مقدمة :

تنص المجموعة الجنائية المغربية الحالية على أن التشريع الجنائي يحدد “أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، و يوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية.

أما الضريبة فإنها تعبر عن تلك المساهمة أو الاقتطاع النقدي الذي يحصل من الأشخاص/الملزمين بصورة إجبارية و نهائية و بدون مقابل، و ذلك بقصد تمويل النفقات العمومية، و يتكون القانون الضريبي من مجموع القواعد التي تنظم هذا الاقتطاع.

من خلال هذين التعريفين يتبين أن هناك نوع من الارتباط بين القانون الضريبي و القانون الجنائي، و موضوع القانون الجنائي الضريبي يستهدف مقاربة هذا الارتباط، و بالضبط استنباط المظاهر الجنائية للقانون الضريبي. و يمكن القول أن العلاقة بين القانونين تتجسد في إطار عام مفاده أن قواعد القانون الجنائي تمثل الضمان الأساسي لتطبيق قواعد القانون الضريبي بشكل سليم و مشروع، كما تتجلى هذه العلاقة في الحالة التي تصبح فيها بعض التصرفات المرتبطة بالضريبة، جريمة معاقب عليها جنائيا.

و بالتالي فإن القانون الجنائي الضريبي، يتجسد أساسا في تحديد الجرائم الجبائية و الجرائم المترتبة عنها، و كذا المساطر الجبائية و الجنائية التي ترافق مسلسل الجريمة الضريبية ابتداء من ارتكابها و انتهاء بتوقيع الجزاء على القائم بها.

و تأسيسا على ذلك فإن هذا الموضوع يثير إشكالية جوهرية تنصب حول مدى فعالية نظام تجريم الأفعال الضريبية غير الشرعية بالمغرب. أو بمعنى آخر : إلى أي حد ساهم هذا النظام في معاقبة المخلين بالتزاماتهم الضريبية، و من تم الحد من ارتكاب الجرائم الجبائية ؟؟

مقاربة هذه الإشكالية يمكن أن تتم من خلال تحليل و مناقشة النقاط التالية :

مظاهر القانون الجنائي الضريبي.

تجريم الجرائم الرئيسية من قبل الإدارة الضريبية.

 محدودية البعد الجنائي للقانون الضريبي.

المبحث الأول : مظاهر القانون الجنائي الضريبي.

يعد مبدأ ضرورية الضريبة Nécessité de l’impôt من المبادئ الأساسية للقانون الضريبي المنصوص عليها في الفصل 39 من الدستور الحالي، و يستمد هذا المبدأ سنده من القوانين الأساسية التي تنص على ضرورة الموارد الضريبية لتمويل النفقات العامة.

و من أجل ضمان احترام هذا المبدأ و عدم تعرضه للخرق من طرف الملزمين عن طريق التصرفات غير الشرعية، لابد من إحاطته بالحماية القانونية اللازمة، هذه الحماية قد تتمثل في الجزاءات الجبائية التي يمكن للإدارة الضريبية أن توقعها على المخلين بالتزاماتهم الضريبية، كما يمكن أن تصل إلى حد توقيع الجزاء الجبائي الجنائي الذي يستلزم تدخل القاضي، و الذي يمكن أن يصل إلى حد الحبس، و ذلك في حالة إثبات وقوع جريمة ضريبية تستلزم توقيع هذا الجزاء.

فما هي إذن طبيعة هذه الجرائم الضريبية ؟ ثم ما هي الخصوصيات و الشكليات التي تميز المتابعة الجنائية في المادة الجبائية عن باقي المتابعات في الجرائم العادية ؟

        المطلب الأول : طبيعة الجرائم الضريبية.

من خلال تفحص مقتضيات المدونة العامة للضرائب، بالإضافة إلى مدونة تحصيل الديون العمومية، يبدو أن طبيعة الجرائم الجبائية مرتبطة بصنف أساسي من الجرائم، والذي يتمثل في جرائم الغش الضريبي.

و على هذا الأساس، فقد نحت معظم التشريعات العالمية نحو تجريم الغش الضريبي، و اعتبار هذا التصرف جريمة معاقب عليها جنائيا وفق مقتضيات و أحكام القانون الجنائي. و يعبر هذا التجريم عن وعي الحكومات بخطورة ظاهرة الغش و تأثيراتها السلبية على المستويات المالية و الاقتصادية و الاجتماعية.

كما يدل على عجز مختلف التدابير الأخرى الرامية إلى الحد من اتساع ظاهرة الغش، سواء تلك التي تتخذ طابعا وقائيا، أو تلك المتخذة للطابع الزجري كما هو الشأن بالنسبة الجزاءات الجبائية الإدارية.

و يعتبر المغرب من الدول التي قامت بتجريم الغش الضريبي حديثا، هذا التجريم الذي لم يكتب له وجود خلال الإصلاح الضريبي العام لسنة 1984، و انتظر ما يزيد عن 13 سنة ليتم إخراجه إلى أرض الوجود بمقتضى قانون مالية سنة 1996/1997، و ذلك بعد جدال و نقاش كبير استمر عدة سنوات أثناء مناقشة العديد من القوانين المالية السنوية.

 هكذا فالتشريع المغربي، يجعل من الغش الضريبي مخالفة جنائية تستلزم تدخل القضاء الزجري و توقيع الجزاء على مرتكبي الغش، بغض النظر عن العقوبات الجبائية الإدارية التي يمكن أن يتلقاها نفس مرتكب الغش الضريبي بمناسبة مخالفته لقواعد القانون الضريبي5.

فما يعتبر غشا ضريبيا بالنسبة للمشرع الضريبي المغربي، هو ما يتعلق بالأعمال التدليسية التي تستهدف التخلص من الضريبة، باستعمال الوسائل التي حظرها القانون.

و بالتالي فقيام الغش الضريبي يستلزم توافر ثلاث عناصر :

1-  عنصر قانوني يقوم على تواجد نص تشريعي يحظر الفعل المجرم.

2-   عنصر مادي يقوم على توافر الدليل المادي على ارتكاب المخالفة.

3-  عنصر معنوي يقوم على قصد القيام بالغش6، و هو ما يميز الغش عن الخطأ.

و تبعا لذلك فإن حالات تحقق جريمة الغش الضريبي، أو صور جريمة الغش الضريبي، منصوص عليها في المادة 192 من المدونة العامة للضرائب، هذه المادة التي تقر بأنه : “بصرف النظر عن الجزاءات الضريبية المنصوص عليها في هذه المدونة، يتعرض لغرامة… كل شخص تبث في حقه قصد الإفلات من إخضاعه للضريبة أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرجاع مبالغ بغير حق، استعمال إحدى الوسائل التالية :

–       تسليم أو تقديم فاتورات صورية.

–       تقديم تقييدات محاسبية مزيفة أو صورية.

–       بيع بدون فاتورات بصفة متكررة.

–       إخفاء أو إتلاف وثائق المحاسبة المطلوبة قانونا.

–       اختلاس مجموع أو بعض أصول الشركة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال إعسارها. 

الملاحظ على هذا النص أنه لم يهدف إلى تقديم تعريف للغش، أكثر مما استهدف حصر الحالات التي تعتبر جريمة غش ضريبي، و بالتالي تستوجب عقابا جنائيا معينا.

و تضيف نفس المادة، في فقرتها الثانية على أنه : “دون الإخلال بتطبيق عقوبات أشد، يعاقب بغرامة … كل من استعمل تنابر منقولة سبق استعمالها أو باعها أو حاول بيعها…

دون الإخلال بتطبيق عقوبات أشد، يعاقب على صنع التنابر و التجول بها من أجل البيع أو بيع التنابر المزورة بالحبس .

بناء على محتوى هذه المادة التي تشتمل على مجمل الحالات التي تعتبر جريمة للغش الضريبي، يتضح أن أكثر ما يميز هذه الجريمة المالية بالمغرب، هو عدم اعتبار كل تصرفات الغش الضريبي جرائم ضريبية، فالمشرع المغربي اكتفى في هذا الإطار بحصر الحالات التي تعتبر جريمة معاقب عليها جنائيا.

       المطلب الثاني : مساطر المتابعة في الجرائم الضريبية.

بعد قيام الجريمة الجبائية واكتمال أركانها، يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى تمثل فيها الإدارة الجبائية و النيابة العامة دورا حاسما في السعي نحو معاقبة المخلين بالالتزامات الضريبية معاقبة جنائية موقعة من طرف القاضي الزجري. و هو الأمر الذي يتم من خلال إتباع مسطرة متابعة خاصة بهذا النوع من الجرائم.

و تتميز المتابعة الجنائية لجرائم الغش الضريبي بتعقيدات إدارية تجعل التساؤل مطروحا حول جدوى تجريم الغش الضريبي بالمغرب، وهو الأمر الذي يمكن أن يستشف من خلال تعدد و تعقد المساطر و المسالك الواجب على المديرية العامة للضرائب إتباعها قبل تحريك الدعوى العمومية.
إذ ينص المشرع على أن إثبات المخالفات الجنائية لا يمكن أن يتم إلا بناء على محضر يحرره مأموران بإدارة الضرائب من درجة مفتش على الأقل ينتدبان خصيصا لهذا الغرض، و محلفين وفقا للتشريع الجاري به العمل ، كما لا يمكن إثبات هذه المخالفات إلا في إطار مراقبة ضريبية.

وهكذا، فبخصوص المراقبة الضريبية، فإنها تجد أساسها في كون النظام الضريبي المغربي يعتمد بالأساس على نظام تصريح (إقرار la déclaration) الملزمين بدخولهم أو الأعمال الخاضعة للضريبةactes possibles d’impôts، هذه التصريحات يجب أن تكون صادقة و تامة ، و لهذا السبب تعتبر المراقبة المقابل العادي لإلزامية قيام الملزمين بإعداد إقرارات صحيحة و مضبوطة في المادة الخاضعة للضريبة.

و إذا ما افترضنا، أنه قد تم ضبط مخالفة ضربية من خلال هذه المسطرة، فإنه يجب إثباتها بواسطة محضر يحرره مأموران محلفين بإدارة الضرائب من درجة مفتش على الأقل.

و في هذا الإطار أحدث المشرع لجنة خاصة للمخالفات الضريبية، و ألزم وزير المالية باستشارتها قبل تقديم شكايته إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية التي ارتكبت المخالفة في مجال ترابها.

بعد السلوك الإلزامي لكل هذه المساطر المعقدة، تنتقل المتابعة إلى النيابة العامة في إطار دعوى عمومية ذات طابع قضائي محض.

و يخضع تحريك الدعوى العمومية و ممارستها بخصوص الجرائم الضريبية للعديد من الأحكام و الإجراءات، منها ما يدخل في نطاق الإجراءات العامة المتعلقة بتحريك الدعوى العمومية بشأن الجرائم عموما، و منها ما يعتبر أحكاما خاصة ببعض الجرائم الضريبية بشكل خاص .

و كما سبق الإشارة إليه، فإن تحريك الدعوى العمومية بشأن جرائم الغش في الضرائب الأساسية الثلاث، يخضع لبعض الإجراءات الخاصة المتمثلة في عرض الشكايات الرامية إلى تطبيق العقوبات الجنائية، على سبيل الاستشارة، على لجنة خاصة بالمخالفات الضريبية يرأسها قاض و تضم ممثلين لإدارة الضرائب و ممثلين للملزمين يختاران من قوائم تقدمها المنظمات المهنية الأكثر تمثيلا، و يعين أعضاء هذه اللجنة بقرار من رئيس الحكومة .

بعد كل ذلك يقوم وكيل الملك بإحالة القضية المرفوعة أمامه إلى المحكمة المختصة تطبيقا لأحكام الفصل 8 من الظهير الشريف المعتبر بمثابة قانون رقم 448-74-1 الصادر بتاريخ 28 شتنبر 1974.16

و بالرجوع إلى القواعد العامة للمسطرة الجنائية و للمادة 231 من المدونة العامة للضرائب، فإن اختصاص الحكم في جرائم الغش الضريبي يعود إلى المحاكم الابتدائية التابع لها مكان ارتكاب جريمة الغش.

و تجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أنه طبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 231 من المدونة العامة للضرائب، يتوجب على وكيل الملك أن يحيل الشكاية إلى قاضي التحقيق، هذا الأخير الذي يكون ملزما بالقيام بالمهام المسندة إليه طبقا لمقتضيات قانون المسطرة المدنية.

بشكل عام، يمكن القول أن المنازعات الزجرية في مجال الغش الضريبي، تتمتع بعدة خصوصيات، أهمها كونها تعتبر من أبرز الجرائم التي يستلزم المشرع، لتحريك الدعوى العمومية فيها، صدور طلب أو إذن من إدارة الضرائب. كما أجاز القانون لإدارة الضرائب التخلي عن الدعوى بعد رفعها إذا رأت محلا لذلك، و هذا استثناء من القواعد العامة في المسطرة الجنائية، حيث تعتبر الدعوى العمومية حق للمجتمع لا يجوز التنازل عنه، و قد قصد بهذا الإجراء التيسير عن المكلفين و مصلحة الضرائب من جهة، و من جهة ثانية حتى تقوم العلاقة بين الإدارة و المكلفين على التفاهم أولا .

المبحث الثاني : محدودية البعد الجنائي للقانون الضريبي.

محدودية البعد الجنائي للقانون الضريبي، يمكن أن تستشف من خلال مختلف المراحل التي يمر منها تطبيق الجزاءات الجنائية. ابتداء من مرحلة إثبات أو البحث عن الجريمة الجبائية و انتهاء بمرحلة توقيع الجزاءات الجنائية الضريبية.

كما يمكن الاستعانة في كشف النقاب عن هذه المحدودية، بالرجوع إلى التجارب الأجنبية المقارنة، و معرفة كيف تعاملت هذه الدول مع التجريم الضريبي، و مقارنة الأحكام الجنائية الضريبية المعتمدة بالمغرب مع تلك المعتمدة بالدول المقارنة.

و سيتم الاكتفاء في إثبات هذه المحدودية على مؤشرين اثنين، الأول متعلق بضعف الجزاءات الزجرية في الجرائم الضريبية، و الثاني مرتبط بصعوبة توافر الأركان العامة للجرائم الضريبية.

  المطلب الأول : صعوبة توافر الأركان العامة للجرائم الضريبية.

الأركان العامة للجرائم الضربية، هي نفسها تلك الموجودة بالقانون الجنائي، إلا أن ذلك لا يعني وجود تشابه وتطابق مطلق مابين أحكامها و الأحكام التي تؤطر تلك الأركان بالقانون الجنائي، بل هناك ما يميزها و يعطيها طبيعة خاصة، و من أهم مميزات أركان الجرائم الضريبية، صعوبة قيامها وتوافرها، سواء تعلق الأمر بالركن القانوني (أ) أو بباقي الأركان الأخرى (ب).

أ– الركن القانوني :

يعد الركن القانوني أهم ركن للجرائم بشكل عام والجرائم الضريبية بشكل خاص، فهو الأساس القانوني الذي يستند عليه قيام أي جريمة مهما كان شكلها أو نوعها، و ينتفي وجود الجريمة بانتفاء هذا الركن.

فبالنسبة لجنحة الغش الضريبي، يمكن القول بأنها لا تتمتع بذاتية خاصة بالنسبة إلى قاعدة شرعية الجرائم و العقوبات، وبالتالي فشأنها في ذلك شأن الجريمة العادية من حيث الخضوع لضرورة توفر الركن القانوني20 .

و هكذا فالركن القانوني لجريمة الغش الضريبي، يتمثل في النص التشريعي الذي بموجبه تم تحديد مجموعة من المخالفات الضريبية التي تعتبر جنحا يعاقب عليها بغرامات مالية أو بعقوبات حبسية، و يتعلق الأمر هنا بالمادة 192 من المدونة العامة للضرائب.

ويبدو واضحا أن القيود المفروضة على النص القانوني المجرم للغش الضريبي، تجعل من الركن القانوني لجريمة الغش الضريبي، ركن يصعب قيامه نظرا لخروج الكثير من حالات الغش الضريبي من نطاق هذا النص، وبالتالي عدم اعتبار كل عمل غش ضريبي جريمة غش ضريبي، وهو أمر ناتج أساسا عن هشاشة ومحدودية الفصل 192 من المدونة العامة للضرائب، و الذي يشكل أساس الركن القانوني لجريمة الغش الضريبي.

هذه النتيجة ستتضح أكثر عند الحديث عن كل من الركنين المادي والمعنوي.

و على العموم، فإنه لتوفير حماية قانونية و جنائية أكبر للنظام الضريبي، كان من الأوجب تعدد و تنوع الفصول القانونية المجرمة للأعمال الضريبية غير الشرعية، نظرا للإشكالات التي يثيرها الركن القانوني للجرائم الضريبية و التي من بينها تعدد الاستثناءات على مبدأ الشرعية.

ب – الأركان الأخرى :

إذا كان الركن القانوني للجريمة الضريبية بشكل خاص و الجرائم الأخرى بشكل عام يعد أهم ركن من الأركان الثلاث للجريمة، فإنه إلى جانبه لا بد من توافر الركنين الآخرين المتمثلين في الركن المادي والركن المعنوي.

جـ- الركن المادي :

قياسا على المعنى العام للركن المادي للجريمة، لا يمكن تصور حدوث جريمة الغش الضريبي ما لم يقم الملزم الخاضع للضريبة بارتكاب إحدى الوسائل التي تؤدي إلى مخالفة الالتزام الضريبي للملزم اتجاه المصلحة المالية للدولة، و بالتالي فالملزم الخاضع للضريبة بارتكابه لإحدى الأعمال أو التصرفات المنهى عنها قانونا يكون قد ارتكب جنحة في حق الخزينة العامة للدولة.

و للإشارة فهذا التصرف الذي يقوم به الملزم إما أن يكون في شكل تصرف ايجابي يخالف مقاصد المشرع، كتقديم بيانات غير صحيحة عن رقم الأعمال أو عن مبلغ الربح الخاضع للضريبة، نقل المقر الاجتماعي للشركة دون إخبار الإدارة الضريبية بذلك و إلى غير ذلك من التصرفات، كما قد يكون التصرف سلبيا كالامتناع عن تقديم البيانات اللازمة للمراقبين الضريبيين، إخفاء وثائق هامة تتعلق ببيوعات أو مشتريات. فكل هذه التصرفات سواء في شكلها الايجابي أو السلبي تعتبر تمويها لحقيقة الأمر، و تشكل الركن المادي لجريمة الغش الضريبي.

اشكالات أساسية تثار أثناء الحديث عن الركن المادي لجرائم الغش الضريبي، أولها هو أن قانون تجريم الغش الضريبي بالمغرب لم يشمل سوى ثلاث ضرائب من مجموع النظام الضريبي الوطني (هذه الضرائب هي الضريبة على القيمة المضافة و الضريبة على الدخل و الضريبة على الشركات)، وبالتالي فالتجريم لم يهم سوى ضريبتين مباشرتين، دون أن يمتد لغيرها من الضرائب المباشرة، بالرغم من كونها تشكل مرتعا خصبا للغش، في حين نجد أن التشريع الفرنسي – في هذا الشأن – قد هم مجموع الضرائب، سواء المباشرة منها أو غير المباشرة .

الإشكال الأخر الأكثر أهمية، يتمثل في كون المشرع حصر الركن المادي لجريمة الغش في بضع مخالفات فقط، فالمشرع المغربي قد اكتفى بهذه الحالات و لم ينص على معاقبة مخالفات أخرى نظرا لخطورتها أيضا، و بالتالي فالمشرع قصر في تحديد نطاق هذه الأفعال المحظورة، إذ ليس هناك أي مبرر معقول للتراجع، كما ورد في مشروع النص الذي تقدمت به الحكومة إلى البرلمان، عن تجريم الامتناع عن الإدلاء بالإقرارات اللازمة في الآجال التي يحددها القانون في حالة ثبوت سوء نية الفاعل، مع العلم أن مثل هذه المخالفات كانت محل عقوبات جنائية من قبل مختلف التشريعات الضريبية العالمية .

وأخيرا، تجب الإشارة إلى القيد المتمثل في تنصيص المشرع على أنه لا يمكن ضبط و إثبات المخالفات المذكورة إلا في إطار مسطرة المراقبة الضريبية، وهي مسطرة لها آلياتها و شروطها الموضوعية و الإجرائية، و بهذا يكون المشرع قد استبعد من مجال التجريم المخالفات التي تضبط خارج هذا الإطار .

و النتيجة التي يمكن الخروج بها فيما يخص الركن المادي للجرائم الضريبية، هي وجود بعض الصعوبات التي تعرقل توافر هذا الركن و من تم قيام الجريمة، و هذا المر يبدوا واضحا كما سبق بيانه.

د- الركن المعنوي :

لا يكون كافيا للمساءلة على نشاط يعتبر جريمة من الناحية القانونية، أن يأتي الفاعل ماديا هذا النشاط، بل لابد أيضا من توافر الركن المعنوي الذي يسند معنويا الجريمة إليه .

وبالرجوع إلى المادة 133 من القانون الجنائي، نجد أن المشرع الجنائي قد أخذ بالتقسيم الثنائي لصور الركن المعنوي حين قال : ” الجنايات والجنح لا يعاقب عليها إلا إذا ارتكبت عمدا، إلا أن الجنح التي ترتكب خطأ يعاقب عليها بصفة استثنائية في الحالات الخاصة التي ينص عليها القانون. أما المخالفات فيعاقب عليها حتى ولو ارتكبت خطأ، فيما عدا الحالات التي يستلزم فيها القانون صراحة قصد الإضرار ” .

الجرائم الضريبية تخضع من حيث المبدأ لهذا النص العام، لكن طبيعتها الخاصة تفردها ببعض الأحكام التي تميزها عن باقي الجرائم الأخرى، و نظرا لتشابه أغلب الأحكام العامة للركن المعنوي للجرائم الضريبة، فإننا سنقتصر على تحليل القصد الجنائي لجريمة الغش الضريبي دون باقي الجرائم الضريبية.

وهكذا فالركن المعنوي في جريمة الغش الضريبي يعتبر من أهم ما تتميز به هذه الجريمة عن غيرها من الجرائم العادية بكونها جريمة عمدية، و يمكن القول أنه ما لم يثبت توافر القصد الجنائي فلا يمكن الحديث عن جريمة الغش الضريبي.

ويمكن التمييز في هذا الإطار بين نوعين من القصد الجنائي  :

القصد العام : حيث إن المتملص يكون على علم بارتكابه لفعل من الأفعال المجرمة، و الذي من شأنه أن يؤدي إلى الإفلات من الخضوع للضريبة أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرداد مبالغ بغير حق.

القصد الخاص : تتطلب هذه الجريمة توافر القصد بحيث تتجه إرادة المتملص إلى التملص من أداء الضريبة كلها أو جزء منها، و بالتالي حرمان الإدارة الضريبية من الحصول على حقها في هذه الضريبة.

و عموما، يمكن القول أن القصد الجنائي يتعلق بوجود نية للغش الضريبي لدى الملزم، و التي دفعته إلى ارتكاب إحدى المخالفات المذكورة سابقا، و لتيسير إثبات هذه النية فقد ربطها المشرع بقواعد موضوعية محددة وردت على سبيل الحصر في الإفلات من الخضوع للضريبة أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرداد مبالغ بغير حق30

      المطلب الثاني : ضعف الجزاءات الزجرية للجرائم الضريبية.

إلى جانب الجزاءات الجبائية الإدارية و الموقعة مباشرة من طرف الإدارة الجبائية، تسهر الجزاءات الجبائية الجنائية و التي تحتاج تدخل القاضي الزجري على حماية التطبيق السليم و المشروع لقواعد القانون الضريبي.

بشكل عام يبدو أن هذه الجزاءات تتميز بالضعف لاسيما فيما تعلق منها بجرائم الغش الضريبي.

يجد توقيع الجزاء على مرتكبي الغش الضريبي أساسه في كون أن العقوبة التي تفرضها الدولة على الغش الضريبي تساعد على الإقلاع منه، و كلما كانت العقوبة أعظم من الذي يعود على المكلف من هذا الغش، كلما جعلته يعدل عن ارتكابه.

و تبعا لذلك تنص المادة 192 من المدونة العامة للضرائب على أنه : “بصرف النظر عن الجزاءات الضريبية المنصوص عليها في هذه المدونة. يتعرض لغرامة من خمسة آلاف (5000) إلى خمسين ألف (50000) درهم كل شخص ثبت في حقه قصد الإفلات من إخضاعه للضريبة أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرجاع مبالغ بغير حق.. و ذلك حين استعمال إحدى الوسائل التي تكون الركن المادي لجريمة الغش الضريبي.

إن هذه الجزاءات الجنائية المالية، تشكل في الواقع الجزاء الوحيد الموقع على مرتكبي جرائم الغش الضريبي، أما العقوبات السالبة للحرية فهي لا تطبق على جريمة الغش إلا في حالة العود إلى ارتكاب هذه الجريمة، و هو الأمر الذي سيتم توضيحه بشكل أدق أثناء حديثنا عن العقوبات الحبسية.

و عموما، فإنه يلاحظ من خلال العقوبات المترتبة على مرتكبي جرائم الغش في الضرائب الأساسية الثلاث، أن هذه الجريمة تدخل في عداد الجنح، و إن كان المشرع قد استعمل عبارة “المخالفة”، فإن ذلك لا يعني أنها مصنفة في فئة المخالفات بل تدخل في إطار الجنح مما يدل على أن استعمال عبارة المخالفة لوصف هذه الجريمة، يفيد معنى الفعل المخالف للقانونو ليس معنى المخالفة كإحدى أصناف الجرائم.

و على أي حال، فإن القانون الضريبي يرتب على مرتكبي جرائم الغش الضرائب الأساسية عقوبة الغرامة التي تتراوح بين خمسة آلاف درهم و خمسين ألف درهم، و الغرامة هنا عقوبة جنحية، و ر غم طابعها المالي فإن ذلك لا ينفي عنها الصفة الجنائية، و يتم تطبيقها من قبل القاضي الجنائي، كما أنها ليست تعويضا مدنيا.

الإشكال الذي يهمنا في هذا الإطار، هو أنه حتى في حالة ضبط الجنح السالفة الذكر، لدى الملزمين الذين خضعوا لمسطرة فحص، و ذلك بعد سلوك كل المعيقات المتمثلة في تعقد المساطر و استحالة تحقيقها في بعض الأحيان، لا تطبق في حق هؤلاء الملزمين إلا غرامة مالية تتراوح ما بين 5000 و 50000 درهم مهما بلغت جسامة المخالفة أو المخالفات التي تم ضبطها، بحيث لم يربط المشرع بين فداحة الغش و مبلغ الغرامة.

إن هذه الجزاءات تعتبر ضعيفة جدا بالمقارنة مع ما تقررها التشريعات المقارنة الأخرى من عقوبات شديدة على الممارسين لهذا السلوك المنافي للأخلاق الحميدة، كالتشريع الفرنسي، و المصري… و غيرها من التشريعات الأخرى، فبالإضافة إلى تجريم مرحلة الشروع، و المساهمة في ارتكاب الجريمة، فإنها تنص على عقوبات تكميلية إلى جانب العقوبات الجنائية الرئيسية في حالة العود كما هو شأن المشرع الفرنسي و المصري39.

و يبدوا واضحا أن الغرامات الجنائية المفروضة في التشريع الضريبي المغربي تصنف ضمن الجزاءات الأقل شدة بالمقارنة مع مختلف الدول المقارنة.

أما بالنسبة للعقوبات الحبسية لجريمة الغش الضريبي، فهي منصوص عليها في البند الأخير من الفقرة الأولى من المادة 192 من المدونة العامة للضرائب، إذ يقر هذا البند أنه : ” في حالة العود إلى المخالفة قبل مضي خمس سنوات على الحكم بالغرامة المذكورة الذي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يعاقب مرتكب المخالفة، زيادة على الغرامة المقررة أعلاه، بالحبس من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر”.

غير أنه من خلال منطوق النص القانوني أعلاه، يتضح أن القانون الضريبي المغربي، قد نص على عقوبة الحبس في حق كل متملص من أداء الضريبة، إلا أن عقوبة الحبس هاته لا يعاقب بها إلا في حالة العود إلى ارتكاب المخالفة الضريبية قبل مضي خمس سنوات على الحكم بالغرامة الذي اكتسب قوة الشيء المقضي به، و عقوبة الحبس هي بين شهر و ثلاثة أشهر إضافة إلى الغرامة.

إذن فالعقوبات السالبة للحرية في جرائم الغش الضريبي، و التي تتراوح ما بين شهر و ثلاثة أشهر، لا تطبق إلا في حالة العود و شريطة أن يتم العود قبل مضي خمس سنوات، و هو الأمر الذي من الصعب تحقيقه، لأن الملزم ناذرا ما يتعرض لعملية فحص ثانية داخل أجل خمس سنوات، و ذلك نظرا للعدد المحدود للمفتشين المحققين في المغرب و الذين لا يتجاوز عددهم 300 محقق في مواجهة أكثر من 70 ألف شركة خاضعة للفحص، و بالتالي فإذا اعتبرنا أن المفتش المحقق لن يستطيع فحص أكثر من خمس مقاولات في السنة  في أحسن الأحوال، فإن معدل إعادة فحص نفس المقاولة يبلغ 46 سنة نظريا43، مما يترتب عنه الإفلات من العقوبات الجنائية.

و مقارنة مع بعض الأنظمة الضريبية الأخرى، فقد فرض المشرع الفرنسي على مرتكبي جرائم الغش الضريبي عقوبة حبسية تقدر بخمس سنوات، و في حالة العود تشدد إلى ما بين أربعة و عشر سنين إضافة على الغرامة. أما المشرع الألماني فهو أشد قسوة، إذ تصل مدو السجن إلى عشر سنوات و غرامة مالية قد تصل إلى 3,5 مليون مارك.44

و خلافا لكل الأنظمة الضريبية المعاصرة، اشترط المشرع المغربي لتطبيق العقوبة السالبة للحرية أن يتم العود إلى ارتكاب المخالفة، و هذا يخالف القاعدة العامة للقانون الجنائي، حيث إن مبدأ العود إلى الجريمة هو ظرف من ظروف تشديد العقوبة و ليس شرطا لتطبيقها.

أما تعريفه في مدونة تحصيل الديون العمومية، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 86 من هذه المدونة على أنه : “يعتبر في حالة العود، مرتكب المخالفة الذي أدين بصفة نهائية خلال الخمس سنوات السابقة من أجل مخالفة مماثلة”.

و عموما فإن هذا الشرط من الصعب إن لم نقل من المستحيل تحققه، و ذلك لسببين رئيسيين :

–       لأن الملزم ناذرا ما يخضع لمسطرة مراقبة أو تحقيق جبائي مرتين داخل المدة التي حددها المشرع.

–       غالب الظن أن المشرع اشترط أن يتم ارتكاب نفس المخالفة من طرف نفس الملزم مرتين، بحيث لو ارتكب الملزم مخالفتين لما كان في الإمكان إدانته على غرار ما نص عليه في جريمة افتعال السعر الواردة في مدونة تحصيل الديون العمومية و حسب تعريف المشرع الجنائي لمفهوم العود في الجنحة.

خاتمــــــــــــــــــــة :

النتيجة الأساسية التي يمكن أن يخلص إليها الباحث من خلال دراسة هذا الموضوع، هو أن القانون الجنائي الضريبي، هو قانون قائم بالفعل، ومتجسد في مجموعة من المقتضيات ذات الطبيعة الجنائية الضريبية و المتوزعة ما بين مقتضيات القانون الضريبي و المقتضيات العامة للقانون الجنائي. غير أن هذا القانون، وبالرغم من التطور الذي عرفه خصوصا في السنة المالية 1996/1997، لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وغير قادر على حماية قواعد القانون الضريبي من الخرق و التجاوز.

و في ظل هذه الوضعية، أصبح من اللازم اعتماد مجموعة من الإجراءات والتدابير الهادفة إلى إعادة الاعتبار للبعد الجنائي للقانون الضريبي، و من بين المداخل الإصلاحية لذلك، تقوية الجزاءات الضريبية الجنائية وتبسيط مساطر إثبات الجرائم الضريبية و توقيع الجزاء.

و عموما، فالأكيد أن تحقيق هذه المتطلبات، يستلزم قبل كل شيء وجود إرادة سياسية قوية تريد بالفعل التخفيف من حدة الجرائم المرتكبة في الميدان الضريبي.