بحث قانوني عميق عن حماية رضا المستهلك

مقدمة عامة:

لعل فكرة المستهلك في الوقت الحاضر هي مهد مشكلات القانون المعاصر,التي أصبح الخلاف حولها يتسع,والتي فتحت تبعا لذلك مجالا واسعا للاجتهاد بغية فض النزاع للوصول إلى حلول مرضية,فحجم التطورات التي شهدها العالم من الناحية الاقتصادية أدت إلى إمكانية وصف المجتمعات الحديثة بالمجتمعات الاستهلاكية.ومن بينها المجتمع المغربي الذي لم يخرج عن حظيرة هذه المجتمعات,ولا شك أن حجم هذه التطورات صاحبه بالضرورة زيادة نسبة الأخطار والأضرار التي يمكن أن يقع المستهلك ضحية لها,مما أدى إلى ضرورة إتباع طرق واقعية وفعلية من أجل تحقيق الحماية والعدل لأولئك الذين يقعون في حبائل الغش والدعاية الكاذبة والمضللة,والتحريض على الاستهلاك لحاجيات مصطنعة.

وما من شك في أن حماية المستهلك ورعايته أصبحت تأتي في مقدمة الواجبات الأساسية للدولة المعاصرة بمختلف أجهزتها,والتي يقع على عاتقها مسؤوليات ضمان المستوى المناسب,إن المادي على الأقل من الحماية الهادئة والكريمة,والحصول على السلع والخدمات الكفيلة والكافية لتحقيق ميولات كل فرد من أفراد المجتمع,فضلا عن ذلك فإن حماية المستهلك كان موضع اهتمام الباحثين في كثير من فروع القانون.بل كان موضع اهتمام المشرع المغربي الذي اهتم بإصدار أنظمة وقواعد خاصة بغض النظر عن القواعد العامة,تهدف إلى حماية المستهلك من كل خطر أو تلاعب قد يحدق به نظرا لكثرة هذه الأخطار والتلاعبات,وتعدد وسائلها أيضا,ونظرا لانتباه المشرع لضرورة حماية المستهلك حماية خاصة لأن الوسائل الفنية لقانون الالتزامات والعقود المغربي لا تفي بالحماية الكافية للمستهلك,حيث دعت الحاجة إلى صدور نصوص خاصة تتصف بمرونة أكثر وبجزاء أشد من القواعد القانونية التقليدية.

ومن هنا ظهرت عدة محاولات لتقنين ميدان حماية المستهلك,من خلال وضع مشروع قانون حماية المستهلك,والذي جاء بمقتضيات جد مهمة تخدم المستهلك بالدرجة الأولى,فبرز إلى الوجود قانون حماية الأسعار والمنافسة,هناك أيضا مشروع قانون حماية المستهلك الذي ينصب في اتجاه مراعاة مصالح المستهلك من عدة جوانب,خاصة المرتبطة منها بالشروط التعسفية التي تشكل خطراً حقيقيا عليه نظراً لاختلال التوازن التعاقدي الذي أصبح صارخا بشكل لا تستسيغه قواعد العدالة بفعل سيطرة المهنيين وخبرتهم في مجال التعاقد,الأمر الذي جعل المستهلك في وضعية صعبة تفرض عليه الإنقياد التام للشروط التي تملى عليه.

ونظراً لأن موضوع حماية المستهلك أصبح يطرح نفسه بحدة,خاصة في بلدنا,وذلك بفعل تنامي عجلة الاقتصاد,وظهور سلع ومنتجات جديدة ومتنوعة.الشيء الذي صاحبه تعدد وسائل الخطر والخطأ على المستهلك.

ونظراً كذلك لقلة الحماية حالياً,ارتأينا في إطار هذا البحث المتواضع تناول موضوع حماية رضا المستهلك كموضوع لفصلين,ولعل التركيز على رضا المستهلك راجع في اعتقادي بأن عنصر الرضا هو العنصر الجوهري في تكوين العقد لكي يخرج صحيحا لا تشوبه علة أو عيبا من العيوب,ولعل منح المستهلك رضاء متبصراً ومتنوراً يعني تمكينه من حقه في الإعلام,وحقه في الإختيار,وحقه في التفاهم وكذا حقه في إبرام العقد وهي أسس ومبادئ أساسية ينبني عليها قانون الاستهلاك.

وعليه,لكي نخوض ونبدأ موضوعنا هذا كان لا بدا من أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما الذي توفره القواعد العامة والخاصة من حماية لرضا المستهلك؟ وماهي الطرق الواقعية أو الفعلية التي بواسطتها يمكن أن نتمكن بالفعل من تحقيق أكبر قدر من الحماية للمستهلك خصوصا وأن تحقيق الحماية الكاملة والكافية يعد في الوقت الراهن أمراً مستحيلاً نظراً لما يعرفه جانب الإنتاج وكذا الاستهلاك من تطور مطرد.

لمعالجة هذه النقط ارتأينا تقسيم موضوعنا إلى فصلين يعالجان ما يلي:

-الفصل الأول: حماية رضا المستهلك وفق القواعد العامة والخاصة.

-الفصل الثاني: الطرق الواقعية والفعلية لحماية رضا المستهلك.

الفصل الأول:

حماية رضا المستهلك وفق القواعد العامة والخاصة:

إن المغرب وكدول أخرى يمر بعدة تحولات في مجالات متعددة,وهو مجبر على مواجهتها,فإذا كان الواقع الوضعي هو الوسيلة الفعالة لتأطير وتحسين سلوكات الأفراد,وسلوك المجتمع المدني ككل,فإنه لا بد من أن نطرح على أنفسنا التساؤل التالي:أي دور تلعبه الشريعة الإسلامية في ضبط سلوكات المنتجين وتحقيق الحماية الكاملة لمصلحة المستهلكين؟وهل تكفي القواعد العامة في معالجة ظاهرة انتشار الشروط التعسفية في المجال الاستهلاكي خاصة؟ وما مدى توفر قواعد خاصة في هذا المجال تساير التطور المطرد في مجال التقاعد؟

لدراسة ذلك ارتأينا تقسيم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث نتعرض لها كالتالي:

المبحث الأول: حماية رضا المستهلك وفق أحكام الشريعة الإسلامية.

المبحث الثاني: مدى كفاية القواعد العامة في توفير الحماية للمستهلك.

المبحث الثالث: سبل مواجهة الشروط التعسفية في عقود الاستهلاك.

المبحث الأول:حماية رضا المستهلك وفق أحكام الشريعة الإسلامية:

لقد تناولت الشريعة الإسلامية موضوع حماية المستهلك من خلال تحريم بعض التصرفات وأهمها تحريم الغش الذي اعتبر منذ القديم منافيا للأخلاق,كما حددت الشريعة الإسلامية الضوابط والقواعد لتحقيق ذلك,فهذه مسألة لا تثير إشكالا يذكر,لكن الإشكال يتجلى بالأساس في مدى فعالية الأحكام الواردة في إطار الشريعة الإسلامية لتحقيق الحماية للمستهلك (المطلب الأول).

كما نصت الشريعة الإسلامية من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية على مؤسسة الحسبة كجهاز مكلف بمراقبة جودة السلع والخدمات(المطلب الثاني).

المطلب الأول: فعالية أحكام الشريعة الإسلامية في توفير الحماية للمستهلك:

من المؤكد أن الشريعة الإسلامية قد حددت الضوابط والقواعد من أجل تحقيق حماية فعالة للمستهلك,كما عالجت الشريعة الإسلامية موضوع المعاملات المالية والأخلاقية من الناحية الإسلامية, وهو ما يسمى اليوم بالمصطلح القانوني” موضوع حماية المستهلك”.وذلك من خلال قوله تعالى” وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”(الرحمان الآية:9),وكذلك قوله تعالى:” إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما”(النساء الآية:107).

كما أن الشريعة الإسلامية كان لها موقف واضح من خلال بعض التصرفات كالغش بكافة أنواعه وصوره, والذي يعتبر الشغل الشاغل بالنسبة للعديد من الطبقات الاجتماعية,وعلى الخصوص الطبقات الفقيرة التي كانت تذهب ضحية الاستغلال البشع للمضاربين والراغبين في الاغتناء السريع على حساب عيش وصحة المستهلكين,والغش بكافة أنواعه وصوره يعتبر آفة اجتماعية خطيرة له أساليبه وطرقه المختلفة,وهو يقع في المعاملات المدنية والتجارية على السواء,يضاف إلى ذلك أن الغش( الغش عند الشافعية والإباضية تدليس يرجع إلى ذات المبيع بإظهار حسن وإخفاء قبح أو تكثيره بما ليس منه,ونحو ذلك) التجاري يضر بالحياة الإقتصادية بصفة عامة داخل البلاد وخارجها,بل قد يؤدي إلى إهدار الثقة في بعض السلع والخدمات أو الإحجام على التعامل فيها,أو الحد من طلبها , وفي هذا الإطار يقول الله تعالى:”فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم”(الأعراف الآية:5),وقوله تعالى أيضا:”ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون,وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون…”(المطففين الآيتان 1-2).

كذلك لم تغفل السنة النبوية الشريفة موضوع حماية معاملات الناس حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث تخص ذلك,فقد قال عليه الصلاة والسلام:” من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله أو لم تزل الملائكة تلعنه”.

من خلال القرآن الكريم ,وكذا السنة النبوية نستنتج أن الشريعة الإسلامية لم تغفل موضوع حماية المستهلك,وهذا أمر بديهي لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص أو تجاهل, وهذا أمر لا يطرح أي جدال أو نقاش,لكن النقاش يطرح بالأساس عندالتطبيق ,ويتعلق أساسا بفعالية هذه الأحكام الواردة في القرآن الكريم وكذا السنة النبوية في تحقيق الحماية الفعالة للمستهلك.

إذا استقرأنا معظم الأحكام الواردة في شريعتنا نلاحظ أنها لا تكفي من الناحية العملية لحماية المستهلك,خصوصا أنها أكثر ما تركز عليه هو الناحية الأخلاقية من خلال التأثير على ضمائر الناس في علاقتهم بربهم وعلاقتهم ببعضهم,وهنا نسجل ضعف الوازع الديني عند الفرد,في حين أن نوع العقاب عند المخالفة هو عقاب أخروي بالأساس,وهذا ما يجعل بطبيعة الحال فعالية الحماية تقل.

لكن قولنا هذا لا يجب أن ينظر إليه على إطلاقه,خصوصا وأن الشريعة الإسلامية قد نظمت مؤسسة الحسبة,وأعطت لها دورا كبيرا في مجال مراقبة جودة السلع والخدمات.فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الحسبة كمؤسسة منبثقة عن الشريعة الإسلامية في هذا الإطار؟

المطلب الثاني: دور مؤسسة الحسبة في مراقبة جودة السلع والخدمات:

بنيت الحسبة في صدر الإسلام على الأمر بالمعروف,والنهي عن المنكر,ترمي إلى التقوى في المعاملات بين الناس في علاقاتهم الاجتماعية والتجارية,ومن الواضح أن الإسلام تميز عن غيره من الديانات الأخرى باهتمامه المزدوج لأمور الدين والدنيا,فلم تكن تعاليمه مقصودة على العبادات من صلاة وصيام وحج,ولا على التهذيب الخلقي للفرد والمجتمع,هذا التهذيب القائم على قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,ولكن هذه التعاليم إلى جانب كل ذلك أولت عناية كبيرة لأمور الدنيوية من نظم وقواعد قادرة على ضمان مجتمع صالح تسوده العدالة والمساواة.

لكن قبل أن نخوض حديثنا في الحسبة كمؤسسة منبثقة عن الشريعة الإسلامية لا بد أن نطرح سؤالا وجيها وهو:هل توجد فعلا مؤسسة الحسبة تراقب جودة السلع والخدمات؟

تدخلت الشريعة الإسلامية -عن طريق رجال الحسبة أو الاحتساب – لقمع الأساليب الملتوية التي يلجأ إليها بعض البائعين والتجار ترويجها لبضائعهم,وذلك بهدف الاغتناء والإثراء على حساب المستهلكين عندما يختل التوازن بين العرض والطلب,وقد مر تطور مؤسسة الحسبة في المغرب بعدة محطات تاريخية كان لها تأثير بالغ في مجال حماية المستهلك,فقد تميزت مرحلة الحماية بدخول المستعمر الفرنسي حاملا معه أنظمة وقوانين,وإدارات جديدة, حيث عمل منذ البداية على استبدال الهياكل التي كانت قائمة بأخرى عصرية,حيث بدأ دور المحتسب يتقلص شيئا فشيئا في هذه المرحلة.

ففي ميدان زجر الغش,صدرت دورية لمندوب الإقامة العامة للحماية لرؤساء المصالح البلدية في 19-09-1913 (منشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 19-09-1913,عدد25),حيث اعتمدت نصا نموذجيا يعتمد عليه في صياغة القرارات البلدية المتعلقة بزجر الغش في المواد الغذائية والمخصصة للمداواة,ولم يبق للمحتسب سوى دور المبلغ عن المخالفات,كما صدرت عدة ظهائر وقرارات أخرى أثرت على دور المحتسب في مجال مراقبة جودة السلع والخدمات وكذا الأسعار.

لكن في مرحلة الاستقلال قام المشرع بإعادة التأكيد على أهمية الاحتساب على امتداد التاريخ الإسلامي للدولة المغربية,وذلك بصدور ظهير82-02 المتعلق باختصاصات المحتسب وأمناء الحرف,نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 7 يوليوز1982.

عموما,فإن اختصاصات المحتسب ,وإن كانت في ظل الشريعة الإسلامية ذات فعالية مهمة,نظرا لما تتيحه له من اتصال مباشر ومستمر بالتجار وأنشطتهم التجارية كشخص مسلم له نفوذ,وله سلطة كبيرة في الرقابة والإشراف,خصوصا في مجال مراقبة جودة السلع والخدمات,وقمع الغش من خلال قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,فإنه مع الأسف يلاحظ في ظل القوانين الحالية فقدان المحتسب لسلطته من الناحية العملية,بل أكثر من هذا فإن وضعية شخص المحتسب القانونية,لم يتم تحديدها بدقة منذ أن تم الأخذ بالحسبة في المغرب مع دخول الإسلام,الأمر الذي جعلها تثير الكثير من الجدل هل هو سلطة إدارية أم سلطة قضائية.
إن القوانين الحالية,كما سبق أن قلنا لم تعط للمحتسب إلا اختصاصات ذات جوانب محدودة,تفتقد للمنظور الشمولي لمفهوم المستهلك, بل زادت من شساعة الهوة بين المستهلكين في علاقتهم مع المهنيين حيث تقوت سلطة الفئة الثانية على حساب الفئة الأولى.
وانطلاقا من البحث الذي أجريته في أوساط التجار,والمتضررين بمدينة “تارجيست”,أقول إنه لا توجد مؤسسة اسمها الحسبة من الناحية العملية,وحتى لو كان لها وجود فهو وجود فوضوي غير منظم,بل أكثر من ذلك,يكاد يكون شخص المحتسب في هذه المدينة شخصا غير معروف لقلة تدخلاته في ميدان مراقبة جودة السلع والخدمات,فكيف يمكن أن نتحدث عن مؤسسة الحسبة إذا كنا نعرف أنها غير منظمة أصلا؟ وكيف لنا أن نتحدث عن مهمة الاحتساب إذا كنا على علم أن هذه الوظيفة قد أسندت لأشخاص ليس لهم إلمام كامل بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء؟ وكيف لنا أن نتحدث عن شخص المحتسب,إذا كنا نعرف أن اختصاصاته تتحكم فيها الأهواء,ويؤثر فيها المال الرخيص؟وهذا هو الواقع في مدينة “تارجيست” وهو واقع لاحظته عن طريق المعايشة ومن خلال أخذ ارتسامات التجار وبعض المواطنين في هذا البلد,وقد سجلت من ذلك أن تدخلات المحتسب الميدانية تكون شبه منعدمة.
يمكن القول كخلاصة إن الحسبة حاليا جاءت كإنجاز عظيم في نص الظهير الشريف المتعلق باختصاصات المحتسب وأمناء الحرف,في ظل ولاية الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه,الذي أعاد لهذه الولاية مكانتها التي فقدتها,وجعل منها الولاية التي كان يعرفها المغاربة في فترة ازدهارها بما لا يتعارض أو يتداخل مع اختصاصات المصالح والإدارات الأخرى,خاصة في ميدان زجر الغش في البضائع,حيث أثبت اختصاصها في ميدان البحث والمراقبة في إطار دولة منظمة,وتماشيا مع الأصالة المغربية الثابتة.

المبحث الثاني:
مدى كفالة القواعد العامة في توفير الحماية للمستهلك:

ما من شك في أن قانون الالتزامات والعقود المغربي,تطرق لموضوع حماية المستهلك,ووضع الضوابط والقواعد الكفيلة بتحقيق ذلك,وهذه مسألة لا يجادل فيها اثنان,غير أن الإشكال يبرز أساسا في مدى كفاية القواعد الواردة في القانون المدني باعتبار الشريعة العامة في توفير حماية فعالة للمستهلكين في إطار علاقتهم مع المهنيين ,والمنتجين ,وكبار التجار المحترفين.
لمعالجة هذا الإشكال ,عملنا على تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين,نتطرق في المطلب الأول للحديث عن مبدأ سلطان الإرادة وما يفرزه من ضرورة التدخل لإقرار توازن العقد وتحقيق العدالة التعاقدية ,على أن نخصص المطلب الثاني للحديث عن مدى كفاية عيوب الرضا لحماية المستهلك.

المطلب الأول: مبدأ سلطان الإرادة وضرورة إقرار توازن العقد:

وفقا لهذا المبدأ فإن إرادة الإنسان حرة بطبيعتها,ولا يمكن أن تتجه إلا لما فيه مصلحته,وبذلك فإن جل الإلتزامات المنشاة بين المتعاقدين على وجه صحيح, تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها,لأنها تكون معبرا عن اتحاد إرادتي المتعاقدين,وبالتالي فما دامت إرادة الإنسان حرة ,فإن الالتزامات بدورها عادلة, ولا يمكن للقاضي تعديلها أو إلغاؤها إلا بإرادة المتعاقدين أو في الحالات التي ينص عليها القانون,وبالتالي فإن المشرع يمنع عليه التدخل في العقود التي يشوبها عيب الغبن, عندما تكون هذه العقود سليمة من العيوب الأخرى.
كما يترتب عن هذه الكلاسيكية -الحرية والعدالة -أن مهمة القاضي تقتصر عند النظر في العقد المتنازع فيه على الإجابة على سؤال واحد وهو هل العقد حر؟ أي هل العقد قد أبرم بتوافق إرادتي المتعاقدين على جل بنوده؟ فإذا ما تبين للقاضي أن الأمر كذلك فإنه يمنع عليه أن يعدل من شروط العقد,بل يجب أن يرضخ لإرادة المتعاقدين حتى ولو كان هناك عدم التكافؤ بين طرفي العلاقة التعاقدية طالما أن التكافؤ بين الحريات قد تم.
ونظرا لما يثيره تطبيق من تضحية ببعض المصالح فإن أغلب التشريعات سعت إلى الحد من تطبيق المبدأ على إطلاقيته ووضعه في حدود معينة لا يجوز تخطيها ,وقد جاء التحديد كما يلي:

1-الاتجاه إلى جعل العديد من العقود شكلية,حيث يشترط تسجيلها وكتابتها,لكي تتم منتجة لأثارها على نحو يحفظ الصالح العام,ومصالح أطرافها,وهذا التحديد من شأنه أن يؤدي إلى التقليص من مبدأ سلطان الإرادة ,وهناك الكثير من النصوص في قانون الالتزامات والعقود المغربي ,التي تحت الكتابة ,نذكر مثلا الفصل 489 الذي ينص على أنه “إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو شيئا أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا وجب أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ ولا يكون له أثر في مواجهة الغير إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون.

2-الاتجاه إلى تنظيم العقود ومحتوياتها تنظيما رسميا مباشرا على نحو لا يترك للأطراف المتعاقدة خيارا كبيرا في تحديد شروطها كما هو الحال مثلا بالنسبة لعقد الكراء والتأمين.
وهذا التراجع الكبير لمبدأ سلطان الإرادة فرضته بالضرورة مسألة حماية المستهلك,وبروز الحاجة إلى ضرورة مسألة حماية المستهلك,وبروز الحاجة إلى ضرورة تنظيم العقود التي يبرمها هؤلاء تنظيما قانونيا,خصوصا وأن ميزان القوى هو مختل أصلا,وبالتالي فمن غير الممكن أن يترك مجال واسع لتطبيق مبدأ سلطان الإرادة لأن المستهلك لا يمكنه أن يقف وقفة الند للند في علاقته مع البائع أو المنتج المحترف …ولذلك من الضروري أن نعيد النظر في النظام القانوني الذي يحكم العقود وفي النظام العام الذي يسيطر على التعاقد منذ مرحلة التفاوض حتى تمام التنفيذ.
هكذا نصل إلى استنتاج عام مفاده أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جعلت من غير الممكن قبول مبدأ سلطان الإرادة,خصوصا وأن التجربة قد بينت أن هذا المبدأ لا يصلح بسبب سوء تطبيقه,وبالتالي فهو يبقى عاجزا عن تحقيق توازن العقد والعدالة التعاقدية باعتباره جاء ليحافظ على قوة المصالح الاقتصادية الرأسمالية التي كانت سائدة في المجتمعات الغربية.

المطلب الثاني:مدى كفاية عيوب الرضا لحماية المستهلك:

في البداية يجب القول أن هناك علاقة وطيدة بين القانون والأخلاق,حيث تعتبر الكثير من القواعد القانونية ترجمة لواجبات أخلاقية,والعلاقة بين القانون والأخلاق تتطور باستمرار,ويعتبر مبدأ حسن النية في تنفيذ الالتزامات أسمى ما في القواعد الأخلاقية من مضمون.
وبذلك فإن كل التزام يجب تنفيذه بحسن نية,أي يجب أن يتجنب المتعاقد الإضرار بمصلحة المتعاقد الآخر سواء عن طريق إيقاعه في غلط,أو استغلاله,أو التدليس عليه,أو ممارسة سلطة الإكراه عليه,وبالتالي فإن حسن النية في مجال التعاقد يستوجب توفر شروط أساسية وهي: انتفاء الخطأ العمدي,-انتفاء التعسف في استعمال الحق,-انتفاء الخطأ الجسيم.
ومن هنا فإن نظرية عيوب الرضا تتصل اتصالا وثيقا بنظرية سلطان الإرادة,وتتصل كذلك بمبدأ حسن النية الذي نصت عليه معظم الدول في تشريعاتها,بل الأكثر من هذا أن عيوب الرضا ترتكز في أساسها على نظرية سلطان الإرادة ومبدأ حسن النية من خلال القول أن الرضا إذا لم يكن حرا يقع باطلا.

وإذا كانت النظرة الأولى إلى نظريات عيوب الرضا توحي بإمكانية علاج مشكلات اختلال التزامات العقد,إلا أن النظرة المتفحصة لعيوب الإرادة يستنتج منها عدم جدواها في توفير مناخ ملائم لتأكيد صحة رضا الطرف الأقل كفاءة من إمكانية وقوعه في غلط أو تدليس أو إكراه أو غبن أو استغلال أو ما شابه ذلك.وهذا القول كذلك يزكيه عدم أخذ المشرع بنظرية حديثة دخلت مجال القانون تحت تأثير اعتبارات أخلاقية واجتماعية ,وعلى هذا الأساس يعتبر الغبن مثلا,مظهرا من مظاهر الضعف في إرادة المتعاقد المغبون تستوجب حماية هذا الأخير من استغلال الآخر ,وكذلك مسألة الشروط التعسفية التي تفرض على المستهلكين ,والتي يقعون ضحية لها تحت تأثير حاجتهم إلى التعاقد.

الخلاصة أنه يجب التوسع مهما أمكن في عيوب الرضا التقليدية لأنها تظل غير كافية لحماية المستهلك ,خصوصا وأن مجال العلاقات الاقتصادية في توسع مستمر,وهو الأمر الذي يدعونا للقول بضرورة فتح الباب أمام قوانين خاصة,وكذلك أمام الاجتهاد القضائي لمسايرة التطور الذي حدث في هذا المجال,خصوصا وأن التجربة قد بينت من خلال ما جاء في عيوب الإرادة التي يتضمنها قانون الالتزامات والعقود المغربي عدم فعاليتها في توفير مناخ ملائم لتأكيد صحة إرادة المستهلك ,فالمؤثرات الحقيقية التي تدفع بالمستهلك نحو التعاقد في وضع يميل فيه ميزان الالتزامات التعاقدية إلى ما يحقق مصلحة المهني لا تعتبر عيوبا للإرادة,وهي على الخصوص احتياج المستهلك إلى التعاقد للحصول على السلع والخدمات من جهة ,وضعف قدراته وعدم خبرته من جهة ثانية

: المبحث الثالث: سبل مواجهة الشروط التعسفية

إن مواجهة الشروط التعسفية تمثل حماية للمستهلك, ولاختياراته, ورغباته, وهي في نفس الآن حماية للحياة التجارية والاقتصاد برمته,على اعتبار أن المستهلك طرفا رئيسيا في العلاقة التعاقدية ,وتتم مواجهة الشروط التعسفية في مجال الاستهلاك عبر مستويات عديدة نذكر منها مثلا:
-إعطاء المستهلك صورة واضحة عن العقد المراد إبرامه,وإبراز ما يحتويه العقد من شروط تقع على عاتق المستهلك إبرازا دقيقا.
-إغلاق المجال أمام المنتج المحترف لاستغلال ما يتمتع به من قدرات ,وذلك بفرض شروط تعسفية يكون المستهلك ضحية لها.
وانطلاقا من ذلك سنعرض في المطلب الأول من هذا المبحث السبل لمواجهة الشروط التعسفية في إطار ما تنص عليه القواعد العامة على أن نخصص المطلب الثاني لما تتضمنه القواعد الخاصة بهذا الشأن.

المطلب الأول: مواجهة الشروط التعسفية في إطار القواعد العامة:

سبقت الإشارة إلى القول بأن القواعد العامة للقانون المدني تهيمن عليها فلسفة مبدأ سلطان الإرادة,أي أن الالتزامات الناشئة عن العقد هي شريعة المتعاقدين,ويترتب عن ذلك أن الالتزامات الناشئة عن المتعاقدين تعد قانونا ,وبالتالي لا يمكن للفرد أن يتحلل من التزام كان طرفا فيه مادام أن هذا الالتزام يعد في حد ذاته قانونا,كما يترتب عن ذلك أنه يمتنع على القاضي أن يتدخل في تعديل العقد طالما كانت عباراته وشروطه واضحة وصريحة ولا يعتريها أي غموض,وطالما كذلك أن شروط العقد غير مخالفة للنظام العام في المجتمع ,ولكن هذا القول لا يمنعنا من طرح تساؤل جوهري,وهو إذا كان القاضي يمنع عليه التدخل في مضمون العقد,فهل يعني ذلك عدم التدخل في تفسير هذا المضمون خاصة عندما تكون إرادة الأطراف غير واضحة؟ وهل تدخلت التشريعات المقارنة في تفسير هذا المضمون حتى يخلق نوعا من التوازن في العقد؟
للإجابة سنتطرق للحديث عما يحتويه القانون الفرنسي ,و كذا قانون الالتزامات والعقود المغربي,وذلك في الفقرتين الآتيتين:

الفقرة الأولى:الوضع في القانون المدني الفرنسي:
من النصوص التي وردت في القانون المدني الفرنسي,والتي اعتمد فيها القضاء الفرنسي من أجل إقرار العدالة التعاقدية في إبرام العقود عامة,وعقود الاستهلاك بصفة خاصة,نجد المادة 1162,والتي تسمح للقضاء بتفسير الشك في عبارات العقد لمصلحة المدين,والشك هنا يعني عدم إمكانية تحديد النية المشتركة لأطراف العقد ,فالشروط التعسفية غالبا ما تكون في العقد غامضة وغير واضحة يلجأ إليها فيها المهني المحترف إلى استعمال مفردات تجعل من الصعب على المستهلك أن يدرك مقصدها لأنها غير محددة المعاني بشكل دقيق…
وينبني مبدأ-تفسير الشك لمصلحة المدني-على أساس قاعدة-الأصل في الإنسان البراءة-أي أن الأصل في الإنسان هي براءة الذمة,فإذا وجد من يدعي خلافا لهذا الأصل أن يثبت ذلك,وهذا ما يفتح للقاضي إمكانية تفسير العقد.
وإذا كان الأصل في تفسير العقود بوجه عام ,يتم بالحث عن القصد المشترك للمتعاقدين,فإنه من اللازم عند تفسير عقود الإذعان احترام هذا الأصل العام,وباعتبار أن عقود الاستهلاك أضحت نموذجا لعقود الإذعان فإن مثل هذه العقود تستغل فيها الثقة,أي ثقة المذعن في المشترط الذي ينفرد وحده بوضع بنود المشارطة,فيخون هذه الثقة إما بطريقة عمدية أو غير عمدية,وحتى لا يقع المستهلك في غلط يدفعه إلى التعاقد, رتب القضاء الفرنسي التزاما على عاتق الموجب,ذلك عندما تكون عبارات النص غير دقيقة,فألزمه بتقديم المعلومات الكافية لإعلام الطرف الآخر أي المذعن.
وعندما يكون عقد الإذعان معقدا وصعبا على القراءة فإن الطرف المذعن (المستهلك),الذي لا يكون لديه بوجه عام ,لا الوقت ولا المقدرة اللازمين لقراءته يعول على حسن نية المشترك وعلى تأكيداته,ولذلك يجب على المشترط أن يزود الطرف المذعن بالإيضاحات اللازمة,وبإزالة كل غموض محتمل في العقد وهذا ما أكدته محكمة Renne, عندما ألغت قرارا صادرا عن محكمة Vitre.
ورغم هذه الحلول التي توصل إليها القضاء الفرنسي,والتي تهدف إلى خلق نوع من التوازن في العلاقات التعاقدية اعتمادا على العامة الواردة في القانون المدني,نلاحظ أن هذه القواعد جاءت في غياب نصوص خاصة بحماية المستهلك باعتباره الطرف الضعيف لذلك حاول القضاء الاجتهاد في إطار هذه القواعد حيث صدرت العديد من القوانين الخاصة,ابتداءا من سنة 1972 تهتم بالمستهلك وبحمايته من الشروط التعسفية.

الفقرة الثانية:الوضع في قانون الالتزامات والعقود المغربي:
إن الإتجاه التقليدي لمبدأ سلطان الإرادة كما هو معروف لا يخول للقاضي أي دور في تعديل العقود ,بل هو ملزم باحترام الرابطة التعاقدية ,وبالتالي لا يجوز للقاضي تصحيح شروط العقد ,بل إن مهمته تتجلى في السهر على تنفيذه,وذلك ما ينص عليه الفصل 230 من ق.ل.ع.
إلا أنه بالرغم من موقف سلطان الإرادة بشأن دور القاضي في هذا المجال,واستنادا على اعتبارات اقتصادية ,وتحقيقا لروح العدالة في إبرام العقود بوجه عام,سمح المشرع للقاضي في حالات معينة بالتدخل في العلاقات التعاقدية ,حيث نجد مجموعة من النصوص في ق.ل.ع تدعم ذلك نذكر مثلا:
الفصلان 54 و878 من ق.ل.ع ,اللذان يعالجان حالة من حالات الغبن الاستغلالي,حيث يستغل فيها أحد المتعاقدين مرض أو ضعف أو طيش المتعاقد الآخر ويدفعه إلى التعاقد على نحو يختل معه ميزان ما يحصل عليه أحد المتعاقدين مقابل ما يعطيه للآخر ,فالعقد هنا يكون صحيحا من الناحية الشكلية ,ومن حيث التكوين ,لكن الفرق يكمن في اختلال التوازن في المقابل ,ولذلك فقد خول المشرع للقاضي الحق في إيطال العقد حسب سلطته وتقديره,وهذا ما يستفاد من صريح الفصل 54 الذي ينص على أن “أسباب الإبطال المبنية على حالات المرض والحالات الأخرى المشابهة المتروكة لتقدير القاضي”
وبموجب الفقرة الثانية من الفصل الثاني من ظهير 25 دجنبر 1980 المتعلق بالكراء السكني والمهني,أصبح للقاضي حق التدخل لمراجعة الوجيبة الكرائية,وهذه الفقرة تنص على أنه “لكل مكتر الحق في المطالبة بمراجعة الوجيبة الكرائية أمام القضاء داخل أجل ثلاثة أشهر من تاريخ إبرام العقد,إذا اعتبر أن وجيبة الكراء لا تتناسب بشكل واضح مع المردودية المشروعة لرأس المال.ومن المقتضيات القانونية التي يمكن اتخاذها سبيلا لمواجهة الشروط التعسفية نجد الفصل 112 من ق.ل.ع.الذي يبطل الالتزام إذا كان وجوده معلقا على أرض إرادة الملتزم,أو ما يعرف بالشرط الإرادي,وكذلك الفصل 487 من ق.ل.ع الذي يشترط أن يكون الثمن الذي ينعقد عليه البيع معينا ولا يسوغ أن يعهد بتعيينه إلى أحد من الغير ,كما أنه لا يسوغ أن يقع الشراء بالثمن الذي اشترى به الغير ما لم يكن هذا الثمن معروفا من المتعاقدين.

وإذا كان المشرع لم ينظم عقد الإذعان ,وبالتالي لم يوفر الحماية اللازمة للطرف المذعن من الشروط التعسفية ,فإن هذا لا يمنع القضاء في انتظار إقرار قانون الاستهلاك من القيام بدور إيجابي لحماية المستهلك.
إلا أن أفضل علاج لمقاومة الشروط التعسفية هو ما قاله الأستاذ عبد الرزاق السنهوري تقوية الجانب الضعيف حتى لا يستغله الجانب القوي,ويكون ذلك بإحدى وسيلتين أو بهما معا:
الوسيلة الأولى: وسيلة اقتصادية,أي أن يجمع المستهلكون ويتعاونون على مقاومة التعسف الصادر من جانب المحتكر.
الوسيلة الثانية: وسيلة تشريعية ,أي أن يتدخل المشرع لا القاضي لتنظيم عقود الإذعان.

المطلب الثاني: مواجهة الشروط التعسفية في إطار القواعد الخاصة:

نسلط الضوء في إطار هذا المطلب على سبل مواجهة الشروط التعسفية في إطار قانون الاستهلاك الفرنسي (الفقرة الأولى),ثم بعد ذلك نتطرق إلى ما جاء به مشرعنا المغربي في مجال الشروط التعسفية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى:مقاومة الشروط التعسفية في قانون الاستهلاك الفرنسي:
تتنوع أساليب مقاومة الشروط التعسفية,وعموما يمكن الحديث عن ثلاث أساليب قانونية مختلفة وهي:
الأسلوب الأول: يعطي للقاضي سلطة إبطال العقد إذا قدر الشروط التي يتضمنها هذا العقد تعد تعسفية في حق المستهلك.
الأسلوب الثاني: يتمثل هذا الأسلوب في ضرورة إعداد قائمة من الشروط التي تعد تعسفية ,والتي يتم تحديدها مسبقا من طرف القانون على سبيل الحصر,ويكون الجزاء المترتب عنها هو البطلان المطلق.
الأسلوب الثالث: يقوم على أساس الجمع بين الأسلوبين الأولين,أي أنه يتيح للقاضي سلطة تقدير الشروط التي تعد تعسفية,وفي نفس الوقت يشير إلى ضرورة تحديد قائمة مسبقة للشروط التعسفية.
من خلال هذه الأساليب الثلاثة نلاحظ أن الأسلوب الأول رغم كونه يتسم بالبساطة والسهولة ,إلا أن العيب فيه يكمن في إساءة استعمال القضاء لسلتطهم التقديرية,أما الأسلوب الثاني فإنه يتسم بالجمود لأنه لا يساير ما يمكن أن يحصل من تطور على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ,أما الأسلوب الثالث والأخير فإنه قد يحقق فعالية أكثر لأنه يجمع بين مزايا الأسلوبين الأولين فبماذا أخذ المشرع الفرنسي؟

أخد المشرع الفرنسي بالأسلوب الثاني,وذلك حسب مقتضيات المادة 132 من قانون الاستهلاك الفرنسي التي تنص على أن تحديد الشروط التعسفية يتم بمرسوم يصدر عن مجلس الدولة بعد استشارة لجنة الشروط التعسفية.
إن المراسيم التي تصدر عن مجلس الدولة الفرنسي تفرض على الأطراف والقضاة,فهي نوع من اللوائح,لكن يلاحظ أنه منذ إقرار هذا النظام لم يصدر إلا مرسوم واحد بتاريخ 24 مارس 1978,ويهم هذا المرسوم ثلاثة أنواع من الشروط وهي:
– الشروط المعفية او المحددة لمسؤولية المهني في عقود البيع مع إبعاد عقود أداء الخدمات.
– الشروط التي تعطي للمهني الحق في أن يعدل من جانبه فقط خصائص السلعة أو الخدمة المطلوبة( مثال ذلك عقود السيارات ,وعقود بيع أثاث المنازل…).
– شروط الضمان التعاقدي التي لا تنص على وجود الضمان القانوني للعيوب الخفية.
وقد أضيف إلى قانون الاستهلاك الفرنسي سنة 1955 ملحق يتعلق بقائمة بيانية ,وليست حصرية تتضمن الشروط التي يمكن اعتبارها تعسفية كما يتضمن الملحق جزءا ثانيا يتعلق باستبعاد بعض الشروط من دائرة الشروط التعسفية.
وإلى جانب مجلس الدولة الفرنسي أنشأ قانون 10 يناير 1978 لجنة الشروط التعسفية في نماذج العقود المقترحة من طرف المهنيين على جمهور المستهلكين.
لكن في إطار كل ما قلناه لابد من أن نطرح السؤال التالي: ما هي المكانة التي يحتلها القضاء في هذا النظام؟
شهدت المناقشات التي سبقت التصويت على قانون 1978,رفض المشرع الفرنسي منح القضاة سلطة تحديد الأوصاف التعسفية للشرط,لكن أمام إلحاح السلطة التنفيذية تقرر للقضاة هذا الحق ,إلى أن استقر الأمر على اعتراف محكمة النقض الفرنسية للقضاة بعد تردد كبير سنة 1991 بحقهم في التصريح بالشروط التعسفية,هذا الحل تم الأخذ به في تعديل 1995.

الفقرة الثانية: مقاومة الشروط التعسفية في إطار مشروع قانون الاستهلاك المغربي:
هذا القانون يمكن اعتباره نسخة طبق الأصل لقانون الاستهلاك الفرنسي,لأنه يستمد منه أغلب مقتضياته,وقد أخذ فيه مشرعنا المغربي لما توصل إليه المشرع الفرنسي,فعلى غرار مجلس الدولة الفرنسي هناك في القانون المغربي ما يعرف بالمجلس الوطني للاستهلاك تتجلى
مهمته الأساسية بإصدار لائحة بيانية للشروط التي يمكن اعتبارها تعسفية,كما اقترحت المادة 100 من مشروع قانون الاستهلاك إحداث لجنة متخصصة في الشروط التعسفية على شاكلة لجنة الشروط التعسفية الفرنسية,وهذه اللجنة المتخصصة لها وظيفة استشارية بالأساس ,حيث يتم استشارها من طرف المجلس الوطني للاستهلاك.
لكن هناك اختلاف جوهري فيما يخص القوة الملزمة للمراسيم التي تصدر عن المجلسين (أي مجلس الدولة الفرنسي,والمجلس الوطني للاستهلاك),فإذا كانت المراسيم التي تصدر عن مجلس الدولة الفرنسي,والتي تضم الشروط التي يمكن أن تعد تعسفية تعتبر ملزمة بالنسبة للقاضي وأطراف العقد,فإن اللوائح البيانية التي تصدر عن المجلس الوطني للاستهلاك لم يوضح فيها المشرع مدى تمتعها بالقوة الإلزامية ,وهي مسألة تثير جدلا كبيرا.
وتجنبا للوقوع في سلبيات قانون الاستهلاك الفرنسي قبل تعديل فاتح فبراير 1995 أعطى المشرع المغربي السلطة التقديرية للقضاء في تحديد الطابع التعسفي لكل شرط,وتكييف الشروط التي يمكن أن تكون تعسفية توقع المستهلك ضحية لها,وبالتالي الحكم بإبطالها,أي إبطال الشرط التعسفي مع الإبقاء على العقد قائما ومنتبها لآثاره,ولكن مع ذلك فرغم هذه الاختصاصات الممنوحة للقضاء في مسألة تكييف الشرط التعسفي,فإنها مع ذلك مقيدة بالتعريف الذي وضعه المشرع للشرط التعسفي الذي جاء به مشروع قانون الاستهلاك الفرنسي.
من خلال ما سبق يمكن القول إن العقود النموذجية التي يتم تحريرها من قبل المهني غالبا ما تتضمن شروطا تعسفية,ولاشك أن أحسن حماية يمكن توفيرها على المستوى القانوني للمستهلك هي وقايته من الوقوع ضحية هذه الشروط,وفي غياب تام لهذا المنطق من الحماية في القانون المدني فإنه على الأقل يجب تمكين المستهلك من الوسائل التي تساعده على معرفة فحوى الشروط التي يتضمنها العقد الذي يوقع عليه,خاصة وأن عقود الاستهلاك تزداد أهمية اليوم مع السرعة التي يشهدها تطور مجال السلع والخدمات.

الفصل الثاني:
الطرق الواقعية أو الفعلية لحماية رضا المستهلك:

بعدما تطرقنا في الفصل الأول لما تنص عليه القواعد العامة والخاصة,حول مسألة حماية رضا المستهلك,ارتأينا في إطار هذا الفصل التطرق لمسألة لا تقل أهمية,وتتعلق بإبراز الطرق الواقعية أو الفعلية التي من شأنها حماية رضا المستهلك,وقد كان هذا الاختيار في نظري نتيجة لتزايد نسب الأخطار والأضرار التي يمكن أن يقع ضحية لها في كل وقت وحين,نظرا لما تعرفه السلع والخدمات من تطور ونمو في مختلف المجالات الاقتصادية والإنتاجية.
وقد ارتأينا تفصيل هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث نتعرض لها كالآتي:

المبحث الأول: إجراءات حماية رضا المستهلك.
المبحث الثاني: مسؤولية المنتج اتجاه المستهلك والطبيب اتجاه المريض عن الأضرار التي تلحقهما.
المبحث الثالث: دور هيئات الرقابة في حماية المستهلك.

المبحث الأول:
إجراءات حماية رضا المستهلك:

ما من شك في أن ضمان حماية فعالة,يجب أن ينطلق بوضع إجراءات من شأنها أن تكفل وتحقق هذا الهدف,وأن حماية رضا المستهلك يقتضي بالضرورة منحه فرصة للتفكير والتروي,ومنحه أجلا للتدارك من كل ما يمكن أن يقع فيه من استدراك (المطلب الأول),وكذلك زجر كل غش وخداع ومعاقبة الخطاب الاشهاري المضلل (المطلب الثاني ).

المطلب الأول: منح المستهلك فرصة للتفكير وأجلا للتدارك:

تنبه المشروع إلى وجود ممارسات تعتمد بالأساس أسلوب استدراج المستهلك وإلزامه بإبرام عقد ما كان ليبرمه لو كان رضاءه سليما,وبالتالي عمل المشرع على منحه فرصة للتروي والتفكير من أجل إبرام العقد,حيث نص على مجموعة من الأحكام خاصة بعقود محددة,وذلك من أجل مساعدة المستهلك,ومن هذه العقود التي خصها المشرع بهذه الأحكام نذكر أساسا:

الفقرة الأولى: البيع في محل الإقامة أو البيع المصفقي:
البيع في محل الإقامة أو البيع المصفقي هو تقنية تجارية تقتضي سعي المهني إلى محل إقامة المستهلك أو مقر عمله أو بصفة أعم إلى أي مكان آخر غير مخصص بطبيعته لممارسة التجارة,ليعرض عليه اكتساب أموال أو تقديم خدمة بمقابل.
من هذا التعريف نستنتج أنه في البيع المصفقي,يستغل المهني ما يمكن أن يقع فيه المستهلك من تسرع ,فيقوم هذا الأخير تحت تأثير إغراءات المهني بإبرام العقد,وبالنظر إلى وجود خشية أن يكون المستهلك قد وافق على الصفقة تحت تأثير هذه الإغراءات,وأن يكون المهني قد دفعه إلى التسرع في إبرام العقد,فإن الفصل 46 من مشروع قانون حماية المستهلك يشترط في العمليات ان تتم عن طريق السعي المصفقي أن ترد في عقد مكتوب,وأن يمكن المستهلك بنسخة منه حال إبرامه.وأضاف إلى ذلك أن من حق المستهلك وفقا لمقتضيات الفصل 47 أن يعدل عن اتفاقه ,ويتراجع عن إبرام العقد خلال 7 أيام من تاريخ الطلبية أو الالتزام بالشراء,وذلك بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل.

الفقرة الثانية: القرض الاستهلاكي:
ازدادت أهمية الاهتمام بهذا النوع من القروض نتيجة التوسع الملحوظ للشركات المقرضة,وبالتالي تضرر مصلحة المتعاملين مع هذه الشركات,وتعالي الأصوات المنددة بأنشطتها,وتسري الأحكام الخاصة بهذا النوع من القروض على جميع القروض التي يقدها المهني للمستهلك,ماعدا القروض العقارية التي تخرج عن هذا الإطار بمقتضى الفصل 61 من المشروع.
وحتى يكون قبول المستهلك لبنود القرض الاستهلاكي صحيحا يجب ان يتم ذلك عن بينة وتفكير منه ,لذلك اتجه الفصل 65 من المشروع إلى النص على ما يلي: يستلزم في العرض الأولي للقرض ما يلي:
-أن يكون مصاغا بطريقة واضحة لا لبس فيها ولا غموض.
-أن يتضمن تعريفا وافيا بأطراف العقد.
-أن يحدد بالوضوح اللازم مبلغ القرض,وكيفية تمكين المقترض منه وأشطره وقيمة القرض…
ولأن نسبة الإغراء في هذا النوع من القروض تكون كبيرة,ونظرا لحاجة المستهلكين في قبول هذه الإغراءات ,كان لابد من المشروع أن يحتاط لحالات التسرع في توقيع وقبول العقود الاستهلاكية عموما,وعقود القرض بصفة خاصة,حيث أقر ونص على مجموعة من الإجراءات من أجل سلامة رضا المستهلك,وهي إجراءات ثنائية الطابع,تتلخص في:

أ- إجراءات ذات طابع وقائي:
وهي المهلة التي يخولها القانون للمستهلك من أجل التروي والتفكير في الإيجاب قبل إعلانه القبول خلافا للأصل العام المقرر في قانون الالتزامات والعقود,والتي تقتضي بسقوط الإيجاب إذا لم يرتبط به قبول فورا,وقبل انفضاض مجلس العقد.

ب-إجراءات ذات طابع علاجي:
وهي تمكين المستهلك من العدول عن قبوله بعد تمام اقترانه بالإيجاب,خلال أجل معين يعبر عنه بمهلة التدارك أو الاستدراك,وذلك خلافا للنظرية العامة في العقد والتي تقول بأن العقد شريعة المتعاقدين.

المطلب الثاني: زجر الغش والخداع ومعاقبة الإشهار المضلل:

الخداع هو الوسائل الاحتيالية التي يستعملها الشخص ليوقع غيره في الغلط,وهو كطريقة لارتكاب الغش,كل ما يؤدي إلى اعتقاد المشتري بأن التعاقد وقع على الشيء المصرح به,بمعنى أن البائع يمارس أسالية احتيالية تدعو إلى الاعتقاد بأن الشيء موضوع التعاقد بالرغم من مخالفته لحقيقته مطابقا لتلك الحقيقة.
وقد جاء في الفصل الأول من الفقرة الأولى من قانون الزجر عن الغش في البضائع ما يلي:” يعد مرتكبا للغش عن طريق الخداع أو التزييف كل من غالط المتعاقد بوسيلة ما في جوهر أو كمية الشيء المصرح به,وقام خرقا لأحكام هذا القانون أو النصوص المتخذة لتطبيقه او خلافا للأعراف المهنية والتجارية,بعملية تهدف عن طريق التدليس إلى تغييرها”.
ويعتبر من الغش أيضا كل من خادع المتعاقد أو حاول خداعه في :
-ماهية البضاعة.
-نوع لبضاعة.
-كمية الأشياء المصنوعة.
-هوية البضاعة.
وقد سلك الفصل العاشر من مسودة مشروع قانون حماية المستهلك نفس المسلك.
وإذا كان ما قلناه يتعلق بالغش والخداع وضرورة التصدي له بكافة أنواعه وصوره لتفعيل حماية أكثر للمستهلك فما موقع الخطاب الإشهاري في هذا المجال؟
ألا يمكن أن يستغل الخطاب الإشهاري في تضليل المستهلك,فيصبح بالتالي وسيلة للتمويه لا وسيلة للتبصير؟
الواقع أن الإشهار باعتباره تقنية تجارية كان على الدوام محل أخذ ورد,فقد ينظر إليه على أنه وسيلة معتبرة لإعلام المستهلك وتبصيره,إذ يقتصر دوره الأساسي على تقريب المستهلك امام تعدد المنتوجات ليمارس خياراته بشكل أفضل وعن سابق علم ومعرفة,لكن الواقع يكشف عدم جدوى الخطاب الإشهاري لأنه وسيلة للتمويه لا للتبصير.حيث تختلط فيه الحقيقة والمبالغة والكذب في بعض الأحيان,وبالتالي تتأثر تبعا لذلك اختيارات المستهلك ,فيصبح رضاءه في الإقبال على التعاقد معيبا وغير سليم لذلك ينبغي التعامل معه بكثير من الحذر,وهو ما حدا بالتشريعات المتعلقة بحماية المستهلك إلى أن تولي للإشهار أهمية خاصة باعتباره وسيلة فعالة للتعريف بالمنتوج,وتقريب وجهة نظر المستهلكين في علاقتهم بالمنتجين وكبار التجار المحترفين.حيث اعتبرت أغلب التشريعات الإشهار الكاذب,بل مجرد الخاطئ جريمة معاقب عليها,وهو نفس الاتجاه الذي تبناه الفصل 30 من مسودة المشروع المتعلق بحماية المستهلك الذي يصنف الإشهار الكاذب في كل إعلان تجاري يمكن مباشرة أو صفة غير مباشرة,صراحة أو ضمنا من إيقاع المستهلك في غلط أو عدم الفهم أو الخلط بشأن السلعة أو الخدمة,وسواء تم ذلك عن حسن نية أو سوء نية.
وهذه الإجراءات السالفة الذكر لا تكتمل إلا إذا كان رضا المستهلك سليما من الشروط التعسفية التي تفرض من المهني على المستهلك,حيث يستغل فيها هذا الأخير بسبب ما يتمتع به الطرف الآخر من تفوق في الإمكانيات,وذلك كله من أجل أن لا يكون هناك اختلال مبالغ فيه بين حقوق والتزامات أطراف العقد على حساب الطرف المستهلك.

المبحث الثاني:
مسؤولية المنتج اتجاه المستهلك والطبيب اتجاه المريض عن الأضرار التي تلحقهما:

عندما تكون المنتجات خطيرة,يكون المنتج ملزما بأن يتخذ كل ما يمكن من الاحتياطات التي من شأنها الحيلونة دون تحقق الخطر وحصول الضرر من بعده.فإذا ما ثبت على المنتج تقصير في هذه الناحية كان مسؤولا عن تعويض كل ما يحدث للمستهلك او المستعمل من أضرار,كذلك الشأن يمكن أن يقال عما يمكن أن يصاب به المريض من ضرر جراء خطأ الطبيب ,ومن ثم ما قد ينشأ عن ذلك من مسؤولية في كلتا الحالتين,سواء تعلق الأمر بمسؤولية الطبيب أو مسؤولية المنتج.
وباعتبار أن جريمة الغش في البضائع تعد أخطر الجرائم الماسة بصحة وسلامة المستهلك,ارتأينا أن نتعرض لها من حيث تكييفها القانوني ومن خلال فعالية الجزاء الجنائي بهذا الخصوص (المطلب الثاني) بعد أن ندرس في المطلب الأول مسألة لا تقل أهمية وتتعلق بإبراز مسؤولية المنتج في المجال الاستهلاكي,والطبيب في المجال الطبي وفق ما تنص عليه القواعد العامة.

المطلب الأول: مسؤولية المنتج في المجال الاستهلاكي والطبيب في المجال الطبي:

سيكون من الصعب أن نتحدث عن مسؤولية المنتج أو الطبيب,إذا لم نتمكن من إثبات خطئهما,فنحن نعرف أن قواعد المسؤولية تنبني على ثلاثة أركان وركائز أساسية لا يمكن تجاهلها,وهو وجود الخطأ,وتحقق الضرر,ووجود علاقة سببية بين الخطأ والضرر,وإذا كانت هذه الأركان واضحة ولا تثير أي غموض,فإننا اخترنا في إطار هذا المطلب أن نشرح مظاهر الخطأ التي يمكن أن تصدر عن المنتج أو الطبيب,جراء إخلال الأول بالتزامه بالإخبار أو الإعلام (الفقرة الأولى),وإخلال الطرف الثاني بواجبه بتبصير المريض (الفقرة الثانية) وما يمكن أن يترتب عن ذلك من مسؤولية.

الفقرة الأولى: مسؤولية المنتج بسبب الإخلال بواجب الإخبار والإعلام:
إن ما يجب أن يكون نصب عيني المنتج هو الحيلولة بكل السبل الممكنة,دون تحقق ما يمكن ان تحتوي عليه المنتجات من أخطار يمكن أن تضر بالمستهلك,فبموجب الفقرة الأولى من المادة 11 من قانون الاستهلاك الفرنسي لسنة 1993 فإن كل مهني يباشر بيع أموال أو تقديم خدمات,يلتزم بإعلام المستهلك قبل إبرام العقد بالخصائص الجوهرية للبضاعة او الخدمة,وقد صدرت عدة مراسيم تحدد آليات هذا الإعلام وتوضيح كيفية تمامه سواء من حيث تكوين المنتوج أو وزنه وتاريخ صلاحيته وكيفية استعماله.
وكان قد ورد في الفصل الرابع من مسودة المشروع المغربي لقانون حماية المستهلك أنه “يلتزم كل مهني يعرض أموالا للبيع,أو تقديم خدمات أن يبصر المستهلك قبل تمام إبرام العقد بحيث تتاح له إمكانية العلم بالخصائص الجوهرية للمال أو الخدمة,وذلك عن طريق جميع الوسائل الملائمة”.
أما المادة 47 من قانون المنافسة فقد نصت على أنه “يجب على من يبيع منتوجات أو يقدم خدمات أن يعلم المستهلك عن طريق وضع علامة,أو ملصق,أو إعلان وبأي طريقة مناسبة أخرى بالأسعار,والشروط الخاصة للبيع أو لإنجاز الخدمة.
تحدد إجراءات إعلام المستهلك بنص تنظيمي”.
ولا شك أن المنتجات تتنوع وتختلف مما يجعل مسؤولية المنتج كذلك تختلف حسب هذا المنتوج,فهناك منتجات خطيرة بحسب طبيعتها وهناك منتجات تكون خطيرة بسبب عيب فيها.

أ- بالنسبة للمنتجات الخطيرة حسب طبيعتها:
فإنه يقع على عاتق المنتج واجبا أساسيا يتعلق بضرورة إخبار المستعمل أو المستهلك بطريقة الاستعمال.حتى يمكن لهذا الأخير أن ينتفع بها على أكمل وجه ممكن,وحتى يتوخى من ناحية أخرى مخاطر استعمال خاطئ يمكن أن يؤدي إلى الإضرار به,كما يقع على عاتق المنتج بطبيعة الحال عبء إثبات قيامه بهذا الواجب,وإلا كان مسؤولا عما يمكن أن يقع للمستعمل من أضرار نتيجة الاستعمال الخاطئ.
وإذا قلنا من واجب المنتج أن يخبر المستعمل بطريقة الاستعمال حسب هذا النوع من المنتجات وفق الغرض المخصصة له,فإن المنتج يتحلل من المسؤولية إذا ما تجاهل المستعمل الغرض المبين في طريقة الاستعمال,واستعمل السلعة في غرض آخر أدى إلى الإضرار به.
غير أن هذا الوجه من وجوه الإعلام أو الإخبار ما يعاب عليه أنه لا يقدم حماية لمستهلكي هذه المنتجات,لذلك يجب على المنتج من ناحية ثانية أن يبرز للمستعمل الإحتياطات التي يجب عليه أن يتخذها في استعماله لهذه المنتجات,وتحذير إياه من خطورة الاستعمال الخاطئ لها,أو من مخاطر عدم اتخاذ هذه الاحتياطات,ويبقى أن نشير أن الالتزام بالإخبار في هذا الإطار هو مجرد التزام بوسيلة,لأن المنتج لا يضمن بداهة للمستهلك عدم تحقق الخطر,فالمنتجات حسب طبيعتها تختلف فهناك منتجات تستخدم خلال مدة معينة وإلا فقدت صلاحيتها,فهنا يلقى على عاتق المنتج عبء بيان مدة الصلاحية وحدود الاستعمال (مثل الأدوية) وهناك كذلك منتجات تأتي معبأة في عبوات مغلقة…

ب- بالنسبة للمنتجات الخطيرة بسبب عيب فيها:
وهي منتجات ليست خطيرة بطبيعتها إنما مكمن الخطورة هو ما يشوبها من عيب فني,أي أن هذا النوع من المنتجات يخرج معيبا,وهذا العيب هو الذي يزيد من خطورتها على المستهلك ,حيث أن هذا الأخير كما هو معلوم,يقبل على شراء مثل هذا النوع من المنتجات مفترضا سلامتها من الناحية الفنية,وهو افتراض مبرر لأن المستهلك ليس في إمكانه أن يعرف مكمن العيب في المنتوج,وبالتالي فهو لا يسأل هنا لإهماله أو عدم تبصره,فالمسؤولية هنا تقع على عاتق المنتج كشخص متخصص مفروض فيه فضلا عن إلمامه بأصول الفن الصناعي وقواعده أنه لديه مهارة قصوى في سبيل إخراج منتجاته على أكمل وجه,سليما من الناحية الفنية وذلك حتى لا يتضرر المستهلك من جراء ذلك.
كما يدخل في هذا الإطار كذلك مايكون من المنتجات خطيرا بطبيعته لكنه يصبح أكثر خطورة بفعل ما ينطوي عليه من عيب,وبالتالي يصبح التزام المنتج بواجبه في الإخبار أو الإعلام أو التحذير من الخطر غير معف بالضرورة من المسؤولية إزاء ما يمكن أن يصيب المستهلك من أضرار,ومن ثم فإن اتباع المستهلك لتحذير المنتج لن يقيه مع ذلك من احتمال تحقق الخطر,وبالتالي من مسؤوليته إزاء هذه العيوب,فالضرر الذي نتحدث عنه هو الضرر الناتج عن عيب فني والذي يصيب المستهلك باعتباره شخصا عاديا وغير متخصص بمعرفة العيب الفني.
إن من واجب المنتج باعتباره شخصا متخصصا حتى يتدارك طرح منتجاته معيبة في الأسواق مما يمكن معه أن يضر بمصلحة المستهلكين أن يلتزم الضوابط الفنية في الإنتاج الذي يزاوله,وأن تخضع منتجاته للفحص الفني الدقيق,وأن يجربها ما أمكن قبل أن تصل إلى أيدي المستهلكين,وأي تقصير من جانبه في هذه الواجبات يمكن أن يعرضه للمسؤولية.
إجمالا لا يمكن القول إن الالتزام بالإخبار والإعلام أصبح اليوم من الحقوق الأساسية للمستهلكين وأحد عوامل المنافسة الشريفة والمشروعة وذلك من خلال ثلاث ثوابت أساسية وهي:
1-ضعف المستهلكين اتجاه المحترفين.
2-حماية الطرف الضعيف كوظيفة رئيسية للقانون.
3-عجز القانون المدني الكلاسيكي عن ضمان حماية فعالة للمستهلكين.
ويعد الالتزام بالإعلام إجراء حمائي لمصلحة المستهلكين لأنه لا يتعلق فقط بالنسبة للمحترفين بالكشف عن خصائص السلعة أو الخدمة كشرط ضروري لكي يمنح المستهلك أيضا فرصة إبرام عقد يستجيب لمتطلباته ورغباته من جهة وإمكانيته المادية من جهة أخرى ,لأن إعلام المستهلكين يعني جعلهم قادرين على حماية مصالحهم بأنفسهم.

الفقرة الثانية: مسؤولية الطبيب بسبب إخلاله بواجبه بتبصير المريض:
التعبير عن الطب والطبيب,وصف لما يقوم به إنسان يفترض فيه العلم نحو مريض يحتاج إلى هذا العلم,وسواء كان هذا العمل بأجر أو بدونه,فإنه ينشئ بين الطبيب والمريض علاقة توجب طبيعتها التزام الطبيب بذل عناية في عمله واستغلال علمه في سبيل علاج المريض بعد إذنه بذلك له مع حسن نيته في العمل,كما توجب التزاما على المريض بقبول علم الطبيب وعلاجه,ودفع أجره إن كان عمله بأجر كما هو الغالب.
لا تتوقف العلاقة على مجرد هذا الالتزام,بل كثيرا ما ينشأ عنها علاقة أخرى هي ادعاء المريض بأن الطبيب قد أصابه بضرر من جراء طبه,ومن ثم ينشأ عن ذلك بحث حول مدى مسؤولية الطبيب,وهل كان فعله يستند على علم أو أنه يجهل الطب وأصوله.
إن موضوع مسؤولية الطبيب حسم فيها الفقه والقضاء المغربي,إلا أن الأمر يختلف بالنسبة للالتزام بالتبصر,حيث لا يوجد في المغرب أي اجتهاد قضائي في الموضوع وبهذا أتساءل عن كيفية تعامل الفقه,وكذا القضاء المغربي مع مسؤولية الطبيب جراء إخلاله بالتزامه بتبصير المريض؟
إن قراءة في التشريع المغربي توضح الإهمال الذي يلقاه موضوع المسؤولية الطبية,حيث غيب تماما في ظهير 18 يوليوز 1995 بشأن التحاقن,وفي قانون 10i94 بشأن ممارسة مهنة الطب وفي القانون الحالي المتعلق بأخذ وزرع الأعضاء,بينما ظهر ق.ل.ع في فصول 82-83,وقد تناول المسألة في سياق عام لكن بأساليب جد مقيدة بحيث إذا أخذ بهذه النصوص فإن مزاولي المهن الحرة لا يعتبرون مسؤولين إلا في حالة سوء النية,الخطأ الجسيم أو في حالة ضمان النتيجة.
في الميدان القضائي يذهب القضاء المغربي إلى أن التزامات الطبيب تجد لها مصدرا خارج العقد,وحتى في الحالة التي أقر فيها الصفة التعاقدية للعلاقة بين الطبيب والمريض فإنه لم يكيفها على أساس الفصل 724 من ق.ل.ع,وإنما على أساس من طبيعة خاصة.
وقد عبر الدكاترة المغاربة المشاركون في أحد الأيام الدراسية بفاس عن الفراغ الذي يعانيه التشريع المغربي في مجال المسؤولية الطبية,حيث تناول الدكتور شكيب النجاري أستاذ الطب الاجتماعي وعلم الأوبئة بكلية الطب بالدار البيضاء موضوع المسؤولية من جهة نظر اجتماعية شمولية استنادا إلى مؤشرات الصحة العمومية وتفاعلها مع المسؤولية الطبية,وكيف لهذه المسؤولية أن ترقى بهذه المؤشرات أو تحط منها,وشدد على ضرورة الربط بين المؤشرات الاجتماعية للمرض داخل المجتمع والمسؤولية الناتجة عن ذلك,فمثلا إذا يسجل في المغرب 30 ألف حالة جديدة من داء السل كما هو الحال خلال السنوات الأخيرة فإن هناك مسؤولية مهنية للأطباء في عدم التنبيه من أجل الوقاية وتوجيه المرضى للاستشفاء من هذا الداء الفتاك…وفي الأخير شدد الأستاذ شكيب النجاري على أهمية التكوين المستمر للأطباء في ميدان تخصصهم ومجالات مسؤوليتهم.
وأوضح الأستاذ عبد الله العزوزي, وفيصل العموم أنه لا يوجد في التشريع المغربي نص قانوني صريح يتعرض لمسؤولية الأطباء المدنية,كما أن القوانين الخاصة بالمهنة لم تهتم هي الخرى بالموضوع, وإنما تعرضت للجزاءات التأديبية التي ينبغي اتخادها من طرف الهيئة لكل من لم يحترم واجباته ومسؤولياته.
ومن جهة أكد الطبيب عبد اللطيف الداودي ,رئيس هيئة الأطباء للجهة الوسطى الشمالية, أن دليل أخلاقيات مهنة الطب في المغرب,يلزم الأطباء بمختلف تخصصاتهم, موضحا أن العلاقات بين الطبيب والمريض إذا كان يحكمها في السابق بند ضمير الطبيب وثقة المريض, فإن المريض في الوقت الحالي يطالب بجودة الخدمات المقدمة له .وأكد أنه في كل الحالات يتحلل الطبيب من المسؤولية,عندما يتضح أن ليس له نية إحداث الضرر,وأنه بذل عناية فنية تقتضيها مهنته.
وقد رتب الفقهاء على ذلك أن الطبيب الجاهل إذا أوهم المريض بعلمه فأذن لهم في علاجه لما ظن في علمه ومعرفته,فمات المريض أو أصابه تلف من جراء العلاج فإنه يلزم بدية النفس أو بتعويض التلف حسب الأحوال.
ويذهب بعض الفقه الإسلامي,إلى أنه متى تدخل الطبيب الجراح بدون إذن المريض أو وليه وبدون ضرورة تستلزم العلاج فإنه يصبح مسؤولا عن الضرر الذي يمكن أن يترتب عن ذلك,فيكون بذلك قد خرج في عمله من دائرة الإباحة إلى دائرة التعدي وذلك حتى لا يضيع دم مسلم هذرا.
لكن على من يقع عبء الإثبات في الالتزام بالتبصير؟
استقر القضاء على أنه يقع على عاتق المريض عبء إثبات إخلال طبيبه بتبصيره,وهو ذات الرأي الذي ذهب إليه الفقه الفرنسي, إلا أن المريض بالضرورة سيلقى صعوبة في إثبات ذلك لسببين هما:
1- صمت الطبيب ومعاونيه.
2-صعوبة الاستعانة بالخبراء الذين يواجهونه بصمت الطبيب حفاظا على السر المهني.
لذلك نرى أنه يمكن للمريض أن يثبت ادعاءه بكافة وسائل الإثبات وللقاضي سلطة تقديرية في خلق التوازن بين المؤشرات والشواهد والقرائن.
يبقى أن نشير في الأخير إلى أن الطبيب في كل الأحوال ملزم بتبصير المريض الذي ليس له أن يتنازل عن حقه في التبصير لمخالفة المر للنظام العام, بل إن الطبيب إذا رفض مريضه سماع ما يتعلق بالعلاج من مخاطر عليه أن ينسحب من علاجه طالما أن هذا الانسحاب لن يعرض حياة المريض للخطر.

المطلب الثاني: جريمة الغش في البضائع وتكييفها القانوني من حيث الجزاء:

إن قانون الزجر عن الغش يعتمد على المبادئ العامة للقانون الجنائي,شأنه في ذلك شأن جميع القوانين الجنائية الخاصة, ومن ثم فإن جريمة الغش لابد لقيامها من توافر أركان الجريمة المعروفة : وهي الركن القانوني والركن المادي ,والركن المعنوي.
فما هي أركان جريمة الغش ؟ وكيف يتم تكييفها قانونيا ؟ وما فعالية الجزاء الجنائي في وضع حدودها لها ؟

الفقرة الأولى: أركان جريمة الغش:
لابد لقيام جريمة الغش من توافر ثلاثة أركان وهي:

أ- الركن القانوني:
يعبر عن هذا الركن بمبدأ ” لا جريمة إلا بنص” كما يعبر عنه كذلك بشرعية أو قانونية التجريم,وهذا المبدأ هو مبدأ دستوري استقر في القوانين الزجرية لجميع الأنظمة الديموقراطية ,فالقانون هو الذي يحدد أفعال الإنسان التي تعد جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي, ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية,فلا يجوز مؤاخذة شخص على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون ضمانا لأي تعسف قد يتعرض له الفرد من قبل السلطة باعتبارها الساهرة على تطبيق القانون وتنفيذه.
وإن قانون زجر الغش في البضائع الحالي المنظم بظهير 5 أكتوبر1984 ينص في فصله الأول على انه “يعتبر مرتكبا الغش عن طريق الخداع والتزييف كل من غالط المتعاقد بوسيلة ما في جوهر أو كمية الشيء المصرح به,أو قام خرقا لأحكام هذا القانون أو النصوص المتخذة لتطبيقه أو خلافا للأعراف المهنية او التجارية بعملية تهدف عن طريق التدليس إلى تغييرهما “.
إذن الركن القانوني لجريمة الغش يتمثل في:
1- نص قانون الزجر عن الغش في البضائع: وهو القانون الذي يتضمن تحديد جرائم الغش ويضع لها عقوبتها ,وتدابير وقاية عينية وشخصية,سواء ضمن نصه أو عن طريق الإحالة على القانون الجنائي.
2- النصوص المتخذة لتطبيق قانون الزجر عن الغش في البضائع :وهي في الأصل النصوص التي صدرت لتطبيق ظهير 14 أكتوبر 1914 التي تبناها ظهير 5 أكتوبر 1984.
وقد بلغ العدد الإجمالي لكل القوانين والنصوص التنظيمية المتعلقة بالزجر عن الغش في البضائع 22 ظهيرا أو قانونا وما يناهز 150 نصا تنظيميا ,تضاف إليه قرابة 22 مذكرة تقنية.
3- كمصدر تكميلي: يتلخص في الأعراف التجارية او المهنية التي تعتبر شكلا جديدا لم يكن معروفا في ظهير 14 أكتوبر 1914.

ب- الركن المادي لجريمة الغش:
انطلاقا من نص المادة الأولى من قانون الزجر عن الغش فإن الركن المادي يتحقق كلما وقع إنجاز الفعل الممنوع قانونا بشكل تتحقق معه عناصر,مما يستوجب تحديد تلك العناصر بالنسبة لكل جريمة بشكل واضح حتى يمكن تطبيقها بشكل مناسب على الأفعال المرتكبة للقول بالوجود المادي للجريمة من عدمه دون قياس أو توسع في التفسير.
إن الركن المادي يتمثل في النشاط الذي يأتيه الفاعل إيجابيا كان أو سلبيا,والنتيجة الإجرامية التي تترتب عليه ثم علاقة السببية بين الفعل والنتيجة, وإذا كان الركن القانوني يرتكز على مبدأ “لا جريمة إلا بنص” فإن الركن المادي يرتكز على الفصل الأول من القانون الجنائي “يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي تعد جرائم بسبب ما يحدثه من اضطراب اجتماعي “.
واعتبارا لذلك فإنه يتعين الرجوع إلى قانون زجر الغش والنصوص التنظيمية المتخذة لتطبيقه,والأعراف المهنية والتجارية, للقول بأن الفعل المرتكب يشكل جريمة غش معاقبا عليها,وإعطائها الوصف المناسب مع إبراز العناصر بكل وضوح دون الاكتفاء بالقول بأن الفعل هو جريمة غش دون وصف محدد.

ج- الركن المعنوي لجريمة الغش:
هذه الجريمة هي جريمة عمدية,يشترط لقيامها ثبوت القصد الجنائي الذي يتحقق بعلم الجاني بأن ما يعرضه أو يطرحه للبيع يعد فاسدا أو مغشوشا,وأن يعلم بكنه وطبيعة المواد التي تستعمل في الغش,وإن من شأن ذلك خداع المشتري وإدخال الغش عليه وعلى السلعة,وكذا اتجاه إرادته نحو أفعال من شأنها أن تغير من طبيعة وخواص المواد التي أدخلت عليها.
ومن ثم فإن العنصر أو المكون المعنوي لجريمة الغش لابد لتأسيسه من توافر العلم بالفعل الإجرامي, والوعي بالركن المادي للجريمة المعاقب عليها من طرف القانون الجنائي وهو ما اكده الفصل 133 من ق.ج .

الفقرة الثانية: التكييف القانوني لجريمة الغش من خلال الجزاء:
إن عملية تحديد أركان جريمة الغش تستوجب بالضرورة عملية القيام بتكييف قانوني لها,وذلك من أجل تحديد المحكمة المختصة بالبث في الجريمة,والتكييف القانوني للجريمة يختلف بحسب ما إذا اعتبرت جناية أو جنحة أو مخالفة.

أ- جريمة الغش كجناية:
يكيف الغش كجناية متى ارتكب الخداع أو التزييف بواسطة منتجات أو معلجات فيها خطر على صحة الإنسان أو الحيوان, أو باع الفاعل أو عرض للبيع لحما لحيوانات يعلم أنها ماتت بأمراض معدية أو أمراض تنتقل إلى الإنسان. ويحكم بالعقوبات التالية مع مراعاة العقوبة الأكثر شدة المنصوص عليها في نصوص خاصة,ولا سيما في الظهير الشريف الصادر في 29 أكتوبر 1954, الخاص بزجر الجنايات على صحة الأمة:
1- السجن من 5 إلى 10 سنوات إذا سبب ابتلاع المواد المذكورة إصابة الغير بمرض عضال أو بفقدان عضو أو بعاهة دائمة.
2- السجن من 10 إلى 20 سنة إذا سبب ابتلاع المواد المذكورة الموت دون نية القتل.
3- الإعدام وهي العقوبة التي يحيل فيها الفصل الثاني من قانون زجرالغش على ظهير 29 أكتوبر 1959 المتعلق بزجر الجنايات على صحة الأمة.
وقد صدر هذا النص عقب كارثة الزيوت المسمومة التي عرفها المغرب في نهاية الخمسينات والتي ذهب ضحيتها آلاف المواطنين.

ب- الغش كجنحة:
تتخذ الجنحة في مادة الغش في البضائع صورتين:
إما جنحة عادية تأديبية : والوجه القانوني لها محدد في الفقرة الثانية من الفصل الأول من ظهير زجر الغش التي تنص على أن :”مرتكب الغش عن طريق الخداع أو التزييف يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات,وبغرامة مالية تتراوح ما بين 1200 درهم و 24000 درهم,أو بإحدى هاتين العقوبتين”.
أما الفصول 4 و5 و6 فتنص على خصوصيات معينة تتعلق بالركن المادي للجريمة, تحيل على الفصل الأول في ما يخص العقوبة,والخصوصية الوحيدة هي: أن يحكم وجوبا بعقوبة الحبس إذا ارتكبت الجنحة أو وقعت محاولة ارتكابها بواسطة بيانات مدلس فيها,تحمل على الاعتقاد أن الأمر يتعلق بعملية صادقة,صحيحة أو بمراقبة رسمية لا أصل لها أو بواسطة موازين ومقاييس مزيفة غير صحيحة…
وقد تكون جنحة عادية ضبطية: ويتعلق الأمر بجريمتين أقل أهمية من الغش بمفهومه المتعارف عليه, فالفصل الخامس من قانون زجر الغش يعاقب على الإشهار الكاذب بغرامة تتراوح ما بين 200 درهم و 7200 درهم,في حين ينص الفصل التاسع على أنه يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة, أو بغرامة مالية من 200 درهم إلى 60 ألف درهم,أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من عمل بوسيلة ما على عرقلة تطبيق هذا القانون أو النصوص الصادرة لتنفيذه.
هذا بالإضافة إلى الغش كجنحة مشددة عند توافر ظروف التشديد شخصية كانت أو مرتبطة بالنتيجة أو في حالة العود.

ج- الغش كمخالفة:
المخالفات في الغش نوعان: الأولى متعلقة بالاسم أو بالبطاقة أو التعبئة أو التقديم أو المعالجات أو المناولات,وهي مفاهيم عامة يمكن أن تنطبق على كل النصوص التطبيقية ,وعموما فإن هذا النوع من المخالفات يخضع على مستوى الاختصاص لمحاكم الجماعات والمقاطعات,وهو ما أكده الفصل السابع من ظهير 5 أكتوبر 1984.
أما النوع الثاني من المخالفات فتتعلق بمخالفات لم ينص عليها وعلى عقوبتها الفصل الأول وما يليه من الفصول أو في نص خاص,الشيء الذي قد يثيرإشكالا كبيرا في الميدان الجنائي,والذي يتعلق بشرعية العقوبة المنصوص عليها في الفصل الثالث من القانون الجنائي والمتمثل في أنه: “لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”.
ولابد أن المشرع كان هاجسه الوحيد من وراء إقراره لهذه المخالفات دون نص قانوني يعاقب عليها هو حماية المستهلك من كل ما يمكن أن يستجد من المخالفات في الحياة اليومية والتي لم يأت في شأنها نص قانوني.

المبحث الثالث:
دور هيئات الرقابة في حماية المستهلك:

إن ظاهرة التفاوت بين الأطراف النتعاقدة ليس أمرا جديدا وإنما هو معروف منذ نشأة المجتمع الإنساني,لكن هذا التفاوت كان طبيعيا,والتفاوت في العصر الحاضر,خاصة في العلاقة بين المهنيين والمستهلكين قد اتخذ صورا جديدة لم تكن معروفة من قبل.وهذا ما يجعلنا نطرح سؤالا وجيها وهو :ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه هيئات الرقابة في حماية المستهلك؟
للجواب على ذلك ارتأينا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين:نتعرض في المطلب الأول إلى دور الرقابة القضائية ثم بعد ذلك نتطرق لما يمكن أن تمارسه اللجنة المكلفة بمراقبة الأسعار في توفير الحماية للمستهلك.

المطلب الأول: الرقابة القضائية :

مهما بلغت الإجراءات والوسائل الهادفة إلى قمع الغش و الاستغلال ، فإنها مع ذلك تظل دون جدوى إذا لم يواكبها زجر قضائي يضرب بشدة على يد كل من تسول له نفسه التلاعب بصحة المواطن و الإضرار بمصالحه الإقتصادية.
قبل الخوض في ما يمكن أن تلعبه الرقابة القضائية في مجال حماية المستهلك (الفقرة الثانية ) لابد أن نوضح في الفقرة الأولى أنواع هيئات الرقابة بصفة عامة.

الفقرة الأولى: أنواع الرقابة بصفة عامة:
يمكن الحديث عن نوعين للرقابة: إجبارية وأخرى اختيارية.

أ- الرقابة الإجبارية:
في بعض مجالات الإنتاج يكون المنتج ملزما بإخضاع منتجاته لرقابة إجبارية تقوم بها هيئة متخصصة قبل تسويقها لتصل إلى أيدي المستهلكين,وهذا الدور يكون بصفة أكبر في مجال صناعة الأدوية أو المستحضرات الطبية التي تخضع لإشراف ورقابة وزارة الصحة,فإذا ما ثبت صلاحية هذه المنتجات أعطيت للمنتج شهادة بذلك,ومن ثم إذن بتسويقها.
والمنتج مفروض فيه أن يحرص على أن تكون منتجاته ضامنة لسلامة المستهلك,وهو في هذا الحرص ليس يمثل فحسب لتعليمات جهات الرقابة, وإنما ينطلق أيضا من اعتبارات تجارية,إذ من شأن التقدير الرسمي بصلاحية المنتجات أن تبعث اطمئنانا أكثر في نفسية المستهلك.
وفي بعض البلاد المتقدمة نجد نقابات أو اتحادات لحماية مصالح المستهلكين , تقوم هذه النقابات في إطار اهتمامها بهذه المصالح ,وعن طريق معاهد علمية تابعة لها وبصرف النظر عن رغبة أو عدم رغبة المنتجين بفحص المنتجات الصناعية الجديدة بهدف لفت نظر المستهلك لمزايا وعيوب هذه المنتجات.

ب- الرقابة الاختيارية:
إن الغالب أن المنتج لا يكون ملزما بإخضاع منتجاته لأي نوع من الرقابة, وإنما يعمد إليها بعض المنتجين باختيار منهم,وذلك حتى يصبغوا على منتجاتهم ما يسمى بالثقة الرسمية,وهدفهم في هذا ليس إلا هدفا تجاريا بحتا, ذلك أن تميز منتجاتهم بهذه الضمانة يزيد من نسبة الإقبال عليها من لدن جمهور المستهلكين.
وعملا يتم تعرف العملاء على ما حازته هذه المنتجات من ثقة جهة الرقابة عن طريق ختمها بعلامة معينة, مثاله في المغرب ما تمنحه وزارة الصناعة لبعض المنتجات مما تسميه بعلامة الجودة.
وسواء كانت الرقابة إجبارية أو إختيارية لا تقوم جهة الرقابة بداهة بفحص جميع المنتجات, ولا تباشر في هذا الشأن رقابتها على نحو متواصل. فصحيح أن بإمكان هذه الهيئات أن تجعل المنتجين في حالة حذر دائم عن طريق قيامها بتفتيش مفاجئ على المشروعات الصناعية إلا أن دورها هذا يكاد يكون شبه منعدم من الناحية العملية, حيث يحصل بصفة مؤقتة بل ونتيجة تضرر مصلحة المستهلكين تضررا خطيرا,ولهذا كان من الضروري دعم الرقابة القضائية وكذا تفعيل دور المحاكم لزجر كل تلاعب بمصلحة المستهلك.

الفقرة الثانية: دور الرقابة القضائية:
تعتبر الرقابة القضائية الركيزة والدعامة الأساسية لحماية المستهلك,لما يمكن أن يقع فيه من استدراج وتعسف, ولكي نضمن لمؤسسة القضاء هذا الدور يجب أن نفتح المجال أمام القاضي في تفسير العقود,ويجب كذلك أن نفعل دور المحاكم في مجال قضايا الاستهلاك.

أ- مجال تدخل القاضي في تفسير وتأويل العقود:
في إطار القواعد العامة نسجل عدم فعالية قواعد القانون المدني في مجال تفسير وتأويل العقود,والسبب طبعا كما سبق القول هو تشبثه بمبدأ سلطان الإرادة التعاقدي, ولذلك فإن مجال تدخل القاضي لن يكون إلا في إطار ما تسمح به هذه القواعد,وهذه القواعد العامة لا تمنح للقاضي سلطة تذكر,بل تلزمه باحترام مبدأ سلطان الإرادة وحرية الأطراف في إبرام العقد.وبالتالي تلزمه بالإجابة على سؤال واحد وهو هل العقد حر؟ أي هل العقد لا يعتريه عيب من عيوب الإرادة,فإذا كان العقد كذلك فما على القاضي إلا الرضوخ لإرادة الأطراف رغم ما يمكن أن يشوب تكوينه من اختلال,فالمادة 462 من ق.ل.ع (1162 مدني فرنسي )تقضي بأنه:”عندما يكون للتأويل موجب يلزم البحث عن قصد المتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا على تركيب الجمل”.
ويظهر الدور السلبي للقاضي في تأويل العقد,في حالة ما إذا كانت عبارات هذا الأخير واضحة ولا يعتريها غموض,غير أن الدور الإيجابي للقاضي يمكن أن يفهم حسب بعض الفقه من الفصل 461 من ق.ل.ع, ذلك أن بعض الفقه يقول إن المقصود الحقيقي بألفاظ العقد ليس معناها الحرفي وإنما دلالاتها المنبثقة عن الإرادة المشتركة للأطراف.
يتضح الدور الإيجابي للقاضي كذلك من خلال سلطته في تفسير الشروط الغامضة, ذلك أن غموض عبارات العقد هو الإطار الذي لا يبخل نظرية سلطان الإرادة من الترخيص للقاضي بالاضطلاع بدوره الأكثر إيجابية في ميدان التأويل.
ويعترف الفقه مع ذلك بصعوبة هذا التوجه عندما تكون ألفاظ العقد صريحة وواضحة لا تحتمل التأويل,ومن هنا تأتي أهمية المقتضيات الجديدة في قوانين الاستهلاك,ومن ذلك أن الفصلين 26 و 27 من مسودة المشروع المغربي لحماية المستهلك يقرر أن التعرف على الشروط التعسفية يقتضي من القاضي مراعاة وقت إبرام العقد والظروف المحيطة به,واعتبار كل بنود العقد في شموليتها. فالمستهلك يفترض فيه عدم العلم بشروط العقد ,وعلى المهني إذا ادعى العكس أن يثبته انسجاما مع القواعد القانونية التي تقضي بأن الشك يفسر لمصلحة المستهلك.

ب- تفعيل دور المحاكم:
مهما بلغت الحماية التي تقررها قواعد القانون المدني كشريعة عامة, وحرص مؤسسة القضاء على حماية المستهلك,فإن ذلك سيبقى حبرا على ورق إذا لم يواكبها زجر قضائي على مستوى تفعيل المحاكم,غير أن التجربة أبانت عن هشاشة الحماية القضائية التي توفرها محاكمنا للمستهلك المغربي وذلك لأسباب نذكر منها:
– نقص تكوين القضاة في مادة قمع الغش نتيجة خلو دراسة القاضي بقضايا اقتصادية.
-استعمال القضاة لعبارات فضفاضة وغامضة لا تفيد في معرفة طبيعة الجريمة المقصودة بالدقة الللازمة.
-أمام تراكم القضايا المعروضة على أنظار القضاء,أصبح ينظر إلى القضايا الاستهلاكية على أنها قضايا بسيطة,فيكتفي القاضي بتطبيق الغرامات بشأنها.
فالجرائم الماسة بالصحة العامة الصادر بشأنها ظهير 1959,لم تتجاوز الغرامات بخصوصها 2000 درهم,دون أن ترفقها أي عقوبة حبسية (استئنافية وجدة في حكم رقم 2477 صادر في 20-10-1988,في قضية صباغة الزيتون بمادة سوداء سامة).
من خلال ذلك يمكن القول إن الحماية القضائية التي توفرها محاكمنا تبقى دون المستوى,مما يستوجب تفعيلها عبر عدة إصلاحات منها:
– النطق بأحكام رادعة في مادة قمع الغش.
– تكوين قضاة متخصصين في قضايا الغش.
-إحداث محاكم مختصة بقمع الجرائم الاقتصادية تتوزع على كامل التراب الوطني.
وجدير بالتنويه إلى أنه أيا كانت نجاعة النصوص, ومهما بلغ حرص القضاء على حماية المستهلك,فإن ذلك يظل محدودا على الدوام إذا لم يعضد ويدعم بيقظة حقيقة لتنظيمات المجتمع المدني,وفي مقدمتها جمعيات حماية المستهلكين, لا سيما إذا استحضرنا انتشار الأمية في أوساط عموم المستهلكين وضعف الرقابة القضائية,وذلك كله من أجل التصدي لمظاهر التعسف التعاقدي.
المطلب الثاني: دور اللجنة المكلفة بمراقبة الأسعار في توفير الحماية للمستهلك:
قام المشرع بتنظيم أثمان البضائع والمنتوجات والخدمات وذلك من أجل حماية المستهلك من أي زيادة غير مشروعة للأثمان,حيث أوكل المشرع مهمة مراقبة الأسعار إلى الأعوان المكلفين بذلك, وخول لهم صلاحيات لضبط المخالفات,كما حدد جزاءات عند المخالفة وهي إما إدارية أو قضائية,لهذا سوف نتولى في إطار هذا المطلب دراسة اللجنة المكلفة بمراقبة الأسعار (الفقرة الأولى ) ونخصص (الفقرة الثانية) للجزاءات المقررة عند المخالفة.

الفقرة الأولى: اللجنة المكلفة بمراقبة الأسعار:
يعهد إلى أعوان هيئة مراقبة الأسعار بمراقبة مدى احترام تطبيق القانون المتعلق بالمواد المقننة أسعارها,وتخول لهم صلاحيات لممارسة اختصاصهم وإثبات المخالفات.

وأولا: تكوين اللجنة واختصاصاتها:
بدأ تكوين الأطر المؤلهة لمراقبة الأسعار منذ بداية الثمانينات,ومن شروط تعيين المراقب أن يؤدي اليمين, وأن يحمل بطاقة مهنية تسلمها الإدارة,وفق الإجراءات المحددة بنص تنظيمي,ويلتزم بكتمان السر المهني تحت طائلة الجزاء حسب المادة 61 من ق.ج.
ويقوم المحتسب بمراقبة أثمان المنتوجات والبضائع والخدمات تحت أو مهامه بعدة مصالح توضع رهن إشارته لتسهيل ممارسة هذه المهام,ومن هذه المصالح نذكر : السلطة والمركز الصحي البلدي – مركز قمع الغش -مصلحة البيطرة…
بالإضافة إلى ذلك يستشار المحتسب فيما يتعلق بتحديد أثمان المنتجات والخدمات التي يراقبها,ويشارك لهذا الغرض في اجتماعات لجنة الأثمان المحلية,ولجنة الأثمان للإقليم او العمالة.

ثانيا: إثبات المخالفات:
إذا قام المحتسب بضبط أي زيادة غير مشروعة للأثمان يحرر محضرا بذلك خلال الثماني والأربعين ساعة لإثبات المخالفة,يتضمن معلومات عن المخالفة تتعلق بنوع وتاريخ ومكان المخالفة, أو إجراء المراقبة ,بالإضافة إلى رقم المعاملة الأسبوعية ورقم البتانتا,ويقرأ هذا المحضر على المخالف من طرف محرره, ثم يوقعه بعد الاستماع إلى قراءة المحضر,وفي حالة رفضه التوقيع يشير محرري المحضر إلى ذلك.
وتحرر المحاضر في ثلاث نسخ تعفى من إجراءات و واجبات التنبر والتسجيل,وتوجه إلى عامل الإقليم أو العمالة الذي أثبتت فيه المخالفة داخل من أجل لا يتعدى عشرة أيام, ثم تحال مندوبية التجارة أو الصناعة قصد تقرير مبلغ الذعيرة, ويوجه العامل إلى القابض إعلانا عن العقوبة يعين فيه اسم المدين ومبلغ العقوبة, ويتم أداء الغرامة خلال الشهر الموالي لتاريخ تقريرها,وفي حالة العجز يتابع الاستخلاص كما هو الشأن في ميدان الأداءات المباشرة (الفصل 25 من مرسوم دجنبر 1971).

الفقرة الثانية: الجزاءات المقررة عند المخالفة:
إن كل تنظيم قانوني يضعه المشرع إلا ويسطر بجانبه مجموعة عقوبات توقع على مخالفي أحكامه,ولأجل حماية المستهلك وضع المشرع مجموعة من العقوبات تتراوح بين عقوبات إدارية وجنائية.

1- العقوبات الإدارية:
إن المخالفات لأحكام قانون تنظيم الأثمان يمكن أن تكون محل المصالحة بعد استطلاع رأي رئيس المصلحة الخارجية للإدارة الراجع إليها أمر البضاعة أو المنتوج أو الخدمة,وفي حالة عدم التوصل إلى المصالحة يصدر العامل العقوبات الإدارية بقرار يتخذه بعد استشارة رئيس المصلحة الخارجية لمديرية التجارة الداخلية التابعة للوزارة المكلفة بالتجارة, وعند الاقتضاء رئيس المصلحة الخارجية بالوزارة الراجع إليها أمر البضاعة أو المنتوج أو الخدمة.
وتندرج هذه العقوبات حسب الخطورة كما يلي:
-إنذار في رسالة مضمونة الوصول مع الإعلان بالتسلم.
– أداء غرامة يعادل مبلغها 20 مرة مبلغ متوسط رقم أعمال المخالف الأسبوعي, وتحسب على أساس السنة المالية الأخيرة على ألا يتجاوز مبلغها 20 ألف درهم, غير أنه إذا كان الأمر يتعلق بمجرد عدم تعليق الأثمان أو بالمخالفة لمقتضيات النصوص الصادرة بتطبيق الفصل السابع من قانون 1971, حدد المبلغ الأدنى للغرامة في عشرة دراهم والمبلغ الأقصى في مائة درهم,أما قانون 99-06 فقد حدد الغرامة حسب المادة 91 منه ما بين ألف وخمسة آلاف درهم في حالة المخالفة دون ان تتجاوز مائة ألف درهم.
– إغلاق متاجر المخالف وجميع أماكنه المهنية لمدة ثمانية أيام على الأكثر.
وتعتبر العقوبة الإدارية سندا قابلا للتنفيذ, إلا أنه من حق المخالف الطعن في هذه العقوبة أمام اللجنة المركزية التي تتألف من ممثلين للإدارة, ويمارس حق المخالف داخل أجل ثلاثين يوما من تاريخ التبليغ بدفع الغرامة.
وبعد استماع اللجنة المركزية إلى المخالف أو وكيله تقوم إما بتأكيد مبلغ الغرامة او تغييره,وتصدر قرارها داخل ثلاثة أشهر التالية لتاريخ إحالة الأمر إليها,ويبلغ القرار إلى المخالف والجهة المختصة.

2- العقوبات الجنائية:
في حالة عدم التوصل إلى المصالحة أو عدم صدور عقوبة إدارية يوجه العامل الملف إلى وكيل جلالة الملك المختص لإجراء المتابعة, وهو ما يسمى بالمتابعة القضائية وتتم بواسطة الاستدعاء المباشر للمخالف وتبت المحكمة في القضية خلال أقرب جلسة, أما طلبات الاستئناف فيبت فيها بصفة استعجالية.
ويعاقب على الزيادات الغير المشروعة في الأثمان إما بالسجن لمدة تتراوح بين شهرين وسنتين,وبغرامة تتراوح بين 500 و100000 درهم, أو بإحدى هاتين العقوبتين, ويمكن كذلك الحكم بمصادرة البضائع التي ارتكبت المخالفة بشأنها وبمصادرة وسائل النقل.
وإذا صدر حكم بالغرامة وتم إثبات العودة إلى المخالفة في ظرف سنة واحدة أمكن مضاعفة الغرامة,كما طبق المشرع العقوبات في الفصلين 263 و267 من القانون الجنائي على الحيلولة دون ممارسة مهام الأعوان المحلفين في ميدان مراقبة الأثمان, وكذلك على سبهم والاعتداء عليهم.
ونلاحظ مما سبق أن المشرع المغربي قام بتحقيق حماية فعالة للمستهلك من أي زيادة غير مشروعة في الأثمان, لكن إلى أي حد بلغت فعالية هذه الحماية ؟
ويبقى في الأخير أن نشير إلى أنه مهما تعددت أساليب الرقابة على نشاط الفرد في المجال الاستهلاكي, ومهما تنوعت أساليب الردع والتخويف, فإنها لن تصل إلى تحقيق حماية كاملة للمستهلك, وتبقى في نظري الرقابة الذاتية, والتي تعني في مفهومها المباشر رقابة الشخص لنفسه, خير نوع يمكن أن يساهم في حماية المستهلك, أي أن يكون المراقب والمراقب فيها شخصا واحدا, ويعتمد هذا النوع من الرقابة على العناية بالإنسان وتربيته تربية سليمة والحرص على أن نزرع فيه الدوافع الذاتية التي تحفزه على ممارسة النشاط الاقتصادي والاجتماعي بما يتفق مع مصلحة الناس, ويحقق الخير للمجتمع, فالمسلم يعلم علم اليقين أن الله معه في كل زمان ومكان, وانه مطلع على حركاته وسكناته ولا يخفى عليه شيء سبحانه,يقول تعالى:”وهو معكم أينما كنتم”( الحديد, الآية 4) , وقوله تعالى: ” إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء “(آل عمران,الآية 5).
وهكذا يربي الإسلام في نفس المؤمن من الضمير الحي , ويبعث فيه الرقابة الذاتية التي تضبط سلوكه وتصرفاته حتى ولو كان بعيدا عن السلطة, لأنه يعلم أن عين الله لا تغيب عنه, وأن رقابته تعالى لا تتركه لحظة واحدة, يقول سبحانه وتعالى :” إن الله كان عليكم رقيبا ” (النساء, الآية 6), وحين يحس المسلم بأنه إذا تمكن من الإفلات من رقابة السلطة, فإنه لن يستطيع الإفلات من رقابة الله, وهذا في حد ذاته أكبر ضمان لسلامة السلوك الاجتماعي وعدم انحراف النشاط الاقتصادي.
وفي نظرنا تبقى للرقابة الذاتية فعالية أقوى, وأكثر تحقيقا للخير لجمهور المستهلكين, وللمجتمع ككل, وخصوصا وأن أنواع الرقابة التي أشرنا إليها تبقى عاجزة رغم درجة فعاليتها عن ردع أصحاب الضمير الميت, أما صاحب الضمير الحي فلا يحتاج إلى رقابة من الغير,لأنه يخشى من أشد رقابة خارجية , وهي رقابة الخالق عز وجل أينما وجد وكيفما تصرف.

خاتمة:

إذا كانت حماية المستهلك موضع اهتمام وعناية كل الأمم المتحضرة, بما فيها من المنظمات الدولية, فإن ذلك يرجع لأهمية الموضوع وضرورته, فعدم التوازن بين المنتجين والمهنيين, والموردين, والتجار والمحترفين من ناحية, والمستهلكين من ناحية أخرى يتعمق ويتسع كل يوم, الشيء الذي دفع المشرع إلى التدخل لتحقيق وإعادة التوازن مرة أخرى.
ولذا نتساءل هل نجحت محاولات المشرع ؟ وبأي ثمن ؟
لا نستطيع أن نؤكد أن الهدف المنشود قد أصيب, فصناعة النصوص قد خولت للمستهلك بما لا يقبل الجدل الحق في الحماية,التي لم يكن يتمتع بها من قبل, ولكن لا يجب أن يغيب عنا أن هذه الحماية تثير مقاومات لم تتحطم بعد: فالشروط التعسفية على سبيل المثال بالرغم من تحريمها إلا أنها ما زالت تطفو بشكل كبير في التعاقد, بفعل سيطرة المهنيين بفضل قدرتهم وخبرتهم ومعرفتهم بأمور التعاقد,وكذا المكونات الفنية للسلع والخدمات محل العقد , الشيء الذي يجعل المستهلك مقحما في علاقات تعاقدية ليست تماما في صالحه, بيد ان ذلك لا ينفي تقدما حدث بالفعل في حقل حماية المستهلك , وإن كنا نأمل المزيد عن طريق الإعداد الجيد لوضع نظام كامل لحماية المستهلكين يسمى بقانون الاستهلاك يجمع شتات النصوص المتفرقة الموجودة حاليا.
ولكن ما الثمن الذي وجب دفعه لهذا التقدم؟ غني عن الذكر أننا لا نقصد بالثمن السعر أو الثمن وفقا لمفهومه الاقتصادي, ولكن نقصد به الثمن القانوني للعملية , ويتمثل في ما تحمله النظرية العامة للعقود, فمن المؤكد أن أضرارا كبيرة قد دخلت على سلطان الإرادة ومبدأ الرضائية, ومبدأ القوة الملزمة للعقد.
كما لا يغيب عنا أن نؤكد ما وضح في هذا البحث المتواضع من أن الوسائل الفنية لقانون الالتزامات والعقود المغربي عادت لا تفي بالحماية الكافية للمستهلك مما استدعت الحاجة إلى صدور نصوص خاصة تتصف بمرونة أكثر وبجزاء أشد من القواعد القانونية التقليدية.
وجدير بالتنويه أنه أيا كانت نجاعة النصوص , ومهما بلغ حرص القضاء على حماية المستهلك, فإن ذلك يظل محدودا على الدوام , ما لم يدعم بيقظة حقيقية لتنظيمات المجتمع المدني, وفي مقدماتها جمعيات حماية المستهلكين, لاسيما إذا استحضرنا انتشار الأمية في أوساط عموم المستهلكين, وضعف الرقابة القضائية وكذا الإدارية , وتكمن فاعلية هذه الجمعيات أساسا في قدرتها التفاوضية بحكم تآلف أعضائها في مواجهة المهنيين التي تتيح لها إمكانية التصدي لمظاهر التعسف التعاقدي في منبعها.