بحث فى الزواج العرفى
في الإسلام عقدٌ قوليٌّ بين رجل وامرأة خاليين من الموانع الشرعية، وشأنه كشأن سائر العقود التي تصح بتوفر شروطها وأركانها وانتفاء موانعها، ومن المقرر في الفقه الإسلامي أن العقود ألفاظ؛ فإذا حصلت على جهة الإنشاء من كامل الأهلية في التصرف مستكملةً لشروطها وأركانها مع انتفاء موانعها فإنها عقود صحيحة، تستتبع آثارها وما يترتب عليها من أحكام. وأركان الزواج هي: الصيغة (الإيجاب والقبول)، والعاقدان، والشاهدان، وولي الزوجة عند جمهور الفقهاء، ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى عدم جعل الولي ركنًا من أركان العقد بشرط رشاد المرأة وكفاءة الزوج وثبوت مهر المثل على الأقل، وهذا هو المفتى به والمعمول به في المحاكم المصرية في هذه المسألة؛ فإذا تم العقد بين رجل وامرأة خاليين من الموانع الشرعية -مع توفر بقية الأركان والشروط- فإنه يكون عقد نكاح صحيح تترتب عليه آثاره الشرعية.

وهناك فارق كبير بين عقد الزواج الشرعي ووثيقة الزواج الرسمية؛ فإن العقد هو الإيجاب والقبول بأركانه وشروطه السابقة، أمّا التوثيق الرسمي فهو شيءٌ زائدٌ على حقيقة العقد وماهيته، ارتأى الحاكمُ اللجوءَ إليه حفظًا للحقوق وخوفًا من التناكُر في عقد الزواج؛ كما قال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله تعالى: «تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ»،

ونص العلماء على أن للحاكم تقييد المباح مراعاةً للمصلحة العامّة، وله أن يستحدث من السياسات الشرعية ما يحفظ على الناس حقوقهم وأمنهم واستقرارهم، ويسمُّون ذلك بالمصالح المرسلة، وعلى ذلك فمصطلح “العرفية” و”الرسمية” في الزواج إنما هو اصطلاحٌ إجرائيٌّ يُفْرَقُ به بين عقود الزواج الموثَّقة وغير الموثَّقة، ولا تَعَلُّقَ له بصحة العقد أو بطلانه؛ فإن الصحة والبطلان إنما يُعلَمان من تحقُّقِ الأركان والشروط أو عدم تحقُّقِها كما مر، والفقيه لا نظر له في الأسماء من حيث هي؛ لأن الأحكام

إنما تُناط بالمسمَّيات. ومن حكمة الله تعالى في تحريم الزنا أنه لم يُرَتِّبْ على فعله العقاب الدنيوي والأخروي ويجلد فيه البكر ويرجم فيه الثيب إلا وقد فتح باب الزواج على مصراعيه، فجعل في الحلال غُنْيَةً عن الحرام؛ ومن أجل ذلك قال العلماء: “الفرق بين الحلال والحرام كلمة”، ومقصودهم بذلك: الإشارة إلى سهولة النكاح الشرعي ويُسره من جهة؛ بحيث لا يُقدِم على الحرام إلا من يستحق العقاب المرتَّب عليه، وللتنبيه من جهة أخرى على الفرق بين عقد الزواج وتوثيقه، وأن العبرة إنما هي بحصول العقد الصحيح الذي استكمل أركانه وشروطه، ثم يأتي التوثيق بعد ذلك لحفظ الحقوق.

ثم إن هناك فارقًا أيضًا بين كون الزواج صحيحًا وبين حِلِّ الإقدام عليه؛ فإن مجرد استكمال الزواج لأركانه وشروطه لا يعني أن فعله جائز دائمًا؛ تمامًا كما يقول العلماء في الصلاة بالثوب المغصوب والمكان المغصوب والوضوء بالماء المغصوب: فالصلاة صحيحة والوضوء صحيح، ولكن الغصب حرام، وكذلك هنا؛ فإن عصيان البنت لأبيها في الزواج حرام، وسعيها في تضييع حقوقها الشرعية والأدبية بالزواج من غير إذن وليِّها أو مع عدم علمه حرام أيضًا؛ حيث نص الفقهاء على أن على الابن والبنت طاعة الوالدين في الزواج ولهما عصيانهما في الطلاق، ولكن هذا لا يعني أن هذا العقد إذا تم مستكمل الأركان والشروط أنه يكون زنا، وأن البنت لا حقوق لها في مهر ولا نفقة ولا ميراث ولا في نسبة مَن تحمل به إلى أبيه؛ بل هو زواج صحيح تترتب عليه آثاره الشرعية: من نسبة الولد إلى أبيه وأمه، وثبوت نصف المهر للزوجة بالعقد وكامله بالدخول،

وثبوت النفقة لها، وثبوت الميراث لأحد الزوجين عند موت الآخر، وغير ذلك من الآثار التي يستتبعها عقد النكاح الصحيح. أمّا الدعوى بأن الزواج العرفي باطل على الإطلاق، من غير نظر إلى توفر أركان الزواج وشروطه أو عدم توفرها، ومن غير تفريق بين الحرمة والبطلان، فهي دعوى باطلة لا يتجاسر عليها فقيه؛ فإن فيها تضييعًا لحقوق نساء المسلمين، واتهامًا لهن بالزنا، وإفسادًا لأنكحة المسلمين بسبب فقدان أمر تنظيمي محض لا تعلق له بحقيقة العقد ولا يَكِرُّ فقدُه على مقصوده بالبطلان، بل ويلزم صاحبَها القولُ ببطلان أنكحة المسلمين قبل صدور هذا التنظيم،

وهذا لا يقوله عاقل، وبالجملة فهذه الدعوى تخالف مراد الشرع من تصحيح أنكحة الناس؛ حتى ألَّف العلاّمة الشيخ/ جمال الدين القاسمي كتابه الماتع (الاستئناس، في تصحيح أنكحة الناس)، وهو مطلب شرعي أصيل لجأ إليه الشرع حتى في إقراره الكفارَ على أنكحتهم؛ حيث لم يطلب منهم تصحيحها عند دخولهم مع زوجاتهم في الإسلام. وهذا الذي قلناه هو المعمول به في مصر منذ زمن بعيد، وهو الذي عليه الفتوى منذ إنشاء دار الإفتاء المصرية؛ حيث صدرت الفتوى عنها بذلك على اختلاف عهودها:

• ففي عهد فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ/ عبد المجيد سليم رحمه الله تعالى، وبتاريخ 12/23/1933م، صدرت الفتوى التالية:

نفيد أولاً: بأنه متى كان الحال كما ذكر به وحصل عقد الزواج مستوفيًا جميع شروطه كان هذا الزواج صحيحًا شرعيًّا يترتب عليه جميع الآثار التي للزواج الصحيح، ولا تتوقف صحته على تدوينه في وثيقة رسمية.

وثانيًا: أنه متى كان هذا الزواج صحيحًا فللزوجة كمال مهرها المسمَّى لها؛ فلها أن تقبضه جميعه من تركته. وهذا حيث كان الحال كما ذكر بالسؤال. والله تعالى أعلم”.

• وفي عهد فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ/ حسن مأمون رحمه الله تعالى، وبتاريخ 14/8/1956م، صدرت الفتوى التالية: “عقد الزواج العرفي إذا استوفى أركانه وشروطه الشرعية تحل به المعاشرة بين الزوجين ديانةً”.

وفي عهد فضيلته أيضًا رحمه الله، وبتاريخ 6/12/1958م، صدرت الفتوى التالية: “إن الزواج العرفي المستوفي أركانه وشروطه زواج صحيح شرعًا”.

• وفي عهد فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ/ أحمد محمد هريدي رحمه الله تعالى، وبتاريخ 7/9/1963م، صدرت الفتوى التالية: “ينعقد الزواج شرعًا بين الطرفين (الزوج والزوجة) بنفسيهما أو بوكيليهما أو ولييهما بإيجاب من أحدهما وقبول من الآخر متى استوفى هذا العقد جميع شرائطه الشرعية المبسوطة فى كتب الفقه، وتترتب على هذا العقد جميعُ الآثار والنتائج، ويثبت لكل من الزوجين قِبَلَ الآخر جميعُ الحقوق والواجبات، دون توقف على توثيق العقد توثيقًا رسميًّا أو كتابته بورقة عرفية، وهذا كله من الوجهة الشرعية.

أمّا من الوجهة القانونية: فإن المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 قد نص في الفقرة الرابعة من المادة 99 منه على أنه: لا تُسمَع عند الإنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1931؛ ومقتضى ذلك أن القانون لم يشترط لصحة عقد الزواج أن يكون بوثيقة رسمية، وإنما اشترط ذلك لسماع الدعوى بين الزوجين في الزوجية وآثارها كالطاعة والنفقة وغيرها ما عدا النـزاع في النسب، واشترط القانون ذلك في حالة إنكار الزوجية وجحودها،

أما في حالة الإقرار بها فلا يُشترط لسماع الدعوى هذا الشرط، بل تُسمع الدعاوى الخاصة بالزوجية وآثارها ولو كان عقد الزواج عرفيًّا بورقة عرفية أو بدون أوراق مطلقًا. والمعتبر في الإقرار والإنكار أن يكون بمجلس القضاء؛ طبقًا لظاهر النص وما جرى عليه القضاء في الكثير الغالب، أما النسب فإنه تسمع الدعوى بشأنه أمام القضاء في جميع الأحوال. ومما ذكر يعلم الجواب عما جاء بالسؤال”.

• وفي عهد فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ/ جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله تعالى، وبتاريخ 18/10/1978م، صدرت الفتوى التالية: “إن الزواج العرفي -وهو الذي لم يُوَثَّق على يد الموظف العمومي المختص بإصدار عقود الزواج- هو زواج صحيح شرعًا؛ طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية متى استوفى أركانه وشروطه المنصوص عليها فقهًا،

وأهمها: أن يتم بإيجاب وقبول من طرفيه، وأن يحضره شاهدان، وأن يكونَ الزوجان خاليين من الموانع الشرعية، ويثبتُ به نسبُ الطفل ولو لم يُوَثَّقْ رسميًّا على يد الموظف العمومي المختص؛ متى وُلِد لستة أشهر فأكثر من تاريخ العقد العرفي، أما إذا ولد لأقل من هذه المدة -كما في الحالة المسئول عنها؛ إذ العقد العرفي بتاريخ 1/9/1961 وولادة الطفل في 30/12/1961؛ فيكون قد ولد لأربعة أشهر من تاريخ العقد العرفي- فلا يثبت نسب هذا الطفل من هذا الزوج؛ لولادته لأقل من مدة الحمل المقررة شرعًا، إلا إذا أقر الزوج ببُنُوَّتِه له فيثبت نسبه منه؛ بشرط ألا يقول إنه من الزنا، وأن يكون هذا الولد غير منسوب لرجل آخر. والله تعالى أعلم”.

وفي عهد فضيلته أيضًا رحمه الله، وبتاريخ 19/1/1981م، صدرت الفتوى التالية: “إن الزواج في الشريعة الإسلامية عقد قولي يتم بالنطق بالإيجاب والقبول في مجلس واحد بالألفاظ الدالة عليهما الصادرة ممن هو أهل للتعاقد شرعًا، بحضور شاهدين بالغين عاقلين مسلمين إذا كان الزوجان مسلمين، وأن يكون الشاهدان سامعين للإيجاب والقبول فاهمين أن الألفاظ التي قيلت من الطرفين أمامهما ألفاظ عقد زواج، وإذا جرى العقد بأركانه وشروطه المقررة في الشريعة كان صحيحًا مُرتِّبًا لكل آثاره.

أمّا التوثيق -بمعنى كتابه العقد وإثباته رسميًّا لدى الموظف العمومي المختص- فهو أمر أوجبه القانون؛ صونًا لهذا العقد الخطير بآثاره عن الإنكار والجحود بعد انعقاده سواء من أحد الزوجين أو من غيرهما. وحملا للناس على إتمام التوثيق الرسمي لهذا العقد منعت المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية بالمرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 المحاكم من سماع دعوى الزوجية أو أحد الحقوق المترتبة عليها للزوجين عند الإنكار إلا بمقتضى وثيقة زواج رسمية.

فإذا كان عقد الزواج المسئول عنه قد تم على الوجه المبيَّن بصورته الضوئية بعد نطق طرفيه بالإيجاب والقبول في مجلس واحد بالألفاظ الدالة على الزواج وتوفرت في الوقت ذاته باقي شروط الانعقاد كان صحيحًا مرتِّبًا آثارَه الشرعية مِن حِلّ المعاشرة بين الزوجين وثبوت نسب الأولاد بشروطه والتوارث، دون توقف على التوثيق الرسمي.

ولكن هذا التوثيق أمر لازم لإثبات الزواج عند الالتجاء إلى القضاء لا سيما إذا أنكره أحدهما؛ إذ قد استوجب نص القانون المرقوم لسماع دعوى الزوجية -عند الإنكار- وجود الوثيقة الرسمية، وفضلاً عن هذا فإن الجهات الرسمية لا تقبل عقد الزواج كسند إلا إذا كان موثقًا رسميًّا.

والجهة المختصة بتوثيقه في مثل هذه الحالة هي مكتب التوثيق بمصلحة الشهر العقاري باعتبار أن هذين الزوجين مختلفان في الديانة والجنسية، وعليهما توثيقه رسميًّا بإجراء تصادق رسمي على قيام الزوجية بينهما مسندة إلى تاريخ تحرير العقد العرفي بهذا الزواج. لَمّا كان ذلك يكون الزواج المكتوب في ورقة عرفية صحيحًا شرعًا إذا استوفى أركانه وشروطه المقررة في الشريعة الإسلامية من وقت انعقاده، وهو غير معترف به عند التنازع أمام القضاء في شأن الزواج وآثاره فيما عدا نسب الأولاد، كما لا تعترف به الجهات الرسمية كسند للزواج”.

• وأما الموقف القانوني من الزواج العرفي: فقد كان المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931م ينص في الفقرة الرابعة من المادة 99 منه على أنه: “لا تُسمَع عند الإنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1931م”.

قد عُدِّلَتْ هذه المادةُ بالمادة رقم 17 من قانون رقم 1 لسنة 2000م، ونصها: “لا تُقبَل الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة ميلادية، أو كانت سن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة ميلادية وقت رفع الدعوى. ولا تُقبَل عند الإنكار الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج -في الوقائع اللاحقة على أول أغسطس سنة 1931م- ما لم يكن الزواج ثابتًا بوثيقة رسمية، ومع ذلك تُقبَل دعوى التطليق أو الفسخ بحسب الأحوال دون غيرهما إذا كان الزواج ثابتًا بأي كتابة. ولا تُقبَل دعوى الطلاق بين الزوجين متحدي الطائفة والملة إلا إذا كانت شريعتهما تجيزه”.

ومقتضى ذلك -كما سبق- أن القانون لم يشترط لصحة عقد الزواج أن يكون بوثيقة رسمية، لا في مادته القديمة ولا في مادته المعدَّلة، وإنما اشترط ذلك لسماع الدعوى بين الزوجين في الزوجية وآثارها كالطاعة والنفقة وغيرها ما عدا النـزاع في النسب، واشترط القانون ذلك في حالة إنكار الزوجية وجحودها، أما في حالة الإقرار بها فلا يُشترط لسماع الدعوى هذا الشرط، بل تُسمع الدعاوى الخاصة بالزوجية وآثارها ولو كان عقد الزواج عرفيًّا بورقة عرفية أو بدون أوراق مطلقًا، أي أنه في حالة الإقرار به زواجٌ معترَفٌ به قانونًا ولو لم يكن موثَّقًا توثيقًا رسميًّا.

ومُؤَدَّى ذلك: أن التوثيق غير لازم لصحة الزواج أو لنفوذه أو للزومه، والقانون في مصر حين اشترط التوثيق لم يجعله ركنًا ولا شرطًا من الأركان والشروط اللازمة التي لا يصح عقد الزواج إلا بها، بل ولم يكن المشرِّعُ المصريُّ يملك ذلك وإلا كان مخالفًا لمقتضى الشرع الشريف بإضافته لأركان الزواج ما ليس منها، وإنما كان هذا الاشتراط درءًا لحالة واحدة هي حالة الإنكار؛ فجُعِل التوثيق في هذه الحالة شرطًا لسماع الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج.

وأضافت المادةُ المعدَّلةُ إلى ذلك: قَبولَ دعوى التطليق أو الفسخ إذا كان الزواج ثابتًا بأية كتابة، وهذا فيه حكمٌ بصحة عقود النكاح الذي يُحكَم فيها بقبول دعوى التطليق أو الفسخ؛ لأنهما من فُرَق النكاح؛ فثبوت الطلاق فرعُ ثبوت النكاح، وفي هذا سعيٌ لحفظ حقوق النساء اللاتي قد يُضيِّعها الزواجُ العرفيُّ أو غير الموثَّق. والله سبحانه وتعالى أعلم