بحث قانوني هام عن كيفية انعقاد الاخـتصاص للقانون الأجنبي

لمعرفة القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية المشتملة على عنصر أجنبي يلجأ القاضي الوطني لاستشارة قاعدة الإسناد الوطنية التي تحدد له القانون الواجب التطبيق، سواء كان قانونه الوطني أو قانونا أجنبيا له صلة بهذه العلاقة. و التساؤل الذي يطرح هنا هو حول مدى التزام القاضي بتطبيق هذه القاعدة عن تلقاء نفسه، أم يشترط لتطبيقها تمسك الأطراف في الدعوى بها؟

وعلى هذا الأساس نقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول في المطلب الأول تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد الوطنية و في المطلب الثاني مدى إلتزام القاضي الوطني بتطبيق هذه القاعدة تلقائيا.

الـمـطــلـب الأول :تـطـبـيـق الـقـاضــي لـقـاعـدة الإسـنـاد الـوطـنـيـة

يلجأ المشرع لحل تنازع القوانين، إلى وضع قواعد قانونية مهمتها إرشاد القاضي إلى القانون الواجب تطبيقه على هذه العلاقة تسمى هذه القواعد ” قواعد الإسناد “. و تتميز بأنها قواعد غير مباشرة أي لا تطبق على النزاع مباشرة وإنما ترشد القاضي إلى القانون الذي الواجب التطبيق على العلاقة محل النزاع، كما أنها قاعدة مزدوجة قد تشير بتطبيق القانون الوطني أو القانون الأجنبي و إضافة إلى ذلك فان قاعدة الإسناد قاعدة محايدة لأن المشرع عندما يضعها لا يعلم هل ستؤدي إلى تطبيق القانون الوطني أم الأجنبي؟ و هذا لأن توزيع الإختصاص بين القانون الوطني و الأجنبي قائم على أسس موضوعية مجردة.

و كل قاعدة إسناد تتألف من عنصرين هما الفئة المسندة و هي مجموعة من المسائل القانونية جمعها المشرع في فئة واحدة، و ضابط الإسناد الذي يعتبر بمثابة همزة الوصل بين الفئة المسندة و القانون الواجب التطبيق، إلا أن القاضي قبل أن يقوم بتطبيق قاعدة الإسناد يقوم بعملية التكييف من أجل إدخال العلاقة القانونية في إحدى الفئات المسندة .

كما أن قاعدة الإسناد قد تشير باختصاص قانون أجنبي لحكم العلاقة القانونية، غير أن نصوص هذا القانون الخاصة بالتنازع، قد ترفض هذا الاختصاص و تحيل القاضي إما إلى قانونه مرة أخرى أو تشير باختصاص قانون أجنبي آخر و هذا ما يطرح مشكلة الإحالة.

الــفـــرع الأول :عــنــاصــر قــاعــدة الإسـنــاد

تتألف قاعدة الإسناد من عنصرين: العنصر الأول هو الفئة المسندة و هي العلاقات القانونية المتقاربة التي جمعها المشرع في فئة واحدة، و العنصر الثاني و هو ضابط الإسناد الذي يربط العلاقة القانونية بالقانون المسند إليه.

– الـفـئـة الـمـسـنـدة:

المسائل القانونية من الكثرة بحيث لا تدخل تحت حصر مما يجعل من المستحيل وضع لكل واحدة منها قاعدة إسناد خاصة بها، و لذلك فإن المشرع عمد إلى جمع المسائل القانونية المتقاربة في فئة واحدة تسمى الفئة المسندة.

وهكذا فإن المشرع الجزائري على سيبل المثال جمع المسائل المتعلقة بالأهلية و الحالة المدنية للأشخاص في فئة واحدة، و أسندها إلى قانون الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم (المادة 10 من القانون المدني )، و جمع المسائل المتعلقة بالميراث و الوصية و سائر التصرفات التي تنفذ بعد الموت في فئة واحدة و أسندها إلى قانون جنسية الهالك أو الموصي أو من صدر منه التصرف وقت موته (المادة 16 من القانون المدني ).

وعلى هذا الأساس فإذا ما طرح أمام القاضي نزاع بشأن علاقة قانونية مشتملة على عنصر أجنبي فإن أول ما يقوم به هو تحديد طبيعة هذه العلاقة لإدراجها ضمن إحدى الفئات المسندة, تمهيدا لإسنادها للقانون المختص الذي يحدده ضابط الإسناد الخاص بها.

2-ضــابــط الإسـنـاد:

بعد أن قام المشرع بتصنيف المسائل القانونية المختلفة في فئات مسندة، عمد بعد ذلك إلى إسناد كل فئة منها إلى قانون معين، عن طريق ضابط الإسناد، و هو بذلك عبارة عن أداة ربط بها المشرع بين الفئة المسندة و القانون المسند إليه.

وهكذا فأن المشرع الجزائري على سبيل المثال أخضع الإلتزامات غير التعاقدية ( الوقائع القانونية ) إلى قانون البلد الذي وقع فيه الفعل المنشئ للإلتزام المادة 20 من القانون المدني، فهو بذلك اختار مكان وقوع الفعل كضابط إسناد بالنسبة إلى الإلتزامات غير التعاقدية، و أخضع المسائل المتعلقة بالنسب إلى قانون جنسية الأب وقت الميلاد الطفل (المادة 13 مكرر من القانون المدني ) فضابط الإسناد هنا هو جنسية الأب الذي ربط بموجبه المشرع بين الفئة المسندة و القانون المسند إليه.

الـــفـــرع الـــثـــانــي: الــتــكـيــيــف

أشرنا في السابق أن القاضي و قبل أن يقوم بربط الفئة المسندة بضابط الإسناد يقوم بعميلة أولية هي تحليل العلاقة القانونية و إعطائها الوصف القانوني الصحيح تمهيدا لإدراجها ضمن إحدى الفئات المسندة, و هو ما يصطلح عليه قانونا بالتكييف.

والتكييف هو بهذا الوصف عملية يقوم بها القاضي في كل فروع القانون، كلما تصدى للفصل في أي دعوى قضائية، فهو على سبيل المثال يكيف العقد ما إذا ما كان عقد عارية أو عقد إيجار، و يكيف الجريمة فيما إذا كانت سرقة أو خيانة أمانة. غير أن ما يميز التكييف في إطار القانون الدولي الخاص ليس عملية التكييف في حد ذاتها، و إنما القانون الذي يتم التكييف طبقا لأحكامه هل هو قانون القاضي أم القانون الأجنبي الذي يطبق على العلاقة ؟ فالمسألة إذن ليست مسألة تكييف و إنما تنازع في التكييف(1).

و ما يعطي لهذه المسألة أهميتها في إطار تنازع القوانين هو أن قوانين الدول مختلفة في تكييف المسائل القانونية التي يثيرها النزاع المطروح على القاضي، فمثلا تدخل قوانين بعض الدول المشارطات المالية التي تصحب عقد الزواج ضمن نظام الأحوال الشخصية، و تخضع بالتالي لقانون جنسية الشخص و تدخلها بعض القوانين في نظام العقود، و تخضع تبعا لذلك للقانون الذي يختاره المتعاقدان، و بعض القوانين تدخل شكل الوصية في نظام الأهلية فتخضع بالتالي لقانون جنسية الشخص و بعضها الآخر يدخلها ضمن نظام الشكل و تخضع بالتالي لقانون محل التصرف

وقد طرحت مشكلة التكييف في إطار تنازع القوانين مبكرا، عبر عدة قضايا شهيرة كقضية ميراث المالطي، و وصية الهولندي، و زواج اليوناني. وترتب على ذلك بروز عدة اتجاهات فقهية لحل هذه المسألة ليس هنا مجال لعرضها جميعا، غير أن أبرز هذه الاتجاهات هو الاتجاه الذي يخضع التكييف لقانون القاضي و هو الاتجاه الذي تبناه المشرع الجزائري بموجب المادة 09 من القانون المدني.

ويعتبر الفقيه الفرنسي بارتن “BARTIN” أبرز رواد نظرية إخضاع التكييف لقانون القاضي و تبعه في ذلك الإتجاه الفقهي الغالب قديما و حديثا، و تستند هذه النظرية في إخضاعها التكييف لقانون القاضي لعدة أسس، أهمها أن التكييف لا يعدو أن يكون في الحقيقة إلا تفسيرا لقاعدة الإسناد الوطنية و بالتالي من المنطقي إخضاعه لقانون القاضي، و منها أيضا أن القاضي في قيامه بعملية التكييف يتأثر حتما بالمفاهيم القانونية المستقاة من قانونه الوطني

و يفرق هذا الاتجاه الفقهي بين التكييف الأوليLa qualification préalable و هو التكييف اللازملأعمال قاعدة الإسناد و يخضع لقانون القاضي و التكييف الثانويLa qualification secondaireو الذي يكون وفقا للقانون الذي عينته قاعدة الإسناد، كتكييف ما إذا كان العقد يشكل عقد أو هبة أو إيجار. غير أن الفقيه الفرنسي بارتن أورد استثناء وحيدا على نظريته و هو ضرورة الرجوع إلى قانون موقع المال،و ليس قانون القاضي الوطني لتحديد وصف هذا الـمال أي ما إذا كان يـشكل عـقـارا أو منقولا

بالاستثناء الذي أورده بارتن على نظريته بخصوص الأموال و هكذا فقد نصت المادة 17/1″يخضع تكييف سواء كان عقارا أو منقولا إلى قانون الدولة التي يوجد فيها”.

الـــفـــرع الـــثـــالـــث:الإحـــالـــة

قد تشير قاعدة الإسناد باختصاص قانون أجنبي لحكم العلاقة القانونية المطروحة على القاضي، غير أن نصوص هذا القانون الخاصة بتنازع القوانين ترفض هذا الاختصاص و تحيله إما إلى قانون القاضي مرة أخرى، و هذا ما يسمى بالإحالة من الدرجة الأولى، و إما إلى قانون أجنبي آخر، و هو ما يسمى بالإحالة من الدرجة الثانية و هو ما يطرح أمام القاضي الوطني مشكلة الإحالة، فهل يقبل الإحالة من القانون الأجنبي، أم يرفضها و يطبق القواعد الموضوعية لذلك القانون دون الإلتفات إلى القواعد الخاصة بالتنازع؟

وتنبع مشكلة الإحالة من اختلاف ضوابط الإسناد بالنسبة للفئة المسندة الواحدة من دولة إلى أخرى فعلى سبيل المثال تعتبر الجنسية ضابط الإسناد في مسائل الحالة و الأهلية في القانون الجزائري، بينما يعتبر موطن الشخص هو ضابط الإسناد في مثل هذه المسائل في القانون الانجليزي، و هو ما يعني أنه إذا أحالت قاعدة الإسناد الجزائرية إلى القانون الإنجليزي على أساس أنه قانون جنسية الشخص، فإن هذا الأخير سوف يحيلنا إلى قانون آخر إذا لم يكن هذا الشخص متوطنا في إنجلترا.

و قد تعددت الآراء و الإجتهادات الفقهية في مدى قبول الإحالة، و ما يهمنا هنا هو موقف المشرع الجزائري الذي أفصح عنه بموجب التعديل الجديد للقانون المدني، إذ جاء في المادة 23 مكرر 1

“إذا تقرر أن قانونا أجنبيا هو الواجب التطبيق فلا تطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون تلك الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان غير أنه يطبق القانون الجزائري إذا أحالت عليه قواعد تنازع القوانين في القانون الأجنبي “.

و هكذا فإن المشرع الجزائري أخذ بالإحالة من الدرجة الأولى أي عند ما تحيل قواعد تنازع القانون الأجنبي على القانون الجزائري، بينما رفض الإحالة في الحالات الأخرى.

و هو التكييف اللازملأعمال قاعدة الإسناد و يخضع لقانون القاضي و التكييف الثانويLa qualification secondaireو الذي يكون وفقا للقانون الذي عينته قاعدة الإسناد، كتكييف ما إذا كان العقد يشكل عقد أو هبة أو إيجار. غير أن الفقيه الفرنسي بارتن أورد استثناء وحيدا على نظريته و هو ضرورة الرجوع إلى قانون موقع المال،و ليس قانون القاضي الوطني لتحديد وصف هذا الـمال أي ما إذا كان يـشكل عـقـارا أو منقولا

الـمطـلـب الـثـانـي:مدى الـتزام الـقاضـي الوطـني بـتـطـبيق قـاعدة الإسـنـاد تـلقائيا

انتهينا في المطلب الأول، إلى أن المشرع قد وضع كمنهج لحل تنازع القوانين قواعد إسناد وطنية ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على النزاع، غير أن التساؤل الذي يطرح هنا هو حول مدى التزام القاضي بتطبيق هذه القاعدة، خصوصا إذا لم يتمسك الأطراف في الدعوى بتطبيقها، و ظهر للقاضي من أوراق الدعوى وجود العنصر الأجنبي في العلاقة القانونية، و هو ما يعني ارتباطها بأكثر من قانون واحد قد يحكمها، أي من شأن هذه العلاقة أن تثير تنازعا في القوانين.

إن الإجابة على هذا التساؤل لا تثير أي صعوبة إذا كان القانون الوطني هو المختص، فتطبيق القاضي للقانون الوطني مباشرة يعتبر تطبيقا ضمنيا لقاعدة الإسناد، لكن الإشكال يكمن في حالة ما إذا كان القانون الأجنبي هو المختص، و لم يثر الأطراف في الدعوى تطبيق قاعدة الإسناد إما لأنهم لا يعلمون بها، أو تعمدوا السكوت عنها، فهل يطبق القاضي قاعدة الإسناد تلقائيا كلما ظهر له العنصر الأجنبي في العلاقة؟

لقد تعددت الإجابات حول هذه المسألة في الفقه والقضاء المقارن، فهناك اتجاه يكرسه القضاء في البلاد الأنكلوسكسونية مناهض لمبدأ تطبيق القاضي لقاعدة الإسناد من تلقاء نفسه، و هناك اتجاه في الدول الأخرى يتبنى موقفا معاكسا للموقف الأول، وبين هاذين الاتجاهين تتبنى محكمة النقض الفرنسية موقفا خاصا من هذه المسألة، أما في الجزائر فإن القضاء لم يتناول بعد هذه المسألة، كما أن المشرع الجزائري لم يأت بنص صريح في شأنها.

الــفـرع الأول: الاتـجـاه المـناهـض لـمـبدأ تـطـبيق القـاضي لقاعدة الإسناد مـن تلقاء نفسه

هذا الاتجاه يكرسه القضاء في انجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية و كندا و البلاد الأنكلوسكسونية بصفة عامة، و مفاده أنه يقع على عاتق الطرف في الدعوى الذي يتمسك بتطبيق قاعدة الإسناد التي تشير باختصاص قانون أجنبي أن يثيرها أمام القاضي، و يثبت أن القانون الأجنبي الذي يتمسك به يختلف مضمونه عن القانون الوطني في المسألة القانونية محل النزاع، و إذا لم يتمكن من ذلك فإن القاضي يطبق قانونه الوطني. و يؤسس هذا القضاء موقفه على أساس افتراض أو “حيلة قانونية ” مفادها أن هناك تطابقا بين القانون الوطني و القانون الأجنبي المختص بموجب قاعدة الإسناد و على من يدعي خلاف ذلك أن يتمسك بتطبيق هذه القاعدة و يثبت اختلاف مضمون القانون الأجنبي

BISBAL” الشهير الصادر في 12 ماي 1959، حيث تبنى هذا القرار موقفا قريبا من موقف القضاء في البلاد الأنكلوسكسونية إذا جاء فيه “أن قواعد الإسناد الفرنسية لا تتعلق بالنظام العام على الأقل، حين تشير باختصاص القانون الأجنبي و أنه على الأطراف التمسك في هذه الحالة بتطبيقها، و من ثم فإنه لا يمكن النعي على محكمة الموضوع لعدم تطبيقها القانون الأجنبي تلقائيا، و تطبيق القانون الفرنسي الذي له الصلاحية لحكم جميع علاقات القانون الخاص”

و قد أثار هذا الموقف انتقادا حادا من جانب الفقه الفرنسي، الذي أخذ عليه إعطاءه قاعدة الإسناد طبيعة قانونية مختلفة حسبما إذا كانت تشير بتطبيق القانون الفرنسي أو القانون الأجنبي، ففي الحالة الأولى تعتبر قاعدة آمرة من النظام العام و في الحالة الثانية لا تعتبر كذلك، كما أنه وفقا لهذا الاجتهاد فإن الخصوم يمكنهم التحايل على قاعدة الإسناد الوطنية باتفاق مشترك بينهم على عدم التمسك بها، و هو ما كان في قضية قرار بيسبال إذ أن الزوجين الإسبانيين حصلا على الطلاق وفقا للقانون الفرنسي رغم أن القانون الإسباني كان يسمح في ذلك الوقت بالانفصال الجسماني فقط و لم يكن يسمح بالطلاق

وقد خففت بعد ذلك المحكمة من حدة موقفها فسمحت للقاضي بموجب قرارها الصادر في 02 مارس 1960 أن يطبق تلقائيا قاعدة الإسناد، غير أنها لم تلزمه بتطبيقها بل تركت له الاختيار، و في قرار لها بتاريخ 09 مارس 1984 اعتبرت أن القاضي يكون ملزما بتطبيق قاعدة الإسناد إذا كانت المنازعة تتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، كما أنها ألزمت القاضي في قرار لها صادر بتاريخ 04 مارس 1986 بتطبيقها إذا كان مصدر هذه القاعدة اتفاقية دولية عرض ادها القضائي و المراحل المختلفة التي مر بها.

نقطة البدء في تطور هذا الاجتهاد ترجع إلى قرار بيسبال “BISBAL” الشهير الصادر في 12 ماي 1959، حيث تبنى هذا القرار موقفا قريبا من موقف القضاء في البلاد الأنكلوسكسونية إذا جاء فيه “أن قواعد الإسناد الفرنسية لا تتعلق بالنظام العام على الأقل، حين تشير باختصاص القانون الأجنبي و أنه على الأطراف التمسك في هذه الحالة بتطبيقها، و من ثم فإنه لا يمكن النعي على محكمة الموضوع لعدم تطبيقها القانون الأجنبي تلقائيا، و تطبيق القانون الفرنسي الذي له الصلاحية لحكم جميع علاقات القانون الخاص”

و قد أثار هذا الموقف انتقادا حادا من جانب الفقه الفرنسي، الذي أخذ عليه إعطاءه قاعدة الإسناد طبيعة قانونية مختلفة حسبما إذا كانت تشير بتطبيق القانون الفرنسي أو القانون الأجنبي، ففي الحالة الأولى تعتبر قاعدة آمرة من النظام العام و في الحالة الثانية لا تعتبر كذلك، كما أنه وفقا لهذا الاجتهاد فإن الخصوم يمكنهم التحايل على قاعدة الإسناد الوطنية باتفاق مشترك بينهم على عدم التمسك بها، و هو ما كان في قضية قرار بيسبال إذ أن الزوجين الإسبانيين حصلا على الطلاق وفقا للقانون الفرنسي رغم أن القانون الإسباني كان يسمح في ذلك الوقت بالانفصال الجسماني فقط و لم يكن يسمح بالطلاق

وقد خففت بعد ذلك المحكمة من حدة موقفها فسمحت للقاضي بموجب قرارها الصادر في 02 مارس 1960 أن يطبق تلقائيا قاعدة الإسناد، غير أنها لم تلزمه بتطبيقها بل تركت له الاختيار، و في قرار لها بتاريخ 09 مارس 1984 اعتبرت أن القاضي يكون ملزما بتطبيق قاعدة الإسناد إذا كانت المنازعة تتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، كما أنها ألزمت القاضي في قرار لها صادر بتاريخ 04 مارس 1986 بتطبيقها إذا كان مصدر هذه القاعدة اتفاقية دولية

و في تطور لاحق أصدرت المحكمة قرارين متتاليين بتاريخ 11 و 18 أكتوبر 1988 نقضت فيهما حكم قاضي الموضوع بحجة أنه” فصل في الدعوى دون أن يبحث إذا اقتضى الأمر تلقائيا«au besoin d’office« أثر القانون الأجنبي المختص على الطلب القضائي موضوع الدعوى، في حين أن المادة 12/1 من قانون الإجراءات المدنية الجديد تلزمه بالفصل في النزاع طبقا للقواعد القانونية التي تطبق عليه”. و هذا بالرغم من أن الأطراف في كلتا القرارين لم يثيروا تطبيق قاعدة الإسناد التي تمنح الإختصاص للقانون الأجنبي .

غير أن محكمة النقض الفرنسية لم تثبت على هذا الإجتهاد و تراجعت عنه في قرارات لاحقة، إذ قررت في حكم لها صادر بتاريخ 04/12/1990 أن القاضي غير ملزم بالتطبيق التلقائي لقاعدة الإسناد، إلا إذا كان مصدرها اتفاقية دولية أو تعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، و في حكم لها صادر بتاريخ 26 ماي 1999 ضيقت من نطاق هذه القاعدة و قضت بأنه حتى و لو كانت قاعدة النزاع ذات مصدر اتفاقي فإن القاضي يمكنه ألا يطبقها تلقائيا إذا لم يتمسك الخصوم بها

وما يمكن استخلاصه من كل هذا القرارات و الإجتهادات، هو أن موقف محكمة النقض الفرنسية قد استقر على الأقل في الوقت الحالي، على أن القاضي الموضوع ليس ملزما بتطبيق قاعدة الإسناد تلقائيا إلا إذا تعلق النزاع بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، رغم أن هذا المفهوم أي مفهوم الحقوق التي لا تجوز للأطراف التصرف فيها يبقى غامضا و ليس محددا في جميع الحالات .

للقاضي بموجب قرارها الصادر في 02 مارس 1960 أن يطبق تلقائيا قاعدة الإسناد، غير أنها لم تلزمه بتطبيقها بل تركت له الاختيار، و في قرار لها بتاريخ 09 مارس 1984 اعتبرت أن القاضي يكون ملزما بتطبيق قاعدة الإسناد إذا كانت المنازعة تتعلق بحقوق لا يجوز للأطراف التصرف فيها، كما أنها ألزمت القاضي في قرار لها صادر بتاريخ 04 مارس 1986 بتطبيقها إذا كان مصدر هذه القاعدة اتفاقية دولية