بحث و دراسة عن التحكيم في العقود الإدارية في القانون العام

بعد أن بينت في التمهيد مفهوم العقد الإداري، وتعريف التحكيم ومشروعيته والنظم التي تشابهه في الفقه الإسلامي والقانون.
سوف أقوم،إن شاء الله ،في هذا الباب ببيان التحكيم في العقود الإدارية في القانون،باعتباره وسيلة من وسائل فض منازعات العقود الإدارية،والذي هو موضوع هذا البحث.
وسوف ابحث فقط ما يتعلق بمسألة حكم التحكيم في العقود الإدارية فقط دون الدخول في التفاصيل الإجرائية عند اللجوء إلى التحكيم كما بينت سابقاً.
ولكن قبل أن أدخل في موضوع هذا الباب أود أن أبين طبيعة المنازعات الإدارية في القانون لكون منازعة العقود الإدارية التي يجري بحث التحكيم فيها جزءًا من المنازعات الإدارية.
ثم أقوم بتعريف التحكيم في العقود الإدارية في القانون وبيان حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.

الباب الأول
التحكيم في العقود الإدارية في القانون

فصل تمهيدي:مفهوم المنازعات الإدارية في القانون.
الفصل الأول:التحكيم في العقود الإدارية في القانون.
الفصل الثاني:التحكيم في العقود الإدارية الدولية في القانون.

فصل تمهيدي
مفهوم المنازعات الإدارية في القانون

في هذا الفصل سوف أتكلم،إن شاء الله،عن مفهوم المنازعات الإدارية في القانون.
وذلك من خلال تعريف المنازعة الإدارية ومعاييرها وصور المنازعات الإدارية ومن خلال الجهة المختصة،وعن تعريف التحكيم في المنازعات الإدارية في القانون الإداري،كل في مبحث مستقل.

فصل تمهيدي
مفهوم المنازعات الإدارية في القانون

المبحث الأول:تعريف المنازعة الإدارية ومعاييرها.
المبحث الثاني:صور المنازعات الإدارية.
المبحث الثالث:الجهة المختصة بنظر المنازعات الإدارية.
المبحث الرابع:تعريف التحكيم في المنازعات الإدارية.

المبحث الأول
تعريف المنازعة الإدارية ومعاييرها

يعود السبب في وضع فقهاء القانون والقضاء معياراً للمنازعة الإدارية للتمييز بين روابط القانون العام والقانون الخاص،والذي كان سبباً في نشأة القضاء الإداري المختص بنظر المنازعات المتعلقة بالقانون العام([1]).
وفي هذا المبحث سوف أقوم،إن شاء الله،بتعريف المنازعة الإدارية،ومعيار المنازعة الإدارية.

أولاً:تعريف المنازعة الإدارية

الدعوى بشكل عام في الفقه القانوني الحديث سواء كانت مدنية أو جنائية أو إدارية وسيلة قانونية يتوجه بها الشخص إلى القضاء للحصول على تقرير حق أو حمايته([2]).
وعلى هذا فالدعوى الإدارية وإن كان لها خصائصها إلا أنها لا تتعارض مع مفهوم الدعوى كفكرة قانونية ذات مدلول محدد([3]).
إلا أنها تختلف عن المنازعات والدعاوى الأخرى بأنها وسيلة قانونية التي كفلها القانون للأشخاص،لحماية حقوقهم في مواجهة الإدارة عن طريق القضاء الإداري([4]).

ثانيا:معيار المنازعة الإدارية في القانون

أما عن معايير المنازعة الإدارية فإن هناك عدة معايير وهي:

المعيار الأول:أن تكون جهة الإدارة طرفًا في النزاع
هذا المعيار يجعل المنازعة إدارية إذا كانت الجهة الإدارية طرفًا في المنازعة،وانتقد هذا المعيار أن هناك منازعات تكون الإدارة طرفا فيها،ولا تعتبر منازعة إدارية؛إذ أنها تتعلق بنشاط غير إداري ([5]).

المعيار الثاني:معيار المرفق العام ([6])
إن المنازعة تكون إدارية إذا كانت متعلقة بنشاط المرفق العام،وهو المشروع الذي تنشئه الدولة وتقوم بتنظيمه وتسييره بهدف تقديم النفع وتحقيق المصلحة العامة.
وقد اُنْتُقِدَ هذا المعيار بأن فكرة المرفق العام لم تعد تكفي معيارا لتحديد المنازعة الإدارية،إذ إن وجود المرفق العام لم يعد الشرط الوحيد أو الضروري لتطبيق القانون الإداري.

المعيار الثالث:معيار السلطة العامة ([7])
المنازعة تكون إدارية على حسب هذا المعيار،إذا كانت بسبب عمل من أعمال الإدارة مارست فيها سلطة الأمر والنهي على الأفراد،أما إذا كانت الوسيلة التي لجأت إليها الإدارة شبيهة بتصرفات الأفراد العاديين فقد اُخْتَصَّ بالنزاع القضاء العام.
وقد اُنْتُقِدَ هذا المعيار لأنه يؤدي إلى خروج كثير من أعمال الإدارة المختلطة التي تكون من طبيعة الإعمال العادية وتتضمن بعض عناصر السلطة العامة الآمرة كالعقود الإدارية،كما أنه يؤدي إلى تضييق اختصاص القضاء الإداري.

المعيار الرابع:المعيار المختلط([8])
هذا المعيار يجمع بين معيار السلطة العامة ومعيار المرفق العام،ومقتضاه أن المنازعة تعتبر إدارية إذا كانت تتعلق بنشاط المرفق العام واستخدمت الإدارة في تسييره وانجازه امتيازات السلطة العامة.
بهذا المعيار أخذ الفقه القانوني الحديث ([9])كما أخذ به القضاء المصري حيث جاء في حكم محكمة القضاء الإداري :”من حيث إن الرأي المستقر عليه في قضاء مجلس الدولة ومحكمة التنازع في فرنسا من مدة طويلة وحتى الآن،وهو ما يتعين

الأخذ به في مصر،والمتمثل في أن المنازعة تكون إدارية إذا توافر فيها عنصران الأول اتصال المنازعة بسلطة إدارية،أي تكون السلطة الإدارية أحد الخصوم في الدعوى،والثاني هو اتصال المنازعة بنشاط مرفقي تباشره السلطة العامة الإدارية بوسائل القانون العام؛أي أن يكون موضوع المطالبة بأثر من الآثار المترتبة على علاقات القانون العام” ([10]).
ولعل هذا المعيار هو الراجح من بين المعايير السابقة؛ذلك أنه بالنظر والتمعن فيه نجد أنه مشابهه ومماثل للأركان الواجب توافرها في العقد الإداري والمميزة له عن غيره من العقود من حيث إن يكون طرف التعاقد جهة الإدارة أو شخصية معنوية عامة،باستخدام وسائل القانون العام،وأن يكون متعلقا بمرفق عام.

المبحث الثاني
صور المنازعات الإدارية

يُرجع القانون الإداري صور المنازعات الإدارية إلى ثلاث مجموعات؛هي منازعات الإلغاء،ومنازعات القضاء الكامل،والمنازعات التأديبية التي تقام من الإدارة ضد موظفيها.

المجموعة الأولى :منازعات الإلغاء

يقصد بمنازعة الإلغاء أو دعوى الإلغاء تلك المنازعة أو الدعوى التي يرفعها أحد الأفراد أو الأشخاص المعنويين إلى القضاء الإداري بطلب إعدام قرار إداري مخالف للقانون([11]).
وطبيعة هذه المنازعات التي تندرج تحت هذه المجموعة تكون سلطات القضاء أمامها ناقصة بحيث يقتصر نظر القاضي عليها في مدى مشروعية القرار من عدمه ،فإذا تبين له مجانبة القرار للقانون حكم بإلغائه،ولكن دون أن يمتد حكمه إلى أكثر من ذلك،فليس له أن يعدل القرار محل المنازعة الإدارية،أو يستبدل غيره به([12])،فحقيقةدعوى الإلغاء مخاصمة القرار الإداري المعيب الصادر من جهة الإدارة بقصد التوصل إلى إلغائه بأثر رجعي قبل الكافة كليا أو جزئيا ([13]).

وهذا النوع من المنازعات الإدارية،نص عليها القانون المصري في قانون مجلس الدولة رقم 47لسنة 1972م بشأن تنظيم مجلس الدولة في المادة العاشرة التي نصت على:”تختص محاكم مجلس الدولة بالفصل في المسائل الآتية:
………………………………………
………………………………………
ثالثاً: الطلبات التي يقدمها ذوو الشأن بالطعن في القرارات الإدارية النهائية الصادرة بالتعيين في الوظائف العامة أو الترقية أو بمنح العلاوات.
رابعاً: الطلبات التي يقدمها الموظفون العموميين بإلغاء القرارات الإدارية الصادرة بإحالتهم إلى المعاش أو الاستيداع أو فصلهم بغير الطريق التأديبي.
خامساً: الطلبات التي يقدمها الأفراد أو الهيئات بإلغاء القرارات الإدارية النهائية.
سادساً: الطعون في القرارات النهائية الصادرة من الجهات الإدارية في منازعات الضرائب والرسوم وَفْقًا للقانون الذي ينظم كيفية نظر هذه المنازعات أمام مجلس الدولة”.

المجموعة الثانية:منازعات القضاء الكامل

ويقصد بها المنازعات التي يرفعها أحد الأفراد أو الأشخاص المعنونين إلى القضاء الإداري لحماية حقوقه أو حقوقهم قِبَلَ من يعتدي أو يهدد باعتداء على تلك الحقوق([14]).
وفي هذا النوع يمارس القضاء الإداري كامل سلطاته أمام المنازعة فدوره لا يقتصر كما هو الشأن في حال قضاء الإلغاء على إلغاء القرار المعيـب،ولـكنه يصحح المركز القانوني للطاعن كما يبين الحل الصحيح للمنازعة([15]).
وتشمل هذه المجموعة مايلي([16]):
1- دعاوى العقود الإدارية
2- التعويض عن أعمال الإدارة الضارة.
3- المنازعات الضريبية.
4- المنازعات الانتخابية.
5- منازعات التسوية التي يقصد بها جبر الضرر الذي لحق بالموظف إزاء خطأ الإدارة في تقدير استحقاقه.
وهذا النوع من المنازعات نص عليه قانون مجلس الدولة المصري رقم 47لسنة 1972م في المادة العاشرة التي نصت على :”تختص محاكم مجلس الدولة بالفصل في المسائل الآتية:
أولاً: الطعون الخاصة بانتخابات الهيئات المحلية.
ثانياً: المنازعات الخاصة بالمرتبات والمعاشات والمكافآت المستحقة للموظفين العموميين أو لورثتهم.
………………………..
عاشراً: طلبات التعويض عن القرارات المنصوص عليها في البنود السابقة، سواء رفعت بصفة أصلية أو تبعية.
حادي عشر: المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو بأي عقد إداري آخر”.

المجموعة الثالثة: قضاء المنازعات التأديبية:

يقصد بقضاء المنازعات التأديبية سلطة القضاء الإداري في توقيع الجزاء على الموظف الذي يرتكب مخالفة تأديبية خرج بمقتضاها عن قواعد المرفق العام الذي يعمل فيه أثناء تأديته لأعماله المكلف بالقيام بها،والتي تؤثر على حسن تأديتها([17]).
وهذه المجموعة تعتبر من منازعات القضاء الإداري،نظرا لأن النظام التأديبي جزء لا يتجزأ من أحكام الوظيفة العامة التي هي من أهم موضوعات القضاء الإداري، والذي يقوم بالتمييز بين روابط القانون العام والقانون الخاص،والسبب في نشأة هذا القضاء هو تخصصه بنظر المنازعات([18]).
وهذا النوع من المنازعات نص عليها قانون مجلس الدولة المصري رقم 47لسنة 1972م في المادة العاشرة التي نصت على :”تختص محاكم مجلس الدولة بالفصل في المسائل الآتية:ثاني عشر: الدعاوى التأديبية المنصوص عليها في هذا القانون”.
وعند التمعن في المجموعات الثلاث السابقة،نجد أن موقف جهة الإدارة في الدعوى يختلف من حيث كونها مدعية أو مدعَّى عليها من مجموعة إلى أخرى .
ففي مجموعة منازعات الإلغاء فإن جهة الإدارة دائما مدعًّى عليها ولا تكون مدعية لكون الهدف من إقامة الدعوى إلغاء قرار إداري، وهذا لا يكون إلا إذا صدر قرار إداري من الجهة الإدارية وطُلِبَ إلغاؤه.
أما المجموعة الثانية فإن الجهة الإدارية في الغالب أنها مدعَّى عليها إلا أنه قد تكون مدعية إذا كانت متعاقدة مع جهة إدارية أو إذا أصابها أضرار من جهة إدارية.

أما المجموعة الثالثة فإن جهة الإدارة دائما مدعية؛لأنها تطالب بإيقاع جزاء على مخالفة موظفيها من القضاء الإداري.

المبحث الثالث
الجهة المختصة بنظر المنازعات الإدارية في القانون

إن الغرض من تحديد المنازعة الإدارية في النظم المعاصرة هو تحديد القانون الواجب التطبيق على المنازعة وتحديد القضاء المختص الذي ينظر فيها.
وهذا لا يكون إلا في حالة ازدواج النظام القضائي في الدولة الواحدة،أما في حالة الدول التي تأخذ بنظام قضائي واحد فإن تحديد طبيعة المنازعة الإدارية لا يثير كبير أهمية حيث إن جميع المنازعات تنظرها جهة قضائية واحدة وتطبق عليها قانوناً واحداً.
مفهوم نظام القضاء الواحد والمزدوج([19]):

أولاً:نظام القضاء المزدوج

تسمى الدول التي تأخذ بإفراد المنازعات الإدارية بقضاء خاص دول(القضاء المزدوج) بحيث إن المحاكم التي تنظر المنازعات الإدارية تكون مستقلة عن المحاكم العامة.
وهذا النظام يقوم على اعتبار اختلاف طبيعة النشاط الإداري عن طبيعة النشاط الخاص، فضًلا على اختلاف المصالح في كلتا الحالتين،الأمر الذي يتطلب–مراعاة للمصلحة العامة التي تمثلها الإدارة– إنشاء قضاء متخصص ومستقل للفصل في المنازعات الإدارية وَفْقًا لقواعد القانون الإداري التي أصبحت مستقلة ومتميزة عن قواعد القانون الخاص.

ثانياً:نظام القضاء الموحد

من الدول من لا تأخذ بالقضاء الإداري وتُخْضِعُ جميع المنازعات لجهة قضائية واحدة.
يقوم هذا النظام على قصر الفصل في المنازعات على جهة قضائية واحدة،هي القضاء العام،سواء كانت المنازعات بين الأفراد،أو بين الأفراد والإدارة، على أن يطبق القضاء أيضًا نظامًا موحدًا على كافة المنازعات التي ينظرها،بما في ذلك المنازعات الإدارية”والدول التي احتفظت بفكرة القضاء الموحد أساسا فإنها قد اضطرت إلى إنشاء أنواع عديدة من اللجان والمحاكم الإدارية التي تختص بالفصل بنوع بعينه من المنازعات الإدارية”([20]).

المبحث الرابع
تعريف التحكيم في المنازعات الإدارية في القانون

في هذا المبحث سوف،أُعَرَّف إن شاء الله،التحكيم في المنازعات الإدارية بشكل عام.
عُرَّفَ التحكيم في المنازعات الإدارية لدى فقهاء القانون بعدة تعاريف.
فقد عَرَّفَه الفقه القانوني الفرنسي بأنه:نظام استثنائي للتقاضي بموجبه يجوز للدولة وسائر أشخاص القانون العام الأخرى إخراج بعض المنازعات الإدارية الناشئة عن علاقة قانونية عقدية أو غير عقدية وطنية أو أجنبية من ولاية قضاء مجلس الدولة لكي تحل بطريق التحكيم بناء علىنص قانوني يجيزذلك،وخروجا من مبدأ الحظر العام الوارد على أهلية الدولة وسائر أشخاص القانون الأخرى في اللجوء إلى التحكيم([21]).
أما الفقه المصري فقد عَرَّفَ التحكيم في المنازعات الإدارية بأنه:وسيلة قانونية تلجأ إليها الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة،وبمقتضاها يُستغنى بها عن القضاء الإداري لتسوية كل أو بعض المنازعات الحالية أو المستقبلة الناشئة عن علاقات ذات طابع إداري عقدية أو غير عقدية فيما بينها أو بين أحداها أو أحد
أشخاص القانون الخاص الوطنية أو الأجنبية، سواء كـان اللجـوء اختيـاريًّا
أو إجباريًّا، وَفْقًا لقواعد القانون الآمرة([22]).
أما النصوص القانونية فإنها لم تتعرض لتعريف محدد للتحكيم في المنازعات الإدارية.
فالقانون المصري مثلا لم يورد أي تعريف للتحكيم في المنازعات الإدارية كما فعل في التحكيم التجاري والتحكيم الدولي في المادة 1و2من الباب الأول من القانون رقم 27 لسنة 1994م بشأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية.
وكذلك القانون الفرنسي فإنه لم يضع تعريفًا للتحكيم في المنازعات الإدارية كما فعل في التحكيم الدولي في المادة 1492من الباب الخامس من قانون المرافعات المدنية الصادر بالمرسوم رقم 81-500 في 1981م.
بدراسة ما ذكره فقهاء القانون حول تعريف التحكيم في المنازعات الإدارية نستخلص مايلي:
أولاً:طبيعة التحكيم في المنازعات الإدارية تتعلق بمنازعات الإدارة أو الأشخاص المعنوية العامة، فيما بينها أو مع غيرها.
ثانياً:التحكيم يشمل أعمال الإدارة سوا العقدية أو غير عقدية،وسواء كانت هذه المنازعة في المجال الداخلي ،أو الدولي.
ثالثاً:التحكيم في المنازعات الإدارية يُخرج النظر في موضوع المنازعة من اختصاص القضاء بشكل عام والقضاء الإداري بشكل خاص،سواء كان هـذا
التحكيم أثناء نظر المنازعة الناشئة أو قبلها وسواء كان هذا التحكيم اختياريًّا أو إجباريًّا.

رابعاً:التحكيم في المنازعات الإدارية عن اللجوء إليه قد يكون اختياريًّا أو إجباريًّا.
خامساً:أن إرادة الإطراف عند اللجوء إلى التحكيم في المنازعات الإدارية ليست مطلقة بل لابد أن يكون هناك نص القانون على جواز اللجوء للتحكيم. سادساً:أن الأصل في النظر والفصل في المنازعات الإدارية،للقضاء الإداري واللجوء إلى التحكيم استثناء من هذا الأصل.

الفصل الأول
حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية في القانون

في هذا الفصل سيكون البحث،إن شاء الله،عن حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية في القانون.
فقد صار خلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية في القانون إلى رأيين؛رأي يرى أن اللجوء إلى التحكيم أمر محظور،والرأي الآخر يرى أنه أمر جائز لا محظور فيه.
وأود قبل أن أدخل في دراسة الخلاف،أن أحدد أسباب هذا الخلاف،وأعرض المسائل التي تخرج عن هذا الخلاف.
وسيكون الحديث عن أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،وعن المسائل التي تخرج عن الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،ثم بعد ذلك أعرض الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم وسأعقد مقارنة بين الاتجاهين ثم أرجح بينهما،إن شاء الله،ثم أبين الرأي الذي توصلت إليه في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية والتعريف المختار له.

الفصل الأول
التحكيم في العقود الإدارية في القانون

المبحث الأول:أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية والمسائل التي تخرج عنه.
المبحث الثاني:عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المبحث الثالث:جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المبحث الرابع: المقارنة بين الاتجاهات الفقهية المختلفة حول اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المبحث الخامس:الرأي في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية وتعريف التحكيم في العقود الإدارية في القانون.

المبحث الأول
أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية والمسائل التي تخرج عنه

في هذا المبحث سيكون الحديث،إن شاء الله،عن الأسباب الداعية إلى وجود الخلاف والجدل في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،وذلك في المطلب الأول،ثم أتحدث عن المسائل التي تخرج عن هذا الخلاف في المطلب الثاني.
المبحث الأول
أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية والمسائل التي تخرج عنه

المطلب الأول:أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المطلب الثاني:المسائل التي تخرج عن الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.

المطلب الأول
أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية

إن اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات كافة،عدا منازعات العقود الإدارية،أمر لا جدال فيه،فلم يثر خلاف حول إمكانية اللجوء إلى التحكيم التجاري أو التحكيم العمالي أو التحكيم الأسري.
إلا أن اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،قد ثار الجدل حوله في مدى إمكانية اللجوء إليه.
وتعود أسباب ذلك إلى الأمور التالية:

أولاً: طبيعة العقود الإدارية
تميز العقود الإدارية بطبيعة خاصة ومغايرة لكافة العقود الأخرى،كالعقود التجارية،أو العقود العمالية وغيرهما،والقضاء الإداري عندما ينظر في منازعات العقود الإدارية ينظرها بشيء من التمايز والتغاير الذي يتلاءم مع طبيعة العقد الإداري والذي لا يطبقه التحكيم في الغالب لدى نظره منازعات العقود والتي منها العقود الإدارية.

ثانياً:ارتباط العقود الإدارية بسيادة الدولة
من العقود الإدارية ما يرتبط بسيادة الدولة بصورة مباشرة ويتعلق بثروات طبيعية للدولة،كما في عقود الالتزام،والتي كثيراً ما تمتد إلى سنين طويلة،فمنازعاتها يجب أن تكون خاضعة للقضاء،لأن في خضوعها للتحكيم قد يكون فيه نوع من خرق لسيادة الدولة.

ثالثاً:تقييد حرية الإرادة في العقود الإدارية
إن التحكيم يؤسس على أساس حرية الأطراف في اللجوء إليه تطبيقاً لمبدأ سلطان الإرادة إلا أن هذا الأمر لا يوجد عند اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،لأن التعبير عن إرادة الإدارة عند إبرامه تحكمه قواعد أخرى يحددها القانون،وما استقر عليه الأمر من ضرورة استخدام الإدارة وسائل القانون العام،أو تضمين العقد شروطا غير مألوفة في القانون الخاص؛عند إبرامه،حيث إن الموظف المختص بإبرام العقد الإداري لا يتصرف في مال مملوك له،ومن ثم فإن اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية ليس بالأمر السهل كما هو الحال بالنسبة للعقود الأخرى([23]).

رابعاً:تطبيق قانون أجنبي وأمام هيئة أجنبية على العقد الإداري
هناك سبب آخر يضاف إلى الأسباب الأخرى هو أن التحكيم في العقود الإدارية،ربما يكون أمام هيئة تحكيم أجنبية،وقد يؤدي ذلك إلى تطبيق قانون أجنبي على المنازعة بخلاف القضاء الإداري الوطني الذي ينظر في دعوى العقد الإداري؛حيث يطبق القانون الوطني على المنازعة.

خامساً:مدى إطلاق وتقييد حرية الجهة الإدارية في اللجوء إلى التحكيم
كما أن من أسباب الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،يرجع إلى مدى تقييد أو أطلاق سلطة الإدارة عند لجوئها إلى التحكيم في العقود الإدارية فإذا لم يوجد نص قانوني يجيز أو يمنع التحكيم فإن سلطة الإدارة تكون دائرة بين الحظر إذا كانت مقيدة ودائرة السماح إذا كانت مطلقة.

لهذه الأسباب اختلفت الآراء حول مدى اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية إلى اتجاهين،الاتجاه الأول يرى عدم جواز التحكيم في العقود الإدارية،والاتجاه الثاني يرى جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.

المطلب الثاني
المسائل التي تخرج عن الخلاف في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية

حتى يمكن تحديد نقاط الخلاف الحاصل في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية سوف أحدد في هذا المطلب،إن شاء الله، المسائل التي تخرج عن هذا الخلاف،وهي المسائل التالية([24]):
أولاً:الوسائل الأخرى لفض منازعات العقود الإدارية مثل التسوية والصلح والوساطة والتفاوض.
ثانياً:التحكيم في عقود الإدارة الخاصة،سواء كانت ذات طبيعة مدنية أو تجارية.
ثالثاً: لا يشمل الخلاف أيضا في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية
التحكيم الإجباري،وإنما يقتصر على التحكيم الاختياري([25]).
فعندما يرد نص يفرض على الإدارة اللجوء إلى التحكيم،فيتعين على الإدارة في هذه الحالة اللجوء إلى التحكيم وإلا كان تصرفها مخالفا للقانون وغير مشروع ويمكن مهاجمته بالطعون المحددة في القانون.
إذن فإن الخلاف في مدى جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية ينحسر في التحكيم الاختياري فقط.

لكون الأصل في التحكيم أن يكون اختيارياً في كل أنواع المنازعات،والتي منها منازعات العقود الإدارية إذا ما رخص المنظم ذلك.
فإذا كان هناك نص آذن بالتحكيم في العقد الإداري فإن للجهة الإدارية والمتعاقد معها الخيار بين الالتجاء إلى القضاء أو الاتفاق على طرح النزاع أمام التحكيم ويكون الالتجاء إلى أحد الطريقين مسقطاً للآخر([26]).
رابعاً:من المسائل التي تخرج عن بحث مدى جواز التحكيم في العقود الإدارية،في حالة وجود نص قانوني يبين حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،سواء
كان هذا الحكم بالجواز أو الحظر،حيث إن النص القانوني يرفع الخلاف في هذه المسألة ويحسم الموضوع سواء كان بالجواز أو المنع.
كما أنه عند النص على حكم معين في القانون فإن الواجب على السلطة القضائية عند تطبيقها على منازعة ما أن تتقيد بالنص القانوني،وكذلك الحال على الجهة الإدارية عند تنفيذها له،خاصة إذا لم يكن هناك مجال للاجتهاد فلا اجتهاد مع النص،فإذا نص القانون على حظر أو جواز التحكيم في العقود الإدارية فإن الفقه والقضاء ليس له مجال في البحث عن مدى جوازه أو عدمه.
لذا أرى أن مجال بحث هذه المسألة يكون أمام فروض ثلاثة:
الأول:في حالة عدم وجود نص قانوني يبين حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
الثاني:في حالة إعداد مشاريع التحكيم المرتبطة بالتحكيم في العقود الإدارية.
الثالث:عند إعداد الدراسات والبحوث حول قوانين التحكيم المتعلقة بالتحكيم في العقود الإدارية

المبحث الثاني
عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية

بعد أن ذكرت أن هناك خلافاً في حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية بالمنع والجواز،وبعد حصر أسباب هذا الخلاف،والمسائل التي تخرج عنه.
سيكون الحديث في هذا المبحث،إن شاء الله،مقتصراً على الرأي الذي يرى أنه لا يجوز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
وذلك ببيان موقف المنظم من عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،وموقف القضاء،وموقف الفقه،ثم أبين الحجج والأسانيد التي استند إليها أصحاب هذا الرأي.

المبحث الثاني
عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية
المطلب الأول: موقف المنظم من عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المطلب الثاني:موقف القضاء من عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المطلب الثالث:موقف الفقه من عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
المطلب الرابع:الحجج والأسانيد على عدم جواز الالتجاء للتحكيم في العقود الإدارية.

المطلب الأول
موقف المنظم من عدم جواز الالتجاء للتحكيم في العقود الإدارية

إن الأصل في التحكيم في العقود الإدارية في القانون الفرنسي الحظر([27]) إلا إذا نص القانون على إجازته.
فَوَفْقًا لنص المادة 2060 من تقنين المرافعات المدنية الفرنسي المعدلة بقانون رقم 626 في 5 يوليو 1972م والمعدل بالقانون الصادر في 9/7/1975م فإن التحكيم في المنازعات المتعلقة بالوحدات والمؤسسات العامة،والتي منها عقودها الإدارية هو الحظر.
وهذا الأصل بالحظر يسري ويشمل كافة المنازعات التي تكون الأشخاص العامة طرفا فيها حتى ولو تعلق الأمر بعقد من عقود الإدارة([28]).
إلا إن هذا المنع ليس على إطلاقه بل له استثناءات([29])في بعض العقود الإدارية،ومنها عقود بعض المؤسسات الصناعية والتجارية كما في قانون 9لعام 1975م،وكذلك العقود الإدارية المبرمة مع شركات أجنبية.

فقد نصت المادة 19 لعام 1986م على أنه:”يجوز للدولة والوحدات المحلية والمؤسسات العامة في العقود التي تبرمها مع شركات أجنبية لإنجاز عمليات تتصل
بالمصلحة العامة إن تضمن عقودها شروط تحكيم لتسوية المنازعات المتصلة بتطبيق وتفسير هذه العقود”.
وكذلك العقود المتعلقة بالنقل الداخلي من قبل الشركة الوطنية لسكك الحديد، والذي ينص في مادته الخامسة والعشرين على أن المؤسسة العامة:”تملك أهلية المصالحة وإبرام اتفاقيات تحكيم…”وكذلك قانون 1990م الخاص بتنظيم مصلحة البريد.
أما في مصر([30])فقبل صدور قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994م وتعديله بالقانون رقم 9 لسنة 1997م المنشور بالجريدة الرسمية العدد 20 في 15/5/1997م،والذي حسم مسألة لجوء الجهات الإدارية إلى التحكيم في العقود الإدارية،فإن النصوص القانونية المتعلقة بالقانون الإداري لم تتعرض لموضوع التحكيم في العقود الإدارية منعاً أو حظراً.
كما أن نصوص القانون المدني لم تبين حكم اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية باعتباره الشريعة العامة لفروع القانون الأخرى.
ففي قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم 13 لسنة 1968م الذي نظم موضوع التحكيم، وكذلك في قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994م، والذي ألغى المواد من 501 وحتى 513 الخاصة بالتحكيم في قانون المرافعات المدنية والتجارية،لم

توضح موقف القانون المصري في موضوع التحكيم في العقود الإدارية.فالقانون المصري قد خلا قبل قانون 1997م من أي نصوص صريحة في مجال المنازعات الإدارية([31]).
لذا صار الاختلاف في أحكام القضاء المصري العام والقضاء الإداري في مسألة اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
أما في لبنان([32]) فإن الأصل هو حظر اللجوء إلى التحكيم في لعقود الإدارية،إلا إن هناك استثناءات من هذا الحظر،كما هو الشأن في القانون الفرنسي،فالقانون اللبناني يجيز اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية التي تبرمها المؤسسات العامة الصناعية والتجارية.
أما القانون التونسي والجزائري([33])فقد حظرا اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية.
وكذلك الحال في المغرب حيث نص الفصل 306 من قانون المسطرة الصادر بتاريخ 18/9/1994م على:”غير أنه لا يمكن الاتفاق عليه………
في المسائل التي تمس النظام العام،وخاصة النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام”.
أما في بلجيكا،فقد منع القانون البلجيكي لجوء الجهات الإدارية إلى التحكيم في

العقود الإدارية،فالمادة 1676من القانون القضائي البلجيكي الصادر 1972م نصت على:”منع الدولة وسائر الأشخاص المعنوية العموميين اللجوء إلى التحكيم ما لم يكن يوجد نص قانوني خاص يسمح بذلك أو معاهدة دولية تجيز ذلك”.
وقد أخذ برأي عدم صحة اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية بعض دول أمريكا اللاتينية و أوروبا الشرقية كالأرجنتين ويوغوسلافيا وبلغاريا([34]).

المطلب الثاني
موقف القضاء عدم جواز الالتجاء للتحكيم في العقود الإدارية

لقد استقر القضاء الفرنسي على اعتبار شرط التحكيم في العقود الداخلية باطلا بطلانا مطلقا لتعلقه بالنظام العام ويمتد البطلان كذلك إلى مشارطة التحكيم([35]).
وقد فرقت أحكام القضاء الفرنسي بين التحكيم في العقود الإدارية الداخلية و العقود الدولية فحظرت اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية الداخلية([36]).
أما القضاء الإداري الفرنسي فإنه اعتنق الرأي القائل بحظر اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية.
ويعتبر القضاء الإداري الفرنسي رائد الاتجاه المعارض في اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية،وهذا الحظر مقرر من قبل مجلس الدولة منذ وقت طويل([37]).
وقد بين حكم صادر من مجلس الدولة الفرنسي سبب الحظر حيث ذكر أن الوزراء لا يستطيعون اللجوء إلى التحكيم لحل المسائل المتنازع عليها،لأن هذا العمل محظور عليهم بمقتضى نصوص المادتين 1004و83 من قانون الإجراءات

المدنية،كما ذكر مجلس الدولة سببا آخر وهو نقص أهلية الجهة الإدارية إلى إبرام اتفاق التحكيم([38]).
كما حكم مجلس الدولة الفرنسي ببطلان شرط التحكيم في عقد أشغال عامة أُبْرِمَ بين شركة خاصة صاحبة امتياز في مجال الطرق السريعة ومجموعة مشروعات([39]).
أما في مصر فقد عرض على القضاء المصري مسألة التحكيم في العقود الإدارية لدى محكمة القضاء الإداري في القضية رقم 486لسنة 38 ق([40])-قبل صدور قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994م وتعديله بالقانون رقم 9 لسنة1997م الذي حسم مسألة لجوء الجهات الإدارية إلى التحكيم في العقود الإدارية-فقررت المحكمة في حكمها الصادر بتاريخ 18/5/1986م جواز لجوء الجهات الإدارية للتحكيم لفض منازعاتها المتعلقة بالعقود الإدارية.
وكانت دعوى أقيمت بخصوص عقد مبرم بين وزارة الإسكان والتعمير والشركة المصرية للمساهمة للتعمير والإنشاءات السياحية بشأن عقد امتياز هَضْبة المقطم ونص العقد في البند الخامس منه على:”إن أي خلاف بين الطرفين على تفسير العقد أو تنفيذ العقد …..يفصل فيه عن طريق التحكيم…”،وعندما طلبت الشركة إحالة النزاع إلى التحكيم امتنعت وزارة الإسكان.

وقد أقامت الشركة دعوى أمام محكمة القضاء الإداري تطلب وقف القرار السلبي بالامتناع عن إحالة النزاع إلى التحكيم فأجابت محكمة القضاء الإداري طلب الشركة بتاريخ 18/5/1986م،إلا أن إدارة قضايا الدولة طعنت في الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا التي قررت في حكمها الصادر في جلسة 20/2/1990م عدم جواز التجاء الجهات الإدارية في العقود الإدارية إلى التحكيم،وسبَّبت المنع أن الاتفاق على التحكيم لا يجوز أن يسلب اختصاص محاكم مجلس الدولة المقرر بالمادة العاشرة من القانون رقم 47لسنة 1972م،وان اتفاق التحكيم يجب ألاَّ يهدم خصائص العقد الإداري ولا يزيل اختصاص مجلس الدولة بنظر المنازعات المتعلقة بذلك العقد([41]).
وعندما عرض أيضا موضوع التحكيم في العقود الإدارية في قضية أخرى أمام محكمة القضاء الإداري في القضية رقم 5439لسنة 43ق([42])بخصوص نفق أحمد حمدي،التزمت محكمة القضاء الإداري بالمبدأ الصادر من المحكمة الإدارية العليا،وقضت بعدم جواز التحكيم في منازعات العقود الإدارية تأسيسا على أنه يسلب اختصاص محاكم مجلس الدولة المقررة بالمادة العاشرة من القانون رقم 47 لسنة 1972م.
وقد أفتت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصري في 18/12/1996م بعدم جواز التحكيم في العقود الإدارية بناء على أنه يشترط لجواز صحة اتفاق التحكيم أن يكون عاقده أهلا للتصرف بعوض في الحقوق التي

يشملها اتفاق التحكيم وألا يكون التحكيم في مسائل متعلقة بالحالة الشخصية ولا بالنظام العام.
ولأن الولاية سواء كانت خاصة أو عامة فالأصل فيها هو المنع وعدم النفاذ إلا بعمل تشريعي.
وان لجوء أية جهة عامة للقضاء ذي الولاية العامة في نزاع يتعلق بعقد إداري هو الاستعمال الطبيعي لحق التقاضي وأن لجوءها إلى التحكيم يفيد الاستعاضة عن القضاء بهيئة ذات ولاية خاصة وهو تحكيم لجمعية خاصة في شأن من صميم العمل العام الذي تقوم عليه الدولة وما يتفرع عنها من أشخاص القانون العام،وهو تحكيم من جهة خاصة في شأن يتعلق بتسيير المرافق العامة وتنظيمها وإدارتها،وكل ذلك لا تملكه هيئة عامة إلا بإجازة صريحة وتخويل صريح يرد من عمل تشريعي.
كما أن طبيعة العقد الإداري جعلت المشرع لا يعهد للقضاء المدني نظر منازعات العقود الإدارية،وبالتالي فإنها تكون من باب أولى أن تكون في منأى عن طبيعة التحكيم وهيئاته،ويكون شرط التحكيم متنافيا مع إدارية العقد،وانتهت الجمعية إلى عدم جواز التحكيم في العقود الإدارية([43]).
وفي لبنان قضى مجلس شورى الدولة اللبناني بعدم صحة التحكيم في قضايا الإدارات العامة؛لأن التحكيم يفترض بحد ذاته تنازلا مسبقا من الإدارة عن بعض حقوقها،أو التسليم مقدما للخصم بحقوق قد لا يكون لها نصيب من الصحة،وهذا يحظره القانون على الدوائر العامة.

ويتفق قاضي القضايا الإدارية في لبنان مع الآراء التي تصدرها هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل اللبنانية على عدم صحة اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية([44]).
وفي تونس فإن القضاء انتهى كذلك إلى حظر التحكيم في العقود الإدارية([45]).