل تام بين عدة مؤسسات سياسية من بينها المؤسسة الانتخابية والحزبية والبرلمان، والحكومة، الملك.

أولا: المؤسسة الانتخابية

1- أهميتها: تلعب المؤسسة الانتخابية دورا هاما في الحياة السياسية البريطانية رغم أنها قد تبدو ذات أهمية ثانوية إذ نظرنا للموضوع نظرة غير عميقة. فوجود مؤسسة ملكية القائمة عبر مبدأ الوراثة وكذلك مجلس اللوردات المكون من أعضاء يعينون لمدى الحياة أو يتولون مناصبهم بالوراثة قد يدعو للاعتقاد بأن الانتخابات لا تلعب إلا دورا هامشيا محدودا في الحياة السياسية إلا أن الحقيقة مغايرة لهذا تماما.

فالمؤسسات السياسية الوراثية لم يعد لها تأثير كبير في البلاد. أما الدور الرئيسي الذي تلعبه المؤسسة الانتخابية فيبدو من خلال تفاعلها وتأثرها بطبيعة النظام الحزبي القائم في البلاد، والمتميز بوجود حزبين رئيسيين فيها. فلقد أدى انقسام الأغلبية الساحقة من الشعب البريطاني إلى تيارين سياسيين رئيسيين: يتجسد الأول بحزب المحافظين ويتمثل الثاني بحزب العمال، إلى زيادة أهمية وفعالية وتأثير المؤسسة الانتخابية في حياة البلاد، بالنسبة للمؤسسات السياسية الأخرى. فالشعب البريطاني عندما يتجه، مبدئيا مرة كل خمس سنوات، إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس العموم ويحمل إلى هذا المجلس أغلبية من النواب منتمين إلى أحد الحزبين الكبيرين إنما يقوم بشكل مباشر باختيار السياسة العامة التي يفضل أن تسير عليها البلاد خلال السنوات الخمس التالية، كما يقوم، في نفس الوقت، باختيار الوزير الأول، الذي سيكون حكما رئيس الحزب الفائز بالانتخابات، وأعضاء الحكومة الذين سيكونون أيضا من بين أعضاء اللجنة القيادية لهذا الحزب.

ونظرا للأهمية البالغة لهذه النتائج المباشرة للانتخابات في بريطانيا، فإن الوزير الأول ومن ورائه الحكومة بكاملها، يجد نفسه مسؤولا، بشكل مباشر وفعلي، عن سياسته وأعماله، أمام الشعب أو الهيئة الناخبة وليس أمام أية سلطة أخرى. وفي هذا الأمر تعديل عملي للقاعدة النظرية الرئيسية في النظام البرلماني والمتمثلة في مسؤولية الحكومة والوزير الأول أمام البرلمان. فالواقع أن الوزير الأول في بريطانيا لم يعد يخشى حدوث أي صدام حقيقي مع مجلس العموم وذلك بسبب وجود أغلبية حزبية منضبطة ومؤيدة له و لحكومته، بشكل ثابت داخل المجلس ولقد عطل هذا الواقع جوهر الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة ولم يعد الوزير الأول يحسب حسابا حقيقيا إلا للشعب حين يتخذ مواقفه المختلفة من القضايا السياسية والعامة الأخرى ويتجسد هذا الأمر من خلال حرصه على فوز حزبه بالانتخابات العامة المقبلة.

ويتحقق الوزير الأول من رضا الشعب عن مواقفه وتأييده لسياسته في مناسبات مختلفة يأتي في مقدمتها الانتخابات الجزئية وحل مجلس العموم قبل انتهاء مدته القانونية.

فالانتخابات الجزئية تحدث في بريطانيا باستمرار لملئ المقاعد النيابية التي تشغل بسبب وفاة بعض أعضاء مجلس العموم أو استقالتهم لأي سبب كان. وتعتبر هذه الانتخابات وسيلة مهمة لقياس الاتجاهات السياسية للرأي العام بحيث تقوم الحكومة والمعارضة بتعديل مواقفها على ضوء نتائجها.

أما حل مجلس العموم قبل انتهاء مدته الرسمية، فقد أصبح نوعا من التقليد المتبع في بريطانيا ويحدث هذا الحل عادة بسبب رغبة الحكومة بمعرفة رأي الشعب في قضية عامة مهمة ومصيرية بالنسبة للبلاد، أو بسبب رغبتها في تدعيم قوة الأغلبية الحزبية المؤيدة لها في المجلس، وفي هذه الحالة الثانية يختار الوزير الأول موعد الحل وإجراء انتخابات الجديدة في وقت يعتقد بأنه أكثر ملائمة لفوز حزبه. ومهما يكن السبب، فإن هذا الأمر يسمح للناخبين بإبداء آرائهم في القضايا السياسية في فترات زمنية غير متباعدة نسبيا.

2- نظام الانتخاب: يعتمد النظام البريطاني أسلوب الانتخاب الفردي الأكثري لدورة واحدة. حيث تقسم البلاد إلى دوائر انتخابية صغيرة جدا يخصص لكل منها مقعد واحد في مجلس العموم. وعند إجراء الانتخابات يعتبر رابحا المرشح الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات المقترعة مهما كان هذا العدد ولقد بدأ تطبيق هذا الأسلوب في بريطانيا منذ القرن الثالث عشر وما زال معمولا به حتى الآن دون انقطاع.

ويتميز هذا الأسلوب الانتخابي ببعض الحسنات كما أن له في الوقت ذاته بعض المساوئ.

أما حسناته فتكمن في أنه يساعد على استمرار انقسام الناخبين بين حزبين كبيرين، وهذا ما يؤدي غالبا لإيجاد أغلبية نيابية منسجمة وحكومة مستقرة. إلا أن هذا النظام يتطلب إيجاد تنظيم جيد للأحزاب. فبما أن الانتخابات تتم من الدورة الأولى فإن على كل حزب أن يحشد أقصى الطاقات من أجل جمع أكبر عدد من الأصوات. كما يتطلب من الناخب نوعا من الوعي لأهمية الصوت الذي يدلي به والقرار الذي يتخذه بخصوص المرشح والحزب الذي يفضله. وهذا ما يدفعه عادة لاختيار المرشح المنتمي لأحد الحزبين القويين، والامتناع عن التصويت للأحزاب الصغيرة أو للمستقلين الذين لن يكون بإمكانهم الحصول على أغلبية في مجلس العموم، ولن يستطيعوا بالتالي التأثير بشكل حاسم على سياسة الحكومة والبلاد. ومن حسنات هذا النظام أيضا وضوحه وبساطته وعدم تعقيده فبالنظر لضيق حدود الدائرة الانتخابية يكون من السهل نسبيا على الناخب التعرف على المرشحين وتفضيل أحدهم، وبالنظر لأن انتخابات تحسم في دورة واحدة وعلى أساس قاعدة الأكثرية النسبية فإنه يكون من السهل التعرف بشكل سريع جدا على نتائج العملية الانتخابية.

إلا أن لأسلوب الانتخاب هذا، بالمقابل، بعض المساوئ، ومن أهم هذه المساوئ أن هذا الأسلوب غير عادل ولا يعطي صورة صادقة عن الاتجاهات السياسية للرأي العام. فقد يحصل أن يفوز أحد الأحزاب بأغلبية المقاعد في مجلس العموم دون أن يكون قد حصل بالفعل على الأغلبية النسبية للأصوات في مجمل البلاد. ففي عام 1951 على سبيل المثال فاز حزب المحافظين الانتخابات العامة وحصل على 51.36 بالمائة من المقاعد رغم أنه لم يجمع إلا نسبة 47.96 بالمائة من الأصوات الإجمالية في حين أن حزب العمال حصل على نسبة أقل من المقاعد (47.20 بالمائة) رغم تجميعه لنسبة أعلى من الأصوات الإجمالية بلغت نحو 48.80 بالمائة. وسبب هذه الظاهرة هو أن أحد الأحزاب يمكنه أحيانا أن يفوز في عدد كبير من الدوائر، وذلك بحصوله، في كل منها، على تفوق بسيط على خصمه في عدد الأصوات. في حين يفوز الأخر بعدد قليل من الدوائر التي يحصل في كل منها على أغلبية كبيرة جدا من الأصوات. وهذا الأمر يعطي للحزب الثاني عددا كبيرا نسبيا من الأصوات وعددا قليلا من المقاعد النيابية، ولهذا يمكن القول إن أسلوب الانتخاب هذا ينطوي رغم بساطته، على شيء من الظلم ومن مظاهر عدم العدالة في هذا النظام أيضا أن الأحزاب الأخرى الأقل شئنا وقوة في البلاد تحصل عادة على عدد من المقاعد النيابية أقل بكثير من عدد الأصوات التي حصلت عليها نسبيا في مجمل أنحاء البلاد ففي انتخابات 1974، على سبيل المثال، حصل حزب الأحرار على نسبة 19.3 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين في مختلف أنحاء البلاد في حين لم يحصل إلا على نسبة 2.2 بالمائة من عدد المقاعد الإجمالية في مجلس العموم. و السبب في هذه الظاهرة أن الأحزاب الضعيفة نسبيا تحصل في عدد كبير من الدوائر الانتخابية على عدد من الأصوات لا يصل لحد الأكثرية النسبية ولا يسمح لمرشحها في كل دائرة منها بالفوز بالمقعد المخصص لها. وبذلك تضيع قيمة هذه الأصوات وتذهب هدرا ولا تأثر بالتالي في تحديد عدد المقاعد التي يفوز فيها الحزب في المجلس.

ومن مساوئ هذا النظام أيضا أنه يخضع الحياة السياسية لإرادة نفر بسيط من الناخبين المترددين وخاصة في مثل هذه البلاد التي تعيش في ظل نظام الثنائية الحزبية فمن الواضح أن لكل حزب سياسي قواعده الانتخابية الثابتة والمستقرة. وهذا يعني أن القسم الأعظم من الناخبين مستقرين إلى حد كبير في اختياراتهم وانتماءاتهم السياسية. ولكن تبقى هناك أقلية من الناخبين الغير مستقرين على رأي سياسي معين.

وهذه الأقلية تنحاز حينا لهذا الحزب وحينا للحزب الآخر وذلك بسبب جملة من الأسباب والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الظرفية. ولهذا فإن الصراع والتنافس الانتخابي بين الحزبين الكبيرين يجري عادة من أجل كسب ثقة وتأييد أكبر عدد من الأصوات هذه الأقلية المترددة. وبقدر نجاح الحزب بهذا يستطيع أن يحقق لنفسه الفوز في الانتخابات ولهذا فإن هذه الفئة القليلة تصبح فعليا المتحكمة في تقرير السياسة العامة في البلاد من خلال تأييدها لهذا الحزب أو ذالك.

وتزداد أهمية هذه الظاهرة عندما نعلم أن هذه الأقلية من المواطنين تتبني عادة مواقف سياسية متوسطة بين اليسار واليمين وإن الحزبين الكبيرين يتجهان من أجل كسب ثقة وتأييد هذه الأقلية للتخلي عن أفكارهما ومواقفهما المتطرفة ولتبني حلول وبرامج سياسية وسطية أكثر فأكثر. وهذا الأمر يدفع الحزبين السياسيين الكبيرين في بريطانيا نحو الوسط بحيث يمكن القول الآن أنه بسبب وجود هذه الظاهرة إلى حد كبير، فإنه لم يعد هناك حزب يساري وآخر يميني وإنما هناك حزب يمثل يمين الوسط وآخر يمثل يسار الوسط.

ثانيا: المؤسسة الحزبية

يعرف البعض النظام السياسي البريطاني بأنه نظام حكم حزبي، وذلك بمعنى أن السلطة تكون طوال مدة ولاية مجلس العموم بيد الحزب المتمتع بالأغلبية البرلمانية فيه. وعلى هذا يلعب الحزب الحاكم وقيادته بشكل خاص دورا أساسيا في رسم معالم الحياة السياسية في البلاد ومن الواضح أن السبب الجوهري في قدرة حزب واحد على التمتع بأغلبية مقاعد مجلس العموم يعود انقسام الأغلبية الساحقة من الشعب البريطاني إلى حزبين كبيرين لابد لأحدهما، غالبا، من الفوز بأغلبية المقاعد أثناء الانتخابات.ونظرا لاستمرار هذه الظاهرة التاريخية منذ عدة قرون،سمي النظام البريطاني أيضا بأنه نظام يعيش في ظل الثنائية الحزبية، وهذا بالرغم من وجود عدة أحزاب أخرى هامشية في البلاد.

أ- نشأة نظام الثنائية الحزبية: يعود تاريخ الحركة الحزبية، في بريطانيا، إلى بداية القرن السابع عشر حين أخذت تتبلور داخل صفوف البريطانيين عامة، وأعضاء البرلمان، بصفة خاصة اتجاهات ومواقف فكرية وسياسية معبرة عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتباينة لكل من الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية. وكان من أهم القضايا المطروحة على بساط البحث في ذلك الحين: الموقف من قضية الإصلاح الديني وما يتفرع عنها من تسامح تجاه أتباع المذاهب الدينية المختلفة، والموقف من علاقة البرلمان بالملك والتوازن الذي يمكن أن يقوم بينهما. ولقد انقسمت هذه الاتجاهات إلى حزبين كبيرين متعارضين هما “التوريز” (Torys) المعبر عن الاتجاه المحافظ للطبقة الأرستقراطية، وحزب “الويكز” (Wight) المعبر عن الاتجاه الليبيرالي (التحريري) للطبقة البرجوازية الناشئة.

ولقد تولى هذان الحزبان الكبيران قيادة الحياة السياسية البريطانية، وأسهم وجودهما وتنافسهما الدائم على السلطة في رسم معالم النظام البرلماني وإرساء قواعده الرئيسية. وخلال القرن التاسع عشر بدأ الحزب الأول يعرف باسم حزب المحافظين في حين اتخذ الثاني لنفسه اسم حزب الأحرار.

ومع بداية القرن العشرين وازدياد نفوذ الطبقة العاملة وانتشار الافكارالاشتراكية بتأسيس حزب ثالث هو “حزب العمال”. وبقي هذا الحزب يحتل دور القوة الثالثة في البلاد ألا أن مكنته أحداث الحرب العالمية الأولى، والنتائج التي تمخضت عنها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي من الفوز بالانتخابات التشريعية العامة، للمرة الأولى، في عام 1924، وذلك بعد أن استأثر بتأييد ودعم الأغلبية الساحقة من أنصار حزب الأحرار وبذلك تحول حزب العمال إلة قوة رئيسية في البلاد إلى جانب حزب المحافظين أما حزب الأحرار فقد أخذت مكانته تضعف تدريجيا بعد أن تحول قسم آخر من أنصاره لتأييد حزب المحافظين.

ب- مزايا نظام الثنائية الحزبية وآثاره: أدت هيمنة الثنائية الحزبية على النظام البرلماني البريطاني إلى طبع الحياة السياسية ببعض المزايا الإيجابية في نفس الوقت الذي عطلت فيه آلية هذا النظام وقلبت عمليا قواعده الجوهرية رأسا على عقب.

فمن جهة أولى ساعدت الثنائية الحزبية التي تترجم عمليا بوجود حزب واحد متمتع بأغلبية مقاعد في مجلس العموم، على قيام حكم قوي ومستقر في بريطانيا، فالحكومة البريطانية المؤلفة من أعضاء اللجنة القيادية لحزب الأغلبية في مجلس العموم والتي يرأسها رئيس هذا الحزب، تعتبر دوما حكومة قوية لأنها تستند لتأييد أغلبية برلمانية حزبية منسجمة ومنضبطة انضباطا شديدا. وهذا الأمر يكفل لها إمكانية الحكم بشكل مستقر وبدون أزمات أو هزات طوال مدة ولاية مجلس العموم.

ونظرا لتشكل الحكومة البريطانية من فئة حزبية واحدة فإنها تقوم بممارسة مهام الحكم على هدي البرنامج السياسي الذي أعلنه الحزب والتزم بتنفيذه أما المواطن قبيل الانتخابات العامة ولهذا تكون سياسة الحكومة في خطوطها الرئيسية على الأقل، سياسة ثابتة وواضحة وبعيدة عن التقلب والتردد الذي تتميز به سياسة ومواقف الحكومات القائمة على أساس تحالف ظرفي بين عدة أحزاب وأخيرا.

وأخيرا فإن نظام الثنائية الحزبية كما أشرنا سابقا، يساهم في زيادة فعالية وتأثير الجسم الانتخابي لأن الناخب البريطاني عندما يقوم بعملية الاقتراع والمصادرة بين الحزبين الكبيرين إنما يقوم بطريقة مباشرة باقتناء الوزير الأول الذي سيكون حتما رئيس الحزب الفائز بالأغلبية، وأعضاء الحكومة الذين سيكونون من بين أعضاء اللجنة القيادية لهذا الحزب، كما يقوم بتحديد السياسة العامة التي ستنتهجها الحكومة المقبلة وتسير عليها.

ومقابل هذه المزايا الإيجابية، أدت الثنائية الحزبية من جهة أخرى لتعطيل القاعدة الجوهرية للنظام البرلماني متمثلة بمسؤولية الوزارة أمام البرلمان. فمسؤولية الحكومة البريطانية أمام مجلس العموم، لم تعد، بسبب نظام ثنائية الحزبية إلا قضية شكلية فارغة من أي مضمون حقيقي. فنظرا لاستناد الحكومة الحزبية لأغلبية منسجمة ومنضبطة من نفس الحزب فإنها لم تعد عمليا تخشى من حدوث مواجهة سياسية مع مجلس العموم يكون من نتائجها حجب الثقة عنها وإجبارها بالتالي على الاستقالة ويشهد التاريخ البرلماني المعاصر في بريطانيا على ندرة حدوث مثل هذا الأمر ولهذا يمكن القول إن الحكومة لم تعد حقيقة خاضعة لرقابة المجلس فالسياسة البريطانية تقررها اللجنة القيادية للحزب الحاكم، وذلك من خلال الحكومة التي تكون متأكدة من أنها ستلقى تأييد مجلس العموم الذي يضم أغلبية من نفس الحزب.

على أن نظام ثنائية الحزبية لم يعطل هذه القاعدة البرلمانية الجوهرية فحسب بل إنه قلب أوضاع العلاقة بين الحكومة والبرلمان رأسا على عقب وذلك لمصلحة الحكومة والوزير الأول فالحكومة البريطانية لم تعد فقط غير خاضعة لرقابة مجلس العموم بل إنها أصبحت أيضا تتدخل في صلب اختصاصاته الدستورية ولو بصورة شبه مباشرة. ذلك أن الحكومة البريطانية أصبحت تقوم عمليا بجل العمل التشريعي ولا تترك لمجلس العموم إلا مهمة إخراجه بصورة قانونية. فهي من خلال مشاريع القوانين التي تعدها بنفسها واقتراحات القوانين التي توعز لنواب حزبها في المجلس بتقديمها إليه، تضمن إقرار أي نص تشريعي ترغب بإصداره وبالإضافة لهذا تستطيع الحكومة، من خلال تأييد الأغلبية النيابية الحزبية بطلبها أن تحصل من مجلس العموم، في أي وقت تشاء على تفويض يسمح لها باتخاذ مراسيم تشريعية لها قوة القانون. وهكذا يمكننا أن نلاحظ بسهولة كيف أدت الثنائية الحزبية بالتوازن يفترض أن يقوم بين البرلمان والحكومة، لمصلحة هذه الأخيرة.

ج- خصائص الأحزاب البريطانية: تتميز الأحزاب السياسية الكبرى في بريطانيا بطابعها الإيديولوجي المعتدل، وبكونها أحزاب أطر شديدة التنظيم.

1- فمن جهة أخرى تعتبر هذه الأحزاب أحزابا إيديولوجية لأنها تجسد تاريخيا مصالح الطبقات وفئات اجتماعية متباينة. الحزب المحافظ يعتبر تقليديا حزب الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، وحزب العمال يمثل مبدئيا الطبقة العاملة وحزب الأحرار يعبر إلى حد ما مصالح بعض قطاعات البرجوازية الصغيرة وأرباب المهن الحرة إلى أن هذا التقسيم المبسط للأمور لا يمكنه أن يحجب عن الأنظار واقع التقارب الإيديولوجي الكبير بين هذه الأحزاب والذي يتمثل بعدم وجود تناقض صارخ بين برامجها وأهدافها السياسية المختلفة، ويعود هذا التقارب الواضح إلى عدة عوامل من أهمها:

– قيام اتفاق اجتماعي عام بين أبناء الشعب البريطاني، أو أغلبيته الساحقة على الأقل، حول أسس النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي القائم،وقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق العام،تاريخيا، على إثر الإنجازات الضخمة التي حققها المجتمع للإنسان البريطاني في كافة الميادين، ولاسيما في مجال الحقوق الشخصية والحريات العادية والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي شملت بآثارها كافة الموطنين ولهذا لم يعد الانقسام السياسي في المجتمع انقساما حادا وإنما أصبح انقساما ثانويا يدور حول قضايا فرعية. وتعبر عنه الأحزاب المختلفة من خلال برامجها السياسية المتقاربة.

– ولقد ساعد على إضفاء طابع الاعتدال على الأحزاب البريطانية نوعية النظام الانتخابي الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة ووجود حزبان كبيران يحتكران واقعيا إمكانية الحصول على أغلبية برلمانية في مجلس العموم، ويحرصان على بذل أقصى الجهود لتحقيق الفوز في دورة الانتخاب الوحيدة. فنظرا لثقة كل حزب باستمرار تأييد أنصاره التقليديين له أثناء المعركة الانتخابية فإنه يسعى قبيل هذه المعركة لكسب تأييد الفئة غير المنحازة سلفا إلى أي حزب، والتي تنتمي بشكل عام لتيار الوسط ولكي يتمكن من ذلك يحرص كل حزب على أن يظهر كل حزب نفسه بمظهر الاعتدال ويتبنى برنامجا سياسيا متوازنا يتخلى فيه عن الموقف والآراء المتطرفة ولقد أدت هذه الظاهرة السياسية الواضحة إلى تعميق طابع الاعتدال الإيديولوجي للأحزاب البريطانية الأكثر فأكثر بحيث صار من المتعذر على الملاحظ أن يميز بين يسار ويمين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

2- وتعتبر الأحزاب البريطانية من جهة أخرى أحزاب أطر (Partis de cadres)، فهي لا تقوم على أساس انتماء رسمي ومباشر ومكثف لجماهير الشعب وإنما على أساس تنظيم يظم عددا محدودا نسبيا من الأطر والشخصيات السياسية والاجتماعية الهامة والفاعلة في مختلف قطاعات الحياة العامة.

و يتميز التنظيم الحزبي هذا بقوته وانضباطه الشديد وهو انضباط لابد منه لتماسك الحزب ومحافظته على الانسجام بين عناصره بصفة عامة، وممثليه في مجلس العموم بشكل خاص.

د- دور الأحزاب في الحياة السياسية: تلعب الأحزاب السياسية دورا هاما في الحياة السياسية ولاسيما في كل ما يتعلق بالعملية الانتخابية. ويتجلى هذا الدور من خلال مظاهر عديدة من بينها.

– أن الحزب الذي يتمتع بالأغلبية النيابية في مجلس العموم، والذي تنبثق الحكومة عن لجنته القيادية، يتحكم بحرة تامة في رسم سياسة البلاد وتحديد مواقفها من القضايا الدولية والداخلية الراهنة وفي إصدار كافة التشريعات التي يراها ضرورية لوضع سياسته موضع التنفيذ. ولا يحد من سلطة الحزب في هذا المجال، وكما أشرنا إلى ذلك سابقا،إلى قوة الرأي العام الشعبي واتجاهاته ومواقفه التي لابد للحزب الحاكم أن يأخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن تجدد له الأغلبية الشعبية ثقتها أثناء دورة الانتخابات التالية.

– أن الأحزاب البريطانية تسيطر بشكل شبه مطلق على مختلف القضايا المتعلقة بالعملية الانتخابية فقيادات الأحزاب هي التي تختار الدوائر الانتخابية التي ستقدم فيها مرشحيها، وهي التي تختار أيضا بحرية المرشحين وتوفر لهم الدعم السياسي والمالي اللازم للنجاح وتستغل الأحزاب بنجاح واقع كون الترشيح المستقل صعب جدا في البلاد بسبب الأعباء المالية الباهظة التي يتطلبها وكذلك إحجام المواطن البريطاني غالبا عن تأييد المرشحين المستقلين لاعتقاده بأن تأييدهم ورفعهم إلى سدة المجلس لن يكون له تأثير حاسم على مجريات الحياة السياسية في البلاد. وهكذا يشعر المرشح الحزبي الفائز بأنه مدين في حصوله على عضوية مجلس العموم إلى حزبه الذي وفر له أسباب النجاح المختلفة.وهذا الشعور لابد منه لضمان استمرار انضباط النواب الحزبيين والتفافهم حول قيادة الحزب.

ثالثا: المؤسسة الملكية

تطور دور المؤسسة الملكية وتأثيرها في الحياة السياسية في بريطانيا، تطورا جذريا حاسما. فبعد أن كان الملك في الماضي يتولى كافة مهام السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيصدر القوانين كما يشاء ويتولى الإشراف على تنفيذها من خلال وزرائه ومعاونيه، أخذت سلطاته تنكمش شيئا فشيئا لتصبح منذ أوائل القرن الثامن عشر مجرد سلطات رمزية يلخصها القول المعروف بأن “الملكية تتولى ولا تحكم”.

تقوم المؤسسة الملكية، بطبيعة الحال، على مبدأ الوراثة، وينتقل العرش فيها من الملك الراحل إلى ولده الأكبر سواء أكان ذكرا أم أنثى.

ويتمتع الملك ببعض الصلاحيات التقليدية و الشرفية التي ما يزال يحتفظ بها من العصور السابقة ومن أهم هذه الصلاحيات.

– صلاحية التصديق على القوانين التي يقرها البرلمان. ومصادقة الملك وتوقيعه لابد منها من أجل نشر القوانين وإصدارها ووضعها موضع التنفيذ. ومع أن الملك يستطيع نظريا أن يعترض على القوانين ويحول بالتالي دون تنفيذها فإنه لم يقم بأي بادرة من هذا النوع منذ عام 1707.

– صلاحية اختيار الوزير الأول، وهي صلاحية كان الملك يتمتع بممارستها بحرية تامة، إلا أن الظروف والأعراف الدستورية حدت فيما بعد من حريته في هذا المجال بحيث أصبح ملزما بتعيين رئيس حزب الأغلبية في مجلس العموم، بهذا المنصب.

– صلاحية تعيين بعض أعضاء مجلس اللوردات وكذلك تعيين كبار الموظفين في السلكين المدني والعسكري.

– صلاحية تمديد مدة ولاية مجلس العموم وحل هذا المجلس قبل انتهاء ولايته وذلك بناء على اقتراح من الحكومة.

– صلاحية إعلان الحرب، والسلام، وإبرام المعاهدات الدولية والاعتراف بالدول الحكومات الأجنبية وإرسال المبعوثين الدبلوماسيين للخارج لاستقبال ممثلي الدول الأجنبية في بريطانيا.

– صلاحية منح الألقاب والأوسمة.

– صلاحية إصدار عفو خاص عن المحكومين.

– صلاحية تولي القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية.

والجدير بالذكر بالنسبة لجميع هذه الصلاحيات التقليدية، أن الملك لا يستطيع مباشرتها وممارستها بناء على اقتراح الحكومة ومشاركة الوزير الأول وبعض الوزراء المعنيين، بالتواقيع على المراسيم الملكية المتعلقة بها. وهذا يعني أن سلطات الملك في كافة هذه المجالات ما هي إى سلطات رمزية فقط إلا أن الملك يتمتع مقابل تخليه عن كافة السلطات الفعلية، بحصانة مطلقة سواء على الصعيد السياسي أم الجنائي. فالملك شخص مقدس لا يمكن انتهاك حرمته. وهذه الحصانة المطلقة هي في الواقع استمرار لقاعدة عرفية قديمة تقول باستحالة الملك بأي عمل خاطئ. وهذه الحصانة تجد حاليا ما يبررها ولاسيما على الصعيد السياسي،في واقع تخلي الملك لوزرائه عن كافة السلطات الفعلية وذلك مقابل تحملهم للمسؤولية كاملة.

رابعا: الحكومة

تتولى الحكومة قيادة السلطة التنفيذية. وهي تنبثق مبدئيا عن البرلمان وواقعيا عن الشعب من خلال تأييد غالبيته لأحد الحزبين الرئيسيين في البلاد.

والحكومة البريطانية هيئة تقليدية بدأت تتطور منذ مطلع القرن الخامس عشر وتتحول تدريجيا من مجرد مجلس يضم مستشاري الملك إلى مجلس أصبح يحتكر لنفسه سلطات الملك في مجال السلطة التنفيذية.

أ- تنظيم الحكومة: وتضم الحكومة البريطانية بالإضافة للوزير الأول، عددا من الوزراء وكتاب الدولة والكتاب البرلمانيين.

1- الوزير الأول: يعينه مبدئيا الملك. إلا أن الملك ملزم عمليا باختيار رئيس حزب الأغلبية في مجلس العموم لهذا المنصب. ويتمتع الوزير الأول بمركز مهم وبصلاحيات واسعة إذا أنه يعتبر الرئيس الفعلي للبلاد. وهو يقوم باختيار باقي أعضاء الحكومة ويحقق له تعديلها، كما يحقق له الطلب لأحد الوزراء أو بعضهم بالاستقالة وكذلك فإنه يستطيع أن يقدم استقالته للملك ويؤدي عمله هذا إلى استقالة الحكومة حكما. ويقوم الوزير الأول وحده بتأمين الاتصال بين الحكومة والملك. أما الوزراء فلا يستطيعون الاجتماع بالملك إلا بعد أن يحصل لهم الوزير الأول على إذن بذلك. وغالبا ما يحضر هو شخصيا اجتماع الملك بالوزراء. كما يراقب الوزير الأول أعمال الوزراء وسياستهم ويهتم بشكل خاص بأمور السياسة.

2- الوزراء وكتاب الدولة: ويتولى كل من هؤلاء وزارة معينة. والفرق بين الوزير وكاتب الدولة هنا ليس في الدرجة أو الأهمية وإنما في تاريخ إنشاء الوزارة. فلقد جرت العادة على أن يطلق اسم مكتب (Office) على الوزارات القديمة (مثل وزارات الداخلية والخارجية والحرب) ويقوم بالإشراف عليها كاتب دولة أما اسم وزارة فيطلق على الوزارات التي أنشأت في وقت حديث نسبيا (وزارة التعليم) ويقوم بإشراف عليها الوزير. ويعتبر كل وزير أو كاتب دولة مسؤولا فرديا عن أعمال وزارته وسياستها ولذلك فإن عليه أن يستقيل في حال عدم ثقة مجلس العموم أو الوزير الأول به.

3- الكتاب البرلمانيون: يقوم إلى جانب كل وزير أو كاتب دولة،كاتب برلماني يعينه الوزير الأول مع الوزير المختص ويقوم هؤلاء بتأمين الاتصال بين الوزير أو كاتب الدولة والبرلمان حيث يجيبون بدلا عنه، في بعض الحالات، على الأسئلة الشفهية لأعضاء البرلمان.

4- “الكابنت” (Le cabinet ) وهو تشكيل خاص يتميز به النظام البرلماني البريطاني. ذلك أن مجلس الحكومة البريطانية يضم في الواقع عددا كبيرا من الأعضاء يصل أحيانا إلى نحو مائة بين وزير وكاتب دولة وكاتب برلماني. ولهذا يقوم من بين هذا المجلس الواسع تشكيل خاص محدود العدد يضم عددا من الوزارات المهمة فقط: كوزارات الداخلية والخارجية والحرب والعدل والمال… وتجتمع الكابنت برئاسة الوزير الأول وتعتبر الجهاز الأعلى المسؤول عن رسم السياسة العامة للبلاد وعن اتخاذ القرارات الأكثر أهمية.

ب- صلاحيات الحكومة: تتولى الحكومة البريطانية صلاحيات هامة وواسعة، رغم أنها تخضع نظريا لمراقبة الملك والبرلمان. ومن أهم هذه الصلاحيات :

– تحديد السياسة العامة للبلاد في مختلف المجالات.

– مراقبة الإدارة والسهر على حسن تنفيذ القرارات التي تتخذها الحكومة.

– حق اتخاذ المبادرة في قضايا التشريع المالي. وبهذا تسيطر الحكومة على مجمل الحياة المالية في البلاد.

– مشاركة البرلمان في حق المبادرة للتشريع. والحكومة تقوم في الواقع بالمبادرة لاقتراح الجزء الأكبر من القوانين التي يصدرها البرلمان.

– تتمتع الحكومة بحق إصدار نصوص لها قوة القانون وذلك بناء على تفويض خاص تحصل عليه من مجلس العموم وبموجب هذا الحق تتحول الحكومة الممارسة صلاحيات التشريع في البلاد.

ج- دور الحكومة في الحياة السياسية: إن الأهمية الكبيرة للدور الذي تلعبه الحكومة البريطانية في الحياة السياسية لا تعود لطبيعة المهمات التقليدية التي تتمتع بها الحكومات في الأنظمة البرلمانية وإنما لكون هذه الحكومة تستمد ثقتها الفعلية من الشعب مباشرة فمن الناحية النظرية يقوم الشعب البريطاني بانتخاب ممثلين له في مجلس العموم.ومن ثم يقوم هؤلاء باختيار الوزير الأول إلا أن الواقع يشير إلى أنه بفضل نظام ثنائية الحزبية وتنظيم وانضباط الأحزاب،والتزام الملك باحترام الإرادة الشعبية فإن الشعب يقوم أثناء الانتخابات باختيار الوزير الأول الذي يقال عنه بأنه “ملك منتخب لمدة محدودة” كما يقوم باختيار الحكومة التي تتشكل من اللجنة القيادية للحزب الفائز.

إن هذا الوضع يعطي الحكومة البريطانية مكانة ومركزا قويا ضمن الحياة السياسية للبلاد فهي لم تعد عمليا مسؤولة عن أعمالها وسياستها أمام البرلمان وإنما هي مسؤولة مباشرة أمام الشعب الذي تستمد قوتها من ثقته بها.

خامسا: البرلمان

يعود الأصل التاريخي للمؤسسة البرلمانية في بريطانيا إلى “المجلس العام للمملكة” الذي درج الملوك منذ القرن الحادي عشر لدعوته للاجتماع في بعض الأوقات العصيبة، وكان يضم عددا من كبار النبلاء (البارونات) ورجال الدين الذين يختارهم الملك بملء حريته. وكان دور المجلس في البداية استشاري ويقتصر على بيان الرأي في القضايا التي يعرضها عليه الملك، وفي عام 1265 دعي الملك بعض المقاطعات والمدن الهامة لانتخاب ممثلين عنها من كبار أعيانها و فرسانها، لحضور اجتماعات المجلس العام إلى جانب النبلاء ورجال الدين. وخلال القرن الرابع عشر اتفق أعضاء المجلس العام على أنه يجتمع النبلاء ورجال الدين في مجلس خاص ويجتمع ممثلو المقاطعات والمدن في مجلس آخر و لقد تكرس هذا الانفصال في عام 1351. فأخذ المجلس الأول اسم مجلس اللوردات،في حين دعي المجلس الثاني بمجلس العموم، وهما المجلسان اللذان يتألف منهما البرلمان، بالإضافة، رسميا، للملك، الذي كان الأصل في نشأة هذه المؤسسة.

أ- تنظيم البرلمان : يتألف البرلمان البريطاني عمليا،من مجلس اللوردات، والعموم.

1- مجلس اللوردات: وهو مجلس يمثل بقايا الطبقة الأرستقراطية وتقاليدها التاريخية، ويضم حاليا حولي ألف لورد. ويحتل أعضاؤه مقاعدهم فيه بشكل عام إما بالوراثة أو بالتعيين لمدى الحياة من قبل الملك وبناء على اقتراح الحكومة. ويرأس هذا المجلس حكما وزير العدل الذي يسمى في هذا المنصب بمرسوم ملكي يشارك في التوقيع عليه الوزير الأول. ويتألف من حيث تركيب أعضائه من فئتين : الفئة الأولى وتضم اللوردات الروحيون وعددهم 26 وهم يمثلون رؤساء الكنيسة الإنكليكانية وهم يستمرون في عضويته طالما استمروا في شغل مهامهم الكنسية. وأما الفئة الثانية فهي تضم اللوردات الزمنية وهي تشتمل بدورها على أربعة أصناف:

– اللوردات بالوراثة وعددهم تقريبا 800،

– اللوردات الذين يعينهم الملك من بين الشخصيات التي قدمت لبريطانيا خدمات جليلة أو أعمالا قيمة في مختلف مجالات العلم والفكر والسياسة ويبلغ عدد هؤلاء تقريبا نحو مائة لورد،

– لوردات يمثلون مقاطعات اسكوتلندة وينتخبهم اللوردات الذين ينتمون إلى هذه المقاطعة وعددهم ستة عشرة وهم يحتفظون بعضويتهم طوال مدة ولاية مجلس العموم،

– لوردات الاستئناف العادي وعددهم تسعة ويعينهم الملك لمدى الحياة للقيام بالصلاحيات القضائية لمجلس اللوردات. والجدير بالذكر أن هؤلاء اللوردات يشكلون بمجموعهم لجنة خاصة يرأسها حكما وزير العدل، للقيام بمهام محكمة الاستئناف العليا في المملكة. وتتولى هذه المحكمة، بالإضافة لمهام الاستئناف العادي صلاحية محاكمة أعضاء الحكومة في حال توجيه اتهام إليهم في قضايا جنائية من طرف مجلس العموم. وكذلك محاكمة أعضاء مجلس اللوردات في حالة الخيانة العظمى.

2- مجلس العموم: وهو الهيئة الممثلة للشعب البريطاني لأنه ينتخب انتخابا مباشرا من قبله. وهو يضم حاليا 635عضوا، ومدة ولايته خمس سنوات، إلا أن العادة جرت على أن يكمل المجلس مدة ولايته الرسمية إذ أنه يحل عادة خلال السنة الخامسة. وينتخب المجلس من بين أعضائه رئيسا يدعى المتحدث (Speaker) ويتمتع هذا ببعض الحقوق والامتيازات ومن أهمها: حق تنظيم المناقشات في المجلس. وحق البت فيما إذا كان مشروع القانون المعروض على المجلس طابعا ماليا، وبالتالي لا يجوز عرضه على مجلس اللوردات.

ب- صلاحيات البرلمان: يتمتع البرلمان بثلاث صلاحيات رئيسية هي: الصلاحية المالية الخاصة بإقرار الموازنة والضرائب وصلاحية تشريع القوانين العادية وصلاحية مراقبة أعمال الحكومة (التي يختص بها مجلس العموم فقط).

ولقد كان مجلسا البرلمان(اللوردات والعموم) يتمتعان في الماضي بنفس الصلاحيات فيما يتعلق بإقرار القوانين المالية والعادية. فاتفاقهما كان ضروريا لإقرارها. إلا أن صلاحيات مجلس اللوردات أخذت بالتناقص لحساب مجلس العموم وذلك منذ نهاية القرن السابع عشر. وكان الاعتقاد السائد هو أن مجلس اللوردات لا يحق له تعديل مشاريع القوانين المالية التي يقرها مجلس العموم وذلك انطلاقا من المبدأ القائل بضرورة موافقة الشعب بواسطة ممثليه على كل ضريبة يتحملها، وبما أن مجلس اللوردات غير منتخب من الشعب فإنه لا يحق له فرض الضرائب عليه وذلك على قدم المساواة مع مجلس العموم. إلا أنه كان يحق لمجلس اللوردات أن يوافق أو يرفض الموافقة على مشاريع القوانين المالية كلية. وكان هذا الحق سلاحا فعالا بيده لعرقلة مشاريع القوانين المالية التي يقرها مجلس العموم لكن مجلس اللوردات فقد هذا الحق منذ 1911 وذلك على إثر الأزمة التي وقعت بينه وبين حكومة حزب الأحرار وأدت إلى صدور ” القانون البرلماني” الذي سبقت الإشارة إليه والذي لم يعد لمجلس اللوردات بموجبه أية صلاحية في القضايا المالية.

أما فيما يتعلق بصلاحية تشريع القوانين العادية، فقد احتفظ مجلس اللوردات بموجب “القانون البرلماني” الذي سبقت الإشارة إليه والذي لم لمجلس العموم. وكان من شان هذا التصويت تعليق تنفيذ القانون لمدة سنتين. لكن هذه المدة اختصرت إلى سنة واحدة فقط، منذ عام 1949، حين صدر قانون بذلك على اثر رفض مجلس اللوردات الموافقة على مشروع قانون خاص بتأميم صناعة الفولاذ كانت قد تقدمت به حكومة حزب العمال.

وتجدر الإشارة إلى انه نظرا لقيام القانون الدستوري البريطاني في جوهره على العرف، ولعدم تمييزه بين القوانين التشريعية العادية والقوانين التشريعية ذات الطابع الدستوري من حيث الإجراءات الشكلية المطلوبة لإقرارها وتعديتها، فانه يمكن القول بصورة طبيعية، أن البرلمان يتولى في نفس الوقت الصلاحية الأساسية.

ج- علاقة الحكومة بالبرلمان: هناك اعتقاد سائد بان البرلمان البريطاني يتمتع بصلاحيات واسعة فيما يتعلق بمراقبة أعمال الحكومة. وهذه الصلاحيات تعتبر بشكل طبيعي من السمات البارزة للنظام البرلماني إلا مركز البرلمان أخذ يضعف، في الواقع أمام الحكومة نتيجة لوجود نظام الثنائية الحزبية الذي يركز السلطة عمليا في يد الحكومة التي هي في نفس الوقت الجنة القيادية لحزب الأغلبية.

أن الصورة التقليدية التي تقدمها البرلمانية للعلاقة بين الحكومة و البرلمان تقوم على أساس مراقبة البرلمان لأعمال الحكومة من جهة، وإمكانية حل الحكومة للبرلمان من جهة مقابلة. وهذا ما يحقق قيام نوع من التوازن بين السلطتين. وفي حال حدوث خلاف بينهما فانه يجري اللجوء للشعب لمعرفة رأيه من خلال الانتخابات. فإذا حدث ووجدت الحكومة أن الأغلبية النيابية تعارض سياستها فان بإمكانها بدل أن تستقيل اللجوء إلى إصدار قرار يحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة لمعرفة رأي الشعب في القضية موضوع الخلاف. فإذا أدت الانتخابات لمجيء أغلبية جديدة من نفس رأي الأغلبية السابقة المعارضة للحكومة وجب على هذه الأخيرة مخالفة في رأيها للأغلبية السابقة فإنها تكون عند ذاك متفقة ورأي الحكومة ويكون بإمكان هذه أن تستمر في الحكم.

إلا أن هذه الصورة التقليدية النظرية لا توجد في الواقع في بريطانيا، حيث لا تخشى الحكومة عادة أن تجد نفسها أمام أغلبية معارضة لسياستها لان هذه الحكومة بالذات تستند في وجودها بالحكم على الحزب المسيطر على الأغلبية في مجلس العموم. ولهذا فان بريطانيا لم تعرف تصويتا بعدم الثقة بالحكومة منذ عام 1924.

والحكومة البريطانية عندما تلجا عادة لحل مجلس العموم فإنها لا تقوم بذلك لأنها تكون أمام أغلبية معادية لسياستها، بل لأنها ترغب بتدعيم مركز حزبها وأغلبيتها في مجلس العموم عندما تعتقد بان الظروف السياسية في البلاد مواتية لإجراء انتخابات تكون نتيجتها لصالح حزبها، كما أنها قد تلجا لحل مجلس العموم في بعض المناسبات الهامة عندما تعتبر أن الشعب البريطاني يواجه قضية هامة وان من الضروري أخذ رأيها من خلال الانتخابات.

ثالثا- النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية

يعتبر النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية النموذج الأصيل للنظام الرئاسي. ويتميز هذا النظام بالانفصال الشديد بين السلطات. فهناك من ناحية رئيس الدولة الذي يرأس السلطة التنفيذية وينتخب عمليا مباشرة من الشعب ويعاونه في مهامه الوزراء الذين يعتبرون مسؤولين أمامه فقط، ومن ناحية ثانية البرلمان (الكونغرس) الذي يتولى السلطة التشريعية. ولا يحق لرئيس الدولة حل الكونغرس ، كما لا يحق لهذا الأخير إجبار الرئيس أو وزرائه على الاستقالة وسنبدأ دراستنا بهذا النظام بلمحة سريعة عن الظروف و المراحل التاريخية التي مهدت لقيامه (الفقرة الأولى) ثم ننتقل للحديث عن أهم مؤسساته السياسية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: نشأة النظام السياسي الأمريكي

مرت الولايات الأمريكية، قبل قيام الاتحاد فيما بينها، بثلاث مراحل: ابتدأت الأولى عام 1776 بإعلان الاستقلال عن بريطانيا، وامتدت من 1777 إلى 1787 وهي مرحلة الاتحاد التعاهدي بين الدول (الولايات) الثلاث عشرة . أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الاتحاد الفدرالي التي دشنت، عام 1787 بصدور الدستور الاتحادي وما زالت قائمة حتى الآن.

أولا: إعلان الاستقلال (4 جويليه 1776)

يعود تمرد المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية ورغبتها للاستقلال عن التاج لأسباب عديدة من أهمها التناقض بين المصالح الاستعمارية لبريطانيا والمصالح الاقتصادية للمعمرين.

ففي نهاية الفرن الثامن عشر بدأت المستعمرات تشهد المظاهر الأولى للثورة الصناعية، حيث قامت في مختلف أنحاء البلاد المشاغل والمعامل الصغيرة. لكن هذا الأمر حدث في وقت كان المذهب الماركنتيلي (Mercantilisme) ما زال فيه مسيطرا في بريطانيا وهذا المذهب كان ينظر للمستعمرات بأنها مجرد مورد للمواد الأولوية وسوق للسلع المصنعة في “الوطن الأم” . وهذه النظرة كانت تتناقض بطبيعة الحال مع المصلحة الاقتصادية للمعمرين الذين كانوا يودون الخروج ببلادهم من حالة التبعية الاقتصادية للوطن الأم، والدخول بها إلى مرحلة المجتمع الصناعي.

وقد أتت حرب الاستقلال لتحل التناقض بين المصالح الاقتصادية للمستعمرات والخضوع السياسي للوطن الأم.

وبدأ التناقض بين المعمرين والسلطات البريطانية يأخذ طابعا حادا منذ عام 1764 حين أصدر البرلمان البريطاني قانون السكر(Sugar Act ) ثم قانون الطوابع (Stamp Act) والذي فرض بموجبهما ضرائب جديدة على سكان المستعمرات. ثم ازداد التوتر بعد إصدار البرلمان عام 1776 استقلال المستعمرات استقلالا تاما عن بريطانيا . وقد نص إعلان الاستقلال على انحلال كل رابطة سياسية بين بريطانيا والمستعمرات، وعلى أن كل مستعمرة أصبحت تؤلف دولة حرة ومستقلة. وقد تصدر إعلان الاستقلال شرعة للحقوق تضمنت موجزا للفلسفة السياسية الليبرالية التي يقوم عليها النظام الأمريكي. فلقد أعلنت الشرعة ” إن كل الناس ولدوا متساوين، وإن الخالق أعطاهم عددا من الحقوق الأزلية التي لا يمكن التخلي عنها، ومن بينها: حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، وإن الحكومات أوجدت من قبل الأفراد لضمان هذه الحقوق وإن سلطة هذه الحكومات تستند إلى رضى المحكومين، لذلك فإنه في كل مرة تصبح فيه إحدى الحكومات مهدمة لهذه الغاية، يصبح من حق الشعب أن يبدلها ويزيلها”.

ثانيا: مرحلة الاتحاد التعاهدي بين الدول المستقلة

إن الاتحاد التعاهدي بين الدول التي أعلنت استقلالها فرضته في البدء وإلى حد بعيد، ظروف الحرب والثورة وضرورة استمرار القتال ضد القوات البريطانية. فمن أجل توفير أسباب النجاح في هذه الحرب الاستقلالية كان لابد لهذه الدول من تنسيق جهودها على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي. وهكذا أعلن مؤتمر الدول المستقلة المنعقد في نوفمبر عام 1777 قيام الاتحاد التعاهدي (La Confédération ) بين الدول الثلاث عشرة.

وقد قامت معاهدة التعاهد على أساس الإقرار بمبدأ السيادة والمساواة بين الدول، ونصت على قيام “جامعة صداقة” من شأنها أن تقدم كل دولة للدول الأخرى المساعدة في حال تعرضها للغزو.

وأنشأت المعاهدة هيئة سياسية مشتركة سميت بالمؤتمر (Congrès) وهي عبارة عن جمعية لمندوبي الدول، تتمثل فيها كل دولة بوفد مكون من 2 إلى 7 أعضاء، على أن لا يكون لكل وفد إلا صوت واحد واشطرت المعاهدة أن يتم اتخاذ القرارات الهامة بالإجماع. ومن هذه القرارات المسائل المتعلقة بتعديل نصوص المعاهدة، وإعلان الحرب وإبرام السلم وعقد المعاهدات والقضايا المالية والنقدية وإنشاء الجيوش والأساطيل وقبول أعضاء جدد في التحالف.

ثالثا: قيام الدولة الاتحادية

استمر الاتحاد التعاهدي بين الدول الأمريكية قائما خلال حرب الاستقلال. وامتد لفترة عدة سنوات بعد التوقيع على معاهدة الاستقلال مع بريطانيا في 3 سبتمبر 1783. إلا أنه بعد هذه الفترة من الزمن بدأت تظهر الحاجة لتوطيد وتعميق التعاهد بين الدول الثلاث عشرة. وكانت المصالح الاقتصادية من أهم أسباب هذا الاتجاه الجديد.

فالازدهار الاقتصادي لهذه الدول كان مرتبطا إلى حد بعيد بتوفير الحرية المطلقة للتجارة وذلك بانتقال السلع والبضائع عبر حدود الدول المختلفة دون عوائق. لذلك فإن حرص كل سيادتها وحدودها الضيقة كان من شأنه عرقلة قضية انطلاقتها الاقتصادية وإمكانيات نموها وتقدمها.

وهكذا وجدت مختلف الدول أن من مصلحتها دفع التحالف خطوة أخرى إلى الأمام. فعندما انعقد مؤتمر التعاهد (الكونغرس) في ماي 1787 لدراسة إصلاح نظام الاتحاد، استطاع الاتحاديون وعلى رأسهم جورج واشنطن وماديسون وهاملتون إقناع مندوبي الدول بآرائهم فوافق هؤلاء بالإجماع على مشروع الدستور الاتحادي في التاسع عشر من سبتمبر 1787.

وفي الأول من جانفي 1789 دخل الدستور حيز التطبيق بعد أن صادقت عليه الدول الثلاث عشرة، ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة تعيش في ظل هذا الدستور الذي يعتبر أول دستور خطي في العصر الحدث.

الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية

جاء الدستور الأمريكي لعام 1787 بنظام سياسي أصيل قال عنه “الكسي دو توكوفيل” في كتابه عن “الديمقراطية في أمريكا” (1835) بأنه “يشكل كشفا كبيرا في علم السياسة المعاصر”. وتتجلى الأصالة التي أتى بها الدستور بالمبدأ الاتحادي الذي اعتمد كأساس لبناء الدولة. وبالنموذج الجديد للعلاقة بين السلطات العامة ولاسيما السلطتين التنفيذية والتشريعية والتي أدت لوصف النظام، بالنظام الرئاسي.

وعليه فإننا سنتطرق أولا للحديث عن الأساس الاتحادي للدولة ثم ننتقل لدراسة أهم المؤسسات العامة للنظام، والمتمثلة بالمؤسسة الانتخابية، والأحزاب السياسية، والكونغرس، ورئاسة الجمهورية والسلطة القضائية .

أولا: الأساس الاتحادي للدولة

يقوم النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية على أساس المبدأ الاتحادي (أو الفدرالي) ويتجلى هذا المبدأ في وجود كيانين سياسيين ضمن الدولة. الكيان المركزي الذي يجسد وحدة الشعب والدولة، والكيان الإقليمي الذي تتجلى من خلاله التعددية والاستقلالية النسبية للدول الأعضاء.ولقد كان هذا التجديد الذي ابتدعه الدستور الأمريكي الناتج الطبيعي للنزعة التوفيقية بين الحاجات لخلق دولة واحدة وبين رغبات الدول المستقلة حديثا في الحفاظ على استقلالها وشخصياتها المتميزة، وكانت هذه الرغبة شديدة بشكل خاص لدى الدول الصغيرة في عدد سكانها أو الضعيفة نسبيا من الناحية الاقتصادية وذلك لحشيتها من أن يضعها وضعها الخاص في مرتبة أدنى من باقي الدول.

أ- مميزات النظام الاتحادي الأمريكي: لقد استطاع أنصار وجهة النظر الاتحادية في “الكونغرس التعاهدي” إقناع باقي الأعضاء بأفكارهم نتيجة الطابع الخاص والمميزات المحددة التي أعطوها للفكرة الاتحادية التي نادوا بتطبيقها، ومن أهم هذه المميزات:

– أن الاتحادية الأمريكية لم تلحق أي تغيير في هياكل التنظيم السياسي للدول الأعضاء، وإنما قامت فقط بإيجاد سلطة مركزية عليا فوق السلطات المحلية الموجودة في تلك الدول. إلا أن هذه السلطة المركزية كانت سلطة متكاملة لأنها زودت، خلافا لما كان عليه الحال أثناء المرحلة التعاهدية، بهيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية، لها صلات مباشرة مع المواطنين في كافة الدول الأعضاء.

– أن الاتحادية الأمريكية، اتحادية محدودة السلطات، فالقاعدة العامة التي اعتمدت حين قيام الاتحاد هي أن السلطة المركزية لا تمارس إلا الصلاحيات المحددة لها بنص الدستور. أما ما عدا ذلك فيعتبر من اختصاص الدول الأعضاء.

– أن الاتحادية الأمريكية تقوم على أساس نوع من المساواة بين الدول الأعضاء فلقد أقام الدستور الاتحادي سلطة تشريعية مركزية تتألف من مجلسين مجلس الممثلين الذي يضم نوابا ينتخبهم الشعب مباشرة ضمن إطار كل دولة عضو (ولاية) ويكون عددهم مناسبا لعدد سكان كل منها. ومجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الدول الأعضاء (الولايات) على قدم المساواة، ويكون لكل منها فيه مندوبين اثنين بغض النظر عن مساحتها وقوتها الاقتصادية وعدد سكانها. وقد جسد هذا الحل روح التسوية التي تم التوصيل إليها بين الدول الصغيرة التي كانت تريد أن تمثل في الهيئة التشريعية بعدد من المندوبين مساو لعدد مندوبي الدول الكبيرة، وبين الدول الكبيرة التي كانت تطالب بأن يكون تمثيلها في تلك الهيئة مناسبا لعدد سكانها. وقد انعكست روح التسوية هذه كذلك على صعيد السلطة التنفيذية المركزية حين نص الدستور على انتخاب الرئيس الاتحادي من قبل ناخبين رئاسيين ينتخبون من الشعب، ضمن إطار كل ولاية، ويكون عددهم في كل منها، مساويا لعدد مندوبي هذه الولاية في الكونغرس الاتحادي.

– إن الاتحادية الأمريكية اتسمت حين قيامها بالطابع التعاقدي. فالدولة الاتحادية لم تظهر للوجود إلا بعد مصادقة الدول الأعضاء على الدستور الاتحادي بكل إرادتها وحريتها، كما أن قبول أعضاء جدد في الاتحاد لا يمكن أن يتم إلا بعد موافقة الأعضاء القدامى. ولقد دفع هذا الأمر بعض المؤلفين للقول بأن الدول الأعضاء تستطيع الانسحاب من الاتحاد متى شاءت، وذلك باعتبار أن دخولها فيه تم بموافقتها وإرادتها الحرة. إلا أن هذه الفكرة لم تعد مقبولة عمليا وخاصة بعد الحرب الأهلية التي نشبت عام 1861 بين السلطة المركزية ومن ورائها ولايات الشمال وبين ولايات الجنوب التي أعلنت انفصالها عن الدولة الاتحادية. فبعد أن توجت هذه الحرب بانتصار السلطة المركزية أصبح الطابع الدائم والخالد للاتحاد أمرا لا جدال فيه.

ب- تطور النظام الاتحادي الأمريكي: إذا كان النظام الاتحادي الأمريكي قد أخذ، عند قيامه، طابعا محدودا وتعاقديا، فإن هذا الأمر ما لبث أن تطور سريعا باتجاه إعطاء مزيد من الأهمية والأولوية للدولة الاتحادية والسلطة المركزية، فمنذ قيام الاتحاد، هيمنت على الحياة السياسية الأمريكية قضية أساسية تمثلت بكيفية تحديد العلاقة عمليا وتوزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والدول الأعضاء. ولقد انقسمت الأوساط الأمريكية بين تيارين رئيسيين: تيار اتحادي كان رأسه واشنطن وهاملتون، وكان يدعو لتقوية السلطة المركزية على حساب الدول الأعضاء، وتيار معارض تزعمه جيفيرسون وكان يدافع عن حقوق الدول الأعضاء واختصاصاتها.

ولقد استفاد واشنطن من انتخابه كأول رئيس للولايات المتحدة لتغليب وجهة نظر التيار الأول، فقام وأنصاره بابتداع ما سمي بنظرية “السلطات الضمنية” التي تقول بأن السلطة المركزية تتمتع بالإضافة للاختصاصات التي حددها لها الدستور صراحة، باختصاصات أخرى تنتج عن الأولى وتعتبر ضرورية لكي تتمكن السلطة المركزية من ممارسة اختصاصاتها الدستورية الأصيلة كاملة. وقد استقرت هذه النظرية شيئا فشيئا ودعمتها المحكمة العليا بالتأييد، الأمر الذي مكن الكونغرس الاتحادي فيما بعد من اتخاذ ما يسمى “بالقوانين الضرورية لتأمين وضع سلطات الحكومة موضع التطبيق”.

ولقد لوحظ أن اختصاصات السلطة المركزية، بصورة عامة واختصاصات الرئيس الاتحادي، بصفة خاصة كانت تزداد قوة واتساعا أثناء فترات الأزمات الخطيرة التي واجهتها البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي والتي كان من أبرزها اندلاع الحرب الأهلية عم 1861 ومشاركة الولايات المتحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومضاعفات الأزمة الاقتصادية العالمية بعتم 1929 .

1- الحرب الأهلية: توجت الحرب الأهلية التي اندلعت في الولايات المتحدة عام 1861 سلسلة طويلة من الخلافات والأزمات بين عدد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الهامة والتي كان من أبرزها السياسة الجمركية للحكومة المركزية، والموقف من نظام الرق. فلقد كانت الحكومة تميل لتبني سياسة اقتصادية قائمة على الحماية الجمركية وذلك خدمة منها لمصالح الولايات الشمالية التي كانت تشهد حركة تصنيع واسعة ومزدهرة، وكان يهمها أن تفرض الحكومة رسوما جمركية عالية على السلع المستوردة من الخارج وذلك لرفع أسعارها والحيلولة دون منافستها للمصنوعات الوطنية. إلا أن الولايات الجنوبية التي كانت بالأساس ولايات زراعية كانت غير معينة بمثل هذه السياسة الجمركية بل أنها كانت تشكو منها لأنها تؤدي لزيادة أسعار البضائع المستوردة. وكانت هذه الولايات تهتم بالمقابل بالمحافظة على نظام الرقيق الذي يوفر لها اليد العاملة الرخيصة واللازمة لاستمرار ازدهار زراعة القطن والتبغ فيها، في حين أن الولايات الشمالية الصناعية كانت لا تحتاج كثيرا لمثل هذه اليد العاملة، الأمر الذي دفعها لتبني وجهة نظر متحررة إزاء قضية الرقيق، فكانت تدعو لاستنكار هذا النظام ولمعارضة استمراره. ووسط حمأة الصرع الحاد بين الآراء المؤيدة والمعارضة لاستمرار نظام الرقيق تأسس في البلاد عام 1854، الحزب الجمهوري الذي تبنى برنامجا سياسيا معارضا لاستمرار هذا النظام. وقد تمكن هذا الحزب من تأمين النصر لمرشحه للرئاسة، ابراهام لنكولن، في انتخابات عام 1860، وما أن اعتلى لنكولن منصب رئاسة الجمهورية حتى بدا أن انفصال الولايات الجنوبية أصبح أمرا لا مفر منه. ولقد سارعت ولاية كارولينا الجنوبية لإعلان انفصالها عن الاتحاد، وما لبثت أن تبعتها في ذلك ست ولايات جنوبية أخرى، قامت بالإعلان عن قيام اتحاد تعاهدي (كونفدرالي) يضمها جميعا.

وعلى إثر قرار الانفصال، اندلعت الحرب بين السلطة الاتحادية والولايات الشمالية من جهة وبين الولايات الجنوبية من جهة ثانية. واستمرت الحرب حتى عام 1865 حيث انتهت بانتصار الشمال على الجنوب.

ولقد أدت الحرب الأهلية، على صعيد تطور النظام الاتحادي، إلى عدة نتائج من أهمها:

أولا: أنها وجهت ضربة قاضية للأساس التعاقدي للدولة الاتحادية، ولفكرة حق الدول الأعضاء بالانفصال وباستعادة استقلالها التام، وأكدت بالمقابل مبدأ ديمومة وخلود الاتحاد.

ثانيا: أنها دعمت بشكل قوي اختصاصات السلطة المركزية على حساب الدول الأعضاء، بصفة عامة، واختصاصات الرئيس على حساب الكونغرس الاتحادي بصفة خاصة. فلقد استأثر الرئيس لنكولن، في ظل ظروف الحرب، بسلطات واسعة كان اختصاص البت فيها يعود في الأوقات العادية أما للدول الأعضاء وأما للكونغرس الاتحادي. وكان من أبرز هذه السلطات، تلك المتعلقة بتنظيم البلاد في زمن الحرب، وبتنظيم القطاع المصرفي. وقد برز أنصار الرئيس تصرفاته من خلال نظرية أطلقوا عليها اسم نظرية أوقات الأزمة أو الطوارئ (Emergency) وبموجب هذه النظرية صار يحق للرئيس أن يتخذ في أوقات الأزمات والظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، تدابير عاجلة تستدعيها الضرورة وإن لم تكن بالأصل عائدة لاختصاصه. إلا أن واجبات الرئيس الدستورية ومهامه المقدسة في الحفاظ على كيان الدولة ووحدتها تتطلب منه القيام بها.

2- الأزمات اللاحقة: أدت الأحداث السياسية والاقتصادية الخطيرة التي عرفتها الولايات المتحدة بسبب مشاركتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعلى إثر تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 1929، إلى فرض تدعيم وتوسيع اختصاصات السلطة الاتحادية ولاسيما اختصاصات الرئيس و ذلك على حساب الدول الأعضاء والكونغرس. فخلال إحداث الحربين العالميتين استفاد الرئيس الأمريكي إلى أبعد حد ممكن من نظرية أوقات الأزمة، واتخذ تدابير واسعة جدا لتعبئة الأزمة وتوفير الشروط اللازمة للنصر. وقد شملت هذه التدابير مختلف المجالات ولاسيما العسكرية والاقتصادية والمالية منها. وكانت السلطات المحلية في الدول الأعضاء وكذلك السلطة التشريعية الاتحادية تجد نفسها مضطرة، بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد، للموافقة على هذه التدابير وعدم معارضتها. وعندما تولى فرانكلين روزفلت في عام 1932 رئاسة الولايات المتحدة . ووجد أن البلاد مازالت تتخبط بمضاعفات الأزمة الاقتصادية التي عمت العالم منذ عام 1929. أعلن فور انتخابه عن برنامج للإصلاح الاقتصادي، عرف بسياسة النيوديل، وعكس هذا البرنامج إرادة الرئيس في ضرورة تدخل السلطة المركزية بشكل متزايد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وذلك خلافا لتقاليد الليبرالية الاقتصادية التي كانت تعني امتناع الدولة عن التدخل في هذه الميادين وترك أمرها بشكل تام للمبادرة الفردية.

وقد طلب الرئيس إلى الكونغرس الاتحادي إقرار عدد من القوانين الهامة المتعلقة بالسياسة النقدية والمصرفية والتجارية والسعرية والاجتماعية الخاصة بتشريعات العمل. وكانت هذه القوانين تستهدف تأكيد حق السلطة المركزية في تنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي على هدي المصلحة العامة للبلاد.

ورغم أن بعض الأوساط الاقتصادية الهامة، بالإضافة إلى المحكمة الاتحادية العليا، وقاومت اتجاهات الرئيس للتدخل في الحياة الاقتصادية، فإن نهجه ترسيخ بشكل قاطع على إثر الانتصار الشعبي الكاسح الذي أحرزه أثناء انتخابات الرئاسة التالية التي جرت في عام 1936. ومنذ ذلك الحين توطدت سلطة الحكومة المركزية بشكل واضح في الحياة السياسية الأمريكية. وأصبح هذا الواقع الجديد أمرا لا بد منه وخاصة على إثر الحرب العالمية الثانية التي تميزت نهايتها بتغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الخارجية وذلك فيما يتعلق الانفتاح على قضايا العالم. والتصدي لقيادة المعسكر الرأسمالي على المستوى العالمي.

إلا أن تطور النظام الاتحادي باتجاه تقوية السلطة المركزية وتوسيع اختصاصاتها يجب أن لا يدعو للاعتقاد بأن الحياة السياسية المحلية في الدول الأعضاء في طريقها إلى الاضمحلال. فالواقع أن المؤسسات السياسية في هذه الدول مازالت تلعب دورا هاما وحساسا في الحياة المواطن ذلك في مختلف المجالات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

والجدير بالملاحظة أن هذا التطور جرى بدون إدخال أي تعديل رسمي على دستور عام 1787، وإنما هو تم من خلال إعطاء النصوص الدستورية القائمة تفسيرات ومعان واسعة من شأنها تبرير زيادة دور السلطة الاتحادية، والرئيس بصفة خاصة في حياة البلاد العامة.

ثانيا: المؤسسة الانتخابية

لم ينص الدستور الأمريكي لعام 1787 على إدخال موضوع تحديد نظام الانتخاب، ضمن اختصاصات السلطة الاتحادية. لهذا اعتبر هذا الموضوع عائدا لاختصاصات السلطات التشريعية في الدول الأعضاء (الولايات) لهذا نجد أن القواعد والتنظيمات المتعلقة بنظام والشروط المتصلة بممارسة حق الاقتراع تختلف من ولاية لأخرى.

وقد كانت هذه الاختلافات واسعة إلى حد كبير خلال السنوات الأولى من عمر الدولة الاتحادية، إلا أنها لم تلبث أن تضاءلت كثيرا نتيجة التعديلات العديدة التي أدخلت على الدستور ولاسيما على إثر انتهاء الحرب الأهلية التي كان من أبرز نتائجها إلغاء نظام الرقيق في كافة أنحاء الولايات المتحدة و إقرار المساواة في الحقوق بين السود والبيض.(وهذا ما نص عليه التعديل الثالث عشر الصادر في 1865). وفي عام 1869 صدر التعديل الخامس عشر الذي حرم منع أي مواطن أمريكي من ممارسة حق الانتخاب بسبب العرق أو اللون أو حالة العبودية السابقة، ثم صدر في عام 1920 التعديل التاسع عشر الذي منح المرأة حق الانتخاب. وفي عام 1962 صدر التعديل 24 الذي منع إخضاع حق الانتخاب للمناصب الاتحادية لدفع أي ضريبة أو رسم اقتراع.

ولكن رغم هذا التدخل من طرف السلطة الاتحادية المركزية، فإن النظام الانتخابي في كثير من الولايات ما زال مقيدا.

وبشكل عام فإن حق الانتخاب متوفر للمواطنين البالغين من العمر 18 سنة، والغير المحكومين بعقوبات حبسية، على أن يثبتوا أنهم مقيمون في الولاية فترات تتراوح من 6 أشهر إلى سنتين. وتشترط نسبة هامة من الولايات على الناخبين أن يعرفوا القراءة والكتابة. وهناك بعض الولايات التي تشترط أن يكون بإمكان الناخبين تفسير الدستور.

ومن جهة أخرى تتمتع كل ولاية بحق تحديد الشروط اللازمة للترشيح لمختلف المناصب العليا المحلية، كما تتمتع بحرية تحديد أسلوب الاقتراع. لكنه يلاحظ بهذا الصدد أن الأغلبية الساحقة من الولايات تعتمد أسلوب الاقتراع الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة.

وتلعب المؤسسة الانتخابية في الولايات دورا هاما جدا في الحياة العامة، لأن الانتخابات فيها لا تتناول فقط المناصب السياسية في الهيئة التشريعية والتنفيذية، وإنما هي أيضا تعتبر الوسيلة المعتمدة للتعيين في عدد لا بأس به من المناصب القضائية والإدارية.

وتتميز المؤسسة الانتخابية في بعض الولايات الأمريكية بأسلوب مبتكر يتجلى فيما يسمى بالانتخابات الابتدائية. وهذا الأسلوب يسمح للناخب، فبل أن يقوم بالاختيار النهائي، إجراء نوع من المفاضلة بين جميع المرشحين من الحزب الديمقراطي أو جميع المرشحين من الحزب الجمهوري، لمعرفة أي مرشح منهم أوفر حظا في الفوز بالمنصب.

ثالثا: الأحزاب السياسية

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية عمليا في ظل الثنائية الحزبية. والحزبان الرئيسيان هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي.

أ- نشأة الأحزاب الأمريكية وتطورها: نشأت الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنوات قليلة من قيام الاتحاد وذلك بسبب انقسام الرأي العام حول بعض القضايا السياسية الهامة، والتي كان من أبرزها الموقف من العلاقة بين السلطة المركزية والدول الأعضاء. وقد ظهر آنذاك في البلاد تياران رئيسيان: تيار اتحادي متطرف ترأسه واشنطن وهاملتون وحظي بدعم الأوساط الصناعية الناشئة والقوية خاصة في الولايات الشمالية، وتيار اتحادي معتدل ترأسه جيفيرسون وكان يدعو لحماية حقوق الدول الأعضاء والأفراد في وجه السلطة المركزية، وقد حظي بتأييد الأوساط الزراعية المتمركزة خاصة في الولايات الجنوبية الضعيفة.

وقد بادر جيفيرسون بعد سنوات قليلة من قيام الاتحاد بتأسيس الحزب المعروف حاليا بالحزب الديمقراطي. وقد تأسس الحزب الجمهوري لاحقا على يد ابراهام لنكولن الذي رفع راية النضال ضد نظام الرقيق ودعا لتقوية السلطة المركزية.

وقد استمرت مواقف الحزبين دون أي تغيير إلى غاية فوز المرشح الديمقراطي فرانكلين روزفلت بمنصب رئاسة الجمهورية سنة 1932 على إثر اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمة. فقد أدت هذه الأزمة إلى إحداث تغيير جذري في مواقع الحزبين الكبيرين حيث تحول الحزب الديمقراطي من حزب مدافع عن حقوق الدول الأعضاء تجاه السلطة المركزية إلى حزب مدافع عن حقوق الأفراد ولاسيما أولئك الذين سحقوا منهم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، وكان لا بد من التدخل بقوة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من أجل إنصافهم. وهكذا أصبح الحزب الديمقراطي الجهة التي تدعو لتقوية سلطة الدولة الاتحادية، وأدى ذلك إلى اقترابه أكثر من صفوف العمال والمسحوقين وأبناء الأقلية السوداء الذين تضرروا أكثر من غيرهم من الأزمة. أما الحزب الجمهوري، فقد تحول، منذ تولي روزفلت لمنصب الرئاسة إلى معارض قوي لسياسة تدخل السلطة الاتحادية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأنه كان يرى فيها تهديدا لمصالح المنتجين وأرباب العمل الصناعيين الذين كانوا مصدر قوته.

ب- مميزات النظام الحزبي: تتميز الأحزاب الأمريكية بعدة سمات خاصة من أهمها:

1- إنها أحزاب أطر قوية التنظيم، وليست أحزابا جماهيرية، فهي تقوم على أساس عدد من الأطر الفعالة والمتفرغة للعمل الحزبي، وهي التي تقوم بالاتصال بالمواطنين لكسب تأييدهم في الانتخابات.

2- إنها أحزاب شديدة اللامركزية. وهنا نلاحظ أن التنظيمات المحلية ضمن إطار كل ولاية قوية جدا ومستقلة. وعندما ينعقد المؤتمر الوطني فإنه يضم ممثلين منتخبين يتمتعون بنفس القدر من القوة. ولا تظهر وحدة الحزب على الصعيد الفدرالي إلا عند إجراء الانتخابات الفدرالية وخاصة منها الانتخابات الرئاسية.

3- إن الأحزاب الأمريكية ليست أحزابا إيديولوجية بكل معنى الكلمة، لأن الفوارق المذهبية بين الحزبين الكبيرين تبدو ضئيلة.

ج- الدور السياسي للأحزاب الأمريكية: تلعب الأحزاب الأمريكية دورا هاما في الحياة السياسية، ولاسيما على الصعيد الانتخابي. فعند إجراء الانتخابات المختلفة، علة المستويين المحلي أو الفدرالي تنشط القيادات الحزبية بشكل ملحوظ للاتصال بالمواطنين، مما يستلزم نفقات مالية ضخمة لا تستطيع تحملها الأحزاب الصغرى أو المرشحين المستقلين.

رابعا: الكونغرس

يسمى البرلمان في الولايات المتحدة “الكونغرس”وهو الذي يتولى السلطة التشريعية بالإضافة لبعض الصلاحيات الأخرى.

أ- تنظيم الكونغرس: يتألف الكونغرس من مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ.

1- مجلس النواب: وهو يمثل الشعب الأمريكي باعتباره كيانا واحدا. وينتخب من طرفه على أساس ممثل واحد لكل 400 ألف ناخب تقريبا. وينتخب النواب لمدة سنتين بالاقتراع الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة.

2- مجلس الشيوخ: وهو يمثل الولايات على أساس مندوبين اثنين لكل ولاية بغض النظر عن عدد السكان. وينتخبون لمدة ست سنوات، ويجرى تجديد ثلث أعضاء المجلس كل سنتين.

هذا ويعتبر نائب رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة، حكما رئيسا لمجلس الشيوخ.

ب- صلاحيات الكونغرس: يتولى الكونغرس الأمريكي أساسا صلاحيات السلطة التشريعية، إلا أنه يقوم الى جانب ذلك ببعض الصلاحيات الأخرى.

1- الصلاحيات التشريعية: يتمتع مجلسي الكونغرس على قدم المساواة بممارسة سلطة التشريع، وذلك باستثناء التشريع في المسائل المالية حيث يعود حق المبادرة فيها لمجلس الممثلين فقط.

وقد عدد الدستور الاتحادي الصلاحيات التشريعية للكونغرس بطريقة الحصر. وشملت هذه الصلاحيات حق فرض الضرائب وعقد القروض وصك النقود والمعايير والأوزان والمقاييس وتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وتحديد شروط الجنسية واكتسابها، وتنظيم قضايا الدفاع الوطني ومسائل الحرب والسلم وتحديد الشروط لقبول أعضاء جدد في الاتحاد التشريع في قضايا الإفلاس والملكية الأدبية والفنية وإقامة مكاتب البريد وطرق المواصلات.

إلا أن الكونغرس استطاع بفضل الاجتهاد والضرورة العملية أن يوسع من نطاق صلاحياته التشريعية لتشمل معظم النواحي الاقتصادية والمالية الدفاعية. وقد تم له ذلك نظرية الصلاحيات الضمنية التي سبق الإشارة إليها والتي استفاد منها الكونغرس لتوسيع صلاحياته على حساب الدول الأعضاء.

ولإقرار أي مشروع قانون من قبل الكونغرس يجب التصويت عليه بالموافقة في كل المجلسين. وإذا حدث خلاف بينهما حول مشروع ما فتشكل لجنة توفيق من أعضاء من المجلسين لوضع نص موحد لمشروع القانون يوافق علية المجلسين. وإذا لم تتوصل اللجنة إلى اتفاق يتم الاستغناء عن المشروع.

ويحال مشروع القانون بعد التصويت عليه بالموافقة من طرف مجلسي الكونغرس إلى رئيس الجمهورية لتوقيعه ونشره في الجريدة الرسمية لكي يصبح قابلا للتنفيذ.

2- الصلاحيات الأخرى: يتمتع الكونغرس الأمريكي بالإضافة لصلاحيات التشريع باختصاصات أخرى من أهمها:

ممارسة صلاحيات السلطة التأسيسية: فالكونغرس يتمتع بحق اتخاذ المبادرة لتعديل الدستور. وهو الذي يقوم بإقرار مشاريع التعديل بأغلبية ثلثي الأعضاء. إلا أن التعديل لا يصبح قابلا للتطبيق وتجدر الإشارة إلا بعد مصادقة السلطات المختصة في ثلاثة أرباع الدول الأعضاء عليه وتجدر الإشارة إلى أن الدول الأعضاء تستطيع أن تتخذ أيضا من جهتها المبادرة لتعديل الدستور الاتحادي. دراسته وإقراره إلا بعد موافقة السلطات المختصة في ثلثي الدول الأعضاء عليه.

ممارسة صلاحيات انتخابية استثنائية. فعندما لا يحصل المرشحون لانتخابات رئاسة الجمهورية على الأغلبية المطلقة لأصوات الناخبين الرئاسيين، يقوم مجلس الممثلين بانتخاب رئيس الجمهورية ونائبه. لا أنه نتيجة لنظام الثنائية الحزبية فإن هذه الحالة لم تحصل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية إلا نادرا.

يحق للكونغرس مراقبة سير العمل في المصالح الاتحادية العامة. كما يتمتع مجلس الشيوخ بسلطات هامة فيما يتعلق بضرورة موافقته على تعيين كتاب الدولة و بعض كبار الموظفين و خاصة في السلك الدبلوماسي.

ويتمتع مجلس الشيوخ، بمفرده أيضا، بصلاحية تصديق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يوقعها رئيس الجمهورية باسمك الولايات المتحدة. ولا تعتبر هذه الاتفاقيات نافذة إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ عليها بأغلبية الثلثين.

خامسا: رئاسة الجمهورية

يتولى رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة رئاسة السلطة التنفيذية، ويعاونه في تنفيذ مهام هذه السلطة كتاب الدولة (الوزراء).

أ- انتخاب الرئيس: ينتخب رئيس الولايات المتحدة ونائبه من قبل الشعب وفقا لأسلوب معقد يشتمل على مرحلتين تضم كل منهما خطوتين اثنتين.

1- المرحلة الأولى: وهي مرحلة لم ينص عليها الدستور، وإنما استقر عليها العرف السياسي نتيجة الدور الحاسم الذي يقوم به الحزبان الكبيران في عملية الانتخاب. وتتضمن هذه المرحلة التي يجري خلالها انتقاء كل حزب لمرشحه لمنصب الرئاسة، خطوتين : تتمل الأولى بقيام الناخبين المؤيدين لكل حزب، ضمن لإطار كل ولاية، بانتخاب مندوبي الولاية للمؤتمر الوطني للحزب وبإعلان تأييدهم، في نفس الوقت، للمرشح الذي يفضلون أن يكون مرشح الحزب لمنصب الرئاسة، من بين المرشحين العديدين المتنافسين لذلك، وتجري هذه الخطوة فيما بين شهري مارس ويونيو من العام الذي تتم فيه الانتخابات ،وذلك وفق أساليب متنوعة جدا، من أهمها أسلوب الجمعيات الابتدائية التي سبقت الإشارة إليها، أو أسلوب قيام اللجان الحزبية المحلية أو الناخبين مباشرة بانتخاب مندوبي الولاية للمؤتمر الوطني الحزب. أما الخطوة الثانية فتتمثل باجتماع المؤتمر الوطني للحزب خلال شهر غشت حيث يقوم مندوبو الولايات، مهما كانت طريقة اختيارهم، بانتقاء مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية. ويتمتع هؤلاء المندوبون عمليا بحرية التصويت لصالح أي مرشح، وخاصة بعد إجراء الدورة الأولى للاقتراع، وذلك بغض النظر عن آراءهم ومواقفهم المؤيدة لهذا المرشح أو ذاك، والتي سبق أن أعلنوها أو التزموا بها أمام الناخبين الحزبيين خلال الخطوة الأولى.

2- المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي نص عليها الدستور والتي يتم فيها انتخاب الشعب لأحد المرشحين وذلك على خطوتين، ففي الخطوة الأولى التي تجري في أول يوم ثلاثاء من شهر نوفمبر، يقوم المواطنون المتمتعون بحق الانتخاب في كل ولاية بانتخاب ناخبين رئاسيين يبلغ عددهم عدد الممثلين والشيوخ الذين يمثلون الولاية في الكونغرس الاتحادي. ويتم الانتخاب بصفة عامة، على مستوى الولاية، وفق أسلوب الاقتراع الأكثر ذي الدورة الواحدة وعلى أساس اللائحة المغلقة، بحيث تتنافس أمام المواطنين، في كل ولاية، لائحتان إحداهما تمثل الحزب الجمهوري والثانية تمثل الحزب الديمقراطي ويفوز بالانتخاب جميع أعضاء اللائحة التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات المعبر عنها.

أما الخطوة الثانية فتتم خلال شهر ديسمبر حيث يقوم الناخبون الرئيسيون في جميع الولايات بتوجيه رسائل إلى رئيس مجلس الشيوخ يعلنون فيها اسم المرشح لمنصب الرئاسة الذي يصوتون لصالحه، ويقوم رئيس مجلس الشيوخ بإعلان نتيجة هذا التصويت بمراسلة خلال شهر يناير بحيث يباشر الرئيس مهامه الدستورية في العشرين منه. بعد أن يدلي بالقسم الدستوري أمام رئيس المحكمة العليا.

وقد فقدت هذه الخطوة الثانية أهميتها العملية نظرا لأن انتخابات نوفمبر الأولى أصبحت تعتبر حاسمة بالنسبة لمصير ونتيجة انتخابات الرئاسة. وذلك لأن هيمنة نظام الثنائية الحزبية على العملية الانتخابية جعلت الناخبين الرئاسيين التابعين لكل من الحزبين الكبيرين ملزمين واقعيا بالتصويت فيما بعد لصالح مرشح الحزب، ولهذا صار من الممكن معرفة نتيجة الانتخابات النهائية فور ظهور نتائج الخطوة الأولى، الأمر الذي أذى لاعتبار أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أصبح ينتخب عمليا مباشرة من الشعب.

والجدير بالذكر أن مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية يختار بنفسه شخصا آخرا ليكون نائبا له في حال فوزه بالانتخابات. ويخوض الاثنان المعركة الانتخابية بصورة تضامنية بحيث يؤدي فوز المرشحين لفوز نائبه معه حتما.

ومدة الولاية الدستورية لرئيس الجمهورية أربع سنوات قابلة للتجديد فورا مرة واحدة فقط.

وقد حدد الدستور الاتحادي الشروط اللازمة للترشيح، فنص على أن المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية بجب أن يكون مواطنا أمريكا بالولادة ومقيما في الولايات المتحدة منذ 14 سنة على الأقل، وأن يزيد عمره على 35 سنة.

وفي حال شغور منصب الرئيسة، لوفاة أو استقالة أو لأي سبب آخر، فإن نائب الرئيس يتولى بطريقة آلية المنصب، ويمارس مهام الرئيس طوال المدة التي كانت باقية أمامه لانتهاء مدة ولايته. وإذا كانت هذه المدة تتجاوز العامين، فإن الرئيس الجديد لا يحق له أن ينتخب حين انتهائها لمنصب رئاسة الجمهورية إلا مرة واحدة فقط.

ب- صلاحيات الرئيس: يعتبر رئيس الولايات المتحدة رئيسا للدولة وللسلطة التنفيذية. وهو يتمتع بسلطات هامة جدا تجعل منه الشخصية المركزية في النظام الأمريكي. ومن أبرز صلاحياته

– تولي مهام السهر على تنفيذ القوانين الاتحادية . ولكي يتمكن الرئيس من القيام بهذه المهمة الرئيسية، فقد أناط الدستور به حق رئاسة السلطتين التنظيميتين والإدارية. فبموجب السلطة الأولى يملك الرئيس صلاحية إصدار أوامر تنفيذية أو إعلانات من شانها جعل القوانين التشريعية الصادرة عن الكونغرس الاتحادي قابلة للدخول في حيز التطبيق. أما بموجب السلطة الثانية فان الرئيس يراقب سير الإدارات العامة الاتحادية ، ويعين الموظفين الاتحاديين بعد اخذ رأي مجلس الشيوخ وموافقته بالأغلبية العادية ويطبق هذا الأمر عمليا بالنسبة لكبار الموظفين كتاب دولة وسفراء وعدد من رؤساء الإدارات الهامة. أما بالنسبة لصغار الموظفين فان مجلس الشيوخ يفوض عادة للرئيس او عادة لكتاب الدولة صلاحية تعيينهم.

وبصفته رئيسا للسلطتين التنفيذية والإدارية، فان الرئيس يعين بعض كتاب الدولة (الوزراء) لمعاونته في تسيير الشؤون والإدارات الهامة. ويخضع هؤلاء الكتاب بشكل تام لمراقبة الرئيس وتوجيهاته وأرائه، ويعتبرون مسؤولين عن أعمالهم ومواقفهم أمامه فقط. ولهذا فانه بإمكانه أن يقيلهم متى أراد.

– ويقوم الرئيس بصفة خاصة بقيادة السياسة الخارجية للاتحاد . ويساعده في هذه المهمة “كتاب الدولة للخارجية”. وتتضمن هذه الصلاحية حق الرئيس بتوجيه وقيادة المفاوضات الدبلوماسية وتوقيع المعاهدات الدولية وتعيين سفراء وقناصل الولايات المتحدة في الدول الأجنبية، وتلقي أوراق اعتماد السفراء الأجانب في بلاده.

– ويعتبر رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة. وهو يتولى بهذه الصفة مهمة تحديد السياسة الإستراتيجية العسكرية وما يستتبع ذلك من اتخاذ للقرارات الهامة والخطيرة في مجال إنتاج واستخدام الأسلحة الجديدة، كما يتولى قيادة العمليات الحربية في الخارج، ويقرر اللجوء إلى لاستعمال القوات المسلحة من اجل تطبيق القوانين في الداخل. إلا أن الرئيس لا يتمتع بحق إعلان الحرب رسميا، فهذا الحق يعود لاختصاصات الكونغرس.

– ويتولى الرئيس على الصعيد القضائي بعض الصلاحيات الهامة. ومن أبرزها حقه في تعيين قضاة المحكمة العليا، وفي إصدار العفو الخاص عن الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام عن المحاكم الاتحادية.

– ويتمتع الرئيس في أوقات الأزمات الكبيرة ولاسيما الحروب، بصلاحيات استثنائية واسعة، إذ يصبح بإمكانه إصدار القرارات الخاصة بحجز الأموال والأشخاص لحاجات الدفاع الوطني، كما انه يستطيع القيام باتخاذ قرارات يعود الأصل في اختصاصها للكونغرس. إلا أنه على الرئيس أن يعرض هذه القرارات، فيما بعد، وعندما تسمح الضر وف بذلك، على الكونغرس قصد المصادقة عليها. والواقع أن الدستور الاتحادي لم ينص على مثل هذه الصلاحيات الاستثنائية ولكن بعض الرؤساء الأمريكيين بادروا لاكتسابها عن طريق الاجتهاد. بعد أن احتجوا لذلك بان واجبهم الأساسي كرؤساء للاتحاد يملي عليهم، في أوقات الأزمة، اتخاذ كافة التدابير التي من شانها حماية وحدة الاتحاد وسلامته.

ج- العلاقات بين الكونغرس والرئيس: يتميز النظام الرئاسي في الولايات المتحدة بقيامه على أساس مبدأ الفصل الجامد بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويتحقق هذا المبدأ في الواقع من خلال انبثاق كل منهما مباشرة من الشعب، ومن خلال استقللهما شبه التام في ممارسة اختصاصاتهما الدستورية دون ان يكون للكونغرس الحق في حل الكونغرس، ورغم هذا الفصل المبدئي الجامد فان هناك، في الواقع، بعض وسائل التأثير والتدخل التي يمارسها كل منهما تجاه الأخر.

أولا: وسائل تأثير الرئيس على الكونغرس: يتمتع رئيس الولايات المتحدة بعدة وسائل دستورية هامة يؤثر من خلالها على أعمال الكونغرس. ومن أهم هذه الوسائل :

– حق الاعتراض (الفيتو) على القوانين التي يصوت عليها الكونغرس . فالرئيس ينبغي عليه أن يوقع على القوانين الصادرة على الكونغرس تمهيدا لنشرها ودخولها حيز التنفيذ، إلا انه له الحق بالامتناع عن التوقيع والاعتراض على القانون وإعادته للكونغرس من اجل النظر به مجددا، والتصويت عليه بالموافقة في هذه الحالة ، بأغلبية الثلثين في كل من المجلسين، و تعتبر هذه الوسيلة سلاحا فعالا بيد للرئيس للتأثير على مقررات الكونغرس

– حق توجيه خطاب للكونغرس عن حالة الإتحاد، ويتضمن هذا الخطاب الذي يلقى عادة في مستهل كل عام تقييم الرئيس لأوضاع البلاد وخططه السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمعالجة القضايا المختلفة التي تواجهها. ويلعب هذا الخطاب دورا هاما في توجيه الكونغرس ودفعه لإصدار القوانين المختلفة التي يوحي الرئيس بها أو يشير إلى ضرورة اتخاذها.

– المبادرة بصورة غير مباشرة لاقتراح مشاريع القوانين، وحث الكونغرس على إصدارها وذلك من خلال أصدقائه أو من خلال رؤساء الكتل الحزبية واللجان البرلمانية في المجلسين.

– حق إعداد مشروع الموازنة الاتحادية السنوية، ورفعها للكونغرس بشكل تمني للنضر في إقرارها، ويعتبر مشروع الموازنة وثيقة ي غاية الأهمية لأنها تحدد الإطار العملي للسياسة التي يمكن أن تنهجها السلطة التنفيذية خلال السنة التالية.

ثانيا: وسائل تأثير الكونغرس على الرئيس: ويمارس الكونغرس بالمقابل عدة وسائل للتأثير بها على الرئيس من أهمها:

– استخدام طريقة الاتهام . وهي نوع من الصلاحية القضائية للكونغرس يمارسها تجاه الرئيس وكبار موظفي الدولة. فالكونغرس يستطيع توجيه الاتهام إلى لهؤلاء بالخيانة أو الرشوة أو أية جناية أو جنحة مهمة وضارة بالمصلحة العامة. ويعود لمجلس الشيوخ قط صلاحية محاكمة الرئيس. ويترأس المحاكمة رئيس المحكمة العليا. ولا تبدأ المحاكمة إلا بعد أن يقوم مجلس الشيوخ بأداء يمين بأن تجري المحاكمة وفقا للقانون والعدل والضمير. ولا يصدر قرار تجريمي بحق الرئيس إلا بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين ولا يكون من نتيجة لهذا القرار إلا إقالة الرئيس وحرمانه من أية وضيفة رسمية في المستقبل .

وقد استخدم الكونغرس هذا الحق خلال عام 1974 بمناسبة الإعلان عن فضيحة ووترغيت، ووجه الاتهام إلى عدد هام من كبار الموظفين المعاونين للرئيس ريتشارد نيكسون بسبب تورطهم بهذه الفضيحة. وكاد يوجه الاتهام للرئيس نيكسون شخصيا لنفس السبب، لولا أن الاتصالات الخفية بين كبار المسؤولين الأمريكيين أدت لوضع حد لهذه القضية عن طريق تقديم الرئيس نيكسون لاستقالته من منصبه في الثامن من غشت 1974.

2- وسيلة الضغط المالية: فالكونغرس من خلال صلاحيته في مجال إقرار قانون الموازنة والقوانين المالية الأخرى يستطيع أن يؤثر إ حد كبير على سياسة الرئيس، لأن هذه السياسة بحاجة لاعتمادات مالية لوضعها موضع التنفيذ. ولهذا فإنه في حال معارضة الكونغرس لسياسية الرئيس فإنه بإمكانه أن يعمل على عرقلة تنفيذها من خلال الامتناع عن الموافقة على الاعتمادات المالية التي يطلبها الرئيس .

سادسا: السلطة القضائية

إن أهمية دراسة السلطة القضائية في الولايات المتحدة تعود للدور الهام الذي تلعبه في الحياة السياسية ولاسيما من خلال مراقبتها لدستور القوانين، والتنظيم القضائي في الولايات المتحدة يقوم على مستويين اثنين: المستوى المحلي حيث يوجد في كل ولاية من الولايات تنظيم قضائي يضم محاكم من كافة المستويات مهمتها الفصل في المنازعات على هدي القوانين المحلية، والمستوى المركزي الذي يوجد على صعيد الدولة الاتحادية.

أ- التنظيم القضائي الاتحادي: يضم التنظيم القضائي على المستوى الاتحادي عدة محاكم ابتدائية وبضع محاكم استئنافية أوكل الدستور للكونغرس صلاحية إحداثها وتنظيمها بقانون . ونص الدستور من جهة أخرى على إنشاء محكمة عليا لتكون على رأس التنظيم القضائي الاتحادي، وتتألف المحكمة العليا من تسعة قضاة يعينهم رئيس الولايات المتحدة لمدى الحياة بعد أخذ موافقة مجلس الشيوخ. ويسمى الرئيس من بين هؤلاء القضاة رئيسا للمحكمة . ويعتبر رئيس المحكمة الشخصية الثانية في الولايات المتحدة . وهو يتقدم في المرتبة الشرفية على نائب رئيس الجمهورية وعلى رئيس مجلس الممثلين. ويتولى رئيس المحكمة العليا رئاسة مجلس الشيوخ عندما يقوم بمحاكمة رئيس الجمهورية، كما أن رئيس الجمهورية يقسم أمامه اليمين الدستورية قبل توليه المهام الرسمية.

ب- صلاحيات المحاكم الاتحادية: تمارس المحاكم الاتحادية الأمريكية دورا قضائيا صرفا ودورا قضائيا له طابع سياسي يتمثل في مراقبة التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية في الدول الأعضاء، وكذلك في مراقبة دستورية القوانين.

1- الصلاحيات القضائية: وهي الصلاحيات التقليدية التي تمارسها مختلف المحاكم، وتتجلى في النظر في كل نزاع تطاله القوانين الاتحادية أو تكون الدولة الاتحادية طرفا فيه. كما يمكن لهذه المحاكم أن تنظر في الخلافات الناشئة بين الدول الأعضاء أو بين مواطني مختلف الدول الأعضاء أو بين دولة عضو ومواطن من دولة أخرى. وكذلك في المنازعات التي يكون سفراء أو قناصل الدول الأجنبية طرفا فيها.

2- الصلاحيات القضائية ذات الطابع السياسي: وهي الصلاحيات الأهم التي تتمتع بها المحاكم الاتحادية وتتمثل بمراقبة مدى احترام الدولة الاتحادية والدول الأعضاء لما نص عليه الدستور الاتحادي بشأن توزيع الصلاحيات بين السلطة المركزية والولايات، وكذلك بمراقبة دستورية القوانين.

وهذا الدور الهام الذي تقوم به المحكمة العليا لم ينص الدستور الاتحادي عليه أساسا. ولكنه استخرج بفضل اجتهاد رئيس المحكمة العليا القاضي مارشال “Marshall ” في عام 1803. وانطلاقا من هذا الاجتهاد ظهرت في علم القانون الدستوري النظرية المعروفة بمراقبة دستورية القوانين. حيث يكون على المحكمة مراقبة ما إذا كانت القوانين موافقة للدستور نصا وروحا، أو مخالفة له.

ويمكن لمسألة المراقبة الدستورية للقوانين أن تطرح في الولايات المتحدة على ثلاثة مستويات.

في حال مخالفة السلطات التشريعية أو الإدارية في الدول الأعضاء لدساتير هذه الدول.

في حال مخالفة سلطات الدول الأعضاء هذه للدستور الاتحادي.

في حال مخالفة سلطات الدولة الاتحادية للدستور الاتحادي.

ففي كل نزاع يعرض على محكمة يكون على القاضي أن يتحقق مما إذا كان القانون القابل للتطبيق غير مخالف للدستور، ففي حال مخالفة القانون العادي للدستور الذي يعتبر القانون الأسمى في البلاد، يكون على القاضي أنم يحترم القانون الأسمى ويقضي بعدم تطبيق القانون العادي.

وعلى أساس فكرة التنازع بين القوانين استند القاضي مارشال لدعم اجتهاده الخاص باختصاص المحكمة العليا، و كافة الحاكم في الولايات المتحدة، في ممارسة الوقاية الدستورية على القوانين.

وتتبع المحاكم الأمريكية في ممارستها للرقابة الدستورية على القوانين الطريقة المعروفة ُبالدفعَ ُ وتقوم هذه الطريقة على طلب يقدمه أحد المتقاضين و يطلب فيه من المحكمة عدم تطبيق القانون الذي يحتج به خصمه ، لأنه مخالف للدستور. وبهذه الطريقة يتوصل المتقاضي إلى دفع القانون أي إلى منع تطبيقه. ومن شأن إصدار المحكمة العليا لحكم يقضي بعدم دستورية أحد القوانين أن يؤدي إلى عدم تنفيذه. ويعتبر حكم المحكمة هذا ملزما في المستقبل لجميع المحاكم الأخرى الأدنى درجة في الولايات المتحدة.

ج- الدور السياسي للمحكمة العليا: تلعب المحكمة العليا في الولايات المتحدة دورا بارزا في الحياة السياسية وذلك من خلال اجتهاداتها التفسيرية لنص وروح الدستور الأمريكي. فالقضاة الأمريكيون، كغيرهم من الأفراد ينطلقون في أفكارهم من مواقع اقتصادية واجتماعية وفلسفية خاصة، ولابد لهذه المواقع من أن تؤثر على مواقفهم وأحكامهم. ولهذا نرى أن المحكمة العليا لعبت في تاريخ الولايات المتحدة دورا محافظا أحيانا وتقديمها أحيانا أخرى وذلك حسب شخصية القضاة في كل حين، ونزعاتهم لتفسير الدستور بنصه أو بروحه في هذا الاتجاه أو ذاك.

وهذا الأمر الذي جعل من المحكمة العليا حكما في الحياة الدستورية وبالتالي في الحياة السياسية دفع بعض الفقهاء لوصف النظام الأمريكي بأنه نظام “حكم القضاة”.

وقد لوحظ أن الدور السياسي للمحكمة العليا مر بالنسبة لاتجاهاتها المحافظة أو التحررية بمرحلتين رئيسيتين وذلك بعد أن تمكنت في الفترة الممتدة من عام 1803 إلى عام 1835 من تكريس حقها في مراقبة الحياة الدستورية.

ولقد امتدت المرحلة الأولى حتى عام 1937 وتميزت باتجاهها الرجعي حين انحازت المحكمة الرقيق في البلاد. وأكدت المحكمة في نهاية هذه الفترة اتجاهها المحافظ من خلال مقاومتها للتدابير التي اتخذها الرئيس روزفلت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وعند إعادة انتخاب روزفلت في عام 1936 بأغلبية ساحقة تحول اتجاه المحكمة نتيجة استقالة اثنان من القضاة المعارضين له. وقد مهد هذا لمرحلة ما بعد 1945 حيث تبنت المحكمة قضية المساواة العنصرية ودفاعها عن الحريات العامة.

رابعا- النظام السياسي الفرنسي

عرفت فرنسا خلال تطورها التاريخي كل أنواع الأنظمة السياسية. فبعد أن كانت تعيش قبل قيام الثورة الكبرى عام 1789 في ظل النظام الملكي المطلق أخذت تتعاقب عليها بعد الثورة كافة أنواع الحكم الأخرى تقريبا. فمن الملكية الدستورية إلى الجمهورية البرلمانية إلى الإمبراطورية. وهكذا إلى أن استقر فيها النظام البرلماني منذ 1875. ولكن هذا النظام الذي استمر في فرنسا منذ ذلك الحين وحتى عام 1958 بداً يشهد تحولات هامة غيرت إلى حد كبير من طبيعته بحيث أن النظام السياسي في فرنسا حاليا لم يعد ينطبق عليه تماما وصف النظام البرلماني وذلك بعد أن دخلت عليه بعض مميزات النظام الرئاسي. ولهذا يمكن القول أن النظام السياسي الحالي في فرنسا هو نظام مختلط فيه بعض خصائص كل من النظامين البرلماني والسياسي.

وسنتعرض بشكل موجز في فقرة أولى للتطور التاريخي للنظام السياسي الفرنسي ثم سندرس في فقرة ثانية المؤسسات السياسية للنظام الحالي.

الفقرة الأولى: التطور التاريخي للنظام السياسي في فرنسا

تعتبر ثورة 1789 نقطة الانطلاق للتاريخ الحديث لفرنسا. فلقد قامت هذه الثورة لتحل نظاما اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا جديدا محل النظام القديم الذي ظل سائدا في البلاد طوال عشرة قرون.

وطوال تلك المدة كانت فرنسا تعيش في ظل حكم ملكي مطلق حيث كان الملك يركز في يده كل السلطات ويمارسها إلى حد كبير بدون حدود عملية ودستورية. وكان الملك يستند في حكمه المطلق على مبدأ الشرعية الملكية الو راثية وعلى الحق الإلهي بالحكم.

أما المجتمع الفرنسي خلال تلك الفترة فكان مقسما من الوجهة القانونية إلى ثلاث طبقات: طبقة رجال الدين وطبقة النبلاء وطبقة عامة الشعب.

وكان لكل طبقة من هذه الطبقات الثلاث نظام قانوني خاص. وقد خص هذا النظام القانوني رجال الدين والنبلاء بسلسلة من الامتيازات المادية والمعنوية بينما حرمت طبقة عامة الشعب من كافة الامتيازات. وقد شكل الحرمان احد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة. فالبرجوازية التي كانت تعتبر قانونيا من ضمن فئات طبقة عامة الشعب وجدت، أن النظام القانوني القائم يشكل حاجزا يعرقل حركة صعودها وتقدمها على مسرح الأحداث السياسية بعد أن ازداد وزنها ودورها على الصعيد الاقتصادي.

ونتيجة لذلك التناقض بين الوضع الاقتصادي البارز والمتقدم للطبقة البرجوازية وبين النظرة الاجتماعية والسياسية والقانونية المتخلفة لها قامت ثورة 1789 لتحل نظاما جديدا منسجما بدل النظام القديم الذي استفحلت تناقضا ته.

إلا أن عمق التغيرات الاجتماعية والسياسية والقانونية التي أرادت ثورة 1789 القيام بها أدت إلى إحداث هزة عميقة في ضمير الشعب الفرنسي الذي اعتاد طوال القرون الماضية على الإيمان بقيم النظام القديم المتمثلة بالشرعية الملكية وبالحق الإلهي بالحكم. ولم يستطع الشعب بمجموعه أن يستوعب القيم الثورية الجديدة القائمة على مبدأ الشرعية المستندة إلى السيادة القومية التي تعبر أن الأمة هي المصدر لكل السلطات.

وقد انقسم الشعب الفرنسي منذ قيام الثورة انقساما حادا بين مؤيد لنظام القيم القديم ومناصر لنظام القيم الجديد. وحدث من جراء هذا الانقسام الحاد أن عاشت فرنسا تاريخا مثيرا متميزا بعدم الاستقرار السياسي. فخلال الفترة الممتدة من 1789 إلى 1875 تتالى على فرنسا 15 نظاما سياسيا وحدثت فيها 4 ثورات وانقلابين عسكريين.

وخلال هذه الفترة مرت على فرنسا دورتان دستوريتان تعاقبت في كل منها ثلاث مراحل: مرحلة الملكية المقيدة فمرحلة الجمهورية فمرحلة الدكتاتورية الإمبراطورية.

وبدءا من عام 1875 أصبح بالإمكان التحدث عن نوع من الاستقرار الدستوري حيث أخذت البلاد تشهد نوعا من الاتفاق بين غالبية أفراد الشعب حول أًسس السلطة والنظام السياسي. وقد تجسد هذا الاتفاق بالقبول العام بمبدأ السيادة القومية والنظام الجمهوري البرلماني.

أولا: الدورة الدستورية الأولى( 1715 _1789)

مرت فرنسا خلال هذه الدورة بثلاث مراحل: مرحلة الملكية المقيدة (1789_1792) ومرحلة الجمهورية الأولى (1792 – 1799) ومرحلة الدكتاتورية الإمبراطورية الأولى (1799_1815).

مرحلة الملكية المقيدة (1789_1792)

مرحلة الجمهورية الأولى (1792 – 1799)

مرحلة الإمبراطورية الأولى (1799-1815)

ثانيا: الدورة الدستورية الثانية (1815 – 1870)

مرت فرنسا خلال هذه الدورة أيضا بثلاث مراحل: مرحلة الملكية الدستورية (1815-1848) ومرحلة الجمهورية الثانية (1848-1852) ومرحلة الإمبراطورية الثانية (1852-1870).

مرحلة الملكية الدستورية (1815-1848)

عهد الملكية البوربونية

عهد الملكية الأورليانية

مرحلة الجمهورية الثانية: (1848-1851)

عهد الإمبراطورية الثانية: (1852 – 1870)

ثالثا: الجمهورية البرلمانية – (1875 – 1958)

عرفت فرنسا خلال هذه الفترة نوعا من الاستقرار الدستوري حيث عاشت في ظل نظام جمهوري قائم على الأسس البرلمانية. ولقد تعاقبت على البلاد خلال ذلك الجمهورية الثالثة (1875 – 1940) والجمهورية الرابعة (1946-1958). ومرت البلاد قبل كل من الجمهوريتين بفترة انتقالية.

عهد الجمهورية الثالثة: (1875-1940)

الفترة الانتقالية (1871-1875)

نظام الجمهورية الثالثة

عهد الجمهورية الرابعة (1946-1958)

الفترة الانتقالية

نظام الجمهورية الرابعة

الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية لنظام الجمهورية الخامسة

حافظ دستور 1958 الذي قامت بموجب الجمهورية الخامسة على الطابع الأساسي للنظام البرلماني وذلك من خلال إقراره بالقاعدة الجوهرية لهذا النظام والمتمثلة بمسؤولية الحكومة، كهيئة جماعية متضامنة، عن سياستها وأعمالها أمام البرلمان. إلا أن نظام الجمهورية الخامسة اكتسى بعد التعديل الدستوري الهام لعام 1962، بعض مظاهر النظام الرئاسي، والمتجلية بشكل خاص بانتخاب رئيس الجمهورية من طرف الشعب وبدوره المهيمن في الحياة السياسة، وسيطرته العملية على الحكومة واختياره بحرية شبه تامة، لشخص الوزير الأول. وقد أدى هذا التعديل إلى تغيير الطابع العام للنظام السياسي في فرنسا بحيث لم يعد بالإمكان الاستمرار بتصنيفه ضمن نطاق النظم البرلمانية الصرفة وإنما صار من الضروري اعتباره نظاما مختلطا تتواجد فيه السمات الرئيسية لكل من النظامين البرلماني والرئاسي.

ويتميز نظام الجمهورية الفرنسية الخامسة القائم حاليا بالدور البارز الذي تلعبه مؤسسة رئاسة الجمهورية في الحياة السياسية. فالرئيس يشكل عمليا حجر الزاوية في هذا النظام. وهو يستمد قوته من كونه الممثل الأسمى للإرادة الشعبية والزعيم الفعلي للأغلبية البرلمانية. وقد مكن هذا الأمر الرئيس من إحكام قبضته وسيطرته على الحكومة بشكل خاص فالوزير الأول والحكومة من ورائه لا تستمد وجودها وقوتها الفعلية من دعم الأغلبية البرلمانية لها، وإنما من ثقة الرئيس ورغبته باستمرارها في الحكم ولقد أدى هذا الواقع لجعل الحكومة مجرد هيأة مهمتها وضع السياسة العامة التي يرسمها الرئيس موضع التنفيذ وهي لهذا تعتبر عمليا مسؤولة عن أعمالها أمام الرئيس بالإضافة لمسؤوليتها الدستورية أمام الجمعية الوطنية.

إلا أن الحكومة التي وجدت نفسها، لاعتباراتها عملية، في موقف ضعيف نسبيا أمام رئيس الجمهورية، تتمتع بأهمية بالغة وتمارس، دستوريا وفعليا، دورا مهيمنا في علاقاتها مع البرلمان بصورة خاصة. فمما يتميز به نظام الجمهورية الخامسة أيضا هو إضعافه لمركز البرلمان ونفوذه، كمؤسسة سياسية وذلك من خلال حصره لصلاحيات البرلمان التشريعية ضمن نطاق محدد، وتخويله للوزير الأول اختصاص التشريع عن طريق المراسيم التنظيمية في كل المجالات الأخرى، ووضعه لقواعد محددة من شأنها تنظيم العمل البرلماني وعقلنته بحيث يجعله خاضعا لإشراف حكومة وهيمنتها.

وقد نجح نظام الجمهورية الخامسة في تحقيق ما فشل فيه العهدان السابقان في مجال الاستقرار الحكومي. ولقد تم له ذلك بفضل قيام أغلبية برلمانية منضبطة ومتماسكة إلى حد كاف، وملتفة، بالدرجة الأولى حول شخص رئيس الجمهورية، ومؤيدة للوزير الأول الذي يختاره الرئيس ويمنحه ثقته. وقد سمح هذا الأمر للحكومة، عمليا بتحقيق المزيد من السيطرة على العمل البرلماني ولاسيما في مجال اتخاذ المبادرة لاقتراح مشاريع القوانين والتخفيف من حدة الرقابة السياسية التي تمارسها الجمعية الوطنية على أعمال الحكومة.

هذا وسندرس الآن أهم مؤسسات نظام الجمهورية الخامسة مبتدئين في ذلك بالشعب، ومتطرقين، فيما بعد على التوالي، لرئاسة الجمهورية، والحكومة والبرلمان والمؤسسات الجانبية الأخرى.

أولا: الشعب

نصت المادة الثالثة من دستور 1958 على “أن السيادة القومية تعود للشعب الذي يمارسها بواسطة ممثليه وبطريق الاستفتاء”. كما أشارت المادة الرابعة إلا أن “الأحزاب والمجموعات السياسية تساهم في التعبير عن الآراء وأنها تتشكل وتمارس نشاطاتها بحرية، وأن عليها واجب احترام مبادئ السيادة القومية والديمقراطية”.

الشعب ودوره في الحياة السياسية: يلعب الشعب الفرنسي ولاسيما الجسم الانتخابي دورا هاما في حياة بلاده السياسية ويمارس حقه في السيادة من خلال تدخله الفعال في انتخاب ممثليه، وفي بيان رأيه ببعض القضايا الهامة عن طريق الاستفتاء.

حق الانتخاب: أكد دستور الجمهورية الخامسة حق الشعب الفرنسي في انتخاب ممثليه في الجمعية الوطنية مباشرة، وفي مجلس الشيوخ بصورة غير مباشرة. ثم جاء التعديل الدستوري لعام 1962 ليبرز ويوسع دور الشعب كسلطة سياسية أصلية وذلك بجعله المصدر الذي تنبثق عنه مباشرة أيضا مؤسسة رئاسة الجمهورية والبرلمان، تستمدان وجودهما وشرعيتهما مباشرة من الشعب وتعتبران مسؤولتين تجاهه فقط.

ولقد نص الدستور على مبدأ حق الانتخاب العام والشامل، واعتبر ناخبا، ضمن الشروط التي يحددها القانون، كل مواطن فرنسي راشد، من الجنسين، ومتمتع بحقوقه المدنية والسياسية. وقد خفض القانون الصادر في 5 يوليوز 1974 سن الرشد الانتخابي من 21 إلى 18 سنة. كما حددت القوانين الانتخابية الأخرى شروط التمتع بالحقوق المدنية والسياسية واعتبرت المواطنين الموصى عليهم من غير الراشدين، والمتخلفين عقليا، والمفلسين والمحكومين بجرائم أو جنح خطيرة مجردين من هذه الحقوق ومحرومين من حق الانتخاب. كما أكد القانون ضرورة تسجيل الناخبين لأنفسهم في اللوائح الانتخابية لكي يتمكنوا من ممارسة حقهم في ها المجال.

الاستفتاء الشعبي: أبرز دستور 1958 أسلوب الاستفتاء و جعل منه وسيلة رئيسية يمارس الشعب من خلالها حقه في السيادة. ورغم أن التركيز على هذا الأسلوب قد يبدو في ظاهره كتأكيد على الديمقراطية شبه المباشرة، وعلى دور الشعب كمصدر أصيل للسيادة، فإنه يعتبر في الواقع تجسيدا للرغبة في إضعاف دور البرلمان في الحياة السياسية، وذلك لأن معظم المواضيع التي جعل الدستور صلاحية البت فيها من اختصاص الشعب، كانت في السابق تدخل ضمن اختصاصات البرلمان.

وقد حدد الدستور الحالات التي يجب أو يمكن لللجوء فيها للاستفتاء ومن أهمها تلك المتعلقة بتعديل الدستور، وبإقرار مشاريع القوانين الخاصة بتنظيم السلطات العامة، وبالمصادقة على بعض المعاهدات الدولية.

فمن أجل تعديل الدستور، نصت المادة 89 منه على ضرورة عرض اقتراح القانون الخاص بالتعديل، والصادر عن أحد أعضاء البرلمان. على الاستفتاء لإقراره، أما بعد التصويت عليه بالموافقة في كل من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. أما إذا كان الأمر يتعلق بمشروع قانون تعديل صادر عن رئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من الوزير الأول فإن عرضه على الاستفتاء أو الاستعاضة عن ذلك بعرضه على اجتماع موحد لمجلسي البرلمان لا قرار بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبر عنها.

أما المادة 11 من الدستور فنصت على أن رئيس الجمهورية يستطيع، بناء على اقتراح من الحكومة يقدم أثناء انعقاد الدورات البرلمانية، أو على اقتراح مشترك مقدم من مجلسي البرلمان، أن يعرض على الاستفتاء الشعبي كل مشروع قانون خاص بتنظيم السلطات العامة أو يتضمن على معاهدة من شأنها أن تؤثر على سير المؤسسات وذلك دون أن تكون مناقضة للدستور.

الأحزاب السياسية: يتميز دستور الجمهورية الخامسة بأنه الدستور الفرنسي الوحيد الذي اعترف صراحة بشرعية وجود الأحزاب السياسية وخصها بدور بارز في تنظيم الشعب والمساهمة في التعبير عن آرائه. فقد أكد الدستور، كما سبقت الإشارة، حق الأحزاب بأن تشكل بحرية وأن تمارس عملها ونشاطها ضمن احترام مبادئ الديمقراطية والسيادة القومية. ويستمد هذا الحق أصوله من القانون الصادر في عام 1901 والمتعلق بحرية التجمع الذي يتيح للأحزاب وغيرها من التجمعات أن تنشأ وأن تكتسب الشخصية القانونية والاعتبارية بمجرد تقديم طلب شكلي بذلك للسلطات الإدارية المختصة.

خصائص الأحزاب الفرنسية: تتميز الحياة الحزبية الفرنسية بتعددية الأحزاب وطابعها الإيديولوجي والجماهيري.

فلقد ساد المجتمع الفرنسي منذ قيام الثورة الكبرى انقسام حاد في صفوف الشعب بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية وكان ذلك بسبب القيم الجديدة التي جاءت بها الثورة والتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها. وقد تبلور هذا الانقسام في عهد الجمهورية الثالثة بظهور أحزاب وتيارات سياسية عديدة مازالت امتداداتها قائمة حتى الآن.

وتتسم مختلف الأحزاب الفرنسية بطابعها الإيديولوجي الواضح. فلقد تبنت جميعها منذ قيامها برامج سياسية متناقضة ومتفاوتة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. وهذه البرامج تعكس بطبيعة الحال وجهات النظر المختلفة حول أنظمة القيم وأسس التنظيم الاجتماعي ومضامينه وأشكاله. وقد ساهم هذا الأمر في إضفاء السمة الجماهيرية على هذه الأحزاب، أو على معظمها على الأقل، ذلك أن تعبئة الشعب حول البرامج السياسية المختلفة يتطلب دوما عملا حزبيا ولا يمكن أن يتحقق إلا من خلال نضال الأعضاء الملتزمين وسط الجماهير بغية توعيتها بأهداف الحزب الإيديولوجية وببرنامجه السياسي الاستراتيجي والمرحلي، ودفعها بالتالي لتأييده والانضواء في صفوفه.

ثانيا: رئاسة الجمهورية

إن أهم التغيرات التي جاء بها دستور 1958 وخاصة بعد تعديله في 1962، بالنسبة لما كان عليه الحال في ظل الجمهوريتين الثالثة الرابعة، تتمثل في تحويل رئاسة الجمهورية من مجرد مؤسسة رمزية ومجردة من أية صلاحيات فعلية. إلى مؤسسة فعالة وقادرة على لعب دور مركزي في الحياة السياسية. وقد ارتبط هذا التغير بالأساس بشخصية الجنرال ديغول، وكانت الغاية منه تلافي ثغرات الجمهوريتين السابقتين فيما يتعلق بظاهرة عدم الاستقرار فيما يتعلق بظاهرة عدم الاستقرار الحكومي، وذلك من خلال جعل مؤسسة رئاسة الجمهورية المحور الذي تلتف حوله الأكثرية الشعبية والبرلمانية على السواء، وتحويل الحكومة عمليا إلى مجرد مؤسسة مساعدة للرئيس في القيام بمهام السلطة التنفيذية.

انتخاب رئيس الجمهورية

جاء دستور 1958 بالأصل بأسلوب جديد لانتخاب رئيس الجمهورية. فبعد أن كان الرئيس، في ظل العهدين السابقين، ينتخب من طرف البرلمان، أصبح ينتخب من قبل جسم انتخابي خاص يضم: أعضاء مجلسي البرلمان، وأعضاء مجالس المحافظات (أو المستشارين العامين) وأعضاء مجالس أقاليم ما وراء البحار، وممثلين منتخبين من المجالس البلدية يحدد عددهم وفقا لعدد سكان البلدية، وقد بلغ عدد أعضاء هذا الجسم الانتخابي أثناء الانتخابات الرئاسية الأولى التي جرت عام 1958 نحو 81 ألف شخص. والغاية الرئيسية من هذه الطريقة الجديدة هي تقوية مركز الرئيس تجاه البرلمان باعتبار أنه لم يعد منتخبا من طرفه فقط وإنما من قبل هيئة موسعة لا يشكل البرلمانيون فيها إلا نسبة ضئيلة جدا.

ومع هذا فقد رأى الرئيس ديغول بعد سنوات قليلة من تطبيق الدستور أن تعديل طريقة انتخاب رئيس الجمهورية بحيث يتم عن طريق الشعب مباشرة وبالاقتراع العام والشامل. وكان القصد من وراء ها التعديل توفير المزيد من القوة لمركز رئيس الجمهورية تجاه كل من البرلمان والحكومة على السواء، وذلك باعتبار أنه أصبح الممثل الأسمى، والمجسد للإرادة الشعبية.

ولقد أعلن الرئيس ديغول عن رغبته بإجراء التعديل الدستوري في حطاب له بتاريخ 20 سبتمبر 1962. وصرح فيه بأن التعديل سيجري بالإسناد لنص المادة 11 من الدستور التي تجيز لرئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من الحكومة، أن يطرح على الاستفتاء الشعبي مباشرة أي مشروع قانون متعلق بتنظيم السلطات العامة. وكان معنى هذا الاستبعاد وتجاهل الإجراءات التي نص عليها الدستور أصلا في المادة 89 بشأن الأصول اللازمة لتعديل موارده. والتي تتضمن ضرورة عرض مشروع قانون التعديل على كل من مجلسي البرلمان قبل طرحه على الاستفتاء الشعبي. ولقد أثارت الطريقة المقررة لإجراء التعديل عاصفة شديدة من العداء لاسيما في أوساط رجال القانون وأعضاء الذين احتجوا عليها، وشككوا في شرعيتها. وقد عبر عن معارضته للطريقة المقررة، بتصويت الجمعية الوطنية في 5 أكتوبر بالموافقة على ملتمس رقابة ضد الحكومة لأنها تقدمت رسميا باقتراح مشروع التعديل، وأدى هذا من ناحية أولى لإجبار الحكومة على تقديم استقالتها، كما أدى من ناحية أخرى لإصدار رئيس الجمهورية قرار بحل الجمعية الوطنية.

ورغم هذه المعارضة فقد مضى الرئيس في مشروعه، وطرحه على الاستفتاء يوم 28 أكتوبر، فوافق عليه الشعب بأغلبية ضئيلة، وتم نشره ودخوله حيز التطبيق في 6 نوفمبر. وهكذا أصبح رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع العام والشامل والمباشر من الشعب.

ويجري الانتخاب على أساس قاعدة الأكثرية وعلى دورتين، ففي الدورة الأولى يعتبر أحد المرشحين فائزا إذا حصل على الأكثرية المطلقة للأصوات المعبر عنها (أي أكثر من النصف) شريطة أن لا يقل هذا العدد عن ربع الناخبين المسجلين.

فإذا لم يحصل أحد من المرشحين علي على هذه الأكثرية المطلوبة، تجري الدورة الثانية للانتخاب، بعد أسبوع، ويشترك فيها فقط المرشحان الاثنان اللذان حصلا، بعد انسحاب من يشاء من المرشحين المشاركين في الدورة الأولى، على أكبر عدد من الأصوات فيها. ويعتبر فائزا في هذه الدورة من حصل منهما على الأكثرية النسبية الأصوات المعبر عنها.

وتجري انتخابات رئاسة الجمهورية في مدة تتراوح بين 20 يوما كحد أدنى و35 يوما كحد أقصى قبل انتهاء مدة الولاية أو بعد خلو منصب الرئاسة لأي سبب كان.

ولم ينص الدستور بحد ذاته على شروط محددة للترشيح لهذا المنصب، إلا أن بعض القوانين والمراسيم اللاحقة اشترطت أن يزكى المرشح من قبل مئة مواطن على الأقل، على أن يكون هؤلاء من بين أعضاء البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو المستشارين العامين، أو رؤساء البلديات، كما ينبغي على المرشح أن يقدم ضمانة مالية يبلغ قدرها عشرة ألاف فرنك، على أن يستردها فقط في حال حصوله على نسبة خمسة بالمائة من الأصوات على الأقل.

ويقوم المجلس الدستوري، الذي توجه إليه طلبات الترشيح، بوضع قائمة بأسماء المرشحين، تنشر في الجريدة الرسمية قبل 15 يوما على الأقل من موعد إجراء الدورة الأولى الانتخاب. كما يقوم المجلس بمراقبة نظامية عمليات الاقتراع، وبإعلان النتائج النهائية للانتخاب.

وتنتهي ولاية الرئيس بشكل طبيعي بانتهاء مدة رئاسته الدستورية. كما يمكن أن تنتهي لأسباب الوفاة أو الاستقالة أو صدور قرار بالمنع النهائي عن المجلس الدستوري وذلك بالأغلبية المطلقة لأعضائه وبناء على طلب الحكومة.

وفي حال شغور منصب الرئاسة لأي سبب كان تشغل رئيس مجلس الشيوخ المنصب بالوكالة. ويتولى الرئيس كافة السلطات الدستورية التي يتمتع بها الرئيس الأصيل باستثناء سلطة اللجوء للاستفتاء الشعبي وحل الجمعية الوطنية واتخاذ المبادرة لتعديل الدستور. وفي حال عدم قدرة رئيس مجلس الشيوخ على تولي منصب الرئيسة بالوكالة لأي سبب كان، تتولى الحكومة مهام المنصب بشكل جماعي.

صلاحيات رئيس الجمهورية

يُعتبر الرئيس في الجمهورية الخامسة الشخصية المركزية التي تتمحور حولها الحياة السياسية، ويعود هذا الأمر لاعتبارات قانونية تتمثل بالصلاحيات الفعلية والواسعة التي أسندها الدستور للرئيس، ولاعتبارات واقعية تستمد قوتها من كون الرئيس الزعيم الفعلي للأغلبية البرلمانية والممثل الأسمى للإدارة الشعبية. وقد مكنت هذه الاعتبارات الأخيرة الرئيس عمليا من لعب دور مهيمن في الحياة السياسية يتجاوز بشكل واضح صلاحياته الدستورية على الرغم من أهميتها واتساعها، ودفع هذا الأمر العديد من رجال الفقه، في فرنسا، بشكل خاص للحديث عن وجود نوع من التناقض بين النصوص الدستورية والممارسات العملية في الواقع السياسي.

ولقد ميز الدستور في مجال الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس، بين تلك التي يمارسها بنفسه أي دون حاجة لأن يشاركه أحد في التوقيع عليها، وتلك التي يمارسها بمشاركة الوزير الأول أو الوزراء المسؤولين عن التنفيذ، في التوقيع عليها.

الصلاحيات الخاصة: تعبير هذه الصلاحيات من مظاهر التجديد الهامة التي أتى بها دستور 1958 بالنسبة لدستوري الجمهوريتين الثالثة والرابعة. ففي ظل العهدين السابقين كانت جميع الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، باستثناء قرار تعيين أو اختيار رئيس الحكومة، خاضعة لمشاركة رئيس الحكومة أو الوزراء المعنيين بالتنفيذ، بالتوقيع عليها. ورغم أهمية هذا التجديد فقد استمر دستور الجمهورية الخامسة بأخذه بعدم مسؤولية الرئيس جزئيا وسياسيا عن أعماله، إلا في حالة الخيانة العظمى. ويتضمن هذا الأمر نوعا من التناقض أنه يحصن الرئيس تجاه أية مسؤولية ناجمة عن عمل يقوم به أو يقرره بنفسه، ويحمل بالمقابل الحكومة والوزير الأول مسؤولية الأعمال التي يقوم الرئيس بها بمفرده دون أن يكون لأي منهما، رأي أو مشاركة في اتخاذها.

ويمكن تقسيم الصلاحيات الخاصة التي يتمتع بها الرئيس إلى فئتين: الصلاحيات التي يمارسها بمفرده، بصورة مستقلة، ودون أن يكون هناك اقتراح بشأنها من أية جهة أخرى، وتلك التي يمارسها بمفرده ولكن بناء على اقتراح سلطة ثانية.

الصلاحيات الخاصة التي يمارسها الرئيس بمفرده وبصورة مستقلة. وهي:

– تعيين الوزير الأول: وهذه الصلاحية يمارسها الرئيس بمفرده بحرية تامة ودون أن يكون مقيدا بأي شرط شكلي أو موضوعي. وهو لذلك يستطيع أن يختار لهذا المنصب أية شخصية سواء أكانت من داخل البرلمان أو من خارجه. ولقد بينت تجربة السنوات الماضية من عمر الجمهورية الخامسة أن هذا الأمر لم يثر أية إشكالات أو صعوبات من نوع خاص، وذلك نتيجة لوجود أغلبية +برلمانية متماسكة إلى حد كاف، وملتفة عمليا حول شخصية رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى. إلا أنم هذه الصلاحية الهامة للرئيس تثير من جهة أخرى بعض التساؤلات الخاصة بمسؤولية الوزير الأول اتجاه الرئيس. فرغم أن الدستور لم ينص صراحة أو ضمنا على أي مسؤولية من هذا القبيل إلا أن الواقع يبين بأن الوزير الأول، بالإضافة إلى مسؤوليته الدستورية أمام الجمعية الوطنية، يعتبر عمليا أيضا مسؤولا أمام رئيس الجمهورية وذلك بمعنى أنه لا يستطيع وحكومته أن يستمرا في الحكم إذا لم يظل متمتعا بثقة الرئيس به. ورغم أن الدستور قد نص على أن رئيس الجمهورية هو الذي تقيل الوزير الأول بعد تقديمه لاستقالة الحكومة، فإن الرئيس في الواقع يمتلك عدة وسائل للضغط على الوزير الأول من أجل إجباره على تقديم استقالت حكومته. ومن أهم هذه الوسائل: الإيعاز الأغلبية البرلمانية بالتصويت على ملتمس رقابة ضد الحكومة، ورفضه التوقيع على المراسيم الصادرة عن الوزير الأول.

– مخاطبة البرلمان عن طريق توجيه رسائل له: وهو حق تقليدي للرئيس عرف في ظل العهدين السابقين لكنه كان مشروطا حينذاك بموافقة رئيس الحكومة. وتقرأ رسائل الرئيس من طرف شخصية برلمانية يختارها بنفسه، وهي عادة ما تكون رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ. ولا تستطيع هذه القراءة أية مناقشة من قبل أعضاء البرلمان.

– حل الجمعية الوطنية: ويقر رئيس الجمهورية بمفرده استعمال هذا الحق ولكن بعد استشارة الوزير الأول ورئيسي مجلسي البرلمان، ولا تعتبر هذه الاستشارة بطبيعة الحال ملزمة للرئيس. وهذا الحق مقيد فقط بشرطين زمنيين: الأول هو عدم إمكانية استعماله أثناء ممارسة الرئيس للسلطات الاستثنائية بموجب المادة 16 من الدستور. والثاني هو عدم إمكانية حل جمعية وطنية انتخبت على إثر حل جمعية سابقة وذلك خلال السنة الأولى التي تلي انتخابها. كما أن استعمال هذا الحق مقصور فقط على رئيس الجمهورية الأصيل لأن الرئيس بالوكالة لا يستطيع اللجوء له مطلقا.

ويعتبر هذا الحق في الواقع سلاحا فعالا يستطيع الرئيس اللجوء له في حال حدوث خلاف سياسي بينه وبين الأغلبية البرلمانية أو بين هذه الأخيرة والوزير الأول، خلافا لما كان عليه الحال في العهدين السابقين، لا علاقة له بمسألة اللجوء لاستعمال هذا السلاح ولا حتى من باب الاقتراح على الرئيس.

ويستتبع حل الجمعية الوطنية وانتخاب جمعية جديدة ضرورة تقديم الحكومة لاستقالتها، وتشكيل حكومة جديدة قد تكون، كليا أو جزئيا، استمرار للحكومة السابقة.

– ممارسة السلطات الاستثنائية بموجب المادة 16 من الدستور: ويعتبر هذا الحق من أهم وأخطر الصلاحيات التي أسندها الدستور لرئيس الجمهورية. وتنص المادة 16 على أنه “عندما تكون مؤسسات الجمهورية واستقلال الأمة وسلامة أراضيها أو تنفيذ تعهداتها الدولية مهددة بصورة خطيرة وفورية، وعندما ينقطع سير العمل المنتظم للمؤسسات العامة الدستورية فإن رئيس الجمهورية يتخذ التدابير التي تتطلبها الظروف وذلك بعد استشارة الوزير الأول، ورؤساء مجلسي البرلمان والمجلس الدستوري،وتوجيه خطاب للأمة لإعلامها بالأمر. وينبغي على هذه التدابير أن تستلهم الإرادة بتوفير السبل التي تمكن السلطات العامة الدستورية من القيام بمهامها، في أقصر الآجال، على أن يستشار المجلس الدستوري في هذا الشأن، وأن يكون للبرلمان الحق بالاجتماع حكما. ولا يجوز أثناء ممارسة السلطات الاستثنائية حل الجمعية الوطنية…”

ويعني هذا أن رئيس الجمهورية يستطيع في بعض الظروف، التي ذكرها الدستور بصورة عامة، والتي يتمتع هو شخصيا بالصلاحية لتقدير شروط توفرها وقيامها، ممارسة سلطات استثنائية تجعل منه شبه حاكم مطلق للبلاد، فالرئيس هو الذي يقرر بمفرده متى يكون التهديد خطيرا، ومتى يكون هذا انقطاع في السير المنتظم للسلطات العامة، ولا يحد من سلطته في هذا الصدد إلا بعض الشروط الشكلية المتمثلة باستشارة رؤساء الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ والمجلس الدستوري وتوجيه خطاب للأمة لإحاطتها علما بالأمر.

ويحق للرئيس بعد إعلانه لحالة الاستثناء اتخاذ كافة التدابير الضرورية التي تقتضيها الظروف لدفع الخطر عن البلاد ومؤسساتها، وللإسراع في توفير الشروط في توفير الشروط لتمكين السلطات العامة من القيام بمهامها بشكل منتظم ولهذا فإنه يحل محل السلطتين التشريعية والتنفيذية في اتخاذ مختلف القرارات الأعمال التي يوقعها بمفرده، بعد استشارة المجلس الدستوري فقط، والتي لا تكون خاضعة لأية مراقبة قضائية أو سياسية من أي جهة كانت.

أما البرلمان والحكومة فإنهما يستمران أثناء ذلك بممارسة مهامهما ووظائفهما العادية على أن لا يتعارض ذلك مع سلطات الرئيس وقراراته السامية في مختلف المجالات.

ويتوقف تطبيق حالة الاستثناء بعد انجلاء الخطر عن البلاد وعودة السير المنتظم للسلطات العامة، لكن القرار بهذا الشأن يعود أيضا لرئيس الجمهورية وتقديراته الشخصية للأمور. فقد أعلن الجنرال ديغول حالة الاستثناء في 23 ابريل 1961 على إثر العصيان المسلح الذي قام به بعض الضباط الفرنسيين في الجزائر في 21 منه. ورغم أن هذا العصيان لم يستمر إلا أربعة أيام فقد ظلت حالة الاستثناء قائمة حتى 30 سبتمبر حين أعلن الرئيس عن إلغائها بصفة رسمية.

– تعيين رئيس المجلس الدستوري وثلاثة من أعضائه التسعة، وحق إحالة أي اتفاق دولي أو قانون عادي على المجلس للنظر في دستوريته.

– تولي القيادة العليا للقوات المسلحة ورئاسة المجالس واللجان العليا للدفاع الوطني: تكتسي الصلاحية أهمية خاصة بالنظر لما تتضمنه من سلطات فيما يتعلق بالسياسة العسكرية الإستراتيجية وصناعة الأسلحة الحديثة واستخدام القوة النووية.

الصلاحيات الخاصة التي يمارسها الرئيس بمفرده بناء على اقتراح سلطة ثانية: وهي:

– صلاحية إقالة الوزير الأول: بعد تقديمه لطلب باستقالة الحكومة، فرئيس الجمهوري لا يملك دستوريا الحق بإقالة الوزير الأول إلا بناءا على طلب يقدمه هذا الأخير باستقالة حكومته، لكن الممارسة العملية أثبتت أن الرئيس يستطيع في الواقع إجبار الوزير الأول على تقديم طلب الاستقالة متى ظهر أول خلاف يستدعي ذلك ينهما، وهذا يعني أن الوزير الأول يعتبر عمليا مسؤولا عن سياسته وأعماله أمام رئيس الجمهورية وذلك بالإضافة لمسؤوليته أمام الجمعية العامة.

– اللجوء للاستفتاء الشعبي بموجب المادة 11 من الدستور التي تنص على أنه “يجوز رئيس الجمهورية بناء على اقتراح تقدمه الحكومة، خلال الدورات البرلمانية، أو بناء على اقتراح مشترك من جانب مجلسي البرلمان ومنشور في الجريدة الرسمية، أن يعرض على الاستفتاء كل مشروع قانون يتعلق بتنظيم السلطات العامة أو بتصديق اتفاقية خاصة بالجامعة الفرنسية أو معاهدة في شأنها أن تؤثر على سير المؤسسات شريطة ألا تكون متعارضة مع الدستور”.

الصلاحيات المشتركة: وهي صلاحيات يتمتع بها الرئيس فعلا لكنه لا يستطيع ممارستها إلا بمشاركة الوزير الأول والوزراء المعنيين بالتنفيذ في التوقيع عليها. ويجسد هذا التوقيع مشاركة الوزير الأول والوزراء المختصين بصنع القرار، ويبرر، مبدئيا تحملهم لمسؤوليته أمام الجمعية الوطنية. ويمارس الرئيس هذه الصلاحيات في علاقته مع الحكومة والبرلمان وفي المجالات التأسيسية والقضائية والدبلوماسية.

ففي مجال العلاقة مع الحكومة: يمارس الرئيس الصلاحيات التالية:

– رئاسة المجلس الوزاري واللجان الوزارية المتفرعة عنه. ولا يعني هذا الحق مجرد حضور شكلي للرئيس بل أنه يشكل مساهمة جدية وفعالة وحاسمة في أعمال المجلس ومقرراته.

– تعيين وإقالة أعضاء الحكومة بناء على اقتراح الوزير الأول وموافقته التي تتجلى في مشاركته بالتوقيع على المراسيم المتعلقة بذلك.

– التوقيع على الأوامر والمراسيم التنظيمية التي تجري بشأنها التداول في المجلس الوزاري، وتصدر عن الوزير الأول أو أعضاء الحكومة. ويعني ها الحق مشاركة الرئيس الفعلية في ممارسة مهام السلطة التنظيمية التي يعود أمرها للوزير الأول.

– حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية إلا أن الرئيس لا يمارس في الواقع هذا الحق إلا بالنسبة لبعض الوظائف العليا والهامة، أما معظم الوظائف في الدولة فيفوض أمر التعيين فيها للوزير الأول أو الوزراء المختصين.

في مجال العلاقة مع البرلمان: يقوم الرئيس:

– التوقيع على القوانين الصادرة عن البرلمان تمهيدا لنشرها في الجريدة الرسمية ودخولها حيز التنفيذ. وينبغي على الرئيس أن يقوم بهذا الأمر خلال مدة 15 يوما من تاريخ إحالة القانون على الحكومة لنشره، بعد إقراره بصفة نهائية من طرف البرلمان.

إلا أنه يحق للرئيس خلال هذه المدة أن يعيد القانون إلى البرلمان لقراءته كليا أو جزئيا مرة ثانية، والتصويت عليه من جديد بنفس الأغلبية المطلوبة عادة لإقرار القوانين.

– كما يقوم الرئيس بتوقيع المراسيم الخاصة بافتتاح الدورات الاستثنائية التي يمكن أن يدعى البرلمان لعقدها بغية دراسة جدول محدد بناء على طلب الوزير الأول أو الأغلبية المطلقة لأعضاء الجمعية الوطنية.

– في المجال التأسيسي: يعطي الدستور رئيس الجمهورية صلاحية اتخاذ المبادرة لتعديل الدستور، بناء على اقتراح من الوزير الأول. ويحق للرئيس في هذا الصدد التدخل لتقرير الطريقة التي ينبغي أن تتبع لإقرار مشروع قانون التعديل. فأما أن يقرر دعوة الشعب للاستفتاء على المشروع بعد إقراره في كل من مجلسي البرلمان بالأغلبية النسبية للأصوات المعبر عنها، وإما أن يدعو مجلسي البرلمان لعقد جلسة مشتركة لإقرار بالمشروع بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات.

– في المجال القضائي: يتمتع رئيس الجمهورية علاوة على رئاسته للمجلس الأعلى للقضاء، بصلاحية تعيين أعضائه التسعة وبحق العفو الخاص عن المحكومين بأحكام قضائية.

– وفي المجال الدبلوماسي: يتولى الرئيس مهمة قيادة وتوجيه المفاوضات قصد عقد المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ويحق للرئيس في هذا الصدد توقيع المعاهدات التي لا يترتب عليها نفقات مالية تلزم خزينة الدولة، لأن مثل هذه المعاهدات لا يمكن تصديقها إلا بقانون يصدر عن البرلمان، كما يتولى الرئيس صلاحية تعيين السفراء والمندوبين الدبلوماسيين الفرنسيين لدى الدول الأجنبية وتلقي أوراق اعتماد السفراء الأجانب في فرنسا.

ثالثا: الحكومة

بالرغم من نص الدستور في مادته العشرين على أن الحكومة هي التي:تحدد وتقود سياسة الأمة” وتعتبر في ذلك مسؤولة أمام البرلمان، فإنها ليست في الواقع إلا مجرد هيئة مهمتها تنفيذ السياسة التي يرسم خطوطها العامة رئيس الجمهورية، تلعب دور الوسيط بين الرئيس والجمعية العامة باعتبارهما سلطتان عامتان تنبثقان عن الشعب بالاقتراع العام المباشر، وتجسدان بالتالي الإرادة الشعبية. وفي هذا الأمر يتجلى أبرز مظهر من مظاهر التناقض بين النصوص الدستورية والواقع العملي الذي تعيشه الجمهورية الخامسة منذ قيامها وحتى الآن. ويمكن السبب الجوهري لهذا التناقض في أن رئيس الجمهورية، وليس الوزير الأول، هو الذي يعتبر الزعيم الفعلي الذي تلتف حوله الأغلبية البرلمانية وتمنحه التأييد. أما الزير الأول فإنه لا يستمد قوته في الواقع إلا من ثقة الرئيس به ودعمه له.

على أن هذه الصورة التي عرفتها الجمهورية الخامسة منذ قيامها يمكن لها أن تتغير باتجاه إزالة هذا التناقض وتقوية دور الوزير الأول والحكومة وتمكينهما من ممارسة المهام التي أناطها الدستور بهما، ودفع الرئيس للعب دور أكثر تواضعا في الحياة السياسية وذلك في حال قيام تعارض جذري أو تناقض بين الاتجاه السياسي الذي يتبناه الرئيس والتيار السياسي الذي تنتمي إليه الأغلبية البرلمانية. ففي هذه الحال ستضطر الحكومة لممارسة دورها الطبيعي في الحكم معتمدة في ذلك على ثقة الأغلبية البرلمانية بها باعتبارها مسؤولة دستوريا فقط أمام الجمعية الوطنية. إلا أن الوصول إلى مثل هذا الوضع من شأنه أن يؤدي لقيام أزمة عميقة في النظام السياسي قد يكون من نتائجها وضع حد نهائي له.

وتعتبر الحكومة مشكلة دستوريا وتستطيع بالتالي مباشرة مهامها بمجرد إصدار الرئيس لمراسيم تأليفها. فالوزير ليس ملزما بالحصول فورا على ثقة الجمعية الوطنية بحكومته كما كان الحال في السابق. إلا أن عليه أن يعرض، فيما بعد، وفي وقت مناسب يقرره بعد التداول بشأنه في المجلس الوزاري، على الجمعية الوطنية برنامج حكمته ويمكنه أن يطلب على أساس ذلك تصويتا بالثقة.

تركيب الحكومة: ميز دستور الجمهورية الخامسة بين الوزير الأول وباقي أعضاء الحكومة. فالوزير الأول يعينه رئيس الجمهورية دون أن يكون له دستوريا الحق بإقالته إلا بناء على طلب يتقدم به ويتضمن استقالة الحكومة بشكل جماعي. إلا أن الواقع، كما سبقت الإشارة، لا تنطبق تماما مع النص لأن الرئيس يتمتع في الواقع بعدة وسائل عملية من شأنها دفع الزير الأول لتقديم طلب الاستقالة. أما باقي أعضاء الحكومة فيعينهم رئيس الجمهورية يقيلهم بناء على اقتراح الزير الأول. ويؤكد هذا ألأمر الأولوية التي يتمتع بها الوزير الأول بالنسبة لباقي أعضاء الحكومة.

وتتألف الحكومة من وزراء الدولة، ووزراء منتدبين لدى الوزير الأول، ووزراء مكلفين بحقيبة وزارية، وكتابة الدولة. ورغم أن الدستور لم يلحظ وجود هذه الفئات، فقد جرت العادة على التمييز بينها لأسباب سياسية في جوهرها، فوزراء الدولة يضمون للحكومة لاعتبارات عديدة من أهمها تحقيق نوع من التوازن في التمثيل داخل الحكومة ب ين التشكيلات السياسية المختلفة التي تستند الحكومة على دعمها داخل البرلمان. ويمكن لهؤلاء الوزراء أن لا يتحملوا أية مسؤولية محددة داخل الحكومة، كما يمكن لهم أن يكلفوا ببعض المهام التي تعود أصلا للوزير الأول فيعتبرون وزراء منتدبين له. أما الوزراء العاديون فيكلفون بحقيبة وزارية ويعتبرون مسؤولين عن لإدارتها سياسيا وإداريا. وأما كتاب الدولة فإنهم يكلفون عادة بإدارة قطاع إداري متخصص أو متفرع عن إحدى القطاعات الوزارية الواسعة التي قد يكون من الصعب على الوزير العادي الإحاطة بمختلف جوانبها بمفرده.

وقد منع الدستور على أعضاء الحكومة الجمع بين عضويتهم فيها وعضويتهم في البرلمان. ويعتبر هذا المنع مخالف من حيث المبدأ للقاعدة التقليدية المتبعة في النظم البرلمانية والتي تقوم على اختيار أعضاء الحكومة أساسا من بين البرلمانيين. ويبدو أن الغاية من هذا المنع هي الحد من تسابق أعضاء البرلمان للحصول على عضوية الحكومة، الأمر الذي كان يعتبر، خلال العهدين السابقين، من بين الأسباب الهامة لظاهرة عدم الاستقرار الحكومي.

كما منع الدستور على أعضاء الحكومة ممارسة أي عمل عام أو نشاط مهني أو وظيفة تمثيل مهني على المستوى الوطني. والغاية الرئيسية من هذا المنع هي الحيلولة دون سوء استخدام أعضاء الحكومة لمناصبهم الرسمية من أجل تحقيق منافع خاصة لهم أو للهيئات التي يمثلونها أو يعملون لصالحها.

صلاحيات الحكومة: تتمتع الحكومة كهيئة جماعية متضامنة ببعض الصلاحيات الدستورية الهامة وذلك علاوة على الصلاحيات التي خصها الدستور للوزير الأول.

الصلاحيات الجماعية للحكومة:

وهي تتجلى بشكل رئيسي في المجالات التالية.

– مجال تحديد وقيادة سياسة الأمة وذلك عملا بالمادة 20 من الدستور التي تضيف في فقرتها الثانية بأن الحكومة تتصرف لذلك بالإدارة والقوات المسلحة.

– مجال المساهمة في العمل التشريعي وذلك من خلا حق الحكومة بالتقدم أمام البرلمان بمشاريع القوانين، بعد المداولة بشأنها في المجلس الوزاري، وكذلك من خلال الطلب إلى البرلمان أن يأذن لها، من أجل تنفيذ برنامجها، بإصدار أوامر “Ordonnances”، خلال مدة محددة، تتضمن تدابير تدخل عادة ضمن حيز القانون. وتخضع الأوامر التي نصدرها الحكومة لمراقبة البرلمان اللاحقة وذلك لأن قانون الإذن يجب أن ينص على مدة ثانية، أطول من الأولى، ينبغي على الحكومة خلالها أنم تتقدم أمام البرلمان بمشروع قانون لتصديق الأوامر التي أصدرتها. وإلا اعتبرت الأوامر لاغيت بانتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن. وتدخل الأوامر فور نشرها حيز التطبيق، ويكون لها نفس قيمة النصوص التنظيمية. ولا يستطيع البرلمان خلال المدة التي يحددها قانون الإذن أن يشرع في المواد التي تشكل موضوعا للإذن المعطي للحكومة، وإذا حاول فعل ذلك جاز للحكومة أن تدفع بعدم القبول باقتراحات أعضاء البرلمان في هذا الشأن.

– مجال مسؤولية الحكومة حيث يكون من حق المجلس الوزاري أن يتداول ويوافق على طلب الثقة بالحكومة الذي يقدمه الوزير الأول أمام الجمعية الوطنية ويكون من نتائجه في حال الرفض إجبار الحكومة على الاستقالة.

– مجال السلطات الاستثنائية التي تتجلى في حق الحكومة بإعلان حالات الحصار والتعبئة العامة والتنبيه والحذر وذلك في حال اندلاع أزمة دولية أو قيام اضطرابات داخلية من شأنها تهديد أمن البلاد وسلامتها. وتتمتع الحكومة أثناء ذلك بصلاحيات واسعة تمكنها من مصادرة الأشخاص والأموال والمصالح المختلفة ودعوة القوات الاحتياطية للخدمة العسكرية. كما يمكن للحكومة إذا تطلبت الأوضاع الدولية أو الداخلية الخطيرة ذلك أن تعلن حالة الطوارئ لمدة اثني عشر يوما على الأكثر. ومن شأن الإعلان عن هذه الحالة توسيع صلاحيات القضاء العسكري ليشمل الأفراد المدنيين والحد من الحقوق الفردية والحريات العامة. وتجدر الإشارة إلى أن تمديد حالة الطوارئ فترة أطول لا يمكن أن يتم إلى بموجب قانون.

الصلاحيات الخاصة بالوزير الأول:

خص الدستور الوزير الأول بعدد من الصلاحيات من أهمها:

– حق ترأس اجتماعات المجلس الوزاري، واللجان الوزارية ولجان مجلس الدفاع الوطني وذلك في حال تغيب رئيس الجمهورية عنها لأي سبب كان وينبغي حينما يتعلق الأمر بترؤس اجتماع المجلس الوزاري أن يتم ذلك، بصفة خاصة، بناءا على تفويض صريح من الرئيس وبغيت دراسة جدول أعمال محددة.

– توجيه عمل الحكومة وذلك على هدي المقررات المتخذة في مجلس الوزراء، وتأمين تنفيذ القوانين، ومتابعة نشاطات الوزراء وتوجيه التعليمات إليهم والفصل في الخلاف الذي قد ينشأ بينهم في وجهات النظر.

– ممارسة مهام السلطة التنظيمية من خلال إصدار مراسيم لها نفس قوة القانون وذلك في مختلف المواضيع التي لم ينص الدستور صراحة على دخولها ضمن نطاق القانون. وبهذا أصبح الوزير الأول طرفا أساسيا في السلطة التشريعية إلى جانب البرلمان.

– وينفرد الوزير الأول في ممارسة بعض الاختصاصات في مجال علاقة الحكومة بالبرلمان. فهو الذي يتقدم أمام البرلمان بمشاريع القانون، ويطرح مسألة الثقة بالحكومة، ويقترح على رئيس الجمهورية دعوة البرلمان لعقد دورة استثنائية، ويطلب إلى المجلس الدستوري النظر في دستورية القوانين الصادرة عن البرلمان.

رابعا: البرلمان

تميز دستور الجمهورية الخامسة بأنه اضعف، إلى حد كبير، من مركز البرلمان ودوره في الحياة السياسية. وقد تجلى هذا الأمر بحصره لصلاحيات البرلمان التشريعية في مجال محدد وضيق نسبيا. وبتنظيمه وعقلنته للعمل البرلماني بشكل أدى لجعله عميلا خاضعا لهيمنة الحكومة.

1) تنظيم البرلمان: يتألف برلمان الجمهورية الخامسة من مجلسين: الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.

1- الجمعية الوطنية: وهي تنتخب لمدة خمس سنوات من طرف الشعب بالاقتراع العام والشامل والمباشر وذلك على أساس قاعدة الانتخاب الفردي الأكثري ذي الدورتين. ففي الدورة الأولى يعتبر فائزا المرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها شريطة أن يكون هذا العدد أكبر من ربع عدد الناخبين المسجلين. فإذا لم يحصل أحد من المرشحين على هذه الأغلبية تجري انتخابات الدورة الثانية التي لا يمكن أن يشترك بها إلا المرشحون الذين اشتركوا في الدورة الأولى وحصلوا فيها على أكثر من 10 بالمائة من أصوات الناخبين المسجلين. ويعتبر فائزا في هذه الدورة المرشح الذي يحصل على الأغلبية النسبية للأصوات.

2- مجلس الشيوخ: وهو ينتخب لمدة تسع سنوات من قبل جسم انتخابي خاص مؤلف من نواب الجمعية الوطنية، والمستشارين العامين، ومندوبين عن المجالس البلدية. ويجري الانتخاب على أساس الدائرة الموسعة التي تتخذ من المقاطعة (département) حدودا لها. ويحدد لكل مقاطعة عدد من الممثلين في مجلس الشيوخ يتناسب وعدد سكانها.

ومجلس الشيوخ بعكس الجمعية الوطنية، هو غير قابل للحل ويجري تجديد ثلث أعضائه كل ثلاث سنوات. ويتم هذا من خلال تقسيم المقاطعات الفرنسية إلى ثلاث فئات يمثل كلا منها عدد متساوي من الشيوخ، بحيث يجري في كل مرة انتخاب شيوخ فئة واحدة من المقاطعات فقط. وقد أقر الدستور فيما يتعلق بانتخاب المجلس مبدأ إلزامية الانتخاب. فأوجب على أعضاء الجسم الانتخابي القيام بعملية الانتخاب وذلك تحت طائلة دفع غرامة، كجزاء كل من يتخلف عن أداء هذا الواجب.

3- الشروط الخاصة بالترشيح والعضوية: نصت بعض القوانين الانتخابية على عدد من الشروط الخاصة التي ينبغي توفرها في المرشح لعضوية البرلمان. فهذا الحق معترف به لكل مواطن متمتع بحق الانتخاب شريطة أن يكون قد أتم سن الثالثة والعشرين من العمر إذا أراد أن الترشيح لعضوية الجمعية الوطنية، وسن الخامسة والثلاثين إذا أراد الترشيح لعضوية مجلس الشيوخ. وأن يكون متمتعا بالجنسية الفرنسية منذ أكثر من عشر سنوات، ومؤديا لواجبات الخدمة العسكرية. وعلاوة على هذه الشروط فقد حرم القانون أيضا عددا من المواطنين الذين يشغلون بعض الوظائف الهامة أو الحساسة ويستطيعون بسبب ذلك التأثير على إرادة الناخبين، من حق الترشيح في الدوائر الانتخابية الخاضعة لإشرافهم. إلا أن هؤلاء يمكنهم بطبيعة الحال أن يرشحوا أنفسهم في الدوائر الأخرى.

ومن جهة ثانية، نص الدستور أو القانون الانتخابي على عدد من الشروط المتعلقة بعدم إمكانية الجمع بين العضوية في البرلمان وممارسة بعض الوظائف أو المهام الأخرى. فعضو البرلمان لا يستطيع الجمع بين عضويته هذه و عضويته في الحكومة. أو المجلس الدستوري أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي. كما أنه لا يستطيع ممارسة أية وظيفة عامة غير انتخابية سواء أكانت لدى الإدارة الفرنسية أو لصالح دولة أجنبية، ويستثنى من هذا المنع أساتذة التعليم العالي، وأعضاء البرلمان المكلفون من جانب الحكومة بمهمة خاصة لا تتجاوز مدتها الستة أشهر، وبعض الموظفين العاملين في الإدارة الدينية في مقاطعتي الألزاس واللورين. وتفرض العضوية في البرلمان على العضو مراعاة بعض الشروط والقواعد أثناء ممارسته لبعض النشاطات الخاصة: كان يمنع عليه أن يذكر اسمه الشخصي مقرونا بصفته كنائب أو شيخ في أي إعلان خاص بمؤسسة تجارية أو صناعية أو مالية، أو أن يرافع أو يستشار، في حال ممارسته لمهنة المحاماة، في أي قضية تكون الدولة أو أي شخص معنوي عام طرفا فيها أو تكون موجهة ضد الشيء العام أو متعلقة بقضايا الصحافة والاعتماد والتوفير.

ونتيجة لسلسلة الموانع المقررة هذه ورغبة في الحد من الانتخابات الجزئية، فقد جاء دستور الجمهورية الخامسة بتجديد هام يتمثل بانتخاب نائب لعضو البرلمان في نفس الوقت الذي يجري فيه الانتخاب. ويحل النائب بصورة آلية محله في حال وفاته أو توليه لمنصب أو مهمة لا يمكن الجمع بينها وبين عضوية البرلمان. إلا أن النائب لا يحل محل العضو في حال استقالته ففي هذه الحالة فقط تجري انتخابات جزئية جديدة لشغل المقعد الشاغر. ويقوم المرشح الأصيل لعضوية الجمعية الوطنية أو لعضوية مجلس الشيوخ في الدوائر التي يجري الانتخاب فيها على أساس قاعدة الأكثرية عادة باختيار نائبه بنفسه. أما في الدوائر التي يجري فيها انتخاب الشيوخ على أساس قاعدة التمثيل النسبي فإن النائب هو حكما المرشح الذي جاء ترتيبه في اللائحة التي ينتمي إليها الأصيل، مباشرة بعد آخر مرشح انتخب منها فعلا.

وينبغي على عضو البرلمان المنتخب والذي يشغل منصبا أو مهمة لا يمكن الجمع بينها وبين العضوية أن يعلن استقالته من منصبه أو مهمته خلال مدة 15 يوما من تاريخ انتخابه رسميا. كما ينبغي على العضو الذي يعين في منصب رسمي أو يكلف بمهمة لا يمكن الجمع بينها وبين عضويته في البرلمان أن يختار خلال مدة شهر من تعيينه أو تكليفه بين عضويته أو المنصب الذي عين فيه أو المهمة التي كلف بها.

ولا يحق رسميا لعضو البرلمان الأصيل الذي تخلى عن عضويته بعد تعيينه في المنصب أو تكليفه بالمهمة التي لا يمكن الجمع بينها وبين العضوية أن يستعيد عضويته من النائب الذي حل محله وذلك بعد توقفه عن شغل ذلك المنصب أو إنهائه لتلك المهمة. إلا أنه يمكن للنائب الذي أصبح فعلا عضوا في البرلمان أن يستقيل منه إن أراد، ليتيح المجال للعضو الأصيل سابقا لأن يرشح نفسه من جديد في الانتخابات الجزئية التي تجري في حال الاستقالة لشغل المقعد الشاغر.

ب) صلاحيات البرلمان: يختص البرلمان بممارسة صلاحيات عديدة في مجال مراقبة أعمال الحكومة وفي المجالات التشريعية والمالية والتأسيسية والقضائية علاوة على بعض الصلاحيات السياسية المتفرقة الأخرى. ويتميز دستور الجمهورية الخامسة بأنه أعاد لمجلس الشيوخ الاعتبار الذي كان له في ظل الجمهورية الثالثة ثم فقده في ظل الجمهورية الرابعة. فجميع الصلاحيات المخصصة دستوريا للبرلمان، باستثناء تلك المتعلقة بمراقبة أعمال الحكومة، يمارسها المجلسان على قدم المساواة. وليس للجمعية الوطنية أية أولوية على مجلس الشيوخ في هذا الصدد إلا إذا كان الأمر متعلقا بالنظر في مشاريع القوانين المالية التي يجب أن تعرض أولا عليها ثم تعرض فيما بعد على المجلس. على أن هذه المساواة المبدئية بين الجمعية والمجلس يمكن أن تسقط إذا استمر الخلاف بينهما حول مشروع أو اقتراح قانون ما بعد قراءته قراءة ثانية في كل منهما أو قراءته مرة واحدة فقط في حال إعلان الحكومة لصفة الاستعجال بالنسبة له. ففي هذه الحالة يعطي الدستور للوزير الأول سلطة تقرير اللجوء لتشكيل لجنة توفيق مشتركة من المجلسين لحل الخلاف آو دعوة الجمعية الوطنية لتبث في الأمر بمفردها.

1- صلاحية مراقبة أعمال الحكومة: تنحصر هذه الصلاحية كما سبقت الإشارة بالجمعية الوطنية فقط. أما مجلس الشيوخ فليس له أي دور في هذا المجال. وتتجلى الرقابة السياسية التي يحق للنواب ممارستها تجاه الحكومة في عدة وسائل أهمها: مناقشة البيانات التي تدلي بها لحكومة أمام الجمعية دون أن يؤدي ذلك بالتالي إلى التصويت عليها، وتوجيه الأسئلة الخطية أو الشفهية لأعضاء الحكومة قصد الحصول على معلومات محدد أو استفسارات. وطرح قضية إلزام مسؤولية الحكومة سياسيا.

ويمكن لهذه القضية أن تطرح بأسلوبين مختلفين وذلك بغية التحقق من تمتع الحكومة بثقة الجمعية الوطنية. أما الأسلوب الأول فيتم بمبادرة من الوزير الأول بعد التداول بشأنه في المجلس الوزاري. ويتجلى فيما يسمى ” بطلب الثقة “. ويطلب الوزير الأول الثقة بحكومته بناء على البرنامج الذي تتقدم به أمام الجمعية أو على بيان متعلق بالسياسة العامة. وتتم الموافقة على طلب الثقة بالأغلبية النسبية للأصوات المقترعة (أي أكثر من نصفها).

أما الأسلوب الثاني الذي يتم بمبادرة يوقع عليها عشر أعضاء الجمعية الوطنية فيسمى “بملتمس الرقابة” ويجري التصويت على الملتمس علنا ويعتبر مقبولا إذا وافقت عليه الأغلبية المطلقة للأعضاء. والغاية من إقرار مثل هذه الأغلبية هي الحد من احتمالات وضع الحكومة في موضع صعب، لأن من شأن التصويت سلبا على طلب الثقة أو إيجابا على ملتمس الرقابة إجبار الحكومة على تقديم استقالتها.

2- الصلاحية التشريعية: وهي الصلاحية الرئيسية التي يتمتع بها البرلمان وتتجلى في إصداره لما يسمى بالقانون. وقد جاء دستور الجمهورية الخامسة في هذا الصدد بتجديد هام يمثل تحولا جذريا في المفاهيم القانونية التي كانت سائدة في فرنسا ولا سيما في عهد الجمهورية البرلمانية الثالثة والرابعة. ففي ذلك الحين كان البرلمان الفرنسي يتمتع بسلطة التشريع أو إصدار القوانين في كافة المجالات ودون أي قيد أو حد. إلا أن دستور 1958 غير هذا الوضع بصورة جذرية للمرة الأولى. وذلك من خلال تحديده لصلاحيات البرلمان التشريعية وحصره للمجالات التي يمكن أن يصدر فيها القوانين. وقرر الدستور ن كل المجالات التي لم يدخلها صراحة ضمن حيز القانون تعتبر من الآن فصاعدا، داخلة ضمن نطاق اختصاصات السلطة التنظيمية التي أوكل أمرها للوزير الأول. وهكذا فإن البرلمان في ظل الجمهورية الخامسة لم يعد يجسد بمفرده السلطة التشريعية لأن الوزير الأول أصبح يشاركه في تحمل أعباء جزء هام من العمل التشريعي. فقد صار بمقدور الوزير الأول دستوريا أن يصدر مراسيم تنظيمية لها نفس قوة القانون في كافة المجالات التي لم ينص الدستور على جعلها من اختصاص البرلمان.

ولقد حدد الدستور بصورة رئيسية المجالات التي يمكن أن يشرع فيها القوانين وذلك في المادة 34 منه. وتتناول هذه المجالات:

– الحقوق المدنية والضمانات الأساسية الممنوحة للمواطنين من أجل ممارسة الحريات العامة، والأعباء التي يفرضها الدفاع الوطني على المواطنين في أشخاصهم وأموالهم.

– الجنسية والحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم والأنظمة المتعلقة بالزواج والإرث والهبة.

– تحديد الجرائم والجنح والعقوبات المطبقة عليها، والإجراءات الجنائية، والعفو العام وإحداث محاكم جديدة والنظام الأساسي للقضاة.

– الأسس التي تستوفى بموجبها الضرائب من أي نوع كانت، ونظام إصدار النقود.

– النظام الانتخابي للمجالس البرلمانية والمحلية.

– إحداث أصناف المؤسسات العامة.

– الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين في الدولة.

– تأميم المشاريع وانتقال الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص.

وتضيف المادة 34 أن القانون يكتفي بتحديد القواعد الأساسية في المجالات التالية:

– التنظيم العام للدفاع الوطني.

– الاستقلال الإداري للجماعات المحلية وصلاحياتها ومواردها.

– نظام الملكية، والحقوق العينية والالتزامات المدنية والتجارية.

– قانون العمل والحق النقابي والضمان الاجتماعي.

وعلاوة على ذلك، توضح المادة 34 أن القوانين المالية تحدد موارد الدولة ونفقاتها وفق الشروط والأحكام المنصوص عليها بموجب قانون تنظيمي.

3- الصلاحية المالية: وهي تتجلى في حق البرلمان بالموافقة على مشاريع القوانين المالية، ولاسيما قانون الموازنة، انطلاقا من مبدأ عدم إمكانية فرض أعباء ضريبية أو مالية على الشعب قبل موافقته على ذلك من خلال ممثليه.

إلا أن دستور الجمهورية الخامسة أخذ ببعض القيود المحددة لسلطة البرلمان في هذا المجال. ومن أهم هذه القيود:

– منع المبادرة البرلمانية في مجال النفقات فأعضاء البرلمان لا يحق لهم اقتراح أي تعديل على مشاريع القوانين المالية من شانه زيادة أو إحداث النفقات العامة أو تخفيض الإيرادات. وذلك منعا لسياسة محاولة كسب عطف وتأييد القطاعات الشعبية التي قد يلجأ إليها بعض البرلمانيين.

– إعطاء البرلمان مهلة 70 يوما كحد أقصى لدراسة مشروع قانون الموازنة والتصويت عليه وذلك من تاريخ إحالة المشروع إليه من طرف الحكومة. وإذا لم يتم التصويت على المشروع خلال المدة المحددة جاز للحكومة أن تضعه موضع التنفيذ بمرسوم.

4- الصلاحية التأسيسية: أعطى الدستور لأي عضو من أعضاء البرلمان الحق باتخاذ المبادرة لتعديل الدستور. وأعلن أن كل اقتراح بالتعديل ينبغي أن يعرض على كل من مجلسي البرلمان لإقراره بصورة منفردة بالأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها وذلك قبل عرضه حتما على الاستفتاء الشعبي لإقراره بصفة نهائية. أما إذا تعلق الأمر بمشروع قانون تعديل صادر عن رئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من الوزير الأول، فإن كلا من مجلسي البرلمان يحق له أيضا أن يصوت على المشروع بالأغلبية المطلقة للأصوات. وبعد ذلك يمكن لرئيس الجمهورية أن يدعو الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ لعقد جلسة مشتركة لإقرار مشروع التعديل بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات وذلك بدلا من عرضه على الاستفتاء الشعبي.

5- الصلاحية القضائية: وتتجلى هذه الصلاحية في حق البرلمان بإصدار قانون بالعفو العام على المحكومين وفي حقه أن ينتخب من بين أعضائه هيئة محكمة العدل العليا التي يعود لها اختصاص محاكمة رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة والمواطنين في بعض الحالات الخاصة.

6- الصلاحيات السياسية المتفرقة: وهي تتمثل بصورة رئيسية في حق البرلمان بالتصديق على بعض المعاهدات الدولية، وبالإذن للحكومة بإعلان حالة الحرب، وبتمديد حالة الطوارئ بعد إعلانها من جانب الحكومة لمدة 12 يوما.

ج) تنظيم العمل البرلماني وعقلنته: يتميز دستور الجمهورية الخامسة بتنظيمه للعمل البرلماني وعقلنته بشكل جعله خاضعا، إلى حد كبير، لهيمنة الحكومة وإشرافها. ولقد كانت الغاية الأساسية من هذا التنظيم الحد من شطط أعضاء البرلمان في استعمالهم حقوقهم، ولاسيما في مجال مراقبة الحكومة، الأمر الذي كان يعتبر من بين العوامل الهامة لعدم الاستقرار الحكومي في ظل الجمهوريتين الثالثة والرابعة.

ويتجلى تنظيم العمل البرلماني، علاوة على ما سبقت الإشارة إليه بالنسبة لطريقة التصويت على ملتمس الرقابة والأغلبية المطلوبة للموافقة عليه، في بعض القواعد التفصيلية التي يمكن أن نذكر من أهمها:

– حق الحكومة في التحكم بترتيب جدول أعمال المجلس البرلماني وتحديد الأولوية بالنسبة للنقاط الواردة فيه. وبهذا تستطيع الحكومة أن تؤخر إلى ما لا نهاية الاقتراحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان والتي لا تحبذ دراستها أو تصويت المجلس عليها.

– حق الحكومة في أن تدفع بعدم القبول كل اقتراح قانون صادر عن أحد أعضاء البرلمان أو تعديل تتقدم به على مشروع قانون مقدم من قبلها. وذلك إذا رأت أنه يتجاوز حيز القانون أو يناقض تفويضا سبق للبرلمان أن أعطاه للحكومة بشأن التشريع في مواضيع محددة وفي مدة لم ينته أجلها بعد. ويحق للوزير الأول ولرئيس المجلس البرلماني أن يرفع الخلاف حول هذا الأمر إلى المجلس الدستوري للبت به في ظرف ثمانية أيام.

– ويحق للحكومة بعد افتتاح المناقشة العامة حول مشروع قانون ما في أي من المجلسين أن تدفع بعدم القبول كل تعديل لم يتقدم به عضو المجلس سابقا أثناء دراسة المشروع أمام اللجنة البرلمانية المختصة.

– وتستطيع الحكومة أن تضمن إجراء الحكومة المناقشة العامة حول مشروع القانون كما ورد في النص الأصلي الذي تقدمت به. وخلال المناقشة يمكن تناول التعديلات المقترحة من قبل البرلمانيين أثناء دراسة المشروع في اللجان المختصة.

– ويمكن للحكومة أن تطلب التصويت على نص المشروع كليا أو جزئيا حسب المواد. وبهذا الأسلوب يمكنها أن تلزم المجلس على التصويت مرة واحدة على كل النص أو على جزء منه وبذلك تستبعد عمليا المقترحات المقدمة من الأعضاء والتي لا تروق لها.

– وتطيع الحكومة كذلك أن تربط مصير استقرارها بالحكم بمصير نص تشريعي تقدمت بمشروعه وكذلك بطرحها لقضية طلب الثقة على أساس هذا النص.

ومن مظاهر تنظيم العمل البرلماني، أخيرا وضع قواعد تفصيلية محددة للأسئلة الخطية التي يمكن لأعضاء البرلمان أن يوجهوها للحكومة، وتخصيص جلسة واحدة بالأسبوع فقط، أثناء الدورات لطرح الأسئلة الشفهية والإجابة عليها.

خامسا: المؤسسات الجانبية

نص دستور 1958 على إنشاء بعض المؤسسات الجانبية ذات الطابع السياسي أو القضائي أو الاستشاري، وهذه المؤسسات هي: المجلس الدستوري، ومحكمة العدل العليا، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

أ) المجلس الدستوري: وهو مجلس ذو طابع سياسي وقضائي، يتألف من فئتين من الأعضاء: الأعضاء حكما وهم رؤساء الجمهورية السابقين الذين ما زالوا على قيد الحياة، والأعضاء بالتعيين وعددهم تسعة.

ويعين هؤلاء كل من رئيس الجمهورية، ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ على أساس ثلاثة أعضاء لكل منهم. ويعود لرئيس الجمهورية حق تعيين رئيس المجلس من بين هؤلاء ومدة ولاية المجلس تسع سنوات وينبغي أن يجدد ثلث أعضاء المجلس المعينين كل ثلاث سنوات. ولا يحق لهؤلاء الجمع بين عضويتهم في هذا المجلس والعضوية في الحكومة أو البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ويمارس المجلس عدد من الاختصاصات من أهمها:

– مراقبة دستورية القوانين العادية والتنظيمية والنظام الداخلي للجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والمعاهدات الدولية وذلك قبل نشرها ودخولها حيز التنفيذ. وإذا أعلن المجلس عدم دستورية أي من هذه الأعمال كان من نتيجة ذلك تأجيل تنفيذها لحين تعديلها بما يتوافق وأحكام الدستور. وينظر المجلس في دستورية هذه الأعمال بناء على طلب رسمي من رئيس الجمهورية، أو الوزير الأول أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ و ستين عضوا من أعضاء الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ.

– السهر على احترام السلطات العامة لقاعدة العمل ضمن الاختصاصات التي حددها لها الدستور. وينظر المجلس في الخلاف الذي ينشأ بين الحكومة والبرلمان في هذا الصدد بناء على طلب من الوزير الأول أو أي من رئيسي المجلسين وينبغي عليه أن يبث في الخلاف في ظرف ثمانية أيام.

– مراقبة عملية الاستفتاء والانتخابات البرلمانية والرئاسة والفصل في النزاعات القائمة بشأنها.

– إعلان حالة المنع التي يكون رئيس الجمهورية فيها غير قادر على القيام بمهامه الدستورية.

– إبداء آراء استشارية لرئيس الجمهورية في حال لجوء هذا الأخير لممارسة السلطات الاستثنائية بموجب المادة 16 من الدستور.

ب) محكمة العدل العليا: وهي هيئة قضائية مؤلفة من 24 عضوا أصيلا و 12 رديفا. وتنتخب الجمعية الوطنية نصف هؤلاء من بين أعضائها كما ينتخب مجلس الشيوخ النصف الآخر من بين أعضائه أيضا.

وتتولى المحكمة محاكمة رئيس الجمهورية في حال اتهامه بارتكاب الخيانة العظمى. وذلك بعد صدور قرار الاتهام في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ كل على حدة وبالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء.

كما تقوم المحكمة بمحاكمة الوزراء في حال ارتكابهم لجرائم وجنح خلال ممارستهم لوظائفهم. وكذلك بمحاكمة أي مواطن في حال مشاركته لأعضاء الحكومة في ارتكاب الجرائم والجنح ضد سلامة الدولة.

ج) المجلس الاقتصادي والاجتماعي: وهو مجلس استشاري تتمثل فيه مختلف الفئات المهنية في البلاد، ويقوم بمهمة المستشار للحكومة في القضايا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي.

ويتألف المجلس من أعضاء تكلفهم المنظمات المهنية، وأعضاء تختارهم الحكومة. وهناك أعضاء دائمون في المجلس وأعضاء مؤقتون لحضور بعض الجلسات. فالأعضاء الدائمون تختارهم كافة المنظمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد لمدة خمس سنوات وعددهم 200 عضو. أما الأعضاء المؤقتون فتعينهم الحكومة لمدة سنتين بسبب اختصاصاتهم وعددهم نحو 70 عضوا.

وسلطات المجلس استشارية فقط. والغاية من إيجاده تشجيع التعاون بين مختلف الفئات المهنية، وتأمين مشاركة هذه الفئات في تحديد السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكومة. كما يقوم المجلس بدراسة اقتراح التعديلات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية بسبب التقدم العلمي.

ويمكن للمجلس أن يقوم بمهامه بناء على طلب يقدمه الوزير الأول باسم الحكومة أو بناء على مبادرة خاصة منه. وتكون الحكومة ملزمة بطلب استشارة المجلس حين يتعلق الأمر بمشاريع قوانين البرامج أو الخطط ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي. ( وذلك باستثناء القوانين المالية). ويمكنها أن تطلب رأيه في مشاريع القوانين أو المراسيم أو اقتراحات القوانين التي تدخل ضمن نطاق اختصاصه، كما يمكنها أن تطلب إليه تقديم بعض الآراء أو الدراسات الخاصة.

ويستطيع المجلس أن يتخذ المبادرة للفت انتباه الحكومة للإصلاحات التي من شانها بنظره، أن تساعد على تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، ولبيان رأيه بشأن تنفيذ الخطط والبرامج ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي. كما يستطيع المجلس أن يعين عضوا منه ليشرح أمام البرلمان وجهة نظره حول النصوص التي عرضت عليه.