الطب الشرعي

جـنـيـح مـونــة

بــاحثة في الميدان الجنــائي

مقدمة

يندرج الطب الشرعي ضمن أهم العلوم الجنائية التي تبحث عن الحقيقة بدءا من مسرح الجريمة؛ الذي يعتبر الشاهد الصامت عليها إلى الآثار المادية. حيث يعتبر جزء لا يتجزأ من العملية القانونية، ففي بداية القرن الماضي كانت بعض القضايا الجنائية تقيد ضد مجهول لصعوبة الكشف عن الحقائق، إلا أنه بظهور تخصص الطب الشرعي وكذا الشرطة العلمية والتقنية، أصبح بالإمكان اكتشاف الدليل المادي في أغلب القضايا خاصة الجنائية منها، فالتطورات العلمية والتقنية التي عرفتها السنوات الأخيرة، استغلها المجرمون في التفنن في تنفيذ جرائمهم، وطمس الآثار ومعالمها في محاولة منهم للإفلات من العقاب.
ويعود الفضل في وضع اللبنة الأولى لمادة الطب الشرعي كمفهوم طبي للعرب منذ القديم، فقد أجريت دراسات حول الجنون وكيفية معالجتها عند العالم إسحاق ابن الجزار القيرواني، وبعض المقارنات العلمية لعلاج الأمراض عند ابن سينا، كما يعود الفضل أيضا في جمع كلمتي الطب – الشرعي إلى الطبيب الإيطالي ZACCHIAS عند تعرضه إلى المشاكل البسيكولوجية، بحيث انصبت بعض أبحاثه في مجال علم السموم و إعطائه توجيهات جديدة لفحص الجروح و أسبابها، و ابتدءا

من القرن 18 أخذت تسمية الطب الشرعي تردد في المحيط الطبي إلى أن تم تداولها في المؤلفات، على سبيل المثال نجد مؤلف جوس سنة 1771 م ” بحث عن العدالة الجنائية ” Traite de la justice ” يتكلم طويلا عن الطب الشرعي و يدرس كيفية معاينة الجرائم، وينصح بضرورة التقرير الطبي في حالة الإصابة بجروح، و الموت المشكوك فيها، و شموليته وضوحه حتى يفهمه القضاة.

إن موضوع الطب الشرعي غالبا ما تكون الغاية منه البحث عن الحقيقة وتقديمها للقضاء، لينير له السير في الدعوى العمومية الهادفة إلى تطبيق العقوبات واتخاذ التدابير الوقائية للحد من ارتكاب الجريمة، بناءا على الأدلة الجنائية أو الدلائل الثابتة التي تستقر في وجدان القاضي، بعد أن يتفحصها ويدق فيها بميزان الحق والقانون، ولهذا فرجل القانون مدعو من جهته أن يطلع على جانب من هذه المعارف العلمية حتى يتسنى له النظر في فحوى الخبرة الطبية وتقييم نتائجها فهكذا يحصل المراد ويتم التكامل.[1]

فالطب الشرعي يعتبر أيضا أحد الطرق العلمية التي تساعد على كشف عوالم الجريمة والتعرف على الحقائق، وجمع الأدلة والقرائن والكشف عن مرتكبي الجرائم وتقديمهم للمحاكمة، لذلك يبقى دوره هاما في تحقيق العدالة الجنائية من خلال المساعدة على الإدارة الفعلية والفعالة لسير القضايا الزجرية، وهو ما يؤكد الأهمية القصوى التي يمكن أن يؤديها الطب الشرعي داخل نظام العدالة الجنائية[2].

فإذا كانت مجموعة من الدول قد استطاعت أن ترسي منذ مدة، قواعد علمية وعملية للطب الشرعي ليكون في خدمة نظام العدالة ككل، إلا أنه للأسف نجد المغرب لازال بعيدا عن إرساء قواعد منظمة للطب الشرعي، حيث حظي هذا الموضوع باهتمام خاص خلال ندوات الحوار الوطني حول الإصلاح الشامل و العميق لمنظومة العدالة، فقد كانت الندوة الجهوية التي انعقدت بمدينة فاس يومي 9 و 10 نوفمبر سنة 2012 حول موضوع ” تحديث السياسة الجنائية و تطوير العدالة الجنائية و تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة “، مناسبة تم خلالها مناقشة واقع وآفاق ممارسة الطب الشرعي ببلادنا من طرف مختصين، أطباء و قانونيين و حقوقيين و هيئات مهنية[3]. فقد أصبح للطب الشرعي دورا هاما في مجال التحقيق الجنائي والكشف عن الجريمة ومرتكبيها، بالتنسيق مع مختلف الجهات القضائية ومعاونيها. ومما سبق تقديمه نتساءل بالأساس عن ما هو الدور الذي يلعبه الطب
الشرعي في تكييف الواقعة الإجرامية؟ وما هي الجهود التي يبذلها التشريع المغربي؟ للإجابة عن تساؤلنا هذا سنعمد إلى تقسيم موضوعنا إلى مبحثين رئيسين :

المبحث الأول : الطب الشرعي ودوره في الإثبات الجنائي
المبحث الثاني : الجهود الوطنية لتنظيم ممارسة الطب الشرعي

المبحث الأول : الطب الشرعي ودوره في الإثبات الجنائي

تجسيدا لما أصبح مجتمعنا المغربي يعرفه في هذا المضمار الخاص بالطب الشرعي، سنحاول من خلال هذا المبحث التطرق لماهية الطب الشرعي كمطلب أول، فيما سنخصص المطلب الثاني لمجالات الطب الشرعي .

المطلب الأول : ماهية الطب الشرعي

لقد تطورت العلاقة المتبادلة بين الطب والقانون على مر العصور، إلى نشأة اختصاص في الطب أطلق عليه اسم ” الطب الشرعي”. فقد اصطُلح على تعريفه بأنه العلاقة بين الطب والقانون (Relationship Between Medicine and The Law)، أي أنه العلم الذي يبحث في كل ما يحتاجه الطب من القانون، وفي كل ما يحتاجه القانون من الطب.

فالطب الشرعي يتناول البحث في القوانين التي تنظم مهنة الطب وتحكم ممارستها وممارسيها (Legal Aspects of Medicine) وهـي ما يمكن أن يطلق عليها اسم القوانين الطبية أو الفقه الطبي ( Medical Laws, Medical Jurisprudence ).[4]

وفي تعريف آخر يعتبر بمثابة ” تطبيق كافة المعارف والخبرات الطبية لحل بعض القضايا التي تنظر أمام القضاء بغرض تحقيق العدالة “. في حين يعرف البعض الطب الشرعي بأنه : ” العلم الذي يسخر المعارف الطبية لفائدة الإجراءات القانونية، وهو بذلك يعد أحد الفروع العلمية المشتركة بين الطبيب ورجل القانون، خصوصا القاضي الذي قد تعرض عليه قضايا يستحيل عليه البت فيها بعيدا عنه[5].

فبالاطلاع على مسمى هذا العلم نجده يتكون من شقين هما : (طب ـ شرعي)، فالطب مبحثه ومجاله هو كل ما يتعلق بصحة الإنسان وجسمه وحياته حيا أو ميتا، أما الشرعي فمجاله الفصل بين المتنازعين واثبات الحقوق بهدف الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة من خلالها. وكما هو معروف أن الفصل في المنازعات يعتمد على التشريعات الشرعية أو القانونية، من خلال السلطات القضائية.[6]

للطب الشرعي مسميات ومترادفات كثيرة في الدول العربية مثل: الطب القانوني، أو الطب العدلي، الطب الجنائي، طب المحاكم؛ كما نجد نوعا أخر من أنواع الطب الشرعي ألا وهو الطب الشرعي القضائي، الذي يهتم

بالعلاقة ما بين الطب الشرعي و القضاء. تتفرع منه عدة فروع منها [7]: ما هو عام يهتم بدارسة الجاني ومنها ما هو خاص بالصدمات و الكدمات و الرضوض Traumatologique M.L ، و كذا ما يتعلق بالجرائم الجنسية بالإضافة إلى ذلك ، الطب الشرعي الخاص بعمليات التشريح الذي يهتم بدارسة الجثث و علامات الموت M.L thanatologique، والطب الشرعي الجنائي الذي يتولى دارسة و تشخيص الآثار التي يتركها الجاني في مسرح الجريمة. كما نجد كذلك فرعا آخر من الطب الشرعي يتولى دراسة التسميات وهو ما يعرف ب . M.L Toxicologique

في حين يهتم الطب الشرعي العقلي M.L Psychiatrique بفحص الجاني، و يبين مدى أهليته لأن يكون محلا للمساءلة الجزائية، ومدى تأثير الحالة العقلية للمجرم على الركن المعنوي للجريمة، إضافة إلى طب الأسنان الشرعي؛ الذي يهتم بدراسة الأسنان واستغلالها للتعرف على الجثث و تقدير السن وكذا تحديد الجنس.
فالطب الشرعي يعمل على مساعدة القضاء من أجل تحقيق العدالة؛ وذلك في شخص الطبيب الشرعي. الذي يعمل جاهدا بخبراته ومكتسباته العلمية،

للوصول إلى نتيجة ايجابية تظهر الحقيقة. وقد حددت لنا المادة 4 من مشروع قانون الطب الشرعي[8] المقصود بالطبيب الشرعي:
الأطباء المتخصصون في الطب الشرعي المسجلون بهذه الصفة في لائحة هيأة الأطباء؛

الأطباء المتوفرون على تكوين معترف به في مجال الطب الشرعي ؛
يحدد بقرار مشترك للسلطة الحكومية المكلفة بالصحة و السلطة الحكومية المكلفة التعليم العالي ، الشروط الخاصة بالتداريب و نظام الدورات التكوينية التي تخول لمن يجتازها ممارسة المهام المرتبطة بالطب الشرعي؛
الأشخاص المعنوية العمومية و الخصوصية الحاصلة على ترخيص من طرف المجلس الوطني[9] للطب الشرعي لممارسة مهام الطب الشرعي.

المطلب الثاني : دور الطبيب الشرعي

إن للطب الشرعي دور كبير في تشخيص الجريمة، و تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر على مجريات البحث وعلى التكييف القانوني للوقائع، ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة، وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية. للطب الشرعي دورا عمليا وفنيا في كشف الدليل الجنائي الموصل إلى خيوط الجرائم الغامضة، عندما يعجز التحقيق عن الكشف عن ملابساتها ومرتكبيها. وفي هذه المحاور يتم البحث والتحري من أجل الكشف عن الدليل الذي تتوقف عليه، إما إدانة المتهم أو تبرئته من التهمة المنسوبة إليه.
فمن بين الأدوار العامة التي يقوم بها الطبيب الشرعي أثناء مرحلة التحقيق، نجده يقوم بالفحوصات الطبية على المصابين وبيان نوع الإصابة ووصفها، مع الإشارة إلى سببها وتاريخ حدوثها، كما أنه قد يحدد نوعية الآلة أو الشيء الذي استعمل في إحداثها وكذا احتمال حدوث عاهة مستديمة وتقديرها عند استقرارها وبيان علاقتها بالاعتداء المرتكب.

فالطبيب الشرعي ملزم بإجراء هذه الفحوصات بمصداقية وأمانة، عندما يتم انتدابه من أجل الاستعانة به في مكان وقوع الجريمة أي مسرح الجريمة، لتحرير تقرير

طبي يثبت الفحص الذي قام به على الشخص المعني. إضافة إلى تشريح جثث المتوفين في القضايا الجنائية، وفي حالات الاشتباه في سبب الوفاة وكيفية ووقت حدوثها، ومدى علاقة الوفاة بالإصابات التي توجد بالجثة؛ مع ضرورة إبداء الآراء الفنية التي تتعلق بتكييف الحوادث والأخطاء، التي تقع بالمستشفيات وتقرير مسؤولية الأطباء المعالجين. كما يعطي تقدير السن المجني أو المجني عليه في الأحوال التي يتطلبها القانون، أو تقتضيها مصلحة التحقيق. وكمثال على ذلك تقدير سن المتزوجين قبل بلوغ السن المحددة من أجل إبرام عقد الزواج في الحالات التي يكون فيها شك في تزوير شهادة الميلاد، أو عدم وجودها أصلا.

إضافة إلى فحص الدم وفصائله والمواد المنوية ومقارنة الشعر وفحص العينات المأخوذة من الجثث لمعرفة الأمراض، وفحص مخلفات الإجهاض. ولعل الهدف الرئيسي من فحص الجثة يتجلى في الاستعراف الطبي لتحديد هوية الجثة حتى وان كانت هويتها معروفة؛ إضافة إلى تحديد وقت الوفاة التقريبي من واقع التغيرات الرمية.

معرفة سبب الوفاة.
معرفة وضع الجثة، وهل قام أحد بتغير وضعها بعد الوفاة أم

لا بحيث يقوم بتشريح الجثة في حالة إذا ما كانت حالة المتوفين نتيجة أفعال جنائية سواء أكانت الجريمة عمدية أو غير عمدية، ما لم يجزم الطبيب الشرعي بمعرفته لسبب الوفاة عن طريق الكشف الظاهري. إضافة إلى حالة العثور على جثة ما بداخل ماء سواء كانت مجهولة الشخصية أو معروفة، وفي حالة ما إذا تم العثور على متوفى حرقا، أو وفاة عن طريق تسميم .

ويعتبر إجراء التشريح أمرا تشخيصيا حتميا في العمل الطبي الشرعي، حيث يجب إتمام الفحص الطبي بتشريح كامل الجثة. كما يساعد في معرفة نوعية الجريمة هل هي حالة انتحارية أم أنها طبيعية ناتجة عن مرض أو حالة مرضية.
كما يتم فحص الجثة عبر عدة مراحل أهمها منها:
فحص الملابس : يعد فحص الملابس ذو أهمية في التعرف على
الأشخاص المتوفين، أو مجهولين الهوية وكذا الأحياء، فقد يعثر بها على ما يدل على شخصيته أو يستدل منها على : الجنسية ـ البنية والقامة ـ أو الطبقة الاجتماعية …

الفحص الظاهري للجثة
تشريح الجثة وأخذ العينات اللازمة للفحوصات المختبرية.
وهو ما لخصه مشروع قانون الطب الشرعي المغربي في المادة 6، حيث حددت خصائص[10] الطبيب الشرعي لممارسة مهام الطب الشرعي، في :
الفحص السريري للأشخاص المصابين لتحديد وصف الإصابات وطبيعتها وأسبابها وتقييم الأضرار البدنية الناتجة عنها وتاريخ حدوثها والوسيلة المستعملة في إحداثها وتحرير شواهد بشأنها؛
معاينة وفاة الضحايا والتيقن منها وإعطاء الإذن برفع الجثث و نقلها للأماكن المخصصة لها واستصدار شواهد بشأنها؛
إبداء الرأي الفني في الوقائع المعروضة على القضاء، ولا سيما فيما يتعلق بفحص وتحديد الآثار الناجمة عن الجرائم؛
تقدير السن بناء على انتداب الجهات القضائية أو الإدارية أو بناء على طلب من كل ذي مصلحة أو في الأحوال التي يتطلبها القانون؛

فحص الأشخاص الموضوعين رهن الحراسة النظرية أو المحتفظ بهم أو المودعين بمؤسسة تنفيذ العقوبة، لتحديد طبيعة الإصابات اللاحقة بهم وسببها وتاريخها.
فحص وتشريح الجثث والأشلاء لبيان طبيعة الوفاة وسببها وتاريخها وهوية المتوفي و المساهمة في تحديد ووصف الجروح اللاحقة به ومسبباتها؛
حضور عملية استخراج جثث الأشخاص المشتبه في وفاتهم من القبور و معاينتها؛

الانتقال لإجراء المعاينات المفيدة للبحث؛
تفسير طبي لنتائج الفحوص والتحاليل لمختلف العينات العضوية بما فيها المواد المنوية والدموية والشعر والعينات النسيجية للتثبت من طبيعتها و كذا مختلف المواد كالمخدرات والإفرازات الجسمية ومخلفات إطلاق النار، والتي تم إنجازها من طرف مختبرات معتمدة و منتدبة لهذا الغرض.

يمارس الطبيب الشرعي هذه المهام داخل دائرة محكمة الاستئناف، التي تتواجد بها مراكز للطب الشرعي بالوحدات الاستشفائية أو التابعة للجماعات الترابية. عند إتمام المعاينات التي يقوم بها يقوم الطبيب الشرعي بانجاز تقريرا للجهة التي انتدبته للقيام بواجبه المهني، يشهد من خلاله بالملاحظات والعمليات وكذا النتائج التي توصل إليها داخل الآجال المحددة له من طرف السلطات القضائية التي انتدبته. يراعي الطبيب الشرعي – قدر الإمكان- في إنجاز مهمته، بشأن التقارير المتعلقة بالجرائم المرتبطة بالتعذيب، أو غيره من ضروب المعاملة القاسية أو الإنسانية أو المهينة، المعايير المنصوص عليها في بروتوكول إسطنبول المقدم لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في 9 غشت 1999، والمعتبر بمثابة دليل الأمم المتحدة للتقصي و التوثيق الفعالين في هذه الجرائم .

المبحث الثاني: الجهود الوطنية لتنظيم ممارسة الطب الشرعي

لقد اتفقت التشريعات القضائية والأنظمة الجنائية المختلفة، في تحديد أنواع الجرائم والحالات التي يستعين فيها القضاء أو جهات التحقيق بالطب الشرعي و الأطباء الشرعيين، فقد سعت الجهود الوطنية إلى التشجيع و التنسيق الجيد بين المؤسسات القضائية، وفاعلي المجتمع المدني من أجل وضع سياسات تتوخى النهوض بالطب الشرعي وبالتكوين في هذا المجال، الذي يعتبر وسيلة

علمية تطبيقية هادفة إلى خدمة العدالة من خلال الكشف عن المسائل الطبية المتعددة وكشف غموضها، سواء أكانت تتعلق بالحياة أو الموت[11]. وهو ما جعلنا نتوقف في هذا المبحث على أهداف القضاء من الطب الشرعي كمطلب أول، فيما سنتطرق في المطلب الثاني إلى التعديلات التي جاءت بها مسودة مشروع تنظيم ممارسة الطب الشرعي.

المطلب الأول: الطب الشرعي في خدمة القضاء

يعتبر الطب الشرعي أداة من أدوات المساعدة في كشف الوقائع الإجرامية؛ ففي ظل ما شهدته الجريمة من تطورات وبروز مجموعة من الأفعال الإجرامية التي تتسم أحيانا بالغموض، فإن هذا العائق تطلب فرض مقاربة جديدة على صعيد البحث والتحقيق من هوية الفاعلين والموقوفين، وكذلك التحقيق في حالات انتهاك حقوق الإنسان. ففي ظل هذه المقاربة نجد المجلس الوطني لحقوق الإنسان أطلق دراسة خاصة بشأن أنشطة الطب الشرعي، وذلك للمساهمة في إصلاح هذا القطاع الضروري ببلدنا من أجل التدبير الجيد للعدالة.

فقد هدفت هذه الدراسة إلى لفت الانتباه إلى القضايا الحاسمة ذات الصلة بنشاط الطب الشرعي من أجل إبراز علاقته الوثيقة بحقوق الإنسان، سواء تعلق الأمر بالضحية أو بالمشتبه فيه. كما ترمي إلى الوقوف من خلال ملاحظة وتتبع بنيات وهياكل الطب الشرعي ومؤهلات الأطباء المتدخلين فيه، ورصدها لبعض مظاهر القصور في المنظومة الوطنية للطب الشرعي. فقد فتم تقديم مقترحات وتوصيات إلى القطاعات الوزارية المعنية بهدف توفير إطار مؤسساتي لنشاط الطب الشرعي، مع إقامة شبكة من الهياكل المتجانسة القابلة للتطوير تشمل أنظمة التتبع والتقييم بغرض الاستجابة لمتطلبات الفعالية والسلامة والمساواة بين المواطنين أمام القضاء.

فالقضاء يستعين بالطب الشرعي بغية تأكيد إثبات وقوع الجريمة أو عدم وقوعها ؛ خاصة في حالات الوفيات المشتبه فيها، فهناك العديد من القضايا التي لا يمكن للقضاء التقدم فيها إلا بعد الاستعانة بالخبرة الطبية الشرعية لإثبات صحتها من عدمها[12]. كما ينبغي أيضا إيجاد العلاقة السببية بين الجاني و الأداة المستخدمة في الجريمة من جهة وبينها وبين المجني عليه، والإصابة من جهة أخرى.

فالطبيب الشرعي من خلال خبراته ومعاينته للمجني عليه المصاب يحدد نوع الإصابة وطبيعتها، والأداة المستخدمة في إحداثها إلى جانب تقنيو مسرح الجريمة . وكمثال توضيحي فإذا وصفنا الإصابة بأنها جرح طعني فلا بد لنا من بيان طبيعة الأداة المسببة لهذا الحادث. كما أنه يعمل على بيان مدى مسؤولية المتهم عن الجريمة، وهذا يعني بالأساس إيجاد الربط بين المتهم والجريمة من خلال وجود بينات تربط المتهم بالجريمة ومكانها.

فالقضاء يستهدف التحقق من صحة نسبة الاتهام الموجه للمتهم الماثل أمامه، ومدى تطابق المعروض عليه من أدلة وبراهين مع واقع الجريمة، ومدى تناسب وعقلانية ما يساق من أدلة مع جوهر الجريمة. ففي بعض الأحيان وفي بعض الجرائم يكون الطبيب الشرعي أول من يتعامل مع الحالات الجرمية سواء أكان ذلك بالكشف على المصاب أو المجني عليه في مكان المعاينة. حيث يتحرى الطبيب من خلال المعاينة آثار أو أدلة مادية أو جرمية في جسم المصاب أو ملابسه، كما يأخذ العينات المختلفة من جسم المصاب وضبطها جميعا حسب الأصول العلمية، وتحريزها حسب الأصول التقنية والفنية. فمن واجب الطبيب الشرعي بعد معاينة الحالة الطبية، كما يساعد في معاينة مسرح الجريمة وتشريح الوفاة الجنائية. ليعد في الأخير
تقريرا طبيا شرعيا لجهة الاختصاص، يهدف بالأساس إلى الإجابة عن جميع التساؤلات والاستفسارات التي تهم سلطات التحقيق أو القضاء فيما يتعلق بتلك الجريمة.

المطلب الثاني: مسودة تنظيم ممارسة الطب الشرعي[13]

إن الوضعية الحالية لمنظومة الطب الشرعي ببلادنا، لم ترقى بعد إلى المستوى الذي يؤهلها للعب الدور الكبير المنتظر منها لترسيخ أسس العدالة الجنائية، لذلك تبقى آفاقه مرتبطة بآمال الاهتمام بهذا القطاع من خلال وضع إطار تشريعي وتنظيمي يحكمه ويجعل منه ركيزة من ركائز الإصلاح الشامل والعميق للعدالة، ولهذه الغاية أعدت وزارة العدل و الحريات في إطار المخطط التشريعي للحكومة، مشروع قانون ينظم ممارسة الطب الشرعي روعي في فلسفته استحضار:

– التوصيات والمقترحات التي تمخضت عن الندوة الجهوية الخامسة بمدينة فاس حول موضوع “تحديث السياسة الجنائية و تطوير العدالة الجنائية وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة “؛
– المواثيق الدولية ذات الصلة بالموضوع، في مقدمتها، دليل الأمم المتحدة للتقصي و التوثيق الفعالين في الجرائم المتعلقة بالتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة؛

– التشريعات و التجارب المقارنة.
ولقد سعى مشروع هذا القانون إلى وضع إطار قانوني متكامل لممارسة الطب الشرعي باعتباره أحد المهن المساعدة للقضاء، من خلال تحديده للجهات الطبية المخول لها ممارسة هذه المهام عن طريق تحديد المقصود بالطبيب الشرعي وتحديد اختصاصاته و حقوقه وواجباته.

كما حدد أيضا كيفيات انتداب الطبيب الشرعي و الجهات المخول لها انتدابه، بالإضافة إلى تنظيم العلاقة بين هذه الأطراف و تحديد معايير إنجاز تقارير التشريح الطبي وفقا لما هو متعارف عليه دوليا كما خول مشروع هذا القانون للأطباء المتخصصين في الطب الشرعي، استثناء التسجيل المباشر بجداول الخبراء القضائيين بمحاكم الاستئناف بغية توفير الأطر البشرية المؤهلة و المتخصصة لتكون في خدمة العدالة. إن وضع إطار قانوني لممارسة الطب الشرعي، لا يمكن أن ينهض وحده بهذا التخصص الطبي لكي يكون في خدمة العدالة الجنائية إذا لم يتم وضع إطار تنظيمي مصاحب له، وهو ما تم استحضاره في مشروع هذا القانون، حيث تم لهذا الغرض إحداث

وحدات للطب الشرعي بالمستشفيات الجامعية و الجهوية و الإقليمية يمارس بها الأطباء مختلف مهام الطب الشرعي. و لتأطير ممارسة هذه المهام و توحيد طرق ممارسة مهام الطب الشرعي ببلادنا و الرفع من مستوى العاملين به، نص مشروع هذا القانون على إحداث مجلس و طني للطب الشرعي يتمتع بالشخصية المعنوية و الاستقلال المالي، يهدف إلى تنظيم عمل الطب الشرعي ووضع المعايير العلمية و المهنية لممارسته، و تأطير الأطباء الشرعيين و إعداد تقارير سنوية عن ممارسة الطب الشرعي ورفع التوصيات الكفيلة بالرفع من مستواه إلى الجهات الحكومية المختصة .

كما حاول مشروع هذا القانون وضع مقتضيات قانونية كفيلة بإعطاء مصداقية أكبر للشواهد والخبرات الطبية التي تعرض على القضاء في إطار النزاعات التي يبت فيها، وهو ما سيساهم في تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة. و لتمكين أطباء الطب الشرعي من ممارسة مهامهم بكامل التجرد والاستقلالية، جاء مشروع القانون بمقتضيات زجرية حمائية لفائدتهم. إن مشروع هذا القانون يعتبر خطوة جد هامة في الحقل التشريعي من أجل تنظيم ممارسة الطب الشرعي ببلادنا و ذلك حتى يكون في خدمة نظام العدالة ككل.

خاتمة

إن ترقية الطب الشرعي لجعله في مستوى حاجات المنظومة القضائية، يقتضي بالضرورة أن يؤدي الطبيب الشرعي المهمة المطلوبة منه بفعالية ومهنية وإخلاص، من خلال انجاز تقرير واضح الصياغة ودقيق العبارة، يجيب بصورة موضوعية وعلمية عن الأسئلة المطروحة. وبهذه الطريقة يستطيع القاضي تكوين اقتناعه الشخصي ويصل إلى مستوى التحكم والفهم الجيد للملف المطروح عليه؛ وذلك من شأنه أن يجعله يصدر أحكاما منصفة وعادلة وذلك لضمان المحاكمة العادلة.

فرغم أهمية الطب الشرعي، إلا أنه يعيش إختلالات على مستوى التشريع المغربي، من خلال غياب نظام أساسي خاص ينظم هيأة الأطباء الشرعيين، وغياب نصوص قانونية خاصة بتنظيم مهامه إذ تبقى مرتبطة بمفهوم الخبرة بصفة عامة لاسيما على مستوى قانوني المسطرة الجنائية والمسطرة المدنية. إضافة إلى وجود فراغ فيما يخص الخبرة الجينية، التي تعتبر مهمة في إقامة الدليل العلمي، باستثناء ما جاءت به مدونة الأسرة في ما يتعلق بإمكانية إثبات النسب أو نفيه. وهو الأمر الذي سيعالجه مشروع قانون الطب الشرعي من خلال بنوده، فنتمنى أن يدخل حيز التطبيق ليساهم بشكل فعال في تنمية المنظومة القانونية.

الهوامش
[1] ـ مختار براجع، العلاقة بين الطب الشرعي القضاء والضبطية القضائية، مجلة الشرطة العدد 70 ديسمبر 2003، الجزائر ، ص 39.
[2] ـ مشروع قانون يتعلق بتنظيم ممارسة الطب الشرعي الموضوع لدى الأمانة العامة للحكومة بعدما تم إغناؤه بملاحظات كل من وزارة الداخلية ووزارة الصحة، وإدارة الدفاع الوطني، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.، المملكة المغربية وزارة العدل والحريات، مذكرة تقديم، ص 2.
[3] ـ مشروع قانون يتعلق بتنظيم ممارسة الطب الشرعي ، المملكة المغربية وزارة العدل والحريات، مذكرة تقديم، ص 2.
[4] ـ سميح ياسين أبو الراغب، الطب الشرعي ـ الجزء الأول (أولا – القوانين الطبية وآداب الطب)( ثانيا – القوانين القضائية والطب)، طبعة 2013، ص 2.
ـ يحي بن لعلي، الخبرة في الطب الشرعي، طبعة سنة 1994 ، الجزائر ص 9.[5]
[6] ـ منصور عمر المعايطة، الطب الشرعي في خدمة الأمن والقضاء، الرياض سنة 2007، مركز الدراسات والبحوث، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، ص 16.
[7] ـ محمد لعزيزي ، الطب الشرعي و دوره في إصلاح العدالة ، مجلة الطالب القاضي ، عدد تجريبي المدرسة العليا للقضاء، الجزائر، سنة 2005 ، ص 15.
ـ مشروع قانون الطب الشرعي، ص 5.[8]
[9] ـ تنص المادة 44 من مشروع قانون الطب الشرعي على أنه ” يهدف المجلس الوطني للطب الشرعي إلى تنظيم عمل الطب الشرعي ، و رفع مستوى وكفاءة العاملين به و تطوير مهامهم لمساعدة العدالة. يحدد تأليف واختصاصات المجلس الوطني للطب الشرعي بمقتضى نص تنظيمي”، ص 17.

ـ مشروع قانون الطب الشرعي، ص 6ـ 7.[10]
[11] ـ بدر بن سرور الحربي، دور الطب الشرعي في تكييف الواقعة الجنائية ( دراسة تطبيقية)، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ـ كلية الدراسات العليا / قسم السياسة الجنائية، الرياض سنة 2012، ص 15.
ـ منصور عمر المعايطة، الطب الشرعي في خدمة الأمن والقضاء، ص 25.[12]
[13] ـ مشروع قانون يتعلق بتنظيم ممارسة الطب الشرعي ، المملكة المغربية وزارة العدل والحريات، مذكرة تقديم، 4 ـ 5 ص.