بحث حول حكم الإجهاض فى القانون و الشريعة الإسلامية

دبيان محمد الدبيان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.

تعريف الإسقاط لغة وشرعاً:

جاء في المصباح المنير: “السِّقط: الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق.
وفي تاج العروس: “الولد يسقط من بطن أمه لغير تمام” اهـ. ولم يشترط كونه مستبين الخلق.
وجاء في المصباح المنير، يقال: سقط الولد من بطن أمه سقوطاً، فهو سقط بالكسر. والتثليث لغة. ولا يقال: وقع.
وأسقطت الحامل: ألقت سقطاً.
وفي تاج العروس: السقط مثلثة، والكسر أكثر. وجاء في تاج العروس أيضاً: “أسقطت الناقة وغيرها ولدها: إذا ألقت ولدها، والذي في أمالي القالي: أنه خاص في بني آدم. اهـ
وفي معنى الإسقاط: الإجهاض. جاء في المصباح المنير: أجهضت المرأة ولدها إجهاضاً: أسقطته ناقص الخلق. اهـ(1).

تعريف الإسقاط في اصطلاح الفقهاء:

تبين لنا من تعريف الإسقاط لغة أنه يطلق على إلقاء الحمل ناقصاً سواء كان النقص في المدة، أو كان النقص في الخلق. وتعريف الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى.
عرف ابن عابدين الإجهاض في رسائله: “هو إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل”(2).
وللفقهاء ألفاظ مرادفة لمعنى الإسقاط والإجهاض، وهي تؤدي نفس المعنى منها: الإلقاء، الإملاص، الإنزال، الإخراج، الطرح.

أسباب السقط:

الإسقاط تارة يكون تلقائياً، ويكون سببه والله أعلم إما تشوهات في الجنين، أو يكون رحم المرأة يعاني من أمراض معينة، أو يعاني من اتساع في عنق الرحم، أو غيرها من الأسباب التي يعرفها أهل الاختصاص(3).
وتارة تكون أسبابه اجتماعية، كأن يقصد من الإسقاط التستر على الفاحشة (الزنا) أو الرغبة في تحديد النسل.
وتارة تكون أسبابه صحية، كأن يكون الحامل على الإجهاض المحافظة على صحة الأم، أو إراحة الجنين بحيث لو ترك ينمو ولد مشوهاً تشويهاً غير محتمل.
وسوف نتناول حكم الإجهاض إذا كان اختيارياً، ومتى تكون المرأة المسقطة نفساء، ومتى لا تكون. أما الإجهاض التلقائي فلا يلحق به تكليف؛ لأنه خارج عن إرادة المرأة.

الحكم التكليفي للإسقاط:

هناك من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبل ذلك، لذلك سنعرض حكم كل حالة من الحالات على انفراد.

إسقاط الجنين بعد نفخ الروح:

ذهب الحنفية(4)، والمالكية(5)، والشافعية(6)، والحنابلة(7) إلى تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح.
الأدلة على تحريم الإسقاط بعد نفخ الروح:
الدليل الأول:
الإجماع. فقد حكى الإجماع غير واحد.
جاء في الشرح الكبير: “لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً”(8).
وقال ابن جزي: “وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح؛ فإنه قتل نفس إجماعاً”(9).
ونقله صاحب أسهل المدارك، وأقره(10).
وقال ابن تيمية: “إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8، 9).
وقد قال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (الإسراء: من الآية31)(11).
الدليل الثاني:
وجوب الدية في قتله دليل على تحريم إسقاطه؛ إذ لو كان جائزاً لما وجبت به عقوبة.
فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها(12).
وقد ذهب ابن حزم إلى وجوب القود، فيمن تعمد قتل الجنين بعد نفخ الروح، فقال رحمه الله: “فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها، وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها، فقتله، فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك، ولا بد، ولا غرة في ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط؛ لأنها دية، ولا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد، وإنما وجب القود؛ لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله مخيرين: إما القود، وإما الدية، أو المفادات كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمناً. وبالله تعالى التوفيق”(13).

وشرط الفقهاء في وجوب القود أن ينفصل حياً، ثم يموت.
قال الحافظ: “وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حياً، ثم مات، وجب فيه القود أو الدية كاملة”(14).
وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، والذي يهمنا وجود العقوبة على من أسقط الجنين، وهو ظاهر في تحريم الإسقاط. والله أعلم.
بقي سؤال: متى نحكم بأن الجنين قد نفخت فيه الروح؟
ذهب الفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر.
الدليل على أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر:
الدليل الأول:
الإجماع، فقد نقل الإجماع غير واحد على أن مرحلة نفخ الروح بعد تمام الحمل أربعة أشهر:
قال القرطبي: “لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس”(15).
وقال النووي: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر”(16).
وقال ابن حجر: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر”(17).
الدليل الثاني:
روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبدالله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة”(18).
فقوله صلى الله عليه وسلم: “ثم ينفخ فيه الروح” جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً.

حكم الإسقاط قبل نفخ الروح:

اختلف في هذه المسألة على أقوال:
فقيل يحرم الإسقاط مطلقاً، ولو كان نطفة.
ذهب إلى هذا بعض الحنفية(19)، وهو المعتمد عند المالكية(20)، وقول الغزالي(21)، وابن العماد من الشافعية(22)، واختيار ابن الجوزي من الحنابلة(23).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط الجنين مطلقاً، ما لم يتخلق، والمراد بالتخلق عندهم نفخ الروح. وهو الراجح عند الحنفية(24).
فهذان قولان متقابلان: التحريم مطلقاً، والإباحة مطلقاً ما لم ينفخ فيه الروح.
وبقي في المسألة أقوال: منها:
وقيل: يباح الإسقاط ما دام نطفة مطلقاً لعذر أو لغير عذر، أما العلقة والمضغة فلا يجوز إسقاطها.
انفرد به اللخمي من المالكية(25)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة(26).
وقيل: يباح إلقاء النطفة إذا كان لعذر، أما من غير عذر فلا يجوز، اختاره بعض الحنفية(27).
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة. حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية(28).
وقيل: يكره إلقاء النطفة.
اختاره علي بن موسى من الحنفية(29)، وهو رأي عند بعض المالكية فيما قبل الأربعين يوماً(30).

أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة:

قالوا: النطفة بعد الاستقراء آيلة إلى التخلق، مهيأة لنفخ الروح فلا يجوز إسقاطها، وهي أول مراحل الوجود؛ إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعاً، فإذا امتزج ماء الرجل بماء المرأة، واستقر في الرحم فإن النطفة حينئذٍ تكون مهيأة للتخلق ووجود الولد.
الدليل الثاني:
حرم الله تعالى قتلا لصيد حال الإحرام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ… الآية) (المائدة: من الآية95).
وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إلقاء النطفة؛ لأنها أصل الإنسان.
والحديث الذي فيه تحريم أكل بيض الصيد قد رواه أحمد، قال: حدثني أبي ثنا هاشم بن سليمان يعني بن المغيرة عن علي بن زيد ثنا عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي قال: كان أبي الحرث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان، فأقبل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة، فقال عبد الله بن الحارث، فاستقبلت عثمان بالنزل بقديد، فاصطاد أهل الماء جحلاً، فطبخناه بماء وملح، فجعلناه عراقاً للثريد، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم أصطده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس؟ فقال عثمان: من يقول في هذا؟ فقالوا: علي. فبعث إلى علي رضي الله تعالى عنه، فجاء. قال عبد الله بن الحارث: فكأني أنظر إلى علي حين جاء، وهو يحت الخبط عن كفيه، فقال له عثمان: صيداً لم نصطده، ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل، فأطعموناه فما بأس؟ قال: فغضب علي، وقال: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم فأطعموا أهل الحل. قال: فشهد اثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال علي: أشهد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل، قال: فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر. قال: فثنى عثمان وركه عن الطعام، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء.

[الحديث إسناده ضعيف، والحديث بقصة حمار الوحش صحيح لغيره، وزيادة بيض النعام زيادة منكرة](31).
الدليل الثالث:
أول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية.
ووجهه قال: ماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، فمن أوجب، ثم رجع قبل القبول – يعني العزل – لم يكن جانياً على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول – يعني ماء الرجل والمرأة – كان الرجوع بعد رفعاً، وفسخاً وقطعاً، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي(32).

دليل من أباح إسقاط النطفة:

الدليل الأول:
القياس على جواز العزل، فإذا كان العزل جائزاً، وهو إلقاء الماء خارج الفرج، فكذلك إنزال المني بعد وجوده في الرحمن إذ لا فرق، فإخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد؛ لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا حرمة في إخراجها(33).

الدليل الثاني:
المني حال نزوله جماد محض، لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادي التخلق. وبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة(34).
فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(35).

فهذا الحديث نص أن المني قبل الأربعين لا يكون قد تهيأ للحياة، وإنما هو نطفة، هو والعزل سواء، بخلاف بعد الأربعين فقد بدأ بالتخلق، وهو مرحلة كونه علقة. والله أعلم.
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق.
قالوا: إذا لم يتخلق بظهور الأعضاء الدالة على كونه آدمياً، فلا يثبت له حكم الآدمي من وجوب صيانته وحرمة الاعتداء عليه، وعليه فلا إثم في إسقاطه(36).
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح:
قال ابن عقيل: ما لم تحله الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12) إلى قوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية14).. قال ابن مفلح: وهذا منه فقه عظيم، وتدقيق حسن، حيث سمع (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8، 9). وهذا لما حلته الروح؛ لأن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه. وله وجه. اهـ(37).

الراجح جواز إلقاء النطفة بشروط:

أولاً: ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، لا حالاً، ولا مآلاً.
ثانياً: أن يكون ذلك برضى الزوج؛ لأن له حقاً في طلب الولد.
ثالثاً: أن يكون في ذلك تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة. وإن قَلَّت؛ لأن إلقاء النطفة إذا كان خلواً من المصلحة كان منافياً لمقصود الشارع من تكثير النسل.
رابعاً: ألا يكون الحامل على ذلك سوء ظن بالله، وذلك خوفاً من العالة والفقر.

حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح:

إذا قرر طبيبان أو أكثر أن في بقاء الجنين خطراً على حياة أمه، ولا سبيل إلى إنقاذهما معاً، فإما الجنين وموت أمه، وإما إنقاذ أمه بهلاكه، فما هو العمل حينئذٍ؟
فقيل: لا يجوز، ولو كان في ذلك خطر على حياة الأم(38).
وقيل: يجوز ذلك بشرط أن يقرر جمع من الأطباء الثقات المتخصصين أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطر مؤكد على حياة الأم(39).
أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين.
عللوا ذلك: بأنه لا يجوز إحياء نفس بقتل أخرى، حيث لم يرد في الشرع(40).
ولأننا إذا أسقطناه فقد تعمدنا قتل نفس مؤمنة، وإذا تركناه وماتت الأم لم يكن هذا من فعلنا، بل هو من تقدير الله سبحانه وتعالى.
وقد يقدر الأطباء شيئاً، ويجزموا به، ولا يقع، وإذا كان كذلك، فلا يجوز دفع مفسدة متوقعة بارتكاب مفسدة محققة. وقد نسقط الجنين ولا تسلم الأم، فقد تعطب في نفاسها.
قال ابن عابدين في حاشيته: لو كان الجنين حياً ويخشى على حياة الأم من بقائه؛ فإنه لا يجوز تقطيعه؛ لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل الآدمي لأمر موهوم(41).

دليل القائلين بجواز إسقاط الجنين إنقاذاً لأمه:

إن هذه المسألة قد تعارض فيها واجب ومحرم، كل واحد منهما على درجة واحدة من الأهمية، بحيث لو أننا قمنا بالواجب، وقعنا في المحرم، ولو اتقينا المحرم أهدرنا الواجب، ولا سبيل للقيام بالواجب، وفي نفس الوقت اتقاء المحرم.
وإنما رخصنا الإقدام على إسقاط الجنين دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً لعظمى المصلحتين.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره تعليقاً على آية قتل الخضر للغلام من أجل سلامة والديه:
“ومنها القاعدة الكبيرة الجليلة، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير، ويراعى أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه”(42).
ويقول ابن القيم: “إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة، فإنه لا يجوز رميهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين، وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من مصلحة حفظ الأسرى، فحينئذٍ يكون رمي الأسرى، ويكون من باب دفع المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمر، وكانت مصلحة الأسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم. فهذا الباب مبني على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فرض الشك، وتساوى الأمران لم يجز رمي الأسرى”(43).
ويقول العز بن عبد السلام: “وإذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير، للتنازع بين المتساوين، ولذلك أمثلة:
أحدهما: إذا رأينا صائلاً يصول على نفسين من المسلمين متساويين، وعجز عن دفعه عنهما، فإنا نتخير.
والمثال الثاني: لو رأينا من يصول على بضعين متساويين، وعجزنا عن الدفع عنهما، فإنا نتخير(44).
فإذا كان لنا شرعاً أن نرتكب أدنى المفسدتين دفعاً لأعظمهما، ونحصل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن إنقاذ الأم أعظم مصلحة من إنقاذ الجنين للأسباب التالية:
الأول: الأم هي أصل الجنين، متكون منها، فإنقاذها أولى.
ثانياً: أن الأم غالباً ما يكون لها أطفال، ومن الممكن أن يتعرضوا لمتاعب كثيرة بعد وفاة أمهم، والأسرة كثيراً ما تتمزق إذا فقدت أحد أعضائها البارزين، فكم من طفل تشرد، وساءت تربيته بسبب فقدانه لأمه، وأهمية الأم في الأسرة عظيمة؛ إذ إنها أصل المجتمع، بخلاف الجنين فلا تعلق به لأحد.
ثالثاً: حياة الأم قطعية، وحياة الجنين محتملة، والظني أو الاحتمالي لا يعارض القطعي المعلوم، فإنقاذ الأم أولى.
رابعاً: الأم أقل خطراً، وتعرضاً للهلاك من الجنين في مثل هذه الظروف، مما يجعل إنقاذها أكثر نجاحاً من إنقاذ جنينها، لذا تعطى الأولوية في الإنقاذ ففي إحصائية لمستشفى الولادة والأطفال بالرياض في عام 1400هـ، بلغ عدد الوفيات للنساء سبع وفيات، بينما بلغت وفيات الأطفال 865 حالة(45). كل ذلك يؤكد أهمية إنقاذ الأم دون الجنين عند تساوي الأمر في إنقاذهما(46).

متى يبدأ الجنين بالتخلق.

ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله المراحل التي يمر بها الجنين.
أما الكتاب، فقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).
وقال سبحانه: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5).
وقال سبحانه: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر:6).
فقوله سبحانه: خلقاً من بعد خلق إشارة إلى الأطوار التي يمر بها الجنين.
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر:67).
وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2).
وقال: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2).
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (القيامة:38).
وأما السنة، فقد روى البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة(47).
وروى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(48).

وسوف يكن كلامنا في تناول هذه الآيات، والحديثين.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب، فالتراب هو الطور الأول.

والطور الثاني: هو النطفة.

والنطفة في اللغة: هو الماء القليل. ومنه قول الشاعر:
وما عليك إذا أخبرتني دنفاً وغاب بعلك يوماً أن تعوديني
وتجعلي نطفة في القعب باردة وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني
فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في القعب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني المختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة خلافاً لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده.
قال الزبيدي في تاج العروس: في التنزيل (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2) قال الفراء: الأمشاج: هي الأخلاط: ماء الرجل، وماء المرأة، والدم والعلقة(49).
وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط. يريد النطفة؛ لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة(50).

وقال الشنقيطي: قوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (النحل: من الآية4). ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة؛ بدليل قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) (الإنسان: من الآية2) أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة(51).
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع ابن الأزرق، قال: أخبرني عن قوله: (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) قال: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا:
كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج
حتى قال: إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب: وهو ماء الرجل. ومنه ما هو خارج من الترائب، وهو ماء المرأة(52)، وذلك في قوله جل وعلا: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق:5-7). لأن المراد بالصلب: صلب الرجل، وهو ظهره. والمراد بالترائب: ترائب المرأة، وهي موضع القلادة منها(53). ومنه قول امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
واستشهد ابن عباس لنافع الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة:
والزعفران على ترائبها شرقاً به اللبات والبحر
فقوله هنا من بين الصلب والترائب يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة(54).
أما رأي الطب: في النطفة الأمشاج:
يذكر الأطباء أنه فور دخول الحيوان المنوي البويضة، يأخذ الحيوان المنوي طريقه إلى الطبقة الشفافة، فيفرز إنزيم الأكروزين (ACROSIN) الذي يساعد على اختراق هذه الطبقة (15-25) دقيقة، بعدها يخترق الغشاء البلازيمي للبويضة في دقيقة واحدة، وينطلق رأس الحيوان المنوي صوب نواة البويضة، وينتفخ رأس الحيوان المنوي، وتصبح المادة الوراثية لكل من الأب والأم واضحة في النواة بعد (2-4) ساعات من الاقتحام، ولا يمكن التمييز بينهما حينئذ. وتسمى هذه النطفة التي تنشأ عن اختلاط نواتي البويضة والحيوان المنوي بالأمشاج، وذلك لأن الأمشاج يعني: الاختلاط(55).

الطور الثالث: العلقة.

وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد. فقوله سبحانه: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) (الحج: من الآية5) أي قطعة دم جامدة(56).
وقال الزبيدي: العلق: الدم عامة ما كان. أو هو الشديد الحمرة، أو الغليظ. أو الجامد قبل أن ييبس. قال تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2). وفي حديث سرية بني سليم: فإذا الطير ترميهم بالعلق. أي بقطع الدم.
وفي التنزيل (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) (المؤمنون: من الآية14) وفي حديث ابن أبي أوفى: “أنه بزق علقة، ثم مضى في صلاته”(57).
وروى مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره، فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.

قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(58).
قال القرطبي: “فاستخرج منه علقة” أي قطعة دم. والعلقة: الدم.

رأي الطب في العلقة:

“اتفق الأطباء على أن العلقة هي المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج (التوتة) بجدار الرحم، وتنشب فيه”(59).
فيكون على هذا تسميتها علقة لكونها عالقة بجدار الرحم، وهذا التفسير له وجه في اللغة، جاء في تاج العروس:
العلوق: ما يعلق بالإنسان.
العَلَق: كل ما عُلِّق.
وأيضاً الطين الذي يعلق باليد.
والعلق: دويبة: وهي دويدة حمراء تكون في الماء تعلق في البدن.
فقوله: تعلق في البدن إشارة إلى المناسبة من تسميتها علقة.
وعلقت الدابة: شربت الماء فعلقت بها العلقة. كما في الصحاح: أي لزمتها، وقيل: تعلقت بها.
وعُلِقَ: نشب العلق في حلقه عند الشراب.
العلائق من الصيد: ما علق الحبل برجلها(60).
يقول الدكتور محمد البار: فلفظ العلقة يطلق على كل ما ينشب ويعلق.. وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب في جدار الرحم، وتنغرز فيه.. وتكون العلقة محاطة بالدم من كل جهاتها، وإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد على مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ… فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة(61)، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيراً، فالعالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عينين.

وينتهي الدكتور إلى أن العلقة تنشب في الرحم وتعلق فيه في اليوم السابع من التلقيح بعد أن تكون انقسمت الخلايا فيها، وصارت مثل الكرة تماماً أو مثل تمرة التوتة، وقد فصلت القول فيها فيما سبق(62).

الطور الرابع: المضغة.

اختلفوا في معنى المضغة:
فقيل: هي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله. الحديث(63).
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5).
قال ابن كثير: “إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوماً كذلك، يضاف إليها ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس، ويدان، وصدر وبطن، وفخذان، ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5) أي كما تشاهدونها. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (الحج: من الآية5) أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة، ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال: هو السقط مخلوق، وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين. وذكر حديث ابن مسعود السابق(64).

فنأخذ من هذا ما يلي:

أولاً: أن النطفة حتى تكون مضغة تحتاج إلى ثمانين يوماً.
وثانياً: أن المضغة منها ما هو مخلق أي قد ظهر فيه تخطيط، وتصوير، ومنها ما هو غير مخلق. أي ليس فيه تصوير. فمعنى ذلك أن الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة، والأربعين الثانية، وهي مرحلة العلقة لا تخطيط فيها، إنما التخطيط في مرحلة المضغة، وهي من بعد الثمانين. ولذلك قال سبحانه وتعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً) (المؤمنون: من الآية14)، فجعل خلق العظام وكسوها باللحم يعقب المضغة، وعبر بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، أي ليس هناك تراخ طويل. وهو مقتضى حديث ابن مسعود في الصحيحين، حيث قال: “ثم يكون مضغة مثل ذلك: أربعين يوماً، ثم قال: “ثم ينفخ فيه الروح” وواضح أنه لا ينفخ فيه الروح إلا وقد أصبح بشراً سوياً، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) (المؤمنون: من الآية14) إذاً في الأربعين الثالثة هي مرحلة التخليق والتصوير الذي يسبق نفخ الروح. والله أعلم(65).

القول الثاني: في معنى المخلقة:
ذهب بعض العلماء إلى أن قوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) هيمن صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة، فقالوا: فأما المخلقة فما كان من خلق سوياً، وأما غير المخلقة فما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً.
روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟، أذكر أم أنثى؟، ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
[رجاله كلهم ثقات، ومثله لا يقال بالرأي، إلا أنه مخالف لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود المرفوع](66).

القول الثالث:
ومنها أن المخلقة: هي ما ولد حياً. وغير المخلقة: هي ما كان من سقط: يعني سواء كان مخلقاً أو غير مخلق..
وممن روي عنه هذا القول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال صاحب الدر المنثور: أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وصححه ونقله عنه القرطبي. وأنشد لذلك قول الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء(67)

القول الرابع: معنى مخلقة: أي تامة، وغير مخلقة غير تامة.
حكاه ابن جرير الطبري بإسناده من طريقين عن قتادة.
قال الشنقيطي في تفسير معنى: تامة وغير تامة، قال والمراد بهذا القول عند قائله أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة سالم من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك. فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. اهـ فيكون معنى غير مخلقة: ليس السقط، ولكن معناه: أي غير سالم من العيوب: الخَلْقية وغير الخلقية.
وممن روي عنه هذا القول قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك(68).

القول الخامس: في معنى مخلقة وغير مخلقة.
معنى ذلك المضغة مصورة إنساناً، وغير مصورة، فإذا صورت فهي مخلقة، وإذا لم تصور فهي غير مخلقة: وهو السقط.
ذكر ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره من ثلاثة طرق، عن مجاهد، وحكاه عن عامر الشعبي، وعن أبي العالية(69).
والفرق بينه وبين القول الأول: يتفقان أن كلا منهما كان سقطاً، إلا أن القول الأول حده بالنطفة إذا سقطت، وهذا لم يقيده، فهذا القول أعم منه. والله أعلم.
ورجح ابن جرير هذا القول، فقال: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً، وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه؛ لأن المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير، وذلك هو المراد من قوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج: من الآية5) خلقاً سوياً، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة، ولا تصوير، ولا ينفخ فيها الروح(70).
ورد هذا الشنقيطي رحمه الله، فقال: هذا القول الذي اختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك، وهي قوله جل وعلا في أول الآية: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ولأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة وخلقناكم من مضغة غير مخلقة، وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة فيه من التناقض كما ترى فافهم.

فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط؛ لأن قوله: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (الحج: من الآية5) يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط. فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية؛ لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف يشاء. أما السقط فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ) الآية لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً ولو بعد التشكيل والتخطيط لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) الآية. فظاهر القرآن يقتضي أن كل من المخلقة وغير المخلقة يخلق منه بعض المخاطبين، بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ… الآية) (الحج: من الآية5). وبذلك تعلم أن أولى الأقوال بالآية هو القول الذي لا تناقض فيه؛ لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره، وهو أن المخلقة هي التامة وغير المخلقة هي غير التامة. اهـ(71).

ولا يترجح لي ما رجحه الشيخ رحمه الله، فالذي يظهر لي أن المخلقة هي المصورة، الذي ظهر فيها التخطيط، وغير المخلقة التي لا تخطيط فيها، وهي مرحلة يمر بها الجنين، ولا يلزم منه أن يكون سقطاً حتى نعترض على هذا التفسير بما ذكره الشنقيطي. فقد لا يسقط ويكون الله سبحانه وتعالى خلقنا من المضغة قبل تخليقها، كما خلقنا من النطفة والعلقة التي لا تخليق فيها. والله أعلم.

رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة:

مر معنا مرحلة النطفة الأمشاج، ثم العلقة: والتي فسرناها طبياً: بما يعلق في جدار الرحم فيما بين اليوم السادس والسابع منذ التلقيح. وفي اليوم العشرين أو الحادي والعشرين تبدأ بالظهور كتلة بدنية على جانبي المحور، ثم يتولى ظهورها تباعاً فيما يعرف بالكتل البدنية وتتولى هذه الكتل بالظهور حتى ليبلغ عددها عند اكتمالها 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، ولا يكاد ظهورها يكتمل حتى تبدأ الكتل التي في القمة تتمايز بحيث لا تكون جميع الكتل في مستوى واحد.

ويتضح أمامنا أن المضغة Somites أو الجنين ذو الكتل البدنية من اليوم العشرين أو الحادي والعشرين، وتستمر في الظهور إلى اليوم الثلاثين حيث يكون هناك 28 كتلة بدنية على كل جانب، ولا تكاد تظهر كتل جديدة حتى تكون الكتل القديمة قد تمايزت إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي.
وهكذا نرى الأسبوع الرابع (21-30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتب البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسي العظام بالعضلات.
فتكون مرحلة التخلق قد ظهرت عند تمام أربعين أو اثنين وأربعين يوماً، وهذا التقدير يتفق مع حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسلم، وسوف نذكره إن شاء الله تعالى.
يقول الدكتور البار: وقد كانا لمفسرون القدامى يصفون المضغة بأنها مقدار ما يمضغ من اللحم، وقد ذهبت إلى ذلك في الطبعة الأولى.. ولكني بعد إعادة النظر والمناقشة أرى الآن وصف المضغة ينطبق تمام الانطباق على مرحلة الكتل البدنية، إذ يبدو الجنين فيها وكأن أسناناً انغرزت فيه ولاكته، ثم قذفته(72).

هذا فيما يتعلق بالآيات، بقي أن نستعرض الأحاديث التي ذكرناها.
منها حديث ابن مسعود رواه البخاري، قال: حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال:
إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأرب كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة(73).
قال الحافظ في الفتح: “حديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، كل طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح(74).
بينما حديث حذيفة في مسلم ظاهره يعارض حديث ابن مسعود. فبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة،

فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(75).
ومر معنا رأي الأطباء بما يوافق حديث حذيفة. فقد ذكرنا عن الأطباء أن النطفة الأمشاج تبقى إلى اليوم السادس، ففي اليوم السادس أو السابع تتحول إلى علقة، بحيث تعلق في جدار الرحم.

وفي الأسبوع الرابع (21-30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتل البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسي العظام بالعضلات. وهكذا يبقى في الرحم جنيناً مخلقاً في الأسبوع السابع(76).
يقول الدكتور محمد البار: في نهاية الأسبوع السادس (42) يوماً تكون النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن، فيكون دخول الملك في هذه الفترة تنويهاً بأهميتها، وإلا فللملك ملازمة ومراعاة بالنطفة الإنسانية في كافة مراحلها… نطفة وعلقة ومضغة، ودخوله هنا لتصويرها وشق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم بعد ذلك يحدد جنس الجنين ذكر أم أنثى حسب ما يؤمر به، فيحول الغدة إلى خصية أو إلى مبيض… والدليل على ذلك ما يشاهد في السقط حيث لا يمكن تمييز الغدة التناسلية قبل انتهاء الأسبوع السابع، وبداية الثامن: أي أنه لا يمكن تمييزها قبل دخول الملك لتحديد جنس الجنين ذكر أم أنثى كما يؤمر به من خالقها(77).

موقف العلماء من حديث حذيفة وحديث ابن مسعود:

إما الترجيح وإما الجمع:
قال القاضي عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، يعني حديث حذيفة، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصويرها. إلخ أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة. اهـ(78).
قال ابن الصلاح: “أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد، إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئماً مع حديث ابن مسعود، وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معهاً، فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية، فصورها، فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة، فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظاً وكتابة، لا فعلاً، أي يذكر كيفية تصويرها، ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكراً أو أنثى إنما يكون عند المضغة.

وقال ابن حجر متعقباً: “وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية، وتمييز الذكر من الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال: أول ما يبتدئ به الملك تصوير ذلك لفظاً وكتباً، ثم يشرع فيه فعلاً عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر، ويكون بقي في حديث حذيفة أنه ذكر العظم واللحم، وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة(79)، فيقوي ما قاله عياض ومن تبعه”(80).
قال ابن القيم في التبيان: فإن قيل: قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة، وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما أخبر به الوحي من ذلك. فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
يدخل الملك في النطفة بعد أن تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، أي رب، ذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم يطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص.

قيل: نتلقاه بالقبول والتصديق، وترك التحريف، ولا ينافي ما ذكرناه إذ غاية ما فيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الثالثة، وكلاهما حق، قاله الصادق صلى الله عليه وسلم، وهذا تقدير بعد تقدير.
فالأول: تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق، التي هي أول مراتب الإنسان. وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق.
والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره، وهذا أحسن من جواب من قال: إن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربعين الثالثة، وهذا بعيد جداً من لفظ الحديث، ولفظه يأباه كل الإباء، فتأمله.
فإن قيل فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم.
فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص(81).

وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين، يقول: إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ ثم يقول: يا رب ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثم يجعله الله عز وجل شقياً أم سعيداً.
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: “أن ملكاً موكلاً بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة” ثم ذكر نحوه.
قيل: نتلقاه أيضاً بالتصديق والقبول، وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء من أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين(82).
فإن قيل: فكيف توفقون بين هذا، وبين حديث ابن مسعود، وهو صريح في أن النطفة: أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة.. ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيها، ولا جلد، ولا لحم، ولا عظم… وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، وقولهم عرضة للخطأ، ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه وحديث حذيفة المتقدم..

قيل: لا تنافي بين الحديثين بحمد الله، وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة، وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة. وخطأ هذا ابن القيم، ثم قال: وظنت طائفة أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم، والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي. والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية، ولكن هناك تصويران:
أحدهما: تصوير خفي، لا يظهر، وهو تصوير تقديري، كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب: مواضع القطع، والفصل، فيعلم عليها، ويضع مواضع الفصل والوصل، وكذلك كل من يضع صورة في مادة لا سيما مثل هذه الصورة.. ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئاً بعد شيء، لا وهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة.
أحدهما: تصوير وتخليق علمي، لم يخرج إلى الخارج.
الثانية: مبدأ تصوير خفي، يعجز الحس عن إدراكه.
الثالثة: تصوير يناله الحس، ولكنه لم يتم بعد.
الرابعة: تمام التصوير الذي ليس بعده إلا نفخ الروح.
فالمرتبة الأولى علمية.. والثلاث الأخر عينية.
وهذا التصوير بعد التصوير، نظير التقدير بعد التقدير.. فالرب تعالى قدر مقادير الخلائق تقديراً عاماً قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وهنا كتب الشقاوة والسعادة والأعمال والأرزاق والآجال.
والثاني تقدير بعد هذا، وهو أخص منه. وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه، وقال: هؤلاء إلى الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى، وقال: هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون.
والثالث: تقدير بعد هذا، وهو أخص منه عندما يمنى به، كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور.
والرابع: تقدير آخر بعد هذا.. وهو عندما يتم خلقه وينفخ فيه الروح، كما صرح به الحديث الذي قبله – يعني: حديث ابن مسعود –(83).
وفي الفتح: “وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء بحسب الأعضاء، أو يقسم بعضها إلى جلد، وبعضها إلى لحم، وبعضها إلى عظم، فيقدر ذلك كله وجوده، ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية، ويتكامل في الأربعين الثالثة.
وقال بعضهم: معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المني في الأربعين الأولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره(84).
وذهب بعضهم إلى أن قوله: مخلقة وغير مخلقة صفة للنطفة، وليست للمضغة، روي ذلك عن ابن مسعود بسند صحيح، رواه ابن جرير الطبري عنه.
فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟، أذكر أم أنثى؟، ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها(85).
هذا ما تيسر لي جمعه من أقوال أهل العلم في الجمع بين حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة. والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد

————————————–
(*) مادة البحث مستفادة من كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية للشيخ دبيان بن محمد الدبيان
(1) تاج العروس (10/284)، والمصباح المنير (ص: 146).
(2) (2/411) وانظر البحر الرائق (8/389)، رد المحتار (5/276)، نهاية المحتاج (8/442)، مغني المحتاج (4/103)، الفروع (6/13).
(3) انظر مسألة تحديد النسل، د. محمد البوطي (ص: 67)، الطبيب أدبه وفقهه، د. محمد البار، الإجهاض من منظور إسلامي، د. عبد الفتاح محمد إدريس، مجلة الحكمة، العدد التاسع (ص: 119-123).
(4) تبيين الحقائق (2/166)، حاشية ابن عابدين (3/176)، البحر الرائق (8/233).
(5) حاشية الدسوقي (2/267)، أسهل المدارك (1/405)، حاشية العدوي، مطبوع مع الخرشي (3/225)، منح الجليل (3/360).
(6) نهاية المحتاج – الرملي (8/442)، إحياء علوم الدين (2/51)، حاشية الجمل (5/490).
(7) الفروع (1/281)، الإنصاف (1/386)، كشاف القناع (1/220).
(8) الشرح الكبير المطبوع مع حاشية الدسوقي (1/266، 267).
(9) القوانين الفقهية (ص: 235).
(10) أسهل المدارك (1/405).
(11) مجموع الفتاوى (34/160).
(12) صحيح البخاري (6740)، ومسلم (35-1681).
(13) المحلى (مسألة: 2124).
(14) الفتح (12/311) ح 6908.
(15) الجامع لأحكام القرطبي (12/8).
(16) صحيح مسلم بشرح النووي (16/191).
(17) فتح الباري (11/588) ح 6594.
(18) البخاري (3208)، ومسلم (2643).
(19) حاشية ابن عابدين (3/176).
(20) حاشية الدسوقي (2/267)، أسهل المدارك (1/405)، حاشية العدوي، مطبوع مع الخرشي (3/225)، منح الجليل (3/360).
جاء في الشرح الكبير (2/267): “لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين ويماً” قال الدسوقي في حاشيته تعليقاً عليه (2/267): “وهو المعتمد”.
وقال ابن جزي في القوانين الفقهية (ص 235): “وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له”.
(21) قال الغزالي في إحياء علوم الدين (2/51): “وليس هذا – يقصد العزل – كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضاً مراتب، وأول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فغن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح، واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفحشاً، ومنتهى التفحش في الجناية بعد الانفصال حياً”.
(22) جاء في تحفة المحتاج (8/241): “اختلفوا في التسبب لإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه، وهو مائة وعشرون يوماً، والذي يتجه وفاقاً لابن العماد وغيره الحرمة، ولا يشكل عليه جواز العزل لوضوح الفرق بينهما، بأن المني حال نزوله محض جماد، ولم يتهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق”.
(23) أحكام النساء – ابن الجوزي (ص: 374).
(24) يقول ابن عابدين في حاشيته المشهورة (3/176): “قال في النهر: بقي هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مضي مائة وعشرين يوماً”. وعلق ابنعابدين: “وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح، وإلا فهو غلط؛ لأن التخلق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة”. وهذا مذكور بحروفه في شرح فتح القدير (3/401).
وجاء في تبيين الحقائق (2/166): “المرأة يسعها أن تعالج لإسقاط الحبل ما لم يستبن شيء من خلقه، وذلك ما لم يتم له مائة وعشرون يوماً”. وانظر البناية (4/957)، الاختيار لتعليل المختار (5/186).
(25) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (3/264).
(26) الفروع (1/281)، الإنصاف (1/386)، كشاف القناع (1/220).
(27) جاء في حاشية ابن عابدين (3/176): “وفي كراهة الخانية: ولا أقول بالحل؛ إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه؛ لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤخذ بالجزاء فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر” اهـ. قال ابن وهبان: ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه، ثم قال: قال ابن وهبان: فإباحة الإسقاط محمولةعلى حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل” اهـ من حاشية ابن عابدين.
وإسقاط الجنين إذا انقطع اللبن قول ضعيف جداً، لأن الرزاق هو الله سبحانه وتعالى، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود: من الآية6)، وإذا هلك لقلة اللبن لم يكن من كسبها، ولا تأثم بذلك.
(28) جاء في نهاية المحتاج – الرملي (8/442): “قال الزركشي: وفي تعاليق بعض الفضلاء، قال الكرابيسي: سألت أبا بكر بن أبي سعيد الفراتي عن رجل سقى جارية شراباً لتسقط ولدها؟ فقال: ما دامت نظفة أو علقة فواسع له ذلك إن شاء الله تعالى. اهـ
(29) قال في حاشية ابن عابدين (3/176): “لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه، وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره؛ فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله إلى الحياة، فيكون له حكم الحياة كما في بيضة الحرم، ونحوه في الظهيرية”. اهـ وربما قصد بالكراهة كراهة التحريم، فيرجع القول إلى القول بالتحريم، وهو غير بعيد. والله أعلم.
(30) حاشية الدسوقي (2/266، 267).
(31) رواه أحمد (1/100). والحديث يرويه كل من إسحاق بن عبد الله بن الحارث، وزيد ابن علي بن جدعان، كلاهما، عن عبد الله بن الحارث، عن عثمان، عن علي.
واقتصر إسحاق بن عبد الله بن الحارث على قصة الحمار، ولم يذكر بيض النعام، وإسناد إسحاق إسناد حسن. وزاد زيد بن علي بن جدعان ذكر بيض النعام، وهو رجل ضعيف، فتكون زيادته منكرة.
(32) بتصرف يسير جداً إحياء علوم الدين (2/51).
(33) نهاية المحتاج (8/442).
(34) تحفة المحتاج (8/241)، حاشية الجمل (4/447)، الإجهاض من منظور إسلامي.
(35) مسلم (2645).
(36) رد المحتار (5/276).
(37) الفروع (1/281).
(38) وهو ظاهر إطلاق كلام الفقهاء المتقدم، في تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح.
يقول صاحب البحر الرائق (8/233): “وفي النوادر امرأة حامل اعترض الولد في بطنها، ولا يمكن إلا بقطعه أرباعاً، ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمه من الموت، فإن كان الولد ميتاً فلا بأس به، وإن كان حياً، فلا يجوز؛ لأن إحياء نفس بقتل أخرى لم يرد في الشرع” اهـ. ووافقه ابن عابدين في حاشيته. انظر (2/238).
(39) جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة: “إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً، لا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة، إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه، سواء كان مشوهاً، أو لا، دفعاً لأعظم الضررين” اهـ.
وجاء في قرار هيئة كبار العلماء رقم (140)، تاريخ 20/6/1407هـ
“بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل، لا يحل إسقاطه إلا أن يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه بسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته، وإنما رخص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً لعظمى المصلحتين” اهـ..
(40) البحر الرائق (8/233).
(41) حاشية ابن عابدين (2/238).
(42) تيسير الكريم الرحمن (5/70، 71).
(43) مفتاح دار السعادة (2/403).
(44) قواعد الأحكام (1/88).
(45) صحيفة الرياض، عدد 4431 في 26/2/1400، صفحة المجتمع.
(46) نقلت أدلة القول ببعض التصرف من كتاب تنظيم النسل (ص: 228).
(47) البخاري (3208)، ومسلم (2643).
(48) مسلم (2645). قال القاضي عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصويرها… إلخ أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة اهـ. كما في الديباج على صحيح مسلم (6/8). يقصد حديث ابن مسعود إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً… إلخ.
ولا يظهر لي جمع القاضي عياض، بل قد اطلعت على كتاب يصور مراحل الجنين، وكان يكبر العلقة، والمضغة عشرات المرات فكان يظهر فيها تخطيط، وحدود للجمجمة والأعضاء إلا أنه لا يتبين أنه خلق آدمي، وإنما هو خلق بدائي، فربما التخلق الذي في حديث حذيفة هو التخلق الخفي الذي لا يظهر بالعين المجردة وإنما عن طريق التكبير عشرات المرات، والمقصود في حديث ابن مسعود هو التخلق الجلي الذي يظهر لكل الناس. والله أعلم. ثم وجدت من كلام أهل العلم ما يؤيد هذا، قال ابن القيم كما في فتح الباري: قوله: “ثم تكون علقة مثل ذلك” فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني، ويظهر التخطيط فيها ظهوراً خفياً على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يوماً بتزايد ذلك التخلق شيئاً فشيئاً حتى يصير مضغة مخلقة ويظهر للحس ظهوراً لا خفاء به، وعند تمام الأربعين الثالثة والطعن في الأربعين الرابعة ينفخ فيه الروح.
(49) ونقل البخاري هذا الكلام في صحيحه في تفسير سورة الإنسان (8/884) غير منسوب، وأوضح ابن حجر أن هذا الكلام للفراء. والله أعلم.
(50) تاج العروس (3/487). وذكر ابن جرير الطبري في تفسيره (12/354-356): أربعة معان للنطفة الأمشاج، ورجح أن تكون الأمشاج بمعنى الأخلاط.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره:
وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) (الإنسان: من الآية2) يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة: كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة أو غير ذلك كما قال عبد الله بن رواحة:
…………….. هل أنت إلا نطفة في شنه
وقوله (أمشاج) يعني أخلاط، واحدها: مشج، ومشيج، مثل خدن وخدين ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يطرحن كل معجل نشاج لم يكس جلداً في دم أمشاج
يقال منه: مشجت هذا بهذا إذا خلطته به، وهو ممشوج به ومشيج أي مخلوط به، كما قال أبو ذؤيب:
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل سيط به مشيج
واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عنى بها في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
ذكر من قال ذلك:
(35742) حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني عن عكرمة: أمشاج نبتليه، قال: ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالآخر.
(35743) حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرمة، قال: ماء الرجل وماء المرأة يختلطان.
(35744) قال ثنا أبو أسامة، قال: ثنا زكريا، عن عطية، عن ابن عباس، قال: ماء المرأة وماء الرجل يمشجان.
(35746) قال ثنا عبد الله، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قال: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج.
(35747) قال ثنا أبو أسامة، قال: ثنا المبارك، عن الحسن، قال: مشج ماء المرأة مع ماء الرجل.
(35748) قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة وقد قال الله: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى.
(35749) قال: ثنا عبيد الله قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال: خلق من تارات ماء الرجل وماء المرأة.
القول الثاني: قال آخرون: إنما عني بذلك إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليه، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة ثم عظماً ثم كسي لحماً.
ذكر من قال ذلك.
(35750) حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قوله إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه الأمشاج: خلق من ألوان خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم: وهي النطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظماً ثم أنشأه خلقاً آخر فهو ذلك.
(35751) حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة في هذه الآية: أمشاج قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة ثم عظماً.
القول الثالث: وقال آخرون عني بذلك اختلاف ألوان النطفة.
ذكر من قال ذلك:
(35755) حدثني علي قال ثنا أبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله أمشاج نبتليه يقول مختلفة الألوان.
(35756) حدثنا أبو هشام قال ثنا يحيى بن يمان قال ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ألوان النطفة.
القول الرابع: قال آخرون بل هي العروق التي تكون في النطفة.
ذكر من قال ذلك:
(35760) حدثنا أبو كريب وأبو هشام، قالا: ثنا وكيع، قال: ثنا المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه، عن عبد الله قال: أمشاجها عروقها.
(35761) حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا أسامة بن زيد، عن أبيه قال: هي العروق التي تكون في النطفة.
وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال معنى ذلك من نطفة أمشاج نطفة الرجل ونطفة المرأة لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج وهي إذا انتقلت فصارت علقة فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجاً وهي علقة وأما الذين قالوا إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة وإذا كانت لوناً واحداً لم تكن ألواناً مختلفة وأحسب أن الذين قالوا هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى. وانظر هذه الأقوال أيضاً في تفسير أبي السعود (9/70)، وتفسير السيوطي (8/368)، وتفسير القرطبي (19/120)، وزاد المسير (8/428).
(51) يقول د. محمد علي البار في كتابه: خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 185-192): “لم تكن البشرية تعرف شيئاً عن النطفة الأمشاج – يقصد عن طريق علومها التجريبية – (وهي الأخلاط من الذكر والأنثى) فقد كان الاعتقاد السائد لدى الفلاسفة والأطباء أن الجنين الإنساني إنما يتكون من ماء الرجل، وإن رحم المرأة ليس إلا محضناً لذلك الجنين، وشبهوا ذلك بالبذرة ترمى في الأرض فتأخذ منها غذاءها، وتخرج شجرة يافعة وارفة الظلال يانعة الثمار، وليس للمرأة دور في إيجاد الجنين سوى رعايته وتغذيته..
ثم ذكر نظريات الناس حول إيجاد الجنين من وقت أرسطو إلى القرن التاسع عشر، وقال بعد عرضها لها:
وهكذا يبدو بوضوح أن الإنسانية لم تعرف بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني أو الحيواني يتكون من امتشاج واختلاط نطفة الذكر ونطفة الأنثى إلا في القرن التاسع عشر، ولم يتأكد لها ذلك إلا في القرن العشرين، والإعجاز في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أنهما قد أكدا بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان إنما خلق من نطفة مختلطة سماها النطفة الأمشاج (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2).
(52) يقول د. محمد علي البار في كتابه: خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 120-122): الماء الذي يخرج من فرج المرأة لا علاقة به بتكوين الجنين؛ لأن الجنين إنما يتكون من الحيوان المنوي للرجل، وبويضة المرأة، ولكن العلم الحديث يكشف شيئاً مذهلاً:
إن الحيوان المنوي يحمله ماء دافق: هو ماء المني.
كذلك البويضة في المبيض تكون في حويصلة جراف، محاطة بالماء، فإذا انفجرت الحويصلة تدفق الماء على أقتاب البطن، وتلقفت أهداب البوق (قناة فالوب) البويضة لتدخلها إلى قناة الرحم، حيث تلتقي بالحيوان المنوي لتكون النطفة الأمشاج.
مما تقدم، أن للمرأة نوعين من الماء:
أولهما: ماء لزج، يسيل ولا يتدفق، وهو ماء المهبل، وليس له علاقة في تكوين الجنين سوى مساعدته في الإيلاج، وفي ترطيب المهبل، وتنظيفه من الجراثيم والميكروبات.
وثانيهما: ماء يتدافق، وهو يخرج مرة واحدة في الشهر من حويصلة جراف بالمبيض عندما تقترب هذه الحويصلة المليئة بالماء الأصفر – وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان: أن ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر – من حافة المبيض، فتنفجر عند تمام نموها وكماله، فتندلق المياه إلى أقتاب البطن، ويتلقف البوق، البويضة، فيدفعها دفعاً رقيقاً حتى تلتقي بالحيوان المنوي الذي يلقحها في الثلث الوحشي من قناة الرحم.
هذا الماء يحمل البويضة تماماً كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية. كلاهما يتدفق، وكلاهما يخرج من بين الصلب والترائب: ماء دافق يحمل الحيوانات المنوية.
وماء دافق من حويصلة إجراف بالمبيض يحمل البويضة. وصدق الله العظيم حيث يقول: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق:5-7).
(53) اختلف في الترائب: هل المراد بها ترائب المرأة، أم المراد بها ترائب الرجل، والعلم الطبي يؤكد أن المراد بها ترائب الرجل والمرأة.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/158): “ولا خلاف أن المراد بالصلب: صلب الرجل. واختلف في الترائب:
فقيل: المراد بها ترائبه أيضاً. وهي عظام الصدر: ما بين الترقوة إلى الثندوة.
وقيل: المراد بها ترائب المرأة. قال ابن القيم: والأول: أظهر؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) ولم يقل: يخرج من الصلب والترائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجاً من بين هذين الملتقين، كما قال في اللبن: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (النحل: من الآية66). وذكر نحو هذا في التبيان في أقسام القرآن (ص: 102-103).
وذكر القرطبي في تفسيره، والثعالبي في تفسيره (4/402): عن الحسن البصري بأنه يخرج من صلب الرجل وترائبه، وصلب المرأة وترائبها.
يقول د. محمد البار: الخصية والمبيض إنما يتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين وترائبه، والصلب: هو العمود الفقري. والترائب: هي الأضلاع. وتتكون الخصية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط: أي بين الصلب والترائب، ثم تنزل الخصية تدريجياً حتى تصل إلى كيس الصفن (خارج الجسم) في أواخر الشهر السابع من الحمل، وبينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة، ولا ينزل أسفل من ذلك”.
ثم يقول الدكتور وفقه الله: والآية الكريمة إعجاز علمي كامل حيث تقول: من بين الصلب والترائب، ولم تقل من الصلب والترائب، فكلمة (بين) ليست بلاغة فحسب، وإنما تعطي الدقة العلمية المتناهية، وقد أخطأ كثير من المفسرين القدامى حيث لم يهتموا بهذه اللفظة، وقالوا: إن المني يخرج من صلب الرجل، وماء المرأة يكون في ترائبها، وهذا خطأ علمي، وخطأ منهجي؛ حيث لم يعطوا الآية حقها فحذفوا كلمة (بين) ولذا وقعوا في الخطأ، والذي أوجب لهم هذا الخطأ أنهم رأوا أهل اللغة قالوا: الترائب: موضع القلادة من الصدر. قال الزجاج: أهل اللغة مجمعون على ذلك، وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة، بل يطلق على الرجل والمرأة. قال الجوهري: الترائب عظام الصدر، ما بين الترقوة لى الثندوة… إلخ كلامه وفقه الله انظر كتابه الإنسان بين الطب والقرآن (س: 113-119).
(54) .أضواء البيان (3/213).
(55) بتصرف، الآيات العجاب في رحلة الإنجاب (ص: 84). وانظر بتوسع كتاب الإنسان هذا الكائن العجيب (1/101)، ويذكر المؤلف أن البويضة قلما تعيش أكثر من 36 ساعة بعد خروجها من المبيض، ونطفة الرجل تحتاج من 7-30 ساعة للوصول إلى البويضة لتلقيحها. وانظر روعة الخلق (ص: 50).
(56) انظر تفسير أبي السعود (6/93، 126)، وتفسير الطبري، سورة المؤمنون ()، وتفسير القرطبي (12/6)، (20/119)، وتفسير ابن كثير (3/241)، وأضواء البيان (5/21)، وانظر مختار الصحاح (ص: 189).
(57) تاج العروس (13/344) وحديث سرية بني سليم، وابن أبي أوفى لم أقف عليهما مسندين، وقد ذكرهما ابن الأثير في النهاية (3/288). والله أعلم.
(58) رواه مسلم (261-262).
(59) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 204).
(60) انظر تاج العروس (13/344-354)، مختار الصحاح (ص: 189).
(61) لا يظهر لي أن تفسير العلماء ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة، بل ناتج عن استعمال أحد معاني الكلمة، فالعلقة باللغة تطلق على الدم، وتطلق على ما يعلق، فالمفسرون اختاروا أحد معاني الكلمة، ولم يطبق المفسرون على هذا التفسير، فقد ذكر ابن الجوزي في زاد المسير المسمى علم التفسير: وقيل: سميت علقة لرطوبتها، وتعلقها بما تمر به” وقد نقله الدكتور البار في كتابه فيما سبق.
(62) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 205-206).
(63) رواه البخاري (52)، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير ن الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حولا لحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. رواه مسلم (1599).
(64) تفسير ابن كثير (5/395).
(65) وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (12/9) في معنى “مخلقة” إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) فذلك ما قال ابن زيد وقد ساق قوله قبل: وهو المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير المخلقة التي لم يخلق فيها شيء.
(66) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (24922)، وهذا الأثر على خلاف ما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود، وما جاء في حديث مسلم من حديث حذيفة بأن الله يأمر الملك أن يكتب، ولا يحيله إلى أم الكتاب. والله أعلم.
(67) أضواء البيان (5/21).
(68) أضواء البيان (5/21).
(69) تفسير الطبري (9/110، 111).
(70) المرجع السابق.
(71) أضواء البيان (5/21).
(72) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 252). هذا وقد ذكر الدكتور البار تفسيرات أخرى في حاشيته (208)، فقال في معنى مخلقة وغير مخلقة:
إن العلقة وهي تنغرز في جدار الرحم، وتنشب فيه في اليوم السابع من التلقيح تبدأ بالتمايز إلى طبقتين:
خارجية: ووظيفتها قضم خلايا الرحم، والاتصال المباشر بالبرك الدموية الرحمية لامتصاص الغذاء منها.
وداخلية: ووظيفتها تكوين الجنين وأغشيته.
باختصار أن هناك طبقتين: مخلقة، وغير مخلقة، فالطبقة الخارجية غير مخلقة قطعاً، والداخلية مخلقة؛ لأنه يخلق منها الجنين، وأغشيته.
قال البار: وهناك وجه قوي أشار إليه الدكتور عزيز عبد العليم رئيس قسم وأستاذ جراحة الأطفال في جامعة طنطا، قال: الآية مخلقة وغير مخلقة تتحدث عن خلايا غير متميزة وهي خلايا عميمة وجميمة، ولها قدرة بأمر بارئها وخالقها على التشكل والتحول، وهي موجودة في الجنين في مرحلة المضغة وما بعدها، وتعرف بالخلايا الميزانيكيمية ومصدرها الطبقة المتوسطة (الميزودرم)، وهذه الخلايا تتحول إلى خلايا متميزة عند تكون العظام، أو خلايا الدم الحمراء، أو اليضاء أو عندما تلتئم الجروح والكسور، ولها دور هام في الجنين والطفل، بل وفي البالغ والكبير.
هذه الخلايا غير المتميزة هي الخلايا غير المخلقة، وأما الخلايا المتميزة فيه مخلقة، وعلى ذلك فإن مخلقة وغير مخلقة فهي صفة للمضغة، وما بعد المضغة حتى نهاية العمر. قال البار تعقبياً: وهو وجه مستساغ، ودليله من علم الطب قائم، ولا يمنعه مفهوم الآية، بل يؤيده.
يقول الدكتور ليزلي في كتابه Devevopmental anatomy الطبعة السابعة (ص: 26): “وفي الجنين تتمايز الخلايا على حسب برامج زمنية مختلفة، فمنها ما يتمايز (يتخلق) بسرعة، ويسير في طريقه حثيثاً إلى نهايته المحددة المرسومة له (المقدرة).. ومنها ما يسير ببطء في هذا التمايز.. ومنها ما يتوقف بعد المسير، ثم يواصل سير التمايز، وتبقى مجموعة من هذه الخلايا غير متمايزة إلى آخر العمر.. وتشكل بذلك الاحتياطي الذي يمكن أن يطلب في أي لحظة.
وفي كتاب مع الطب في القرآن للدكاترة عبد الحميد دياب، وأحمد قرقوز: “فطور المضغة يمر إذاً بمرحلتين: .. المرحلة الأولى: حيث لم يتشكل أي عضو أو أي جهاز وأسميها مرحلة المضغة غير المخلقة.
والمرحلة الثانية: حيث تم فيها تمييز الأجهزة المختلفة، وأسميناها: مرحلة المضغة المخلقة. وهكذا يتضح جلياً إعجاز القرآن الكريم في وصفه لطور المضغة بقوله: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، وقد اعتبر المؤلفان أن مرحلة المضغة تبدأ من الأسبوع الثالث، وتكون في هذه المرحلة غير مميزة حتى نهاية الأسبوع الرابع.. ويبدأ التمايز في بداية الأسبوع الخامس، وهو ما يؤدي إلى ظهور الأعضاء، والأجهزة، وبذلك يكون قبل مرحلة التمايز هو المضغة غير المخلقة، وما بعد التمايز، يعتبر المضغة المخلقة.
قال الدكتور البار تعليقاً: وهو قريب من المفهوم السابق الذي ذكرناه عن الدكتور عزيز عبد العليم، والذي وسع مفهومه باعتبار التمايز يستمر منذ مرحلة المضغة إلى أن يولد، ثم يستمر بعد ذلك أثناء الحياة متفاوتة حتى نهاية العمر. اهـ نقلاً من كتاب الدكتور محمد البار.
(73) البخاري (3208)، ومسلم (2643).
(74) فتح الباري (11/591)، وإليك بقية كلام الحافظ، قال رحمه الله: “وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور. منها في الحج، ودلت الآية على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين، وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغة، وذكر الله النطفة ثم العلقة، ثم المضغة في سورة أخرى وزاد في سورة قد أفلح بعد المضغة (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً) (المؤمنون: من الآية14) ثم قال: وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء؛ لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر، ورتبها في الحديث بـ”ثم” إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بـ ثم بين النطفة والعلقة؛ لأن النطفة قد لا تكون إنساناً، وأتى بـ ثم في آخر الآية عند قوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ) ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه..
(75) مسلم (2645).
(76) وهذا التقدير موافق تقريباً ما ذكره ابن القيم قال في التبيان (ص: 336)، ونقله الحافظ في الفتح ببعض التصرف كعادته (11/588) ح 6594)، قال ابن القيم: “اقتضت حكمة الخلاق العليم سبحانه وتعالى أن جعل داخل الرحم خشن كالاسفنج.. وجعل فيه طلباً للمني وقبولاً له كطلب الأرض الشديدة العطش للماء، وقبولها له، فجعله طالباً حافظاً، مشتاقاً إليه بالعطش، فلذلك إذا ظفر به، ضمه، ولم يضيعه، بل يشتمل عليه أتم الاشتمال، وينضم أعظم انضمام، لئلا يفسده الهواء، فيتولى القوة والحرارة التي هناك بإذن الله ملك الرحم، فإذا اشتمل على المني، ولم يقذف به إلى خارج، استدار على نفسه وصار كالكرة في الشدة إلى تمام ستة أيام (وقد ذكرت فيما سبق عن الأطباء أن نطفة الأمشاج تبقى ستة أيام قبل أن تتحول إلى علقة) فإذا اشتد نقط نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين: وهي نقطة الكبد. ثم تتباعد تلك النقط، ويظهر بينها خطوط حمر، إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك خمسة عشر يوماً، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوماً، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بيناً في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل، وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقاً جمعاً خفياً، وذلك الخلق في ظهور خفي على التدريج” اهـ.
(77) خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص: 389).
يقول الطبيب سيف الدين السباعي في كتابه: الإجهاض بين الفقه والطب والقانون (ص: 37): “المضغة: هي المرحلة الثالثة من تكون الجنين، فبعد أن زودت المضغة بمصادر التغذية المناسبة وانفصلت خلاياها إلى وريقات ثلاث، تبدأ تلك الوريقات بالتمايز، وتصوير الأعضاء، والأجهزة، ويكون ذلك في بدء الشهر الثاني، وبينما كانت العلقة تقيس 5مم، تصبح المضغة في نهاية الشهر الثاني 30مم طولاً، و11 غراماً وزناً.
في هذه الفترة يتشكل الجهاز العصبي والحويصلان السمعي والبصري، وتظهر مولدات الغضروف والعضلات، والأدمة ووحدات الجهاز البولي والتناسلي، والأغشية المصلية، والقلب، وجهاز الهضم، وبراعم الأطراف العلوية والسفلية، وتمر المضغة بطورين: أولهما المضغة غير المخلقة، حيث تتصور الأعضاء دون أن تظهر أي تتمايز مجموعات خلوية مختلفة، ومن ثم تتطور وتتخلق معطية الأجهزة والأعضاء، وتلك المضغة المخلقة (الطور الثاني).
وفي منتصف هذا الشهر: أي في يوم (40-45) تحدث تبدلات خاصة تنتقل بالجنين نقلة واسعة نحو تكونه الإنساني، فالقلب الذي كان بشكل أنبوب مغلق ابتدائي يدق دقات خفيفة، يصبح في اليوم 38 قلباً رباعي الأجواف، يضرب ضربات عادية، ويتصل بالدوران المشيمي، إلا أن سماع دقات القلب بوسائلنا العادية لا يكون قبل الأسبوع 22 من الحمل، وكذا تتشكل العينان، والأذنان والأنف، والشفتان، وبراعم الأسنان، وبعض العضلات، وتكون اليدان قصيرتين، والساقان أقصر، إلا أنها واضحة المعالم، وهكذا تصورت وتخلقت المضغة، وهذا ما أثبته الحديث الشريف الصحيح، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم يقول: أي رب ذكر أم أنثى؟ اهـ.
(78) نقلاً من الديباج على صحيح مسلم (6/8).
(79) الثابت طبياً خلافه كما شرحت من قبل.
(80) فتح الباري (11/592) ح 6594.
(81) مسلم (2645).
(82) في كلام ابن القيم ما يشير إلى أنه في عهده كان إجماعاً من الأطباء على أن التصوير بعد الأربعين، وهذا ما فصله الطب الحديث بعد وصوله لعلم التصوير والتكبير. والله أعلم.
(83) التبيان في أقسام القرآن (ص: 345).
(84) فتح الباري (11/592). 6594.
(85) والحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه شاذ لمخالفته ما في الصحيحين.