دراسة السوابق القضائية من حيث الاسس و المفهوم و الفوائد

الموضـــــوع
* المقدمة …………………………………………..
* المبحث الأول : تعريف السوابق القضائية …………………
*المبحث الثاني : الأسس التي تقوم عليها السوابق القضائية …….
*المبحث الثالث : مبررات وفوائد العمل بالسوابق القضائية وعيوبها …
*المبحث الرابع : حجية السوابق القضائية …………………..
*المبحث الخامس : من تطبيقات السوابق القضائية …………….
* الخاتمة …………………………………………….
* قائمة المراجع ……………………………………….
* الفهرس ………………………………………….
*** ** ***

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد ..
فإن موضوع حجية السوابق القضائية من المواضيع المهمة التي ينبغي على من كان في المنظومة القضائية – من قضاة ومحامين ومستشارين – أن يعرفوها ، وقد أشير علي أن أبحث هذه المسالة فاستفدت من ذلك كثيراً وكتبت هذه الصفحات ، وقد اخترت في كتابتي المختصرة هذه أن أقتصر على ذكر مباحث مختصرة من هذا الموضوع المتشعب ، وهي التعريف بالسوابق القضائية ، والأسس التي تقوم عليها ( أو آثارها ) ، ومبررات وفوائد العمل بها وعيوب الإلزام بها ، ثم حجيتها في الشريعة الإسلامية وفي القوانين الأنجلوسكسونية والقوانين اللاتينية ، ثم تطبيق واحد عليها من ديوان المظالم .
وأشير إلى أنه قد واجهتني في البداية صعوبة تتمثل في عدم وجود المراجع بنفس الاسم حيث بحثت بنفس العنوان فلم أجده في كبرى المكتبات ، ولكني وجدت بعد السؤال أن المراجع كثيرة ولكنها منشورة مبثوثة في كتب كثيرة فاخترت أهمها ، ثم يسر الله في أواخر الوقت أن وجدت رسالة جديدة بنفس العنوان قد صدرت من قسم الفقه المقارن فاستفدت منها في ترميم البحث وإكمال ما رأيت نقصه .
أرجو من الله العلي العظيم أن يبارك في الجهود ويكلل المسعى بالتوفيق .. إنه سميع مجيب ..
*** ** ***

المبحث الأول: تعريف السوابق القضائية

عرفت السوابق القضائية بعدة تعريفات :
فعرفها عبد الفتاح مراد في معجم مراد القانوني والاقتصادي والتجاري بأنها : قضية مفصول فيها ، أو قرار محكمة يعتبر مثالاً أو مرجعاً لحالة مطابقة أو مماثلة فيما بعد تنشأ عن مسألة قانونية مماثلة وتحاول المحاكم أن تفصل في القضايا على أساس المبادئ الراسخة في الحالات السابقة .
وعرفها عبد الواحد كرم في معجم المصطلحات القانونية بأنها : قضية مفصول فيها من محكمة مختصة تعتبر قاعدة أو مرجعاً قانونياً لما تلاها من القضايا المماثلة .
وعرفها حارثي سليمان فاروق في قاموس فاروق القانوني بأنها : أثر قضية مفصول فيها من محكمة مختصة تعتبر قاعدة أو مرجعاً قانونياً لما تلاها من القضايا المماثلة من حيث الموضوع والنقاط الجوهرية .
وعرفها الشيخ عبد الله آل خنين بأنها : ما صدر من الأحكام القضائية على وقائع معينة مما لم يسبق تقرير حكم كلي لها .
ويعرف عبد السلام العسري السوابق القضائية بتفسير كيفية مجيئها فيقول : للأحكام وظيفتان : الأولى : هي الفصل في النزاع المعروض على المحكمة وحسمه ، ذلك أنه وفقاً لمبدأ حجية الأحكام لا يجوز للخصوم أن ينازعوا من جديد فيما فصل فيه حكم صحيح صادر في مواجهتهم ، والثانية : هي أن المحكمة بقضائها تنشئ سابقة قضائية بحيث إن القضايا المماثلة التي قد تقام في المستقبل غالباً ما يقضى فيها بالطريقة ذاتها ، فالسوابق القضائية تعتبر كمتون القانون يرجع إليها القاضي في فصل النزاعات الجديدة .
*** ** ***
المبحث الثاني: الأسس التي تقوم عليها السوابق القضائية

تقوم السوابق القضائية كما هي جارية اليوم في انجلترا على الأسس التالية -ويذكرها بعض الباحثين في آثار السوابق القضائية-:

  • 1) أن كل محكمة ملتزمة باتباع قرارات المحاكم التي هي أعلى منها درجة . ويعتبر الحكم المخالف للسابقة القضائية غير شرعي.
  • 2) أن كلا من محكمة اللوردات ومحكمة الاستئناف ملزمة باتباع قراراتها الخاصة السابقة مع ملاحظة أن لمحكمة الاستئناف بعض التحفظ في هذا الشأن .
  • 3) كل القرارات ذات العلاقة الصادرة من أي محكمة كانت والتي فيها نقطة قانونية يجب أن تكون حَرية بالاعتبار أثناء النظر في القضايا المماثلة في أي محكمة .
  • 4) أن الشيء الملزم في السابقة القضائية هو حكمة القرار وليس ألفاظه وصيغه ، وإذا احتج بها فإنها تصلح لأن يسبب بها أيضاً .
  • 5) أن السابقة القضائية لا تلغى بمجرد مرور الزمن الطويل عليها ، وينقض أي حكم مخالف لها ، ومع ذلك فإن السوابق القضائية القديمة جداً لا يمكن عملياً تطبيقها على الظروف الحادثة المستجدة ، مالم تكن السوابق قد تعاقبت وتطورت تدريجياً مع الزمن .
  • 6) تجمع السوابق القضائية وتنشر اليوم في مسلسلات خاصة بكل محكمة كمحكمة منصة الملكة ، ومحكمة الاستئناف ، ومحكمة مجلس اللوردات وغيرها من المحاكم المهمة .
    *** ** ***

المبحث الثالث: مبررات وفوائد العمل بالسوابق القضائية وعيوبها

سنذكر بعضاً من فوائد ومبررات العمل بالسوابق القضائية ، وبعضاً من فوائد نشر هذه السوابق لارتباطهما ببعضهما ، وسنذكر ما يعيب الإلزام بالعمل بالسوابق :

أولا : فوائد ومبررات العمل بالسوابق القضائة (وجوباً أو جوازاً) :

1) أن تطبيق القاعد ذاتها باستمرار في القضايا المماثلة يؤدي إلى المساواة في معاملة من يمثلون أمام المحاكم .
2) أن اتباع السوابق القضائية بصفة مستمرة يساهم في معرفة كيفية حسم المنازعات المستقبلية مقدما .
3) أن استخدام القواعد المستقرة للفصل في القضايا يوفر الوقت والجهد .
4) أن إعمال المبادئ التي قررتها أحكام سابقة يعكس احتراما واجباً نحو حكمة وخبرة جيل سابق من القضاة .
5) أنه يستعان بها لتقرير الحكم الكلي للواقعة القضائية عند خلوها من قول لمجتهد ، فالقضاء حي متحرك يتحرك مع الإنسان لأنه يعيش معاناته ويعالج أقضيته ، فإذا حدث للقاضي ما لا قول فيه للعلماء ثم اجتهد في تأصيلها وتقعيدها وحكم فيها فيكون ذلك أصلاً يستضيء به من بعده .
6) حرص المحاكم على تجنب تغيير الاجتهاد السابق بصورة مستمرة حتى لا توصم بالتردد وعدم الاستقرار أو بالتحيز وعدم الحياد في بعض الأحيان .
7) وجود التسلسل بين المحاكم حيث تحرص المحاكم الدنيا على العمل بالاجتهادات الصادرة عن المحاكم العليا حتى لا تتعرض أحكامها للنقض .

ثانيا : فوائد نشر الأحكام القضائية :

1 – توحيد وتأصيل الإجتهادات والأحكام القضائية بين مختلف القضاة، حيث ستتأسس مجموعة من المبادئ والقواعد الشرعية والنظامية تكون المرجعية للقضاة في القضايا المماثلة ، وكذلك للمحامين وجميع المهتمين .
2 – أن نشر الأحكام القضائية سيؤدي إلى التروي والتدقيق في القضايا، كما أنه سيكون أداة من أدوات تطوير العمل القضائي .
3 – تعزيز الثقة في القضاة والقضاء في المملكة والتأكد من مدى إلتزامهم بالحيادية وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة على أكمل وجه. وستكون فرصة لنشر العدالة السعودية في الخارج .
4 – نشر الوعي والثقافة الشرعية والقانونية بين أفراد المجتمع مما سيؤدي بطريقة أو بأخرى إلى تخفيف الضغط على المحاكم وتقليل حالات الالتجاء للقضاء، فمعرفة الموقف القانوني قبل اللجوء للمحاكم والناتج من الثقافة القانونية سيؤدي إلى إحجام البعض رفع دعاوى غير سليمة من الناحية القانونية قياساً على قضايا مماثلة .
5 – أن الكثير من المتخصصين في الشريعة والقانون يحملون طاقات وكفاءات معطلة ولم تستغل جيداً، ونشر الأحكام سيكون سبباً في استنهاض همم عن طريق طرح آرائهم ومناقشة المبادئ الشرعية والقانونية التي أستند عليها القضاة في أحكامهم .

ثالثاً : عيوب الإلزام بالعمل بالسوابق القضائية :

مما يعاب على العمل بالسوابق القضائية :

1) أن سرعة التغيير والتطور يضعف من قابليتها للانطباق على القضايا الحديثة التي قامت في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية اختلفت على مرِّ السنين .
2) أن الاعتماد على نظام السوابق يجعل القضاء يقوم بمهمتين : التشريع والقضاء ، وفي هذا خلط بين السلطات واعتداء على مهمة السلطة التشريعية أو التنظيمية .
*** ** ***
المبحث الرابع: حجية السوابق القضائية

في هذا المبحث سنلقي الضوء على السوابق القضائية من حيث حجيتها في الفقه الإسلامي ، وحجيتها في القوانين الوضعية ، ومدى الإلزامية بها :

أولاً : حجية السوابق القضائية وإلزاميتها في الفقه الإسلامي :

كان القضاء بما قضى به الصالحون منهجاً عند سلفنا ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما روى عنه عبد الرحمن بن يزيد يقول: من عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه .
ففي هذا الأثر دلالة على مكانة السوابق القضائية ورجوع القاضي لها واستناده إليها ما دام قد صح مأخذها وعلم أصلها وبان تقعيدها .
وقد ذكر الفقهاء أن من آداب القاضي كونه مطلعاً على أحكام من قبله من القضاة بصيراً بها كي يستضيء بها ويستفيد منها .
وبهذا يتبين أن السوابق القضائية حجة ، ولكن هل ترقى إلى رتبة الإلزام ؟ في ذلك تفصيل :
لا يخلو الحكم الذي صدر من القاضي (السابق) من حالين :

الحالة الأولى : أن يكون الحكم مستنداً إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس – مما لا خلاف فيه – فإن قضاءه يكون ملزماً – إذا قضى وفق النص – ، والإلزام هنا مستمد من النص لا من حكم القاضي .

الحالة الثانية : أن يكون الحكم منصباً على مسألة لم يأت بها نص ولا إجماع ولا قياس ، فلا تخلو هذه الحالة أيضاً من حالين :

الأول : أن تكون هذه المسألة موضع خلاف بين الفقهاء وتفاوت القضاء فيها تبعاً لذلك ولا يتعدى حكم القاضي السابق أن يكون مرجحاً لرأي من تلك الآراء الخلافية ، فهنا لا يكون الحكم القضائي السابق ملزماً للقاضي الذي تطرح عليه المسالة .
الثاني : أن تكون هذه المسألة مستجدة لا يمكن قياسها على المسائل الخلافية التي سبق أن بحثت في الفقه ، فيكون حكم القاضي فيها حكماً اجتهادياً محضاً – على افتراض توافر شروط هذا الاجتهاد في القاضي – فهنا أيضاً لا يكون الحكم القضائي ملزماً للقاضي الذي تطرح عليه المسألة .

ويمكن أن نضيف الحالة التالية :

إذا كانت السابقة لا أصل لها ، أو كانت مخالفة للنصوص ، أو أن هناك ما هو أقعد منها فهنا لا يلتفت إليها .
ما سبق كان في حكم الالتزام بحكم الغير السابق ، ولكن هل يلتزم القاضي باتباع حكمه السابق في حالات مماثلة لاحقة ؟
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في كتابه لأبي موسى رضي الله عنه : لا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه رشدك أن تراجع فيه الحق ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل .
وجاء عنه رضي الله عنه أنه حكم في المسـالة المشركة بإسقاط الأشقاء مع الإخوة لأم ، ثم شرك بينهم في مسالة أخرى فسئل عن ذلك فقال : تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم .

ولهذا فإن الحكم القضائي جزئي الأثر أي يختص بالواقعة التي صدر فيها وبأطراف النزاع فقط ، وعلى هذا فإن التفسير القضائي يكون ملزماً فقط للطرفين في الدعوى التي تم التفسير للحكم فيها وذلك على أساس حجية الأمر المقضي به التي ثبتت للحكم ، لذا فلا يصح أن يقوم أحد الطرفين برفع الدعوى مرة أخرى على نفس الخصم وبنفس الموضوع استناداً لنفس السبب ليحصل على حكم يقوم على تفسير مختلف للقانون . غير أن هذا التفسير غير ملزم لمحكمة أخرى ولو كانت أدنى درجة من المحكمة التي أخذت به فللأخيرة أن تفسر نفس القاعدة تفسيراً مختلفاً عن ذلك الذي أعطته المحكمة الأولى ، بل إن عدم إلزام التفسير القضائي يصل إلى درجة أن نفس المحكمة إذا أصدرت تفسيراً لنص من النصوص على وجه معين لا يجب عليها التزام نفس التفسير في الدعاوى المماثلة التي تنظرها فيما بعد فيجوز أن تعدل عن التفسير السابق إلى تفسير آخر تراه أدنى إلى الصواب ولا يغير من ذلك أن تستقر أحكام المحاكم – وعلى رأسها محكمة النقض – على تفسير معين .
ويقول محمد سلام مدكور : الحكم الاجتهادي ليس حجة بالنسبة للكافة إذ الحكم المجتهد فيه مبني على الظن ، وإنما يلتزم به المجتهد نفسه مادام لم يتغير رأيه فيه ، لأنه هو الحكم الشرعي حسب ظنه ، ولا يجوز له أن يتركه ويقلد مجتهداً آخر فيه إلا إذا كان نتيجة اجتهاد وترجيح …

ثانياً : حجية السوابق القضائية وإلزاميتها في القوانين الوضعية :

تتباين القوانين الوضعية في اعتبارها للسوابق القضائية إلى حد التضاد ، وتعود جميع القوانين المعاصرة إما إلى القوانين الانجلوسكسونية التي تلزم بالسوابق القضائية ، وإما إلى القوانين اللاتينية التي لا تلزم بها ، وسنفصل فيها على النحو الآتي :

القوانين الانجلوسكسونية :

يشمل النظام الانجلو سكسوني كلا من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والهند وأستراليا و جنوب أفريقيا وغيرها .
ويعتبر القضاء في القانون الانجليزي ومن تبعه المصدر الرسمي للقاعدة القانونية فالقانون الانجليزي في أساسه قانون قضائي إذ يتكون من مجموع السوابق التي حكمت بها المحاكم الانجليزية فيما عرض عليها من أقضية ، فالقاعدة التي أخذ بها القاضي في حكمه تعتبر – وفقاً لنظام معين يعرف بنظام السابقة القضائية – قاعدة قانونية يجب على بقية القضاة احترامها وتطبيقها في المنازعات التي ترفع إليهم .
ويتلخص نظام السابقة القضائية في أن الحكم الذي يصدر من محكمة انجليزية (أي القاعدة التي استخلصها هذا الحكم) يلزم في حدود معينة جميع المحاكم الانجليزية التي في مرتبة المحكمة التي أصدرته بما فيها هذه المحكمة الأخيرة وكذلك جميع المحاكم الأدنى مرتبة منها . فالأحكام التي تصدرها محكمة الاستئناف تعتبر سوابق قضائية ملزمة لجميع المحاكم الانجليزية بما فيها محكمة الاستئناف ، ولكنها لا تلزم مجلس اللوردات (الهيئة القضائية العليا) لأنه أعلى درجة منها ، وهكذا .. ومن ثم فلا يمكن العدول عن هذا القضاء أو عن القاعدة التي أخذ بها إلا بسن قانون صريح يقضي بذلك ، أي إلا بإصدار نص تشريعي يلغي ما اتخذ من قرار ، وعلى هذا الأساس تكون من هذا المجموع الضخم من القرارات القانون الانجليزي المعروف باسم Common Law والذي يعتبر أصل القانون الانجليزي حتى العصر الحاضر .

ولذلك يلتزم القاضي عند فصله في دعوى مرفوعة إليه بأن يفتش عن السوابق القضائية الصادرة من قبل في مثل هذه الدعوى ، ومن هذه السوابق يستطيع أن يستخلص القواعد القانونية الواجب تطبيقها في النزاع المعروض عليه .

القوانين اللاتينية :

يشمل النظام اللاتيني كلا من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا كما أنه مطبق في دول كثيرة ومنها ألمانيا والنمسا وهولندا وسويسرا ومصر ولبنان .

وتنحصر مهمة القاضي في هذا النظام على تطبيق القانون فيما يرفع إليه من أقضية لا إيجاد قواعد قانونية ، فإن لم يجد في القانون شيئاً فإنه ينشئ الحل باجتهاده ، ويقتصر أثر ما يصدره من أحكام على الدعوى التي فصل فيها ولا يتعداه إلى أي قضية أخرى ولو كانت مشابهة لها ، كما أنه لا يلزم أي محكمة أخرى ولو كانت أدنى ممن أصدرت الحكم سابقاً ، وقد نص القانون المدني الفرنسي على هذا المبدأ في المادة الخامسة حيث منع القضاة من أن يضعوا مبدأً عاماً يطبق في القضايا المتماثلة .
وسبب هذا الاتجاه عائد إلى مبدأ الفصل بين السلطات الذي اعتبرته الثورة الفرنسية مبدأً أساسياً فلا يجوز للسلطة القضائية أن تتدخل بموجبه وتتجاوز في اختصاصها على اختصاص السلطة التشريعية أو أن تعرقل عملها .
وليس معنى هذا أن تكون السوابق القضائية عديمة القيمة في تكوين القانون ، فهي مصدر تفسيري لقواعده ، بحيث يستأنس القاضي بالأحكام السابقة ويسترشد بها في اختيار الحلول فيما لا يجد له قاعدة قانونية منطبقة في أحد المصادر الشكلية عند الفص في الدعاوى التي تعرض عليه ، وكلما اطردت هذه الأحكام واستقرت على وجه معين كلما كانت لها قوة إقناع أكبر في نفسية القاضي .
*** ** ***

المبحث الخامس: من تطبيقات السوابق القضائية

( من مجموعة المبادئ الشرعية والنظامية التي قررتها هيئات ولجان ودوائر ديوان المظالم )
قرار رقم 17/85/1399هـ
القضية رقم170/1/ ق لعام 1399هـ
ديوان المظالم ـ اختصاص ـ اختصاصه بإقرار العذر المشروع في الحالات التي يتأخر أصحاب الحقوق عن المطالبة بصرفها لأكثر من سنتين أو ثلاث سنوات بحسب الأحوال ومدى مشروعية الضرر المدعى به من أصحاب الحقوق
طبقاً لقرار مجلس الوزراء رقم90 تاريخ 15/6/1396هـ
المطالبة بالحقوق طبقاً لقرار مجلس الوزراء رقم 968 بتاريخ 16/6/1392هـ
ميعادها ـ الميعاد يبدأ من التاريخ الذي تكون فيه الحقوق مستحقة الأداء وواجبة الدفع من الخزانة العامة طبقاً للأنظمة والقرارات الصادرة في خصوصها ـ مثال ذلك: تعويضات نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة تستحق بعد إخلاء العقارات وتسليمها للجنة صاحبة المشروع وإفراغها في الصك الشرعي لدى كاتب الصك.
بيان ذلك:

1ـ صدر قرار مجلس الوزراء رقم 990 تاريخ 15/6/ 1396 بتخويل ديوان المظالم إقرار العذر المشروع في الحالات التي يتأخر أصحاب الحقوق عن المطالبة بصرفها لأكثر من سنتين أو ثلاث سنوات بحسب الأحوال ومدى مشروعية العذر المدعى به من أصحاب الحقوق.
2ـ إن الميعاد النظامي للمطالبة على النحو الموضح بقرار مجلس الوزراء رقم 968/92 يبدأ من التاريخ الذي تكون فيه الحقوق مستحقة الأداء وواجبة الدفع من الخزانة العامة طبقاً للأنظمة والقرارات الصادرة في خصوصها، ويستفاد من سياق المادتين 8، 9 من نظام نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة الصادرة بالمرسوم الملكي رقم 15 بتاريخ 16/11/1392هـ، أن تعويضات نزع الملكية تستحق لأصحاب الشأن بعد إخلاء العقارات وإفراغها لحساب الجهة صاحبة المشروع في الصك الشرعي لدى كاتب العدل المختص، فالتعويض يستحق ويتم دفعه بعد الإخلاء والتسليم ونقل الملكية بمعرفة كاتب العدل المختص إذ أنه بتمام هذه الإجراءات ينتقل حق الرقبة بالمنفعة إلى الجهة صاحبة المشروع فتصبح المالكة والحائزة للعقارات وتلتزم الخزانة مقابل ذلك بأداء التعويض المستحق ويبدأ من ذلك التاريخ الميعاد النظامي للمطالبة.

الوقائع :

(1) بتاريخ 15/4/1399 هـ تقدم المدعو/… … … بصفته وكيلاً عن ورثة المرحوم / … … … لمعالي رئيس ديوان المظالم وقد أوضح المذكور في استدعائه بأن موكليه ورثة /… … … لهم تعويض لدى وزارة /… …عما اقتطعه طريق الحجاز من ملك مورثهم المملوكة له بموجب الصك رقم 517 /7 بتاريخ 21/11/1385هـ الصادر من محكمة الرياض، وبموجب المخطط المعتمد من الجهات المختصة رقم 2/4/7 ومن مدينة الرياض وبرقم3850 في10/3/1386هـ وأنه عندما تقدم إلى وزارة /… … بأن صاحب الحق لم يتقدم بطلب التعويض في وقته وقد تأخر عن المطالبة مدة طويلة مما يستلزم وجود عذر شرعي وقد أفهم الوكيل المسؤولين في الوزارة بأن صاحب الحق كان وقتها مصاب بمرض ولم يستطع المطالبة بحقه واستمر معه المرض حتى تُوفي وقد طلبت الوزارة من الوكيل إثبات صحة العذر، وقد أحضر الوكيل البينة للوزارة فأفادوه بأن الإقرار من اختصاص ديوان المظالم ولا بد من رفع هذه البينة إلى الديوان.
(2) بتاريخ20/5/1399هـ أرسل الديوان كتابه رقم 1437/1 إلى مدير قسم التعويضات بوزارة /… … بطلب الإفادة عن تاريخ ثبوت حق /… … بالتعويض عن قيمة الأرض المقتطعة من ملكه لطريق الحجاز.
وبتاريخ 10/6/1399 هـ تلقى الديوان خطاب رئيس قسم التعويضات بوزارة /… … رقم 4/3 مفيداً بأن الوزارة قد نفذت طريق الرياض / الطائف في الجزء الذي تضمن ملك /… … … عام 1385هـ ولم يتقدم بالمطالبة إلا بتاريخ 3/7/1397 هـ أي بعد حوالي اثني عشر عاماً من تاريخ مرور الطريق.
(3) وبتاريخ 1/7/1399 هـ أرسل الديوان كتاب رقم 1844/1 إلى مدير قسم التعويضات بوزارة /… … بطلب الإفادة هل نقلت ملكية الأرض المقتطعة إلى الوزارة طبقاً لنص المادة التاسعة من نظام نزع الملكية وبيان تاريخ نقل الملكية.
وبتاريخ 16/7/1399هـ تلقى الديوان خطاب رئيس قسم التعويضات بوزارة /… … مفيداً بأنه حتى تاريخه لم يتم نقل ملكية ما اقتطع من ملكه.
(4) تقدم صاحب الطلب بمستندات شرعية أرفقها بطلب تضمن:
أ – صك إثبات وفاة وحصر الورثة في والد /… … … وفي زوجته /… … …
وفي ابنه /… … … ويحمل رقم 135/8 في 3/12/1396هـ.
ب- صك توكيل من موكليه /… … … وابنه /… …، ابن أخيه /… … بموجب الصك الصادر من المحكمة الكبرى بالرياض بعدد 75/3 بتاريخ 26/1/1397 هـ، وهذا الصك موثق من قبل قاضي محكمة عرقة برقم 07828/8 وتاريخ 17/1/1397هـ.
جـ- صك توكيل صادر من كتابة عدل الرياض برقم 5474 بتاريخ 10/4/1397هـ، فيه توكيل من … … … بموجب الوكالة عن /… … … بالوكالة رقم 90603 في 1/1/1397هـ إلى /… … …
د- وثيقة مصدقة من وزير العدل ومن الشيخ /… … رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تثبت العذر الشرعي في تأخر صاحب الحق عن المطالبة بحقه وذلك بإثبات مرضه مدة خمسة عشر سنة وعدم قدرته على متابعة واستخلاص حقوقه لدى الآخرين.

الأسباب :

تقدم المدعو /… … … بصفته وكيلاً عن ورثة المرحوم /… … … بطلب صرف التعويض المستحق لموكليه قِبل وزارة /… … عن الأرض التي اقتطعت لصالح طريق الحجاز وبرر تأخره في المطالبة إلى مرض مورث موكليه حتى تاريخ وفاته عام 1396هـ.
ومن حيث أنه صدر قرار مجلس الوزراء رقم 968 وتاريخ 16/9/1392هـ ، بالموافقة على القواعد التالية :

1- تسقط المطالبة تجاه الخزانة بأي حق يتعلق برواتب أو مخصصات أو ما في حكمها إذا تأخر صاحب الحق أو وكيله أو خلفه عن المطالبة بصرفه بدون عذر مشروع لمدة سنتين فأكثر.
2- تسقط المطالبة تجاه الخزانة العامة بأي حق عدا ما ذكر في الفقرة السابقة إذا تأخر صاحب الحق أو وكيله أو خلفه عن المطالبة بصرفه بدون عذر مشروع لمدة ثلاث سنوات فأكثر، ثم صدر قرار مجلس الوزراء رقم 990 بتاريخ 15/6/1396هـ بتخويل ديوان المظالم إقرار العذر المشروع في الحالات التي يتأخر أصحابها عن المطالبة بصرفها لأكثر من سنتين أو ثلاث سنوات بحسب الأحوال ومدى مشروعية العذر المدعى به من أصحاب الحقوق.

ومن حيث أن الميعاد النظامي للمطالبة على النحو الموضح بقرار مجلس الوزراء رقم 968 عام 1392هـ، يبدأ من التاريخ الذي تكون فيه الحقوق مستحقة الأداء وواجبة الدفع من الخزانة العامة طبقاً للأنظمة والقرارات الصادرة في خصوصها.
ومن حيث أن المادة (8) من نظام نزع الملكية للعقارات للمنفعة العامة الصادرة بالمرسوم الملكي رقم 15 بتاريخ 16/11/1392هـ، تنص على أنه يتم دفع التعويضات لأصحاب الحقوق بعد إخلاء العقار وتسليمه للجهة صاحبة المشروع وذلك دون المساس بحقوق أصحاب الشأن في الاعتراض على قدر التعويض طبقاً لأحكام النظام وتنص المادة (9) منه على أنه ” يتم نقل ملكية العقارات المنزوعة ملكيتها للدولة عن طريق كتاب العدل المختصين وفق الأنظمة المعمول بها” ويستفاد من سياق المادتين أن تعويضات نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة تستحق لأصحاب الشأن بعد إخلاء العقارات وإفراغها لحساب الجهة صاحبة المشروع في الصك الشرعي لدى كاتب العدل المختص فالتعويض يستحق ويتم دفعه بعد الإخلاء والتسليم ونقل الملكية بمعرفة كاتب العدل المختص إذ أنه بتمام هذه الإجراءات ينتقل حقا الرقبة والمنفعة إلى الجهة صاحبة المشروع فتصبح المالكة والحائزة للعقارات وتلتزم الخزانة مقابل ذلك بأداء التعويض المستحق ويبدأ من ذلك التاريخ الميعاد النظامي للمطالبة.

ومن حيث أن الثابت من أوراق القضية أن الوزارة نفذت طريق الرياض الطائف في الجزء الذي يخص مورث الطالبين عام 1385هـ، وأنه حتى تاريخه لم يتم نقل ما اقتطع من ملكية إلى وزارة /… … هذا فضلاً على أن المورث كان مريضاً وغير قادر على متابعة استخلاص حقوقه لدى الآخرين طبقاً للشهادة المرفقة والمعتمدة من مكتب معالي وزير العدل بتاريخ 5/4/1399هـ وبالتالي فإن التعويض عن الأرض المقتطعة لحساب طريق الرياض/ الطائف لمورث الطالبين /… … … لم يستحق بعد قِبَل وزارة المواصلات نظراً لعدم إفراغ الصك الشرعي بنقل الملكية لدى كاتب العدل المختص ويبدأ ميعاد المطالبة من تاريخ استحقاق ذلك التعويض بالإفراغ.
لذلك انتهى الديوان إلى :

أحقية ورثة المتوفى /… … في صرف التعويض المستحق عن عقارهم الداخل في مشروع طريق الرياض/ الطائف بعد موافقتهم على إفراغ العقار لحساب وزارة /… … صاحبة المشروعة لدى كاتب العدل المختص .
*** ** ***
خاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
وهكذا نكون قد مررنا على أهم مباحث السوابق القضائية ، وقد بقي بعض المباحث التي ينبغي بحثها لو كان البحث مطولاً ، ولكن بما أن البحث مختصر فلعل ما ذكر فيه الكفاية .
وينبغي الإشارة إلى أن أهم نقطة في الموضوع هي حجية السوابق القضائية وهل هي ملزمة للقاضي ، ولأهميتها نذكرها مرة أخرى باختصار شديد :
تعتبر السوابق القضائية مما يحتج بها في الفقه الإسلامي ، وإن كانت لا تصل إلى أن تكون ملزمة للقاضي ، ولكنه يستأنس بها .
وأما في النظام الانجلوسكسوني فتعتبر هي لب القانون وتكون ملزمة للمحكمة القاضية بها ولجميع المحاكم في درجتها أو أنزل منها .
وفي النظام اللاتيني لا تعتبر ملزمة على الإطلاق ، ويمكن أن تعتبر مفسرة ، أو أن تكون للاستئناس فقط .
وأخيراً .. أسأل الله للجميع التوفيق والسداد ، إنه تعالى سميع مجيب الدعاء .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
*** ** ***

مراجع

(1) السوابق القضائية ، دراسة نظرية تطبيقية : بحث تكميلي في قسم الفقه المقارن 1426هـ للطالب / شيخين بن محمد العبدلي .
(2) نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي . عبد السلام العسري . ط : وزارة الأوقاف / 1417هـ .
(3) أصول الأحكام الشرعية ومبادئ علم الأنظمة . د/ عبد العزيز العلي النعيم . الطبعة الأولى .
(4) مدخل لدراسة القانون . د/ خالد عبد الله عيد . دار الأمان .
(5) مقدمة دراسة علم الأنظمة ج1-2 . د/ محمد الهوشان ، و د/ فخري أبو سيف . الطبعة الأولى / 1395هـ .
(6) القضاء في الإسلام ، لمحمد سلام مدكور. دار النهضة العربية بالقاهرة / 1384هـ .
(7) تفسير النصوص في القانون والشريعة الإسلامية . د/ محمد صبري السعدي . الطبعة الأولى / 1399هـ . دار النهضة العربية .
(8) مجلة المحامي ، العدد 8 ، في ذي الحجة 1421هـ .
(9) جريدة الرياض عدد 13794 بتاريخ 2/3/ 1427هـ .
(10) منتديات قانون نت : www.qanoun.net .
*** ** **