إسهامات الفقه في تحديد معايير دولية العقد و ملاءمة الإتفاقيات الدولية

مقدمة

أضحت العلاقات الدولية الخاصة مجالا منفتحا، تتجاذبه العديد من الميزات التي أصبح العالم اليوم يعيشها، ميزة السرعة و التعقيد و التشعب، خصوصا في ما يتعلق بالمعاملات التجارية الدولية، التي تطورت و نمت مع وسائل الإتصال و المواصلات الحديثة.

ومن هذا المنطلق لم يعد مقبولا في إطار القانون الدولي الخاص إعمال القوانين الداخلية على أجانب، أو تطبيق قواعد القانون الداخلي على العقد التجاري الدولي، بل لابد من قواعد خاصة لمثل هذه المعاملات سواء عبر إعمال الضوابط المرتبطة بالمنهج التنازعي ( تنازع القوانين) أو عبر القواعد المادية.

و عليه أصبح لزاما مراعاة خصوصية العقد الدولي، و تمييزه عن العقود على المستوى الداخلي ، و هو الأمر الذي تضاربت فيه الآراء حول المعايير الواجب إتباعها لتحديد دولية العقد، كما ساهمت الاتفاقيات الدولية كذلك في وضع مجموعة من المعايير لإضفاء الصبغة الدولية على العقد.

و نظرا لاهتمام بعض الباحثين و الفقهاء المغاربة بمجال العلاقات الدولية الخاصة عموما و العقود الدولية بشكل خاص، إنصب إهتمامنا أساسا بآراء هؤلاء و مدى مساهمتهم في إثراء النقاش في هذا المجال، بالموازة مع ما تمليه الإتفاقيات الدولية في هذا الشأن. و منه تشكلت أهمية هذه الدراسة في كونها تحاول قدر الإمكان ملامسة الدور الذي يمكن أن يقدمه الباحث و الفقيه في مجال تخصصه عند الحاجة، و نتحدث هنا عن الحاجة إلى رأي الفقهاء إذا أراد المشرع تعديل ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين.

وفي هذا الإطار يمكن تقسيم الآراء التي تقدم بها الفقهاء لإضفاء الصبغة الدولية على العقود كما تماشت معه الإتفاقيات و المواثيق الأخرى التي تفرعت عن مؤتمر لاهاي للقانون الدولي الخاص، بين المعيار التقليدي المعتمد على المعيار القانوني(المطلب الأول)، و المعيار الاقتصادي الذي يعتمد على الأسس الاقتصادية لتحديد دولية العقد، و المعيار الآخر هو المعيار المختلط أو المزدوج الذي حاول الجمع بين المعيارين القانوني والاقتصادي.

وفي هذا السياق، نطرح الإشكال كالآتي:
ما مدى مساهمة الباحث و الفقيه المغربي في إثراء النقاش حول معايير دولية العقد، بالموازة مع المعايير المعتمدة في إطار الإتفاقيات الدولية؟

المحور الأول: التوجه الأحادي في تحديد دولية العقد
سيتم التطرق في إطار هذا المحور إلى المعيار القانوني المحدد لدولية العقد، بالإضافة إلى المعيار الإقتصادي معتمدا بذلك على الآراء الفقهية و الإتفاقيات الدولية.

المطلب الأول: المعيار القانوني المحدد لدولية العقد
يعد العقد دوليا وفق هذا المعيار كلما اتصلت عناصره القانونية بأكثر من نظام قانوني واحد. أو عندما توزع العناصر المتصلة بالعقد في عدة دول، وهذه العناصر قد تختلف بحسب إذا كانت موضوعية كاختلاف دولة الإبرام عن دولة التنفيذ، أو شخصية كاختلاف المتعاقدين أو تباين موطنهم.

وعليه، نفترض أن عقد بيع دولي أبرم في الرباط بين مغربي مقيم في المغرب و فرنسي مقيم بفرنسا وكان موضوع البيع هو بضاعة موجودة في ألمانيا، و التسليم يكون في ألمانيا، بينما أداء الثمن في المغرب، فهذا العقد تعلقت عناصره بأكثر من نظام قانوني واحد.

وقد اختلف مؤيدو هذا المعيار القانوني، بين الاتجاه الموسع الذي يعتبر أن العقد يعد دوليا كيفما كان العنصر الأجنبي المتصل بالرابطة العقدية، واتجاه يضيق من نطاق العناصر التي يمكن أن تعطي الصفة الدولية للعقد، و يميز بين العناصر القانونية الفاعلة أو المؤثرة، والعناصر الغير مؤثرة في تحديد دولية العقد.

الاتجاه الموسع في تحديد دولية العقد
يميل أنصار الاتجاه الموسع إلى التسوية بين العناصر القانونية للرابطة العقدية، ووفقا لذلك يعد العقد دوليا متى اشتمل العقد على عنصر أجنبي سواء تعلق هذا العنصر بالأعمال المتعلقة بإبرامه أو تنفيذه أو بموطن المتعاقدين أو بجنسيتهم وغير ذلك، وفي ذلك يرى الفقيه”Loussouarn” تأكيدا على رأي هذا الاتجاه أن العقد يتمتع بالصفة الدولية إذا كان من حيث الأعمال المتعلقة بإبرامه أو تنفيذه أو من حيث جنسية أطرافه أو موطنهم أو محل إقامتهم يرتبط بأكثر من نظام قانوني.

و تبعا لهذا الرأي، فيمكن لمغربيين أن يبرما عقد بيع خارج المغربي يكون موضوعه منتوج مغربي أصيل “الزعفران“، ويكتسب هذا العقد الصفة الدولية نظرا لوجود الصفة الدولية في العقد المتمثلة في الإبرام.

ومن المواثيق الدولية النادرة التي تبنت هذا التوجه الموسع في دولية العقد، نجد القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي تم إعداده من قبل لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي المؤرخ 21 يونيو 1985، حيث نص في المادة الأولى على ما يلي، يعتبر التحكيم دوليا:“إذا كان مقر طرفي التحكيم وقت عقد الاتفاق، يقعان في دولتين مختلفتين أو إذا كان مكان التحكيم واقعا خارج الدولة التي يقع فيها مقر عمل الطرفين…”.

وقد انتقد هذا الاتجاه خصوصا من بعض الباحثين المغاربة، بحيث اعتبرت الأستاذة جميلة أوحيدة بالموازاة مع رأي الأستاذ محمد الوكيلي من خلال تعليقه على القرار الصادر عن المجلس، بتاريخ 20 يناير 1980 على :”” ضرورة إعادة النظر في المعيار التقليدي الذي يفرق العقد الدولي عن العقد الداخلي من خلال اشتمال العقد على عنصر أجنبي سواء اتصل هذا العنصر بالأعمال المتعلقة بإبرامه أو تنفيذه أو بموطن المتعاقدين أو بجنسيتهم و غير ذلك.

فإذا كان القانون قد قرر ميزة العقود الدولية وهي انفراد أطرافها بتحديد القانون الواجب التطبيق عليها، فإن هذه الميزة يتعين أن تخص هذا النوع من العقود فحسب، دون غيرها من العقود التي تظل خاضعة لأحكام القانون الداخلي,,,”. و هو نفس الرأي الذي أدلت به الأستاذة أمينة الخياط بتأكيدها على أنه:” لا يمكن تجاهل ما يتسم به ( المعيار القانوني التقليدي) من جمود ناتج عن كون أنصاره قد ذهبوا إلى حد التسوية بين العناصر القانونية للرابطة التعاقدية، الشيء الذي ترتب عنه، أنه وبمجرد تطرق الصفة الأجنبية إلى العقد، يكتسي هذا الأخير بشكل آلي، الطابع الدولي بصرف النظر عن أهمية و مدى فعالية هذا العنصر في إضفاء الصبغة الدولية”.

ولاعتبارات الجمود التي وصف بها المعيار القانوني التقليدي، ظهر اتجاه مضيق تبناه الفقه المعاصر، فما هي الأسانيد التي أسس عليها هذا الاتجاه نظريته؟

: الاتجاه المضيق في تحديد دولية العقد
حاول أنصار هذا الاتجاه تأسيس نظريته بالتفرقة بين العناصر المؤثرة أو الفاعلة و العناصر غير المؤثرة أو المحايدة التي تتطرق إليها الصفة الدولية، فإذا تطرقت هذه الأخيرة لعنصر ليست له أهمية وتأثير من بين عناصر العقد أو تناولت عنصر محايد لا يشكل فعالية و جوهرا أساسيا في الرابطة العقدية، فإن ذلك لا يكفي لإضفاء الصفة الدولية على هذه الرابطة. فلا يعقل حسب مؤيدي هذه النظرية اعتبار العقد دوليا على سبيل المثال لمجرد أنه حرر على ورق مصنع في دولة في دولة أجنبية ( مكان تكوين العقد)، كما لا يعتد بضابط الجنسية ولا يعتبر عنصرا مؤثرا في العقود التجارية وعقود المعاملات المالية.

والملاحظ أن مؤيدي هذا الاتجاه، لم يحددوا العناصر المؤثرة في الرابطة العقدية، لإضفاء الصفة الدولية عليها.
وفي هذا الإطار يميز الأستاذ “Pierre Mayer” بين الدولية الموضوعية والدولية الشخصية في الروابط العقدية، فالدولية الموضوعية حسب الأستاذ تتصل عناصرها الأساسية بدولتين أو أكثر، بصرف النظر عن الدولة التي طرح النزاع أمامها، فيما تكون الدولية شخصية( النسبية) متى تعلقت عناصر هذه العلاقة بدولة واحدة بينما طرح النزاع في دولة أخرى.

ويمكن مثلا توضيح الدولية الموضوعية، فيما لو كان طرف مغربي أبرم عقد بيع مع فرنسي في فرنسا على أساس أن التنفيذ سيكون في ألمانيا، فالدولية هنا مست عناصر مرتبطة بأكثر من دولة.

أما الدولية الشخصية، فهي مثلا أن يبرم عقد بيع بين فرنسيين مقيمين في المغرب، فالعقد هنا وطني يخضع للقانون المغربي، وبالتالي إن طرح النزاع أمام القاضي المغربي، فإن الصفة الدولية سيتم النظر إليها من خلال جنسية المتعاقدين، أما في حالة طرح النزاع أمام قاضي فرنسي فسينظر إلى النزاع من زاوية توطين العقد بالخارج، و عليه لا يكتسب العقد الصفة الدولية الموضوعية نظرا لتركز العناصر كلها في دولة واحدة.

وبالانتقال إلى موقف الفقه المغربي من هذا الاتجاه، أنه اختلف في المعايير المؤثرة والفاعلة في العقد لاكتسابه الصفة الدولية، إذ يعتد بعضهم بضابط الجنسية، بالإشارة إلى ضرورة أن يكون أحد المتعاقدين أو هما معا يحملان جنسية غير الجنسية المغربية ” الفقيه الفرنسي بول دكرو”. بينما يرى جانب آخر منهم أن التعاقد الذي يكون بين شخصين ، شخص مغربي والآخر أجنبي يجعل العقد دوليا، مع وضع الاستثناء على ذلك في الحالة المتعلقة بتطبيق القانون الداخلي عندما تكون العلاقة بين دولة وشخص أجنبي، في حين ذهب رأي آخر إلى اعتبار الضوابط الأخرى هي المحددة لدولية العقد منها مكان إبرام العقد أو مكان تنفيذه.

أما بالنسبة للاتفاقيات الدولية التي أخذت بهذا المعيار، نجد اتفاقية لاهاي لعام 1964 بشأن البيع الدولي للمنقولات المادية، والتي نصت على :”” يسري هذا القانون على عقد بيع المنقولات المادية التي تبرم بين أطراف توجد مراكز أعماله في مراكز مختلفة…”، فيما جاءت الفقرة الثالثة من المادة الأولى من اتفاقية لاهاي 1964:” لا يتوقف تطبيق هذا القانون على جنسية أطراف البيع”.

انطلاقا مما تنص عليه الاتفاقية، يتضح أنها أخذت بالمعيار الشخصي المتعلق باختلاف مركز أعمال أطراف البيع، و كضابط إضافي اختلاف جنسية أطراف البيع. والمعيار المادي متمثل في انتقال المبيع من دولة إلى أخرى، و صدور الإيجاب والقبول من دولتين مختلفتين، ثم تسليم المبيع في دولة من الغير.

بالإضافة إلى اتفاقية لاهاي هناك اتفاقية الأمم المتحدة بشان البيع الدولي للبضائع فيينا 1980 التي نصت في المادة الأولى:”تطبق احكام هذه الاتفاقية على عقود بيع البضائع المعقودة بين أطراف توجد مراكز أعمالهم في دول مختلفة: أ- عندما تكون هذه الدولة متعاقدة أو عندما تؤدي قواعد الدولي الخاص إلى تطبيق قانون دولة متعاقدة”. و تستند هذه الاتفاقية إلى ضرورة اختلاف مراكز أعمال كل من البائع والمشتري.

ونظرا لعدم كفاية المعيار القانوني لتقرير الصفة الدولية للعقد و إخضاعه لقواعد القانون الدولي الخاص، ظهر اتجاه آخر يعطي الصفة الدولية للعقد من خلال المعيار الاقتصادي.

المطلب الثاني: المعيار الاقتصادي لتحديد دولية العقد
ظهر المعيار الاقتصادي في بدايته الأولى في مجال القانون النقدي والأداءات و الوفاءات الدولية، وحاول التمييز بين العقد الداخلي والدولي انطلاقا من موضوع التعاقد. ويرجع الفضل في ذلك إلى المحامي “Paul Matter” في قضية طرحت على محكمة النقض سنة 1927، التي أكد فيها على أن العقد يعد دوليا إذا ترتب عليه تحركات الأموال عبر الحدود الدولية.

ويمكن التمييز في إطار هذا المعيار بين توجهين أساسيين، التوجه الموسع في دولية العقد استنادا على المعيار الاقتصادي، و التوجه المضيق في دولية العقد بناء على المعيار الاقتصادي.

الاتجاه الموسع
ظهر المعيار الاقتصادي في النصف الأول من القرن العشرين على يد القضاء الفرنسي، وذلك لتفادي الجمود الذي يعتري المعيار القانوني، وقد تميز هذا الاتجاه بمراحل بحيث أن المرحلة الأولى، تعتبر العقد دوليا، عندما يتعلق بحركة الأموال التي تعبر الحدود الإقليمية للدول، فالعقد يعد دوليا متى ما نتج عنه انتقال رؤوس الأموال من بلد إلى آخر و بصرف النظر عن جنسية المتعاقدين أو غيرها من عناصر الصفة الأجنبية مخالفا بذلك الاتجاه القانوني، فالعقد الذي لم يؤد حركة تبادل تجارية لا يعد دوليا حتى ولو انصرفت إليه الصفة الأجنبية.

وتذهب اتفاقية النقل الدولي للبضائع بطريق البر أو ما يعرف بقواعد هامبورغ 1978 والتي صادق عليها المغرب بتاريخ 12 يونيو 1981، في مادتها الأولى في هذا الاتجاه، بحيث تعتبر عقد النقل البحري للبضائع يعد دوليا ويخضع لقواعد هامبورغ إذا توافر له معيار أساسي وهو كون النقل يقع بين دولتين مختلفتين مهما كانت صفة أو جنسية طرفي العقد.

والملاحظ أن أنصار هذا المعيار وسع من مفهوم التجارة الدولية، فمجرد انتقال رؤوس الأموال من بلد إلى آخر يضفي عليه الصفة الدولية، و هو ما ينبغي معه التضييق من نطاق المعيار الاقتصادي الموسع، وهو ما ظهر مع المرحلة الثانية والثالثة لتبني المعيار الاقتصادي.

الاتجاه المضيق
شكلت المرحلة الثانية والثالثة من ظهور المعيار الاقتصادي، مراحل مهمة في تحديد المعايير التي يستند عليها أنصار الاتجاه الاقتصادي لتحديد دولية العقد، إذ يعتبر العقد دوليا في المرحلة الثانية التي ظهر فيها التحكيم في العقود الدولية، إذا تعلق بمصالح التجارة الدولية، فالنزاع الذي يمس مصالح التجارة الدولية بالإمكان إخضاعه للتحكيم دون النزاعات الأخرى التي لا تتعلق مباشرة بالتجارة الدولية. أما المرحلة الثالثة لظهور المعيار الاقتصادي فينظر فيه إلى توفر جميع عناصر العقد القانونية لمعرفة مدى خروجه من نطاق الاقتصاد الوطني، أي ضرورة أن يتعدى العقد بآثاره الاقتصاد الوطني لكي يكون عقدا دوليا.

وبالرجوع إلى القانون النموذجي المتعلق بالتجارة الإلكترونية لسنة 1996 المبرم بنيويورك، خاصة في مادته الأولى نجده يعتبر العقد المتعلق بالتجارة الإلكترونية عقدا دوليا إذا ما كانت له علاقة بالتجارة الدولية أي بعملية انتقال المعلومات والبيانات الإلكترونية من دولة إلى أخرى.وهو نفس ما الاتجاه الذي تبنته الاتفاقية الدولية المنظمة للتحكيم التجاري الدولي المؤرخة 21ٍ أبريل 1961 والتي نصت في مادتها الأولى على :” إن الاتفاقية تطبق على اتفاقيات التحكيم المبرمة لتنظيم نزاعات :” تمس عمليات التجارة الدولية بين أشخاص طبيعية أو معنوية…”.

وما يعاب على هذا المعيار الغموض وعدم التجديد، فدولية العقد تحققت حسب هذا التوجه لتعلقه بمصالح التجارة الدولية وهي نفس النتيجة التي يمكن أن يصل إليها المعيار القانوني لا سيما وأن العنصر المؤثر في عقود المعاملات المالية محل التنفيذ و هو عنصر تطرقت إليه الصفة الأجنبية بحسب ما سيكون.

المحور الثاني : إعمال الإزدواجية في تحديد دولية العقد
إذا كانت المؤشرات التي يعتمدها كل من المعيار القانوني و المعيار الإقتصادي، تؤكد وجود لبس في المعيارين فقد حاول البعض البحث عن حلول جديدة و إدماج المعيارين معا في تحديد دولية العقد.

المطلب الأول: المعيار المختلط (المزدوج)
نظرا لاختلاف وجهات نظر الفقهاء في تحديد دولية العقد، بين الاتجاه الذي يتبنى المعيار القانوني والاتجاه الذي يعتمد على المعيار الاقتصادي، ظهر اتجاه ينادي بالجمع بين المعيارين لتحديد دولية العقد، فلا يمكن حسب أنصار هذا الاتجاه تحقق أي من المعيارين دون الآخر. و يستند هؤلاء إلى أن المعيار القانوني وان كان قادرا على مشكلة تنازع القوانين لكنه غير كافي لمنحه الطابع الدولي، فاختلاف جنسية المتعاقدين لا تكفي لإضفاء صفة الدولية على العقد، وان المعيار الاقتصادي كذلك وان كان يتطلب فيه ارتباط العقد الدولي بمصالح التجارة الدولية فإنه لا يكفي لوحده لإعطاء صفة الدولية للعقد.

مبررات الجمع بين المعيارين
إذا كانت الصفة الدولية شرطا أساسيا لإعمال المبادئ التي تحكم العقد التجاري الدولي من ضمنها تطبيق مبدأ سلطان الإرادة في تحديد القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الدولية، فإنه كان لزاما الجمع بين المعيارين القانوني والاقتصادي نظرا للتكامل بين بينهما، وهو ما برره أنصار هذا الاتجاه على اعتبار أن العقد يكون دوليا إذا اتصل بأكثر من نظام قانوني، وتحقيقه لمصالح التجارة الدولية فإنه بالضرورة يتصل بأكثر من نظام قانوني، بمعنى أن توافر المعيار الاقتصادي لدولية العقد يؤدي بالضرورة إلى اكتساب الرابطة العقدية لطابعها الدولي وفقا للمعيار القانوني.

وفي هذا الإطار حاولت بعض الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالبيع الدولي الجمع بين المعيارين القانوني والاقتصادي وهذا ما يتبين من خلال اتفاقية فيينا لسنة 1980 بشأن البيع الدولي للبضائع، التي اعتدت بالإضافة إلى المعيار القانوني وتعلق العقد بأكثر من نظام قانوني، بوجود مؤسسات الأطراف المتعاقدة في دولتين مختلفتين. واتفاقية لاهاي 1964 التي أخذت كذلك بالمعيارين معا في الفقرة الأولى من المادة الأولى من الملحق الأول منها.

المطلب الثاني: موقف مبادئ unidroit
حاول المعهد الدولي لتوحيد القانون الدولي الخاص المعروف ب “unidroit” تقنين قواعد تنظم العقود الدولية، و بالرجوع إلى هذه المبادئ يتبين أنها حاولت الجمع بين معايير مزدوجة و متعددة لتحديد دولية العقد، و جاء في إطار ديباجة هذه المبادئ أن الصفة الدولية للعقد تتحدد أساسا من خلال ما جاءت به الاتفاقيات الدولية و التشريعات الوطنية، فأخذت بالمعيار القانوني كجنسية الأطراف، و المعيار الاقتصادي المتمثل في مصالح التجارة الدولية.

وقد ركزت ديباجة مبادئ المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص على وظائف أساسية تقوم بها هذه المبادئ وذلك كحل نموذجي لمشكل تنازع القوانين في ميدان التجارة الدولية، أنها تكون مختصة بعقود التجارة الدولية، وهذا أيا كان المعيار المعتمد لإضفاء الصفة الدولية على العقد، أي سواء كان هذا المعيار القانوني.

و الملاحظ في إطار مبادئ”unidroit” أنها جمعت بين المعايير المحددة لدى التيارات الفقهية والقضائية والاتفاقيات، لتوحيد الصفة التي يمكن من خلالها تحديد الصفة الدولية للعقد، وذلك لاعتبارات عدم كفاية كل من المعيارين القانوني والاقتصادي لوحده، بل لابد من التكامل بين المعايير للإيجاد ضابط يضفي الصيغة الدولية على العقد.

إن ما سبق ذكره، يبين أن عدم تحديد ظهير الوضعية المدنية للأجانب للمعايير المعتمدة لتحديد دولية العقد يفتح المجال أمام عدة آراء تتسم أحيانا بالتعارض الذي تكرسه الإيديولوجية، ففقه الحماية بقيادة ” بول دكرو” دافع بشدة عن معيار الجنسية و اختلافها لتحديد دولية العقد، بينما للفقهاء المغاربة آراء مختلفة الأغلب فيها ضرورة إعادة النظر في المعايير المأخوذ بها في مرحلة الحماية التي لم تعد تساير الوضع الحالي للبلد. الشيء نفسه لازم القضاء الذي تذبذبت قراراته في تحديد معايير دولية العقد، و على هذا الأساس ينبغي تبني رؤية جديدة تستحضر رأي الباحثين و الفقهاء المغاربة و الإستفادة من الترسانات الأجنبية التطورات التي راكمت تجارب كبيرة في المجال كدول الإتحاد الأوربي.

بقلم ذ وليد أيت شعو
باحث في العلاقات الخاصة الدولية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت