دراسة وبحث قانوني هام عن التحـــرش الجنســي

مقدمــــــــــــــة

لقد جاءت الشريعة الإسلامية على غرار الشرائع السماوية الأخرى، لتحفظ للإنسانية مجموعة من المقاصد، سميت بمقاصد الشريعة الإسلامية أو الكليات الخمس و هي النسل، النفس، الدين، العقل و المال. ثم إن الإسلام شرع أحكاما وافية لحفظ هذه الضروريات الخمس، سواء من حيث الوجود إذ سن لها ما يحقق وجودها في المجتمع، أو من حيث البقاء و الاستمرارية بإنمائها و حمايتها من أسباب الفساد و الزوال.
و فــي إطار حفظ الإسلام لكلية الدين بمعناه الحضاري و الأخلاقي، تواترت الأدلة النقلية و العقلية من الكتاب و السنة لتبين كرامة الشرف و العرض في المجتمع المسلم، و مدى أهميته في إقامة بنية اجتماعية متماسكة، تنبذ مظاهر الإباحة و السفور و الشذوذ و ما من شأنه أن يدنس الشرف و العفة، و قد خاطب الإسلام معتنقيه بشمولية رائعة فيما يتصل بالجنس و ثقافته، بلغة راقية و أسلوب وازن بين الحاجة إلى تربية جنسية سليمة في مختلف مراحل العمر و ما يحفظ للمجتمع عفته و طهارته.
إلا إن العالم اليوم يشهد تحولات عميقة على جميع الأصعدة، السياسية منها و الاجتماعية و الثقافية و الدينية،… يرى أثرها جليا في العالم الغربي المتقدم، الذي ينتشر فيه الفكر الاباحي و الانحلال الخلقي و الشذوذ الجنسي بما ينافي الفطرة السليمة، و من بين المظاهر اللصيقة بهذا الفكر و التي هي في الأصل نتاج له ظاهرة التحرش الجنسي التي أخذت أبعادا كبيرة و صارت تمس كل الفئات من النساء و الرجال و الأطفال، مما جعل حكومات هذه الدول ترصد ميزانيات و آليات مادية و تنظيمية ضخمة لمحاربتها و التصدي لها.

و قـد صدرت هذه الآفة إلى المجتمعات العربية و الإسلامية بواسطة قنوات العولمة و التفتح، و وسائل الإعلام المتميعة و تقنيات الاتصال المتطورة، فلم تعد هي الأخرى في منأى عن هذه الظاهرة التي تعايشها المرأة بصفة خاصة يوميا في الشارع، في وسائل النقل، و في المؤسسة التي تعمل بها و أحيانا في البيت الذي تعيش فيه مع أقرب المحارم، و تتعرض لهضم حقوقها التي أقرتها جميع الأديان و الشرائع و المواثيق الدولية و حقوق الإنسان، خاصة في ظل سعي بعض القوى العالمية و التنظيمات الهدامة الدخيلة، لاستغلال جسدها لأغراض غير بريئة و لأهداف دنيئة، ممن يعتبرون المرأة “ الجسد النكهة“ أو ممن يعتبرون الأنثى رقما في جدول الأرباح المالية.

و معـروفة هي بالضرورة الآثار السلبية التي يخلفها التحرش الجنسي بالضحايا معنويا و جسديا و على المجتمع و تماسكه.
إن الصدى الإعلامي الذي عرفته أحداث التحرش الجنسي التي شهدتها شوارع القاهرة بمصر، و قبل ذلك و بعده عواصم عربية أخرى في مناسبات الأعياد و عقب مباريات كرة القدم و التي راحت ضحيتها فتيات، تم التحرش بهن بين جموع المناصرين، و بلغ الأمر حدت تعريتهن و كشف عوراتهن بشوارع القاهرة، و ما أثارته هذه القضية من ضجة إعلامية و تنديد منظمات غير حكومية، حث بعض الدول العربية و الإسلامية و من بينها الجزائر إلى تبني معايير جديدة و تكييف تشريعاتها بما يلائم هذه المعطيات و يعزز الترسانة القانونية التي من شأنها أن ترسي لأطر جديدة تتضمن إجراءات ايجابية ضرورية تسمح للمرأة أن تتمتع بكل حقوقها الدستورية.
و قد بادر المشرع الجزائري خاصة بعد المصادقة على الاتفاقيات و القوانين الدولية المناهضة للتمييز ضد المرأة و حمايتها من كل أشكال التحرش و المضايقة في الأوساط المهنية و خارجها، إلى مواكبة هذه المتغيرات، فعرفت قوانين الأسرة و الجنسية و قانون العقوبات و قانون العمل سلسلة من التعديلات جاءت مسايرة لهذا التحول و سدا للفراغ القانون الذي كان قائما حيال تعرض المرأة للتحرش داخل الهيئات و المؤسسات و الإدارات العمومية و الخاصة، و استغلال بعض المسئولين لسلطتهم في المضايقة الجنسية لمستخدميهم و الأشخاص الموضوعين تحت سلطتـــم.

المبحث الأول : التحرش الجنسي في مختلف التشريعات

المطلب الأول : نظـــرة الشريعة الإسلامية للتحرش الجنسي

رغم أن التشريع و الفقه الإسلامي لم يشر صراحة إلى التحرش الجنسي تحديدا، إلا أنه تناول جوانب كثيرة ترتبط بهذا الموضوع و نظم إطارها الشرعي صونا للشرف و كرامته ، و انطلاقا من هذا المبدأ فان الإسلام لم يهمل الثقافة الجنسية باعتبارها جانب مهم من جوانب حياة الإنسان، إذ ينظر إليه البعض أنه “رجس من عمل الشيطان“ أو من قبيل الرهبنة، و الواقع أن الإسلام قد عني به و وضع له من القواعد و التوجيهات و الأحكام ما يضمن أداءه لوظيفته في غير غلو و لا كبت و لا انحراف، و أما حفظ الفروج الذي دلت عليه الكثير من الأوامر الالاهية و النبوية فلان شهوة الفرج جبلية، و حفظها له حدود سنتها الشريعة فالمراد حفظ الفروج عن استعمالها فيما نهي عنه شرعا و ليس المراد حفظها عن الاستعمال أصلا و هي الرهبنة المدحوضة بأدلة متواترة المعنى.
كما أحاط الإسلام العلاقة بين الذكر و الأنثى بمجموعة من الضوابط و الآداب التي تضمن تحقيق الأهداف السامية و تستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين، فبإيجاب غض البصر عن الجنسين يقطع الإسلام الطريق على وسائل الإثارة في النفوس البشرية، و بإيجاب اللبس الساتر حارب التشريع أسباب الفتنة و في غير حالات الضرورة يحرم على الرجال الاختلاء بالمرة الأجنبية حتى و إن كانت ملتزمة باللباس الساتر، و هو ما تشير إليه أغلب التشريعات الوضعية و حتى الغربية منها في تحديد حالات التحرش الجنسي، اذ تعتبر الخلوة بالجنس الآخر في مكان مغلق داخل مقرات العمل من غير ضرورة لذلك ركنا مفترضا في إقامة جريمة التحرش الجنسي.
و قد بين التشريع الإسلامي الضوابط التي تنظم حالات اجتماع الرجال بالنساء، و مما ورد من الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا المعنى، الآية 59 من سورة الأحزاب في قوله تعالى/“ يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين و كان الله غفورا رحيما“.
و قد اتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى و هو التحرش إسقاطا و قياسا، كما ورد في الآية المذكورة آنفا“فلا يؤذين“، لان من شأن المطالب السعي إلى تذليل وسائله كما قال تعالى “ و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها“، و قول الشاعر

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها ***** إن السفينة لا تجري على اليبس

و هذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح و درء المفاسد، و في الحديث * رحم الله والدا أعان ولده على بره *.
و قد ثبت في عهد السلف أن لبس الجلباب من شعار الحرائر تمييزا لهن عن غيرهن من نساء المدينة، فأمرن بلبسه عند كل خروج ليعرفن فلا يتعرض إليهن شباب الدعار أو المنافقين استخفافا و تحرشا بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذ ين، و ربما يسببن من يؤذهن فيقع أذى من الجانبين، فهذا من سد الذرائع.
و مجمل القول أن التشريع الإسلامي اعتنى بشكل فائق و ملزم في موضوع التحرش الجنسي، بما يقي المجتمع و الناس من الوقوع فيما يعد تحرشا جنسيا، و ذلك من قبيل الوقاية و سد الذرائع، أما تجريم الفعل المرتكب فيقع تحت طائلة أحكام و قواعد فقهية واضحة و جلية ترتبط بجرائم العرض و الآداب، و تقسم بحسب العقوبة المقررة لها شرعا إلى جرائم الحدود و جرائم القصاص و جرائم التعزير.

المطلب الثانــي : نظـــرة التشريــع الوضعــــي

قبل التطرق إلى هذا الموضوع يجدر بنا أن نعرج على التعريف اللغوي و الاصطلاحي لعبارة التحرش الجنسي، حتى نرفع اللبس عما قد يعتريها من تداخل في الدلالة.
لغة يعتبر قاموس المنهل فعل – تحرش – مرادفا لضايق، أزعج، أنهك و نكد، و يقال تحرش بالعدو أي ناوشه، و يقال تحرش بالمدين أي لاحقة بكثرة المطالبة بالدين، كما اعتبر المعجم الجديد فعل – تحرش – من مصدر التحرش إذ يقال تحرش به أي تصدى له ليثيره.
أما المعجم الفرنسي لروس، فقد عرف فعل – تحرش – بأنه إخضاع شخص أو مجموعة إلى هجمات متوالية و ملحة، و قد تعمدنا إدراج تعريف المصطلح باللغة الفرنسية حتى لا يلتبس في قراءة نص المادة القانونية باللغة الفرنسية في قانون العقوبات الجزائري.
أما كلمة – جنسي -ـ فهي نسبة إلى الجنس و هو في لسان العرب النوع من كل شيء، و ليس فيه أي دلالة على غريزة الوطء و شهوة الفرج على عكس ما يقابله في اللغة الفرنسيـة Sexuel فهو يشير بوضوح إلى ما يدل على الجماع و المضاجعة و التناسل و التوالد، و استعمال كلمة جنسي بهذا المعنى في اللغة العربية يعتبر هجينا و مستحدثا.
إن إلحاق كلمة – جنسي – بالتحرش لا يدل على ماهية الفعل كممارسة جنسية ، بقدر ما يدل على النتيجة و مبتغى المتحرش و هو إشباع غريزة و نيل شهوة الفرج، غير أن ذلك لا ينفي أن بعض أفعال التحرش الجنسي تقوم على أفعال و ممارسات جنسية سطحية إلا أنها لا توصف بالضرورة بفعل الوطء الذي هو في الغالب غاية المتحرش و مبتغاه حسبما سنورد لاحقا.
أمــا اصطلاحا فالمبدأ أن التحرش الجنسي يطال النساء فقط، و هو عمل واعي مقصود يقوم فيه إنسان مهووس، له نزعة جنسية أو شهوة، يريد بأساليب مختلفة، سمعية أو بصرية، أو رمزية و أحيانا جسدية مباشرة مثل الملامسات و التقارب الجسد يبتغي به الإثارة الجنسية أو إشباع رغبة جنسية، فيقوم عادة باقتحام حميمية الآخر أو اندفاع جسدي مباشر دون رضاه، إذ بعد رفض الغير يصبح هذا العرض فرضا و بالتالي فإستراتيجية المعتدي تقوم على إضعاف إرادة الضحية و حملها على القبول بمشاعره و هو ما يثير لدى الضحية مشاعر قرف و ارتباك و انزعاج بحدة، و قد يتصور أن يكون هذا الاقتراب عن طريق الهاتف عندما يصبح قرينا بالإلحاح و الملاحقة.

و الواقع أن أكثر حالات التحرش الجنسي تقع من الرجال على النساء، غير أن هذا لا ينفي العكس فقد يقع من غير الرجال على غير النساء، فلم تحدد معظم التشريعات جنس الجاني و الضحية، و ها هنا لا عجب فالقرآن الكريم تحدث عن أشهر قصة تحرش جنسي في التاريخ، كان المتحرش فيها امرأة و المتحرش به رجلا، أوردتها سورة يوسف، حيث تحرشت زوجة عزيز مصر بنبي الله يوسف عليه السلام، و الأعجب أن قصة هذا التحرش تنطبق حيثياتها مع ما يشترطه التشريع اليوم من وجود علاقة سلطة أو وصاية قائمة بين المتحرش و الضحية، و ما يشترط في إثبات الركن المادي من ممارسة الإغراء و الإكراه “ و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك “ الآية23 و المراودة تقتضي تكرير المحاولة، و النفس هنا كناية عن غرض المواقعة، فقد راودته على أن يسلم إليها إرادته و حكمه في نفسه.

كما استعملت الإكراه و المساومة و إصدار الأوامر و التهديد، و قد ورد ذلك في قوله تعالى ” و لئن لم يفعل ما آمره ليجسنن و ليكوننا من الصاغرين” الآية36، و قوله تعالى ” و قالت اخرج عليهن ” الآية 31 ، فهيت اسم فعل أمر بمعنى بادر كما أن أمرها له بالخروج عليهن كان لبلوغ غاية و مقصد في نفسها تأتى لها فيما بعد ” فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن” الآية 31 ، كما أن علاقة السلطة و الوصاية بين المتحرش و الضحية قائمة في هذه القصة القرآنية، فقد كان يوسف عليه السلام غلاما مملوكا في قصر العزيز ” و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ” الآية 21 ، كما أن عبارة الذي هو في بيتها دلالة على أنه من جملة أتباع ذلك المنزل.
و قد يقع التحرش الجنسي على الأطفال غير أنه غالبا ما يصعب وصف أفعال التحرش الجنسي بالأطفال في القانون الجزائري مستقلة عن جريمة تحريض القصر على الفسق و الدعارة أو جريمة الانحراف الجنسي تجاه الأطفالLa pédophilie ، رغم أن المشرع في الدول الغربية عامة و حتى بعض دول العالم الثالث حدد إطار كل منها و عدد بعض السلوكات و الأفعال المجرمة التي تميز هذه عن تلك.
فالتحرش الجنسي في مضمونه خطوة أولية تتمثل في أفعال مجرمة إذا بلغ المتحرش مقصده من خلالها، امتد أثرها إلى جرائم ماسة بالعرض و الآداب كهتك العرض، الاغتصاب، زنا المحارم و تحريض القصر على الدعارة.
و سنعرض فيما يلي نظرة التشريعات لهذه الجريمة و ما نصت عليه المواثيق الدولية و المعاهدات في مجال حماية حقوق المرأة، ثم نظرة التشريع الجزائر لها و الجوانب التي تم التصديق عليها من قبل الحكومة الجزائرية عقب انضمامها إلى هاته المواثيق والاتفاقيات.

1- التشريعـــــات و المواثيــــق الدوليـــة
لقد تناولت المواثيق الدولية فيما تناولته في مجال حقوق الإنسان، جانبين مهمين أولتهما عناية خاصة و يتعلق الأمر بـ :
* حماية حقوق الطفل و الأحداث.
* حماية حقوق المرأة و نبذ التعذيب و المعاملة القاسية أو اللانسانية في البيت أو في الأوساط المهنية.
بدأ الاهتمام بحقوق الطفل بعد إعلان جنيف في1923 و رغم تعدد المواثيق حول حقوق الطفل بعد ذلك إلا أنه لم يرد في جميعها موضوع الاستغلال الجنسي للطفل إلى غاية شهر سبتمبر سنة 1989، حيث صدرت بهيئة الأمم المتحدة اتفاقية حول حقوق الطفل صادقت عليها أغلبية الدول الأعضاء و تم تأسيس لجنة حقوق الطفل بموجب المادة 19 من الاتفاقية “ تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية و الإدارية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الإساءة البدنية أو العقلية أو الإهمال والمعاملة المنطوية على إساءة المعاملة و الاستغلال بما في ذلك الإساءة الجنسية و هو في رعاية الوالدين أو الوصي القانوني عليه “.
ثم جاءت وثيقة ستوكهولم عام1996 التي أكدت على ضرورة حماية الطفل من التجارة الجنسية و استخدامه في الدعارة و المواد الإعلامية الإباحية غير أنه إلى غاية هذا التاريخ لا نجد أي نص صريح لتجريم التحرش الجنسي بالطفل، إلى أن انعقد الاجتماع العالمي في شهر ديسمبر 2001 في يوكوهاما بشأن تجارة و استغلال الطفل جنسيا و هو ما عرف بتعهد يوكوهاما العالمي الذي أشار لأول مرة لظاهرة التحرش الجنسي بالطفل حيث في شهر أوت 2003 صدر على اثر ذلك ميثاق حقوق الطفل في الإسلام عن اللجنة العالمية الإسلامية للمرأة و الطفل، و هي إحدى لجان المجلس الإسلامي العالمي للدعوة و الإغاثة و قد ورد في نص المادة 28 بعنوان الحماية من المساس بالشرف و السمعة ” للطفل الحق في الحماية من جميع أشكال الاستغلال، أو انتهاك الجنس أو التحرش به جنسيا أو أي مساس غير قانوني بشرفه و عفته”.
و لإغراض هذه الاتفاقية يعني الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشر ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المطبق عليه.
إن العديد من الدول خاصة الغربية منها و بعض الدول العربية كمصر و لبنان و الأردن ضمنت تشريعاتها تجريم التحرش الجنسي بالأطفال و وصفها كجريمة منفصلة و مستقلة عن باقي الجرائم الجنسية أو جرائم الآداب في حق الطفل.
أما التحرش الجنسي بالمرأة فقد تطرقت له و جرمته مختلف التشريعات في العالم لكن بدرجات متفاوتة، حيث لم تحصر الكثير من الدول هذه الجريمة بوجود علاقة سلطة بين المتحرش و الضحية، بل فتحت المجال إلى كل أشكال التحرش و أوساطه، في العمل و في الشارع، من المرؤوس على الرئيس و حتى بين أفراد نفس العائلة.
و قد بلغت نسبة التحرش الجنسي في أوربا 50 % حيث قررت أوربا إصدار قانون جديد لمحاربة التحرش الجنسي، و الذي صدر في مدينة بروكسل حيث يتكفل هذا القانون الجديد و الذي بدأ العمل به في إطار الاتحاد الأوربي عام2005 بحماية العاملين و كل الإجراءات الممكنة ضد التحرش الجنسي، و يمنح هذا القانون الجديد التعويضات للعاملين الذين تعرضوا لأي شكل من أشكال التحرش الجنسي.
إن الاتفاقيات و المعاهدات الدولية العديدة التي أبرمت في مجال مكافحة العنف و التمييز ضد المرأة، لم تكن الجزائر في معزل عنها حيث صادقت على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، و قد أصبحت الجزائر طرفا في الاتفاقية المذكورة في1996.06.21 مع إبداء تحفظات على المواد 2 و 9-2 و 15-4 و16 و 29-1، و هي ليست طرفا في البروتوكول الاختياري، و قدمت الحكومة الجزائرية تقريرها الأولي الذي نظرت فيه لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة في اجتماعاتها 406 و407 و412 المنعقدة في شــهر جانفي سنـة 1999.
و تتعلق المواد موضوع التحفظ بقضايا، جنسية الطفل، الحقوق بخصوص التشريع المتصل بحركة الأشخاص و حرية اختيار محل الإقامة و السكن، تساوي الحق في عقد الزواج و ما يتصل به من المسؤولية و الولاية و القوامة و الوصاية و ملكية و حيازة الأشياء و كذا إجراءات التحكيم في الخصومة بين الزوجين.

2- التشريـــع الجزائـــري
جـــاء تجريم التحرش الجنسي في الجزائر كرد فعل قانوني من جهة، و كضرورة ملحة من جهة أخرى نتيجة لتنامي هذه الظاهرة في المجتمع الجزائري خاصة في مواقع العمل و داخل المؤسسات و الإدارات العمومية و الخاصة و استجابة لنداءات الجمعيات النسائية و بعض المنظمات غير الحكومية النشطة في مجال حقوق المرأة.
تطرق المشرع الجزائري لجريمة التحرش الجنسي لأول مرة في قانون العقوبات الجديد، طبقا للقانون رقم15/04 المؤرخ في27 رمضان عام 1425 هجرية الموافق لـ10 نوفمبر 2004 المعدل و المتمم للأمر رقم 156/66 المؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق لـ08 جوان 1966، الصادر بالجريدة الرسمية رقم71 لسنة 2004، حيث أورد في نص المادة 341 مكــرر:
يعد مرتكبا لجريمة التحرش الجنسي و يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنة و بغرامة من50000 د ج إلى 100000 د ج، كل شخص يستغل سلطة وظيفته أو مهنته عن طريق إصدار الأوامر للغير أو بالتهديد أو الإكراه أو بممارسة ضغوط عليه قصد إجباره على الاستجابة لرغباته الجنسية و في حالة العود تضاعف العقوبة.
و تجدر الإشارة و التنويه إلى أنه تم تحيين قيمة الغرامة المالية المقررة لجنحة التحرش الجنسي في ضوء أحكام المادة 60 من القانون رقم 23/06 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006 حيث تم رفع الحد الأقصى للغرامة من 100000 د ج إلى 200000 د ج.
أما فيما يتعلق بالدعوى المدنية تبعا لدعوى التحرش الجنسي الجزائية فمثلها مثل غيرها من الدعاوى المدنية التي ترفع تبعا للدعاوى الجزائية و تطبق بشأنها نصوص المواد2، 3، 4 و239 من قانون الإجراءات الجزائية المنظمة لقواعد و إجراءات الادعاء المدني، إذ يحق للمتضرر الذي تأذى من جريمة التحرش الجنسي أن يشكل طرفا مدنيا ضد الفاعل و يطلب الحكم بالتعويض عما أصابه من ضرر مادي و معنوي ناتج مباشرة عن الفعل الإجرامي.

و يعد ظرف التكرار المنصوص عليه في المادة341 مكرر من قانون العقوبات، و هو ظرف شخصي محض يتمثل في عودة المجرم إلى ارتكاب الجريمة نفسها خلال أجل محدود فمضاعفة العقوبة في حالة العود هي ظروف شخصية يشدد فيه العقاب على المتهم متى توفرت فيه، و منها صفة من له السلطة على المجني عليه مثل ما هو الحال في جريمة هتك العرض و الاغتصاب اللتين تتوفر فيهما ظروف شخصية و صفة الأصل أو المربي.

و في هذا الصدد لا يفوتنا أن نشير إلى ما تطرق إليه قانون العمل المعدل في هذا المجال بصفته ينظم علاقة العمل داخل المؤسسات العمومية و الخاصة ليساير التعديل الذي مس قانون العقوبات و يواكب التطورات الحاصلة في المجتمع الجزائري، إذ يحكم قانون العمل العلاقات الفردية و الجماعية في العمل بين العمال الإجراء و المستخدمين، ويعتبر عمالا أجراء في مفهوم هذا القانون كل الأشخاص الذين يؤدون عملا يدويا أو فكريا مقابل مرتب في إطار التنظيم و لحساب شخص طبيعي أو معنوي، عمومي أو خاص يدعى – المستخدم – المادة 21.
ينظم قانون العمل حقوق و واجبات العمال الأساسية في ممارسة الحق النقابي، التفاوض الجماعي، الوقاية، احترام السلامة البدنية و المعنوية و كرامتهم و الحماية من أي تمييز لشغل منصب عمل غير المنصب القائم على أهليتهم و استحقاقهم كما لهم الحق في الترقية في العمل و دفع الأجر و كل المنافع المرتبطة بعقد العمل – المادة 5 و المادة 6 الفقرتين 2 و 3 – كما تنص المادة 11 على أن جميع أشكال الأشغال المسندة للنساء و العمال القصر و العمال المعوقين لا يجب أن تفرض عليهم مجهودا عضليا يفوق طاقتهم و مقدرتهم، كما تعد باطلة كل عقود العمل التي تؤدي إلى التمييز بين العمال في الأجر و ظروف العمل على أساس السن و الجنس أو الوضعية الاجتماعية، و لا يجوز تشغيل كلا الجنسين اللذين يقل عمرهم عن 19 سنة كاملة في أية أعمال ليلية مع منع تشغيل المرأة العاملة في الأعمال الليلية إلا برخصة تسلم من مفتش العمل المختص إقليميا تبرر خصوصيات النشاط و منصب العمل ” المواد 28 و 29 “.

فالتحرش الجنسي الذي يظهر في أغلب الحالات في أماكن العمل يأخذ شكلا من أشكال الإكراه أو التهديد لإجبار الضحية للاستجابة لرغبات صاحب السلطة، و الطرق و الأمثلة تؤكد ذلك مثل :
• العمل لساعات إضافية مع عدم وجود ضرورة لذلك.
• إجبار العامل على الاستجابة للرغبات مقابل منصب العمل أو الزيادة في الأجر.
• التهديد و الطرد من العمل.
و قد نص الباب الثاني تحت عنوان صلاحيات مفتش العمل، لا سيما المواد من 5 إلى 16 إلى كيفيات و إطار تدخل القوة العمومية في إطار المخالفات و الجرائم التي يرفعها مفتش العمل و حجية محاضره، كما نصت المادة18 منه على إلزام مفتش العمل بالسرية في كل المحاضر و الشكاوي و المعلومات التي يتلقاها أو التي تبلغ إلى علمه مع المحافظة على كتمان هوية الشاكي طبقا لأحكام المواد 144 و 148 من قانون العقوبات.
إذا كان قانون العقوبات إلى غاية تعديله في 2004 يضمن للمرأة الحماية من الاعتداءات الجنسية من خلال تجريمه الفعل المخل بالحياء و الاغتصاب و زنا المحارم فان هذه الحماية مقصورة على الاعتداءات الجسدية التي تتطلب اتصالا جسديا بالضحية، في حين لا يقتضي التحرش الجنسي اتصالا جسديا و إنما يأخذ شكل ابتزاز و مساومة على ترقية أو نقل أو حتى الفصل من العمل، بحيث لا يمكن الضحية تجنب المضرة أو الحصول على منفعة إلا بالنزول عند طلبات المعني و الاستجابة لرغباته الجنسية.
للإشارة فان المشرع الجزائري في نص المادة المذكورة أعلاه لم يبين جنس الفاعل أو الضحية و ذلك يحتمل أن يقع التحرش من أحد الجنسين على الآخر أو أن يكون المتحرش و المتحرش به من نفس الجنس بحثا عن إرغام الضحية على الاستجابة لرغبات جنسية شاذة.
كما أن المشرع الجزائري لم يجرم التحرش الجنسي الممارس من قبل المحارم داخل الأسرة أو البيت رغم تعرض بعض التشريعات العربية و الإسلامية له كالتشريع المصري.

المبحث الثانــــي : أركان جريمـــة التحرش الجنســـــي

تقتضي هذه الجريمة شرطا أوليا لقيامها، نتطرق إليه قبل عرض ركنها المادي و المعنوي، إذ لا يمكن تصور جنحة التحرش الجنسي في قانون العقوبات الجزائري إلا في إطار علاقة تبعية أي علاقة رئيس بمرؤوس، قائمة بين الجاني و المجني عليه إذ تشترط المادة341 مكرر أن يكون الجاني شخص يستغل سلطة وظيفته أو مهنته، و من ثمة يفلت من التجريم ما يصدر عن زميل في العمل أو عن زبون في مؤسسة.
و لم يحصر المشرع الجزائري مجال تطبيق الجريمة فيما يصدر عن الجاني أثناء ممارسة الضحية لنشاطها المهني، فكل ما يتطلبه القانون هو أن يتم التحرش في إطار علاقة تبعية أي علاقة رئيس بمرؤوس، سواء تم ذلك أثناء ممارسة وظيفة أو بمناسبتها.
و عبارة وظيفة على شمولها تتسع لكل الأنشطة بصرف النظر عن إطارها، فقد تكون الإدارة أو المؤسسات أو الجمعيات بل و حتى الترفيه و التطوع.
أما المهنة فيقصد بها على وجه الخصوص الوظائف المنظمة سواء في القطاع الخاص أو العام مثل الطب و المحاماة و القضاء و الهندسة و الفلاحة و الصناعة و التجارة،… و الواقع أن عبارة الوظيفة تغنينا عن الإشارة إلى المهنة، و يجدر التنويه إلى أن المشرع الفرنسي منذ تعديله قانون العقوبات بموجب قانون 2002.01.17 لم يعد يشترط علاقة رئيس بمرؤوس بين الجاني و الضحية، حيث لم يلزم النص أن يكون الجاني شخصا يستغل سلطة وظيفته، و تبعا لذلك تثبت الجريمة و لو صدر التحرش عن زميل في العمل و من أحد زبائن المؤسسة بل و حتى لو صدر التحرش من المستخدم.

المطــلب الأول : الركــن المــادي للجريمـــة

تقتضي جريمة التحرش الجنسي أن يلجأ الجاني إلى استعمال وسائل معينة، أهمها إصدار الأوامر، التهديد، الإكراه و ممارسة الضغوط قصد إجبار الضحية على الاستجابة لرغبات جنسية.
و يتكون الركن المادي من عنصرين أساسيين في وصف السلوك الإجرامي و هما، استعمال وسيلة من وسائل العنف المادي أو المعنوي، ثم الغاية من استعمال الوسيلة و هي الحصول على فضل ذي طابع جنسي.

1- الوسائل المستعملـة:
تتمثـل وسائل العنف المستعملة من طرف المتحرش فيما يلي:

1-1- إصدار الأوامر
يقصد به ما يصدر من رئيس إلى مرؤوس، من طلبات تستوجب التنفيذ، و قد يكون الأمر كتابيا أو شفويا، و من هذا القبيل، مدير المؤسسة الذي يطلب أو يستدعي إحدى المستخدمات أو الموظفات إلى مكتبه و يأمرها بغلق الباب أو تغليقه و خلع ثيابها.

1-2- التهــــديد
تؤخذ عبارة التهديد بمعناها اللغوي فلا يقتصر مدلولها على التهديد المجرم في المواد 284 إلى 287 من قانون العقوبات، و إنما يتسع ليشمل كل أشكال العنف المعنوي، و يستوي أن يكون التهديد شفويا أو بواسطة محرر أو مجرد حركات أو إشارات كأن يطلب المدير من مستخدمه قبول الاتصال به جنسيا و إلا فصلها عن العمل، إذ أن الأفعال، التعاليق، الملاحظات و الطلبات ذات الطابع الجنسي التي تقع في إطار العمل تعتبر تحرشا جنسيا إذا كانت ملحة و مضايقة، أو إذا كان أثرها على المستخدمين أو الطالبين للعمل مدعاة للخضوع أو رفض الخضوع للسلوكات المذكورة أعلاه بما يؤثر على القرارات التي ستتخذ بشأنــهــم.

1-3- الإكــــــراه
قد يكون الإكراه ماديا، و يقصد به استعمال القوة الجسدية أو وسيلة مادية كالسلاح، كأن يرغم المدير مستخدمته على تلبية طلبه المشار إليه في الفقرة أعلاه، مستعملا قوته الجسدية، وفي هذه الحالة يتحول الفعل إلى اغتصاب و قد يكون الإكراه معنويا كتهديد المستخدمة أو المستخدم بإفشاء سر قد يسبب ضررا إن كشف.
كما أن تطرق نص المادة لعنصر الإكراه، يشير بصفة واضحة إلى أنه لا يعد تحرشا جنسيا إذا توفر عنصر الرضا غير أن هذا الرضا لا يعتد به إذا تم التوصل إليه بالتهديد أو الوعد بمنصب شغل أو أي شكل من أشكال الإكراه، كما أن الصمت لا يعني بالضرورة توفر عنصر الرضا إذ أن الشخص القائم بالتحرش يعد مسئولا إذا ثبت بأن سلوكاته كانت ملحة و مضايقة.

1-4- ممــارسة الضغــوط
إن ممارسة الضغوط تتعدد أشكالها فقد يكون مباشرا أو غير مباشر، و ها هنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يشترط استعمال وسيلة معينة، و تبعا لذلك تقوم الجريمة حتى لمجرد إغواء أو مراودة امرأة داخل مقرات العمل، و إجمالا يمكن القول أن التهديد و الإكراه و ممارسة الضغوط هي أشكال للعنف المعنوي و ثمة يثار التساؤل حول التمييز بين جريمة التحرش الجنسي و جريمتي الاغتصاب و الفعل المخل بالحياء اللتان لا تستبعدان لقيامهما العنف المعنوي.
و يشترط حكم الإدانة، الإشارة إلى إحدى الوسائل المذكورة آنفا و في هذا الصدد نذكر على سبيل المقارنة أنه قضي في فرنسا بنقض قرار محكمة الاستئناف لكونها لم تشرح في قرارها كيف استعمل الجاني التهديد أو إصدار الأوامر أو الإكراه، كما قضي في مناسبات أخرى بعدم قيام الجريمة لانعدام التهديد أو الإكراه أو إعطاء الأوامر.

2- الغاية من استعمال الوسائل المذكورة:
و تتمثل في إجبار الضحية على الاستجابة للرغبات الجنسية للجاني.

2-1- إجبار المجني عليه الاستجابـــة
يقصد به حمل المجني عليه القبول بالطلب الموجه له، و الإجبار يفيد عدم الرضا لدى المجني عليه، فان كان راضيا انعدمت الجريمة حسبما سبق التنويه إليه، و بالمقابل يتحول التحرش إلى هتك عرض أو فعل مخل بالحياء مع استعمال العنف إن زاد عن حده و من الصعوبة بمكان رسم الحد الذي يتحول عنده الإجبار إلى عنف معنوي.

2-2- الرغبات الجنسية للجانــي
تتسع هذه العبارة لتشمل كل الأعمال الجنسية من التقبيل و الملامسة إلى الوطء و يشترط القانون أن يكون الجاني هو المستفيد و ليس غيره و من ثم لا يسأل جزائيا من أجبر المجني عليه بما سبق من الوسائل على الاستجابة لرغبات غيره الجنسية، ما لم يشكل هذا الفعل جنحة تحريض قاصر على الفسق و الدعارة أو فساد الأخلاق، المنصوص عليها في المادة 342 من قانون العقوبات الجزائري، و في هذه الحالة يشترط أن يكون المجني عليه قاصرا، أو جنحة وساطة في شأن الدعارة المنصوص عليها في المادة 343 من نفس القانون، و في هذه الحالة يشترط أن يكون ذلك بمقابل فضلا على اعتياد المجني عليه ممارسة الدعارة .

المطلب الثاني : الركــــن المعنــــوي

نظرا لما يلتبس على وصف الأقوال و الأفعال و الحركات، ايجابية كانت أو بالامتناع، فان هذه الجريمة تتطلب قصدا جنائيا، بل لا يمكن تصورها بدون هذا القصد و تبعا لذلك لا تقوم الجريمة إذا انعدم القصد الجنائي، فعلى سبيل المقارنة، قد قضي في فرنسا بعد قيام الجريمة في حق مدير مؤسسة أبدى عاطفة حب تجاه مستخدمة كان قد أرسل لها عدة خطب و قصائد شعرية لا تتضمن فحشا و هجرا، و كذا في حق من لمس يد مستخدمة أثناء استراحة لتناول القهوة و أعرب لها عن حبه لها و قدم لها هدية عند عودته من سفر و أقر لها أنه يشتاق إليها كلما غابت عن مكتبه، و عليه أقر الفقهاء في فرنسا القول أن مثل هذه الجريمة لا تطبق على مبادرات حب صادقــة.
و إذا كان القصد الجنائي منعدما في المثالين السابقين فان الجاني لم يلجأ فيهما أيضا لأساليب التهديد أو الضغط أو الإكراه أو إعطاء الأوامر و مع ذلك فقد قضي بعدم قيام الجريمة حتى و إن سلك الجاني سلوكا بدئيا ما دام إساءة استعمال السلطة و التهديد و الضغط و الإكراه غير مثبتــة.
إن إثبات الركن المعنوي لجريمة التحرش الجنسي، من خلال تحديد العلاقة السببية بين الأفعال الموصوفة بالتحرش و بلوغ الجاني النتيجة الإجرامية المقصودة و المتمثلة في تلبية رغبات جنسية أو الحصول على فضل ذي طابع جنسي، يعد من الصعوبة بمكان إن لم نقل انه يستعصى في أغلب الأحيان، ما عدا الأفعال الموصوفة بالتحرش لفظية كانت أو جسدية و التي تحمل دلالة واضحة لا لبس فيها كعزل الضحية بالمكتب و إغراؤها أو تهديدها مقابل الرضوخ لنزوات جنسية، إذ أن أغلب الأفعال الموصوفة بالتحرش تقع تحت طائلة التلميح من خلال استعمال ألفاظ و عبارات و جمل تحمل أكثر من معنى، إذ يكون المعنى المشير للجنس الأقرب للتصور و الأكثر بداهة أو من خلال الاستعمال أو اللجوء إلى حركات و إيماءات جسدية تختلط فيها النية المتعمدة المقصودة بمجرد سلوك قد لا يثير لغير المتحرش به أي رد فعل.

المبحث الثالث: تصنيف حالات التحرش الجنســـي

نظرا لتعدد أوجه ممارسة التحرش الجنسي في الأوساط المهنة أو التي تقتضي وجود علاقة سلطة أو وصاية أو مسؤولية و كذا تعدد السلوكات الموصوفة بالتحرش باعتبارها جملة التصرفات المتكررة و الملحة قولا أو فعلا، تصريحا أو تلميحا تستهدف سمعة الشخص أو علاقاته أو حقوقه و تهدد مستقبله المهني.
إضافة إلى تعدد أوجه ممارسة السلطة و تنوع الألفاظ و الحركات التي قد توصف بالتحرش الجنسي بأنه من الجدير و الحري بنا تقسيمها إلى حالات و صور نوردها فيما يلي:

المطلب الأول : حالات متعلقة بصفة وجنس الضحية و المتحرش

01- التحرش الجنسي على النساء
إن التحرش الجنسي على النساء هو استثارة الأنثى جنسيا بدون رغبتها و يشمل عدة وسائل مثل الكلام و المحادثات و المعاكسات أو المجاملات غير البريئة و يحدث عادة من طرف الجنس الأخر في موقع سلطة و قوة بالنسبة للأنثى مثل ما هو للمدرس و التلميذ أو الطبيب و المريض، إذ قد تكون هذه المضايقات على شكل نظرة خبيثة و ألفاظ ذات معنى جنسي.
فأنواع هذه السلوكات تشمل مدى واسع يزعج و يضايق و يسبب الأذى للأنثى حيث ترغب بعض الضحايا من النساء الستر و حماية عائلتها و ذاتها من العار و النبذ الاجتماعي و الأمر ليس بالسهل للمرأة، لان الخوف يمتلكها من أن تفقد منصب عملها ، الذي هو مصدر رزقها أو تواجه نظرة العائلة و المجتمع إليها، و هو ما يفسر أن كثيرا من النساء يجدن صعوبة في التعبير عن هذه المسألة.

02- التحرش الجنسي على الأطفال
لقد ورد في اتفاقية الأمم المتحدة حول حقوق الطفل ضمن المادة 19 “ تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية و الإدارية و الاجتماعية و التعليمية الملائمة لحماية الطفل من كل أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أو الإهمال و الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية، و هو في رعاية الوالدين أو الوصي القانوني عليه“.
و قد بنت الإحصائيات أن أكثر من 75 % من المعتدين هم أشخاص معروفين للضحية، تربطهم بالطفل علاقة قرابة أو صداقة أو من الذين يستغلونهم في الأعمال، و تترتب رواسب سلبية تنمو مع الطفل الذي يتعرض للتحرش الجنسي، فالتحرش الجنسي بالطفل شكله شكل سلوك إدماني آخر له طابع تصاعدي، يبدأ بالمداعبة ثم يتحول إلى ممارسات أخرى، و بعض المحاولات التي تصدر من طرف الأقارب و الأشخاص الذين لهم صلة بالطفل قد تقابل بالاستجابة لها لان الأطفال يميلون إلى الرضوخ لسلطة البالغين و تبقى المشاكل النفسية التي يعيشها الطفل في كبره هي تجارب الطفولة الأليمة التي عاشها و قام بدفنها و نسيانها.
و يعد من قبيل التحرش بالطفل جنسيا، تعريضه عن عمد لمشاهد فاضحة أو صور عارية أو تعمد إثارته بأي شكل من الأشكال، كتعمد ملامسة جسده من غير ضرورة مما يؤدي إلى إفاقة جنسية مبكرة للطفل، و بصفة أكثر تجسيدا، يعد تحرشا جنسيا بالطفل في إطار علاقة الأستاذ أو المعلم بالتلميذ:
* كل ملامسة جسدية غير ضرورية.
* التقارب الجسدي أو الجسمي الواضح و الجلي.
* الدخول إلى دورة مياه الجنس الآخر – ما عدا حالات الخطأ غير المتعمد -.
* أن يوجه نظره بصفة مباشرة و متعمدة إلى دورة مياه الجنس الأخر.
و قد ذهبت بعض التشريعات خاصة التي فصلت جريمة التحرش الجنسي عن غيرها إلى تعديد و تفصيل كل السلوكات التي تقع تحت طائلة ذلك لتمييزها عن باقي جرائم الآداب في حق الطفل و القاصر.

03- التحرش الجنسي بالرجـــل
لم يستثني المشرع الجزائري من خلال نص المادة 341 مكرر كلا الجنسين ذكرا كان أو أنثى من خلال صفة الفاعل أو الموظف الذي يمارس السلطة على الضحية، و قد تكون الأنثى تمارس السلطة في منصب من المسؤولية، تستعمل فيه نفس الضغوطات و المضايقات لغرض إشباع رغبتها الجنسية، إلا أننا نادرا ما نصادف هذه الحالة أو الظاهرة نظرا لمكونات مجتمعنا، إلا أن ذلك لا ينفي إمكانية حدوثها.
و تفسر ندرة هذه الحالة لصعوبة تصور حالات التحرش الجنسي بالرجل خارج الحالات التي تكون فيها ممارسة سلطة الوظيفة تحت وصاية المرأة لاعتبارات تتصل بالتكوين البيولوجي و الفيزيولوجي للرجل -القوة البدنية-، و فضل القوامة الذي خص به خاصة في المجتمعات المحافظة.

المطلب الثاني : الحالات المتعلقات بطبيعة علاقة السلطـــة

إن المادة القانونية التي اعتمدها المشرع الجزائري جرمت التحرش الجنسي في إطار استغلال سلطة وظيفة أو مهنة عن طريق إصدار الأوامر و غيرها و عليه فان أشكال و أوجه استغلال هذه السلطة و طبيعتها متعددة.
فقد يكون استغلال سلطة الوظيفة في إطار ممارسة وظيفة عمومية في مؤسسة أو شركة تابعة للقطاع العام أو إدارة أو مصلحة أو مرفق عمومي، كما قد تمارس في المؤسسات و المرافق التابعة للقطاع الخاص من طرف أرباب العمل و المستخدمين مع الإشارة إلى أن المشرع الجزائري ربط التحرش بقيام علاقة السلطة بين الفاعل و الضحية متزامنا، فلا يعتد بحالات التحرش الجنسي إذا تعلق الأمر بسلوكات وقعت خارج أوقات العمل أو مقراته.
للإشارة فان بعض التشريعات ذهبت إلى تصور حالات معاكسة تماما تتعلق بتحرش الموظف بمسئوله جنسيا أو الزبون بمقدم الخدمة و هو حال التشريع الفرنسي و الكثير من التشريعات الغربية.

إن ممارسة السلطة على الغير لا يقتصر على مفهوم السلطة بين رب العمل أو المستخدم على الموظف، فقد تكون السلطة سياسية يمارسها مسئول أعلى في السلم الهرمي و حتى في أعلى مستوياتها فلا يشترط أن تكون السلطة مباشرة.

و قد تكون السلطة معرفية و بالتالي فالطبيب يمارس نوع من السلطة على المريض بناء لتفوقه المعرفي و مرجعيته في مجال تشخيص الداء و وصف الدواء و تحديد بروتوكول استشفائي، فالمريض يشعر بشيء من الخضوع للطبيب مما قد يعرض هذه العلاقة لسوء الاستعمال و التعسف، فقد يتعرض المريض لممارسات طبية معينة كالملامسة المشبوهة و المتكررة لمواضع حميمية من جسد المريض دون وجه ضرورة، مما يجعل الأمر يلتبس في نظر المريض و يجعله عاجزا عن رفض هذه الملامسات رغم اعتقاده بعدم براءتها و سوء نية الطبيب، مخافة أن يتعرض لسوء التكفل و الإهمال و الرعاية الطبية، مع الاشارة إلى أن ما سبق من الصعوبة بمكان معاينته خاصة في إطار ما يسمى نظام الخدمة و الممارسة الطبية.

و قد تكون السلطة تربوية تعليمية، يمارسها المعلم على التلميذ و الأستاذ على الطالب و المؤطر على الباحث – في الأوساط الجامعية خاصة -، إذ أن فكرة الولاء للمعلم أو المربي و النهل من فكر الأستاذ يجعل هذا الأخير يمارس سلطة فكرية تفرض على المتلقي الخضوع لحد ما، و تشهد الأوساط الجامعية و الثانوية حالات عديدة للتحرش الجنسي في ظل تخوف الطالب من الرسوب أو الطرد أو تنزيل الشعبة، و ليس بالضرورة أن يكون الأستاذ هو المتحرش فقد يتورط مدير المؤسسة التعليمية أو المؤطرين و المراقبين في ذلك، و قد شهدت في الأيام الأخيرة إحدى الثانويات حالة تحرش للمدير بالطالبات تناولتها الصحف اليومية بإسهاب.

و فضلا عن ذلك فهناك سلطة روحية يمارسها رجال الدين و شيوخ الزوايا على المخلصين و المنتمين الذين يبرزون ولاء لفكر معين أو مذهب ما و قد شهدت الجزائر حالات تحرش في بعض الأحيان مارسها رجال الدين.

المطلب الثالث : الحالات المتعلقة بالسلوك المادي للمتحرش

تصنف هذه الحالات بكونها مباشرة أو غير مباشرة، بالتصريح أو بالتلميح، حركية أو لفظية أو كتابية

01- الطــرق اللفظيــــة
اللفظ هنا يختلف عن ألفاظ الغزل الرقيقة و المتوددة فهو يميل إلى الفجاجة و الصراحة الجارحة، و يميل إلى الدلالات الجنسية و أحيانا يستخدم المتحرش ألفاظا سوقية يعبر بها عن أطماعه في الضحية و أحيانا أخرى تأخذ معنى المراودة بما يتضمنه من إغواء و إغراء و إثارة.

02- الطـرق الجسديــة
عبارة جسدية في هذا الموضع تتضمن النظرة الفاحصة المتفحصة أو الإيماءة الفاضحة الجارحة أو استعراض بعض أعضاء الجسم و خاصة الأعضاء الجنسية أو أخذ وضعيات معينة ذات دلالات جنسية أو اللمس أو التحكك أو الضغط أو محاولة الإمساك بالضحية أو ضمها و تقبيلها عنوة أو اقتحام حميميتها و قد يكون التحرش عن طريق الهاتف إذا كان قرينا بالإلحاح و الإزعاج و المضايقة.
على العموم فان تصنيف سلوكات المتحرش جنسيا، يشمل كل الأفعال و الحركات التي من شأنها أن تكون قاعدة و مطية لقرارات ماسة بالشخص المتحرش به، و التي تهدف إلى إضعاف إرادة الضحية و تقليل مردودها الشخصي و كل ما من شأنه أن يخلق جوا مرهبا و مخوفا أو عدوانيا و مهينا و قادحا، و نذكر ها هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض هذه الممارسات المتحرشة جنسيا:
• الحك أو اللمس المغري و كذا الملامسات – من مجرد التربيت الودي على الكتف إلى غاية القبلة المباغتة و التهجم-.
• الوعود بالتفضيل و التعويض و كذا التهديدات بالانتقام و الاقتصاص المرتبطة بإطار السلطة أو الوصاية الممارسة.
• تقديم دعوات حميمية متكررة من كل نوع، أو تقديم و عرض تذاكر سينما.
• الملاحظات الخاصة بالشكل الظاهري للجسد و استعمال المناداة بأسماء مستعارة عاطفية و حميمية.
• النكت ذات الطابع الجنسي التي يكون الغرض منها إحراج و إرباك الضحية و صدمها.
• الرسوم المتهجمة، و كذا الملصقات و الصور الحائطية ذات الطابع الجنسي.
• التواجد الدائم للشخص المتحرش بالقرب من الضحية بما يسبب إزعاجا و مضايقة.
• فرض الاختلاء داخل مكتب أو غرفة بمستخدم من الجنس الآخر دون حاجة أو ضرورة لذلك.
• النظر بصفة مباشرة و متعمدة إلى دورة مياه الجنس الآخر أو الدخول إليها ما عدا حالات الخطأ غير المتعمد.

المبحث الرابع : إثبــات جريمة التحرش الجنســي

المطلب الأول : أدلـــة الإثبــــات

يقصد بالإثبات بصفة عامة الدليل و البرهان على حقيقة أمر من الأمور توصلا لغاية معينة و هو ما يسمى بالإثبات العام أو الإثبات العملي.
أما الإثبات بمعناه القانوني فيعني إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها و هو إقامة الدليل أمام القضاء على وجود حق منازع فيه أو على حدوث واقعة قانونية بصفة عامة مهما كان أثر ثبوت هذه الواقعة.
و يسمى الإثبات طبقا للمعنى الثاني بالإثبات القضائي، ذلك لأنه يتم أمام القضاء، فإذا تم الإثبات خارج مجلس القضاء فانه يخرج عن معنى الإثبات القضائي ليدخل في الإثبات بمعناه العام أو العملي، و يجب أن يتم الإثبات بإحدى الطرق التي حددها القانون و متى تم الإثبات فانه يلزم القاضي أن يقضي بالنتائج القانونية المترتبة على هذا الإثبات.
و تتأثر أنظمة الإثبات الجزائية في أي مجتمع من المجتمعات البشرية بالعوامل السياسية و الاجتماعية و بالقيم السائدة في تلك المجتمعات، كما تتأثر أدلة الإثبات و وسائله بدرجات النمو و التقدم في الدولة و بالعلاقة القائمة بين الدولة من جهة و أفراد المجتمع من جهة أخرى من خلال مدى ضمان الحريات و الحقوق الفردية و صيانتها من أي شكل من أشكال الاستغلال.
تختلف نظم الإثبات في إقامة الدليل حيث يمتاز نظام الأدلة القانونية بالدور الرئيسي الذي يقوم به المشرع في عملية الإثبات فقد يشترط دليلا معينا و متماسكا معتمدا على صحته و قوته كأدلة كاملة و هي التي تكفي لوحدها حيث يترتب على وجودها تطبيق العقوبة المنصوص عليها قانونا و في موضوعنا هذا و لكي تكون البينة دليلا كاملا يشترط في أدلة الإثبات ما يلي:
شهادة شاهد على نفس الواقعة كما يشترط في الشاهد أن يكون شاهد الواقعة بنفسه و أن يتصف الشاهد بالاستقامة و أن يكون جازما في شهادته لفعل التحرش الجنسي.

إن العمل و الحزم على إثبات جريمة التحرش الجنسي يوجب إظهار دليل متماسك وفق المعايير التي خلص إليها المشرع الجزائري و وفقا لقانون الإجراءات الجزائية، و بالرجوع إلى الجريمة المتعلقة بالتحرش الجنسي و التي ترك فيها المشرع عبء الإثبات على عاتق المجني عليه بتقديم الدليل كشهادة الشهود، الاعتراف، المحررات أو الخبرة.

إن مسألة إثبات جريمة التحرش الجنسي تبقى مسألة جد صعبة لان الفاعل أو مرتكب الجريمة يقترف فعله في سرية تامة متخذا كل التدابير و جميع الاحتياطات التي من شأنها استبعاد كشف سلوكه الإجرامي، و بالتالي فان نطاق الإثبات لا يقتصر على إقامة الدليل أمام قضاة الحكم بل يتسع إلى سلطات الضبطية القضائية المكلفة بجمع الاستدلالات – ضابط الشرطة القضائية و أعوانه -، و سلطة الاتهام – النيابة العامة و وكيل الجمهورية -، و سلطة التحقيق – قاضي التحقيق – ، فالقانون أعطى للقاضي كامل الحرية في تقدير الأدلة المقدمة له في الدعوى تطبيقا لمبدأ حرية الإثبات.
و قد يلجأ القاضي في إصدار الحكم في جريمة التحرش الجنسي على ضوء الأدلة التي تناقش أمامه و التي نص عليها المشرع في المواد – 212 و 235 ق.ا.ج -.
و انطلاقا من نص المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية،“ يجوز إثبات الجرائم بأي طريقة من طرق الإثبات “ و ينص هذا الشطر من الفقرة الأولى من المادة أعلاه على أن أطراف الدعوى لهم الحرية في إثبات ادعائهم بكل الأدلة المشروعة سواء الكتابية منها و الشفهية، دون أن يقيدهم بأي قيد كان أو يحدد لهم دليلا يجب اللجوء إليه دون غيره، و أهم أدلة الإثبات في جريمة التحرش الجنسي ما تم التنويه به أعلاه، و يبقي القاضي هو الوحيد في تقدير هذه الأدلة من خلال اقتناعه الشخصي المبني على ملاحظة الوقائع و التفكير فيها للوصول إلى الحقيقة و هذا ما يوضح لنا أن القاضي في اقتناعه يبذل جهدا عقليا و فكريا لبنائه، و نشير إلى أن اللجوء إلى الاجتهاد القضائي في هذه الجريمة لا يزال حثيث الخطى، نظرا لحداثة تجريم هذا الفعل في القانون الجزائري.
إن أدلة الإثبات هي وسيلة إقرار الحقوق أمام القضاء و بدون إثبات لا يكون للحق أي معنى و تبدو أهمية الإثبات فيما يعرض يوميا من منازعات أمام القضاء إذ يتعين على من يدعي حقا في جريمة التحرش الجنسي أن يقيم الدليل على هذا الحق و ثبوته له، و نجد أن الفقهاء قد اهتموا بتقسيم وسائل الإثبات حتى يمكن حصرها و تسهل عملية البحث عنها فمنهم من قسمها إلى أدلة تامة و أدلة ناقصة و نجد منها:
– أدلة تامة و هي الاعتراف القضائي و شهادة الشهود.
– أدلة ناقصة و هي الاعتراف غير القضائي و شهادة شاهد واحد.

المطلب الثاني : عــــبء الإثبــــات

يتطلب عبء الإثبات في جريمة التحرش الجنسي تطبيق القواعد العامة لحرية الإثبات و المتمثلة في:
– الاعتـــراف – المادة 212 ق.ا.ج.
– الشهــــادة – المادتين 220 و 234 ق.ا.ج.
– المحـــررات – المادتين 214 و 218 ق.ا.ج.
– الخبـــرة – المادة 219 ق.ا.ج.
من خلال تمعننا لنص المادة 341 مكرر من قانون العقوبات الجزائري نجد أن جريمة التحرش الجنسي تعتبر جريمة جد صعبة في مجال إثباتها أمام القضاء لان الجاني قد يأخذ كل الاحترازات و الاحتياطات اللازمة لاستبعاد كشفه، وعليه يبقى إقامة دليل الإثبات وفقا للقواعد العامة للإثبات على عاتق المجني عليه استنادا لمبدأ قرينة البراءة، حيث يكون المجني عليه مطالب بتقديم الأدلة المتماسكة أمام القاضي، الذي يعتمد في تحليله لأدلة الإثبات المقدمة من طرف المجني عليه في جريمة التحرش الجنسي على مدى صحتها و قوتها بغية الوصول إلى الحقيقة و هذا اعتمادا على الاقتناع الشخصي و يتم ذلك بأحد سبيلين:
1- حرية القاضي في الاستعانة بكافة وسائل الإثبات التي تمكنه من الوصول إلى تحقيق قناعته الشخصية.
2- حرية القاضي في تقدير جميع عناصر الإثبات التي تكونها ظروف و معطيات الدعوى المطروحة أمامه.
إن عبء الإثبات الذي يكون موضوع تقدير القاضي و المتمثلة طرقه في الاعتراف، شهادة الشهود و المحررات ملقى على عاتق الضحية فيما يخص جنحة التحرش الجنسي، و عليه نتطرق بالشرح لكل واحدة من هاته الطرق، مبرزين مدى أهمية عبء الإثبات من أجل إقامة دليل الجريمة أمام القاضي حتى يتسنى له تقدير الأدلة المطروحة أمامه .

أولا… الاعتـــراف
هو إقرار المتهم بكل أو بعض الوقائع المنسوبة إليه، و بعبارة أخرى هو شهادة المرء على نفسه، و لما كان الاعتراف أقوى من الشهادة بل إن الاعتراف الصحيح يعتبر سيد الأدلة و مع ذلك فهو خاضع إلى تقدير القاضي، هذا الأخير الذي تكمن مهمته في تحليل و وزن الاعتراف للوصول إلى مدى صحته و مطابقته للتحقيق.

ثانيا… شهادة الشهــود
تظهر أهمية الشهود كدليل إثبات في جريمة التحرش الجنسي بصفة خاصة في طبيعة الجريمة باعتبارها تنطوي على أفعال و حركات و إيماءات قد لا يفهمها أو يعطي لها بالا غير المتحرش به، فشهادة الشهود هي الطريق الوحيد لإثبات الجريمة لأنها تنصب في المعتاد على حادثة عابرة تقع فجأة و لا يسبقها اتفاق، و بالتالي إن الشهادة هي تصريح الشخص بما رآه أو سمعه أو تحسسه بباقي حواسه، ذات صبغة معنوية أي أنها تنصب على مجرد أقوال مستقاة من المشاهدة أو الاستماع عن طريق الحواس، و يرجع القاضي في تقديره لصحة الشهادة إلى عاملين، الواقعة المشهود عليها و مدى احتمال وقوعها منطقيا من جهة، و من جهة أخرى الشهادة الخاصة و هي تتعلق بمدى نزاهة الشاهد و علاقته بالخصم أي المتهم.

ثالثا… المـــحررات
تشمل المحررات الأدلة الكتابية التي يمكن أن تقدم للمحكمة كدليل إثبات مادي في الدعوى الجزائية و هي نوعان.
يتمثل النوع الأول في المحررات التي تحمل جسم الجريمة، كالورق الذي يتضمن التهديد بالفصل من العمل أو كشف أسرار شخصية،… أما النوع الثاني من المحررات فيكون مجرد دليل على الجريمة كورقة تحمل اعتراف المتهم.
و يلاحظ من الناحية العملية أن القاضي يهتم بالمحررات التي توجد بملف القضية المتعلقة بجريمة التحرش الجنسي أكثر من التصريحات الشفوية و ذلك راجع بطبيعة الحال إلى تأثير الدليل الكتابي نتيجة عامل الاستقرار و ثبات المعلومات التي يحتويها أو ينفيها بخصوص الجريمة محل الدراسة.

المطلب الثالث : الصعوبات الميدانية لإثبات جريمة التحرش الجنسي

إن مسألة الإثبات في جريمة التحرش الجنسي تبقى من أصعب المسائل على الإطلاق حيث يواجه إثبات هذه الجريمة عدة إشكاليات ، و قد أبدى القضاء الفرنسي تشددا في تقدير الدليل إذ لا تكفي تصريحات المجني عليه لإقامة الدليل إن لم تكن هذه التصريحات مصحوبة بشهادة الشهود، تؤيدها معاينات موضوعية.
و هكذا يجد القاضي الجزائي نفسه أمام وقائع مادية، غالبا ينبغي عليه أن يستنتج منها قرائن قضائية و هي أهم دليل يستند عليه القاضي في حكمه من خلال تكوين قناعته و لعله من المفارقات العجيبة أن القانون الجزائي الجزائري بشقيه الإجرائي و الموضوعي لا يشير إلى القرائن القضائية إلا نادرا و ذلك بصفة ضمنية رغم الدور المهم الذي تكتسيه القرائن القضائية في القانون الجزائي في مجال الإثبات و خطورة النتائج المترتبة عن ذلك لان الأحكام الجزائية يترتب عنها مساس بحريات الأفراد و حقوقهم الخاصة.

و يتساءل بعض الفقهاء حول ما إذا كانت هذه الجريمة من جرائم الاعتياد بدعوى أن المشرع استعمل مصطلح التحرش الذي ينطوي على فكرة التكرار و المعاودة، و أن مختلف أساليب إساءة استعمال السلطة سواء بالأوامر ، التهديد، الإكراه أو الضغط تتجلى في قانون العقوبات الجزائري غير أننا نميل إلى الاعتقاد أن نية المشرع هي ردع جريمة التحرش الجنسي و لو تمثل في عمل منفرد أو معزول.

و من ضمن إشكاليات إثبات جريمة التحرش الجنسي صعوبة الحصول على أدلة التي تثبت الجريمة مما يجعل المتهم يفلت في كثير من الحالات من العقاب، بحيث أن دليل الاعتراف، الشهادة و المحررات الذي اعتمده المشرع الجزائري في هذه الجريمة و التي يبقى عبء إثباتها على عاتق المجني عليه دون اشتراك المتهم عن طريق الدفوع يتناقض و أخلاقيات المجتمع الجزائري الذي يرى في هذا الفعل مساس بشرف المرأة خاصة و العائلة بصفة عامة.
إن البحث داخل الأسرة الجزائرية في هذه الجريمة يبقى جد صعب، كون عدد الذين تعرضوا لهذه الظاهرة سواء من النساء في أماكن العمل أو في الأسرة يبقى سريا نظرا لتكتم الأطراف المعنية على هذه الجريمة خوفا من الفضيحة و ما يتهدد المستقبل المهني للنساء العاملات اللاتي تعرضن للتحرش الجنسـي.

الخاتمـــة

إن الجديد الذي نقرأه من خلال هذا التعديل الجديد في باب جرائم العرض و الآداب، هو التطور الملحوظ في التشريع الجنائي، و الإجراءات المتخذة لحماية الطفولة و صيانة الشرف و العفة عند طلب الوظيفة أو بمناسبة أدائها، و استبعاد وسائل المضايقة و الإكراه، و سريان مفعوله على الجنسين من النساء و الرجال، و يقرأ من هذه التعديلات نية الردع الحقيقية لدى المشرع الجزائري في محاربة هذه الظاهرة التي تنامت في المجتمع، و يبقى أن على أدوات تطبيق القانون و الاجتهاد القضائي ترجمة ذلك ميدانيا.
انه تماشيا مع التحولات الكبرى على الصعيد الاجتماعي و الأخلاقي في المجتمع الجزائري الذي يشهد تصعيدا و تناميا لظواهر أخلاقية منافية لتقاليدنا من جهة، و من جهة أخرى مسايرة للنداءات الدولية المناهضة للعنف و التمييز ضد المرأة فانه من الضروري تعزيز الترسانة القانونية، سواء قانون العقوبات أو قانون الإجراءات الجزائية بما يسمح بردع هذه الجرائم الدخيلة على المجتمع التي يأتي في مقدمتها التحرش الجنسي، إذ على جميع الشركاء في الميدان – الجهاز القضائي، المؤسسات الأمنية، مراكز القرار السياسي و المجتمع المدني – تكثيف و مظافرة الجهـــود.

و تسعى المديرية العامة للأمن الوطني في إطار تعاونها و تنويرها للجهاز القضائي سواء في إطار جريمة التحرش الجنسي أو في جرائم أخرى، إلى رفع اللبس و الغموض عن بعض الثغرات و الفراغات القانونية التي لا تزال تعتري القوانين الجزائية في الجزائر، كتفصيل جرائم الآداب و تجريم ما يوصف منها بالتحرش الجنسي بين المحارم داخل الأسرة و البيت التي سبقتنا بعض الدول العربية في تجريمها كمصر و الأردن و لبنان، بالإضافة إلى ما تعلق بتحديد الصلاحيات و حدود الممارسة، و مما تقدمت المديرية العامة للامن الوطني باقتراحه في إطار قمع جريمة التحرش الجنسي، عقب تنصيب خلية عمل ضمت ممثلين عن المفتشية العامة للمصالح، مكتب التنظيم و المناهج و جهاز التكوين و خبراء نفسانيين و أخصائيين لدراسة إمكانية إدراج جهاز كشف الكذب Polygraphe في توجيه و تنوير التحقيقات و التحريات و وسائل أخرى كالتسجيل الصوتي و التصوير و تحليل الحامض النووي، و ذلك ليس على سبيل قرائن الإثبات و إنما على الأقل على سبيل التوجيه و تسهيل خطوات التحليل الجنائي لدى المحققين.

يجدر القول في الأخير إلى أن الآليات الردعية القانونية وحدها ليست كفيلة بمحاربة التحرش الجنسي على غرار جرائم الآداب الأخرى، لكن الأمر يستدعي تفكيرا واعيا و قرارا سياسيا رشيدا و إستراتيجية اجتماعية ملمة بجميع مسببات الإشكالية، انطلاقا من التربية الجنسية السليمة للطفل في بدايات تكوينه و وصولا إلى تجسيد و ضمان بنية اجتماعية و أخلاقية متماسكة تتماشى و تعاليم ديننا الحنيف و تقاليد مجتمعنا المتجذرة و الراسخة، فنذكر هنا أن القرآن الكريم وجهنا على سبيل المثال لا الحصر، أن الطفل قبل أن يبلغ الحلم عليه أن يستأذن فلا يدخل على والديه في أوقات ثلاث، قبل الفجر و وقت الظهيرة و بعد العشاء عندما يضع الإنسان ثيابه حيث سماها القرآن الكريم – ثلاث عورات لكم – سورة النور الآية 58، و ذلك ليتسنى للطفل إدراك أن للآخر حرمة عليه ألا يتعداها ابتداء من أبويه و وصولا إلى أي كان في العالم، و هذا القيد مفروض على كل المجتمع لصالحه، لان المجتمع كما قيدني في سلوكياتي قيد الجميع من أجلي، ثم إن الدستور الأخلاقي الذي يوجه الإنسان في حركته تجاه مجتمعه هو أكبر ضمان أن يعيش المجتمع في نطاق الفضيلة و يحارب الفحش بجميع صوره و هو دأب كل الأديان و الملل، هذا الأمر لا يتأتى إلا إذا تولى المجتمع تنشئة الأبناء منذ البداية من خلال أجهزته المختلفة، بداية من الأسرة و الجهاز التعليمي و الجهاز الإعلامي و الجهاز الديني و الأجهزة الثقافية الأخرى و المجتمع المدني، لان هذا هو عين المدنية و التحضر بعكس ما يروج للسفور و الإباحية التي هي أصل الحيوانية البدائية.