بحث قانوني في المشتري الشفيع كغيره من الشفعاء استحقاقًا ومزاحمة

نقدًا لحكم محكمة استئناف أسيوط المؤرخ 3 مارس 1927
ولحكم محكمة طنطا المؤرخ 17 مايو 1920
لحضرة الأستاذ الفاضل حامد بك فهمي

قد يكون مشتري الصفقة شفيعًا فيها، فهل يكون له من شرائه ما يتميز به على غيره من الشفعاء؟ أم يتزاحم معهم على مقتضى المادة السابعة من قانون الشفعة، فيزحمهم إن كان أقواهم سببًا، ويزحمونه إن قوى سببهم على سببه، ويتقاسمون إذا تساووا في السبب.
أما أنه يشفع فلا خلاف فيه، إذ لا يمكن اعتبار شرائه إعراضًا عن الشفعة، ولا التمسك بها سعيًا منه في نقض شرائه، كما لا خلاف في تقدمه على غيره من الشفعاء أو تقدمهم عليه بقوة السبب، إنما الخلاف عند التساوي فيه: ففريق يرى تقسيم الصفقة بينهم وفريق يؤثر بها المشتري على غيره منهم.
ولما كانت المسألة كثيرة الوقوع، وكان الحق فيها عندنا لا يعدو مساواة المشتري لغيره من الشفعاء مفاضلة بقوة السبب عند اختلافه، ومقاسمته عند التساوي فيه، على خلاف ما قضت به محكمة استئناف أسيوط بحكمها المؤرخ 3 مارس 1927 (راجع المحاماة سنة 7 صـ 814) ومحكمة طنطا بحكمها المؤرخ 17 مايو سنة 1920 (راجع المحاماة السنة الأولى صـ 340) لذلك رأينا نشر هذا المقال بيانًا لرأينا، ونقدًا لهذين الحكمين فنقول:

الفقه الإسلامي:

من الحق – وقد تلقى الشارع المصري أحكام الشفعة عن هذا الفقه – أن أبتدئ بدرس المسألة فيه، وتأصيل حكمها على المختار من أصوله، لا أقصد من ذلك إيجاب العمل بأحكام الشريعة الإسلامية في مادة هي المشرعة لها، وإنما لأقف بالقارئ عند أصل علة الشفعة فيها، وأريه كيف لم يحفل فقهاؤها – وهم أول من قال إن الشفعة شرعت لدفع ضرر الشريك الدخيل أو الجار الحادث – بما يظهر من انتفاء هذا الضرر إذا كان المشتري شريكًا أو جارًا، وليعلم أن حكم التسوية بين المشتري وغيره من الشفعاء جرى فيها مجرى الأصول فيطيب له الأخذ به على اعتباره مقتضى النظر الفقهي.
صح عن الشارع الإسلامي، عند أبي حنيفة وأصحابه، ثلاثة نصوص تثبت الشفعة للشريك في العقار، ثم للخليط في حقوقه، ثم للجار، فاعتبروها أصلاً في باب الشفعة، واستثمروها بنظرهم الفقهي، فكان لهم منها ما نعرف من أحكام كثيرة.
بحثوا عن علة الشفعة: فلاحظوا أن هذه النصوص تثبت الشفعة للشريك ثم للخليط ثم للجار، وهي أسماء مشتقة من معانٍ معروفة، ولما كان من أصولهم أن من مسالك العلة التنبيه في الأحكام على أسبابها المترتبة عليها بالتسبيب، وأن الحكم متى علق باسم مشتق كان معناه هو الموجب للحكم، وبخاصة إن كان مؤثرًا فيه، لذلك اعتبروا أن سبب الشفعة، الذي هو بمعنى العلة اتصال ملك الشفيع بالعين المبيعة اتصال شركة أو خلطة أو جوار، لأن هذا الاتصال هو سبب الضرر الذي قصد الشارع رفعه بشرعة الشفعة (راجع المبسوط جزء 13 صـ 9).

وقد جرى علماء الأصول في هذا على ما اختاروه في تعليل الأحكام غير المنصوص على علتها، من الجري مجرى الشارع فيما نص على علله، من الدأب على إضافة الحكم إلى وصف ظاهر منضبط مشتمل على الحكمة المقصودة من شرعته، أو رد الناس إلى مظانها، إن كانت الحكمة خفية أو مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال (راجع الآمدي جزء 3 صـ 29).
فلما استقام لهم أن الحكمة من مشروعية الشفعة هي دفع ضرر الشريك الدخيل أو الجار الحادث، وأن هذا الضرر غير منضبط، أقاموا مقامه مظنته، وهي الاتصال بالشركة أو الخلطة أو الجوار، ولهذا لم يوجبوا تحقق وجود الحكمة في كل شفعة، والتزموا اطرادًا لحكم ما توافرت مظنته، وُجدت الحكمة أو لم توجد، فأثبتوا الشفعة لكل شريك أو خليط أو جار ما تباينت أشخاصهم واختلفت صفاتهم من سن ودين وعدالة وبغي، وُجد الضرر أو لم يوجد، كما أثبتوها للمشتري يزحم بها غيره من الشفعاء إذا كان أقوى منهم سببًا، ويزحمونه إذا قوي سببهم على سببه، ويتقاسمونها إذا تساووا في السبب (راجع تنقيح الحامدية صـ 181 جزء أول وابن عابدين جزء 5 صـ 144 وصـ 157 والمادة 104 من مرشد الحيران والمعاملات للشيخ أحمد أبي الفتح جزء أول صـ 69).
وأنت ترى من هذا أن حكم الأخذ بالشفعة من مشترٍ شفيع وإن لم يرد به نص عن الشارع فقد عُرف من مجرد قيام سببها بكونه شريكًا أو جارًا، ذلك السبب الذي هو في معنى العلة، أو هو مظنة الحكمة المقصودة من شرعة الشفعة، فتراهم مع تقريرهم أنها شرعت لدفع ضرر الشريك الدخيل أو الجار الحادث، لم يعتبروا هذا الضرر علة يدور معلولها معها وجودًا وعدمًا، وإنما اعتبروا مظنتها: فأطلقوا الحكم لكل شريك ولكل جار، وأخذوا بقوة السبب في الترجيح، فقدموا الشريك على الخليط ثم هو على الجار، فاستقام لهم أن يقاسم الشريك أو الجار من اشترى الصفقة شريكًا أو جارًا، وأن يشفع الشريك من المشتري الجار، ولا يشفع الجار من المشتري الشريك.

أحكام القانونين المختلط والأهلي:

كانت الشفعة في القانونين لمن أعار أرضه لآخر وأذن له بالبناء عليها أو الغراس فيها (مادة 93/ 68) ثم للشريك في عقار غير مقسوم (94/ 69) ثم للجار (99/ 73) وكانت المادة (94/ 69) تنص على أن الشريك مقدم على غيره عدا المالك الآذن بالبناء أو الغراس، وكان نص المادة (99) من القانون المختلط يجيز للشريك الأخذ من مشترٍ شريك ويوجب عليه تقسيم ما أخذه بين جميع شركائه إذا طلبوا ذلك، ولم يرد بالقانون الأهلي نص يقابل هذا النص وكان من وراء عدم نص القانونين على حكم الشفعة عند تعدد الجيران، وعدم نص القانون الأهلي على حكمها عند تعدد الشفعاء المتساوين في الاستحقاق، أن اضطربت أحكام المحاكم في قضايا الشفعة: فقضت محكمة الاستئناف المختلطة بحكمها المؤرخ 14 يناير سنة 1892 بأن لا شفعة لجار من مشترٍ جار (راجع مجموعة الأحكام سنة رابعة صـ 133) ثم حكمت بحكمها المؤرخ 12 يونيه سنة 1895 بأنه عند تعدد الجيران يجب تقسيم المشفوع فيه بينهم ولو كان المشتري جارًا (راجع المجموعة سنة سابعة صـ 391 ونشر في مجموعة لاتنر جزء أول تحت نمرة 4398) – ومن المهم أن ننوه هنا بأن المحاكم المختلطة كانت تأخذ في الشفعة بأحكام الشريعة الإسلامية فيما سكت القانون عنه (راجع حكم 25 فبراير سنة 1892 (المجموعة الرسمية جزء 4 ص 136)) إذ قالت فيه: لخلو القانون من نصوص تنظم شفعة الجيران يجب الرجوع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام أبي حنيفة وهذا المذهب يوجب القسمة بينهم على قدر الرؤوس.
كذلك اضطربت أحكام المحاكم الأهلية فقضت محكمة الإسكندرية الاستئنافية بحكمها المؤرخ 29 إبريل سنة 1897 بجواز الأخذ من المشتري الشفيع ومقاسمة طالب الشفعة له إن كانا من مرتبة واحدة (راجع القضاء سنة 4 صـ 357) وحكمها المؤرخ 30 ديسمبر سنة 1897 (راجع القضاء سنة 5 صـ 79) وخالفتها محكمة استئناف مصر بحكمها المؤرخ 17 نوفمبر سنة 1898 (راجع القضاء سنة 6 صـ 129) وحكمها المؤرخ 15 ديسمبر سنة 1898 (القضاء سنة 6 صـ 171) وحكمها المؤرخ 15 يونيه سنة 1899 (راجع الحقوق سنة 14 صـ 190) وهو ما قضت به محكمة مصر الاستئنافية كذلك بحكمها المؤرخ 26 نوفمبر سنة 1898 (راجع القضاء سنة 6 صـ 179) وقد جاء بالحكم المؤرخ 17 نوفمبر سنة 1898 – وهو ما كثر التعويل عليه: أن الغرض من الشفعة هو دفع ضرر الشركة أو الجوار الذي يحدث بعد بيع العقار المشترك أو المجاور لكونها مظنة الأذى، وأن لا محل لها إذا كان المشتري شريكًا أو جارًا، لأن نسبة الشفيع والمشفوع منه لم تتغير: فهما متجاوران أو شريكان في الصفقة من قبل، وفي جواز الشفعة ترجيح لصفة طالب الشفعة على صفة المشفوع منه مع كونها واحدة، ولا يصح أن يكون شراء المشفوع منه مضعفًا لصفة الجوار أو الشركة، وقسمة العقار بينهما لا تدفع جوارًا أو شركة، وتجويزها يحول الغرض من الشفعة عن كونه دفع جوار أو شركة طارئة إلى كونه جلب منفعة للشفيع إضرارًا بالمشتري، وهو مخالف للعدالة ومناقض لمبادئ القانون – وستعرف فيما بعد ما في هذه الأسباب من خطأ على طلاوة عبارتها.

قانون الشفعة الجديد:

صدر قانون الشفعة للمحاكم المختلطة في 26 مارس 1900 (بعد أن مر على الهيئات القانونية المشرعة له) ثم صدر بنفس نصوصه للمحاكم الأهلية في 23 مارس سنة 1901.
وقد ابتدأ هذا القانون بذكر من يكون شفيعًا ومشفوعًا منه ومن لا يكون، وما يشفع فيه وما لا يشفع.
فأثبت الشفعة في المادة الأولى للشريك الذي له حصة شائعة في العقار ثم للجار، ثم عد في المادة الثانية صاحب حق الانتفاع شريكًا أثبت له الشفعة بعد مالك الرقبة، فكان المستحقون للشفعة عنده على مراتبهم: مالك الرقبة ثم الشريك ثم صاحب حق الانتفاع ثم الجار، أثبتها لهم بهذه الأوصاف المضبوطة المعروفة ثم استثنى الوقف في المادة الرابعة فمنعه من أن يكون شفيعًا.
ومنع الشفعة بالمادتين الخامسة والثالثة فيما وقع تمليكه بغير بيع، أو بيع بالمزايدة لعدم إمكان القسمة بين الشركاء عينًا أو لنزع الملكية جبرًا أمام الإدارة أو القضاء، أو بيع ليجعل محل عبادة أو ملحقًا به – ومنعها من أصل أو فرع أو زوج أو قريب إلى الدرجة الثالثة من القرابة اشترى من فرعه أو أصله أو زوجه أو قريبه.
ثم ذكر حكم تعدد الشفعاء ومراتبهم في المادة السابعة، فابتدأ بترتيبهم على قوة اتصالهم بالعقار المشفوع فيه، الأقوى فالقوي فالذي يليه من مالك الرقبة إلى الشريك إلى صاحب حق الانتفاع إلى الجار، ثم قسم الشفعة بينهم إذا كانوا مالكي رقبة أو شركاء أو أصحاب حق انتفاع، وخصصها عند تعدد الجيران بمن تعود منفعة الشفعة على ملكه أكثر من غيره.
وقد فهم من شرح هذا القانون من فقهائنا أن المشتري الشفيع لا يفضل بشرائه غيره من الشفعاء المساوين له في الرتبة، وأنه وإياهم يتزاحمون ويتقاسمون على مقتضى ما ذكر بالمادة السابعة (راجع شرح القانون المدني لفتحي باشا صفحة 913 ودوهلس تحت كلمة شفعة فقرة 46 و87 و91 جزء ثالث وفقرة 18 صـ 140 جزء رابع تحت كلمة (استرداد) وعلي بك زكي العرابي في كتابه الشفعة في القوانين المصرية صـ 42 فقرة 68 طبعة سنة 1906) بل صرح أسبقهم في الشرح وهو العرابي بك بأن المادة الثامنة جاءت حاسمة في المسألة بعد اختلاف المحاكم فيها.
تلقى المشتغلون بالقانون هذا الإجماع عن فقهائهم بالرضاء وتداولوه درسًا وعملاً حتى خالفته محكمة طنطا الابتدائية الأهلية بحكمها المؤرخ 17 مايو سنة 1920 (راجع المحاماة سنة 1 صـ 340)، وحذت حذوها محكمة الإسكندرية بحكمها المؤرخ 2 إبريل سنة 1923 (راجع المحاماة سنة 4 صـ 140) ثم محكمة استئناف أسيوط بحكمها المؤرخ 3 مارس سنة 1927.

مبدؤنا:

والذي أراه أن الشارع المصري لما اعتبر علة الشفعة الاتصال بالشركة أو الجوار كما اعتبرها الشارع الإسلامي، وأن الترجيح [(1)] يجب أن يكون بقوة العلة ثم بكثرتها أخذًا بمذهب الشافعية، فاضل بين المختلفين علة، على ترتيب العلة قوةً وضعفًا، وبين المتساوين، على نسبة ما لكلٍّ منها، فقسم الصفقة بينهم كل بقدر نصيبه ثم استثنى الجيران فاعتبر الكثرة من العلة في الجوار بكثرة المنفعة التي تعود على الملك من الأخذ بالشفعة.
وبهذا كانت المادة السابعة عندنا تشمل حكم الترجيح بقوة العلة ثم بكثرتها، وما تراه فيها من التقسيم على قدر الملك بين مالكي الرقبة أو الشركاء أو أصحاب حق الانتفاع هو ترجيح بينهم بكثرة العلة، وأرى أنه بعد أن فرغ من حكم الترجيح بين الشفعاء في المادة السابعة، أراد أن يحسم ما قام من خلاف في قضاء المحاكم على جواز الأخذ من مشترٍ شفيع، فوضع بالمادة الثامنة حكم جوازه دالاً على الرغبة في رفع توهم من ظن أن شراء الشفيع يُحسب ميزة له على غيره من الشفعاء – ولي في الاستدلال على ذلك مسلكان:

المسلك الأول: (إشارات لغوية بدت لنا في الأصل الفرنسي لقانون الشفعة: وكان واجبًا علينا الرجوع إليه لأن قانونها الصادر للمحاكم المختلطة هو الذي وضع أولاً فوافقت عليه الدول وصدر باللغة الفرنسية.
فإذا رجعت إليه وجدت الفقرة الأخيرة من المادة السابعة بهذا النص:

Entre voisins, la préférence appartiendra á celui qui peut tirer de la préemption un plus grand avantage pour son fonds.

وترجمته: (وإذا تعدد الجيران فالترجيح لمن تعود على ملكه من الشفعة منفعة أكثر من غيره).
ووجدت المادة الثامنة بهذا النص:

Le droit de préemeption subsiste et la régle établie á l’article précédant qui détermine la préférence est applicable même dans le cas où l’acquéreur se trouverait dans les conditions prévues á l’article premier pour se rendre lui – même préempteur.

وترجمته: (وتظل الشفعة قائمة وتراعى القاعدة المذكورة في المادة السابقة المبينة للترجيح حتى إذا توافر في المشتري من الشروط ما يجعله شفيعًا حسب ما ذكر في المادة الأولى).
وإليك أهم ما لفت نظرنا وعنينا بنقله حفظًا لمعنى الأصل الفرنسي:
رأينا الشارع استعمل في المادة الأولى المبينة من يكون شفيعًا لفظ appartenir الذي هو بمعنى (التعلق) للدلالة على استحقاق الشفعة، واستعمل في المادة الثامنة لفظ “subsister” الذي هو بمعنى (البقاء) للدلالة على بقاء حكم الشفعة ثابتًا، ورأينا الأصل العربي لا يشعر بهذا الفرق إذ تجد فيه المعنيين بلفظ واحد هو قوله (تثبت الشفعة).
وترى النص الفرنسي يستعمل في الفقرة الأخيرة من المادة السابعة لفظ “préférence“ الذي هو بمعنى (الأفضلية) للدلالة على ما يفضل به جار جارًا في موجب الانتفاع بالشفعة، ويعيد استعمال هذا اللفظ في المادة الثامنة بمعنى الأفضلية مشارًا إليها بأنها المبينة بالمادة السابعة، مع أنك ترى النص العربي قد عبر عن هذا المعنى في المادة السابعة بقوله (يقدم) وفي المادة الثامنة بقوله (فيما يتعلق بالأولوية)، فكأنه استعمل لفظين لمعنى واحد، وقد نقلناه عن الفرنسية بلفظ واحد في المادتين واخترنا له (الترجيح) عوضًا عن الأولوية، لما بين لفظي (préférence) و(priorité) من فارق المعنى، إذ الكلمة الثانية (priorité) تدل على معنى التقدم بالدرجة أو بالزمن، والأولى (préférence) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما عن الآخر فيها.
ولا يفوتك النظر إلى لفظ (même) في المادة الثامنة واستعماله ظرفًا للدلالة على معنى (حتى الغائبة)، المفيدة لدخول ما بعدها في حكم ما قبلها المضمر، كما نقول في الفرنسية.

Ne faîtes jamais du mal même à vos ennemis.

(لا تعمل سوءًا حتى مع أعدائك) وكما تقول (احتقره الناس حتى العبيد)، و(زاره أشراف المدينة حتى الأمير) وإن كان الاستعمال العربي جرى على إظهار ما قيل حتى كما ترى.
وإنك إذا قرأت نص الفقرة الأخيرة من المادة السابعة ونص المادة الثامنة على ما ترجمناه به استقام لك منهما ما فهمناه.
ألا ترى أن الشارع – بعد أن عرفك من يكون شفيعًا ومن لا يكون، وما تكون فيه الشفعة وما لا تكون، وذكر لك من لا شفعة منه، فعرفت من يشفع منه – وبعد أن بيّن لك في المادة السابعة ما يكون به الترجيح بين الشفعاء – أراد رفع توهم أن لا يشفع من مشترٍ هو شفيع فأثبت في المادة الثامنة استحقاق الشفعة منه بلفظ دال على البقاء إشعارًا بهذا المعنى وساوى بينه وبين غيره من الشفعاء في وجوب مراعاة قاعدة الترجيح السابقة الذكر في المادة السابعة وأشار إلى هذا المعنى باستعمال لفظة (même) فكأنه قال (وتظل الشفعة لمستحقها ويراعى حكم الترجيح المقرر في المادة السابعة على كل مشترٍ حتى إذا كان شفيعًا، فإذا قدمت الشرط على الجزاء قلت وإذا كان المشتري شفيعًا فالشفعة لمن استحقها بمراعاة حكم الترجيح الواردة في المادة السابعة).
وإذن فمفهوم هذا النص أن حكم استحقاق الشفعة وحكم الأفضلية بين الشفعاء يبقيان على أصلهما إذا كان المشتري شفيعًا، فيزحم غيره من الشفعاء بقوة سببه ويزحمونه كذلك بقوة السبب ويقاسمهم ويقاسمونه إذا كانوا من درجة واحدة إلا إذا كانوا جيرانًا فالأفضلية لأكثر منفعة، من الآخذ بالشفعة.

المسلك الثاني: أصول الفقه القانوني، لم يُعنَ علماء القانون بالوضع والتأليف في الأصول، إلا من عهد سالي وجيني وأمثالهما، وهؤلاء مع تعمقهم في البحث ووضع النظريات القانونية الحديثة لا ترى لهم في مثل ما عُني به علماء الأصول في الفقه الإسلامي، كالقياس والعلة، ما لهؤلاء من استيعاب وتعمق، وللفقه القانوني مع ذلك أصول – فمن أصوله أن أحكام القانون معللة بما تجلبه من المصالح وتدرؤه من المفاسد، ومن مسالك العلل فيه التنبيه على أسباب الأحكام المترتبة عليها بالتسبيب، والقانون لا يعلل أحكامه إلا بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، فإن لم يجد وصفًا ظاهرًا منضبطًا، أقام مقامه مظنته المشتملة عليه في الغالب، وعندئذٍ لا يهمه ظهرت العلة أو خفيت، إذ العبرة تكون عنده بمظنتها، وهي التي يدور الحكم معها وجودًا وعدمًا.
اعتبر ذلك في المظنات القانونية من جميع أبواب القانون وراجع ما كتبه جيني عن المظنات في كتابه المسمى (Méthode et sources du droit positif) وانظر إلى الشارع الفرنسي في تعليل ثبوت النسب بمجيء الولد لمائة وثمانين يومًا من عقد الزواج لا بالوطء والعلوق، لخفائهما وعدم انضباطهما، وإلى الشارع المصري في تعليل ثبوت الحق وعدم قبول المخاصمة فيه، بالحكم النهائي، لا بالحكم الصائب الذي هو علته، لخفائه وقيام مظنته الدالة عليه في الغالب مقامه، وفي تعليل ثبوت الرشد ببلوغ السن، وفي تعليل عدم جواز المعارضة في الأحكام الغيابية، بفوات أربعٍ وعشرين ساعة بعد وصول ورقة متعلقة بالتنفيذ لمحل المحكوم عليه، لعدم انضباط العلم بالحكم أحيانًا ولخفائه أحيانًا أخرى، وفي تعليل سقوط بعض الحقوق بعدم استعمالها في أوقاتها المحددة لها، لخفاء معنى الرضاء بالتنازل الضمني عنها أحيانًا.
عندئذٍ تعلم أن الشارع متى أقام مظنة العلة مقامها لحكمٍ ما، وجب على الفقيه الأخذ بالمظنة ما وُجدت، تحققت العلة أو لم تتحقق، فالولد ابن الزوج ولو لم يحصل العلوق منه بل ولو لم يحصل الوطء، وبالغ السن رشيد ولو لم يكن رشيدًا في الواقع، والمعارضة ساقطة بفوات الميعاد، ولو لم يعلم المحكوم عليه غيابيًا بالحكم.
فإذا كانت الشفعة شرعت لعلة دفع ضرر الشريك الحادث، فالشارع لخفائها أحيانًا ولعدم انضباطها أقام مظنتها مقامها، وهي اتصال الملك بالشركة أو الجوار، فما عليك إذن في سبيل العلم بمن يكون شفيعًا ومن لا يكون، إلا التحقق من وجود المظنة، ثبت الضرر أو انتفى.
وعلى هذا يكون الشفيع من قام به سبب من أسباب الشفعة ولو كان مشتريًا وانتفى الضرر الحادث من شرائه، لوجوده شريكًا أو جارًا من قبل، ويجب أن يجري حكم المشتري الشفيع من حيث جواز الأخذ منه وعدم جوازه، ومن حيث المفاضلة بينه وبين غيره من الشفعاء، ومقاسمتهم معه، مجرى حكم غيره منهم، ولذا تكون المادة السابعة هي التي تفيدنا بعمومها، حكم جواز الأخذ من المشتري الشفيع، وحكم مزاحمته لغيره من الشفعاء أما المادة الثامنة فقد قلنا إنها لم ترد نصًا في ذلك وإنما جاءت لدفع توهم عدم جواز الأخذ من مشترٍ شفيع.
هذا مبدؤنا في الشفعة، أقمناه على نصوص قانونها، لم نخصص منها عامًا ولم نقيد منها مطلقًا، ولم نلجأ فيه إلى مفهوم المخالفة وهو على ما سترى من ضعفه عند الأصوليين، فجاء مبدؤنا منطبقًا على أصول القانون متفقًا مع حكم الفقه الإسلامي، موافقًا لأصوله.

المذهب المخالف:

ولم يخالفنا في مبدئنا شارح لقانون الشفعة من فقهائنا (زكي بك العرابي وفتحي باشا ودوهلتس وكامل بك مرسي) على أنهم جميعًا مروا عليه كأنه بديهي لا يحتمل جدلاً أو خلافًا، ولم ينشأ المبدأ المخالف إلا في القضاء الأهلي، ذهبت إليه محكمة طنطا بحكمها المؤرخ 17 مايو سنة 1920 وتولت شرحه والتدليل عليه، ثم تابعها فيه بعض المحاكم، ثم أخذت به محكمة استئناف أسيوط.
أما القضاء المختلط فلم نرَ له أحكامًا في شفعة الشريك من الشريك تجيز قسمة المشفوع فيه بينهما أو لا تجيزها، وكل ما رأيناه لهذا القضاء من أحكام قد صدر بعضه بتطبيق قاعدة الترجيح المقررة في المادة السابعة بين الجيران، على الصورة التي يكون فيها المشتري جارًا. (راجع حكم 16 يونيه سنة 1904 صـ 330 مجموعة البلتان سنة 16).
والبعض يوجب إلزام من يستشفع بجواره أن يثبت أن ما يعود على ملكه من الأخذ بالشفعة أكثر مما يعود على ملك الجار المشفوع منه (كحكم 16 يونيه سنة 1904 البلتان سنة 16 صـ 331) وهناك أحكام قضت بأفضلية المشتري الجار على الشفيع الجار عند الشك في أيهما أكثر انتفاعًا بالشفعة من الآخر. (راجع حكم 2 إبريل سنة 1913 بمجموعة البلتان سنة 25 صـ 279) وأحكام أخرى قضت بقسمة الصفقة إذا تساوت مصلحتهما كحكم 29 إبريل سنة 1904 (راجع مجلة البلتان سنة 16 صفحة 205)، وليس في هذه الأحكام ما يؤيد المبدأ المخالف، لأن الخلاف كما سيتضح لك هو على استحقاق الشريك للشفعة من المشتري الشريك أو مالك الرقبة من مثله، أو صاحب حق الانتفاع كذلك، لأن الترجيح بينهما لا يكون بالأولوية الواردة في المادة الثامنة مقصورًا عليها كما يقولون، وإنما هو بالتقسيم المنصوص عليه في المادة السابعة.
ولم نجد مع هذا في هذه الأحكام ولا في غيرها ما يمكن اعتباره شرحًا لمذهب فقهي لا نستثني منها إلا الحكم الصادر في 10 مارس سنة 1925 المنشور بمجلة البلتان سنة 37 صـ 924 وصـ 925 إذ وجدنا فيه تفسيرًا للمادة الثامنة منطوقها ومفهومها (سيأتي الكلام عليه) وقد صدر برفض دعوى الشفعة المرفوعة من جار على مشترٍ يجاور المبيع من جهتين وله حق ارتفاق عليه بناءً على ما تبين للمحكمة من المنفعة التي تعود على ملكه بالجوار والارتفاق أكثر من المنفعة التي تعود على ملك طالب الشفعة بالجوار وحده.
فلم يبقَ علينا إلا مناقشة حكم محكمة أسيوط ثم حكم محكمة طنطا.

حكم محكمة أسيوط:

جاء في هذا الحكم أن الشفعة شرعت على خلاف الأصل، لضرورة دفع الضرر المحتمل من الشريك الدخيل أو الجار الحادث، وما دامت الضرورة تقدر بقدرها والعلة تدور مع معلولها وجودًا وعدمًا، والضرر منتفٍ، إذا كان المشتري شريكًا أو جارًا من قبل، فلا شفعة لشفيع من مشترٍ يساويه في درجة استحقاقه ولا وجه لقسمة الصفقة بينهما.
وورد فيه أنه لا وجه للأخذ بحكم الشريعة الإسلامية، وإن كانت الشفعة من وضعها، لأن القانون قد وضع لها على التعاقب نصوصًا متفقة مع الضرورة التي كانت سببًا لشرعتها، فوجب العمل بها دون غيرها، والاحتراس في تفسيرها وعدم الخروج عنها، ثم فسرت تلك المحكمة على هذا الأساس قانون الشفعة فقالت: (إذا أطلق الشارع حكم ثبوت الشفعة في المادة الأولى بجعلها حقًا لكل شريك ولكل جار فلم يأتِ عنه نص يدل على إطلاق الاستحقاق من كل مشترٍ، ولذا كانت المادة السابعة خاصة بحكم تعدد الشفعاء يشفعون من مشترٍ غير شفيع، وكانت المادة الثامنة خاصة بالحالة التي يكون فيها المشتري شفيعًا، والشفيع الطالب أسبق منه حسب قاعدة الأولوية المبينة بالمادة السابعة، واستنتجت من ذلك أن لا شفعة من شفيع إلا في هذه الحالة) ونحن لا نرى تعليق استحقاق الشفعة بذات الضرر ولا نقول بدورانه معه وجودًا وعدمًا ولا نستنتج عدم جواز الأخذ من مشترٍ شفيع لانتفاء الضرر بقدم شركته أو جواره، وقد بينّا من قبل أن القانون والفقه الإسلامي قد أضافا حكم الاستحقاق إلى مظنة الضرر التي هي الاتصال بالمبيع اتصال شركة أو خلطة أو جوار وأن العبرة فيه قانونًا وشرعًا بوجود مظنة ثبت الضرر أو انتفى.
وليس صوابًا ما ذهبت إليه المحكمة من تفسير هاتين المادتين: إذ بينّا أن القانون عيّن من يكون شفيعًا ومن لا يكون، وما يشفع فيه وما لا يشفع، ومن لا يشفع منه فأغنانا بذلك عن الحاجة إلى نص يطلق الأخذ من كل مشترٍ فكفاه النص بأن لا شفعة إلا في بيع ثم استثناؤه بعض البيوع، ومنعه الأخذ من بعض المشترين، لنعلم أن الشفعة فيما وراء ذلك.
على أن المادة السابعة جاءت على إطلاقها في حكم مزاحمة الشفعاء، وهم من يستحقون الشفعة بسبب من الأسباب: مشترين كانوا أو غير مشترين، فلا وجه لتخصيصها بفريق دون فريق، والنص عام، ولفظ الشفعاء ورد محلى (بأل) استغراقية كانت أو جنسية، أضف إلى ذلك أن حكم استحقاق المشتري الشفيع للشفعة جرى في الفقهين الإسلامي والقانوني مجرى الأصول لقيام مظنة علتها بكونه شريكًا أو جارًا، فإذا كان المشتري شفيعًا زاحم غيره من الشفعاء عند التساوي في سبب الشفعة، أو فاضلهم فيها وفاضلوه بقوة السبب.

وبعيد أن تكون المادة الثامنة نصًا في استحقاق المشتري الشفيع للشفعة دون غيره من الشفعاء، وما هي إلا لدفع توهم أن لا شفعة من مشترٍ شفيع على ما تقدم بيانه.
وإذا سلمنا جدلاً، بأن الشارع لم يطلق الأخذ من كل مشترٍ إطلاقه الاستحقاق لكل شريك، ولكل جار، وأن المادة السابعة خاصة بطالب الشفعة من مشترٍ غير شفيع، وأن الأخذ من المشتري الشفيع كان في حاجة إلى نص المادة الثامنة، وأن هذا النص دل بمنطوقه على عدم جواز الأخذ في الحالة التي يكون فيها المشتري المشفوع منه أفضل من طالب الشفعة في مراتب الاستحقاق، كما قالت محكمة أسيوط.
إذا سلمنا بكل ذلك، فما الذي يمنع المشتري المشفوع منه من التمسك بحقه في الشفعة، توصلاً إلى قسمة الصفقة بينه وبين طالبيها إذا كانوا من مرتبة واحدة، والقانون يجيزها لكلٍّ بقدر نصيبه، ولم لا يجري الحكم في هذه الصورة مجرى الحكم في تلك وفق القواعد العامة من تقديم الأقوى سببًا على الذي يليه أو اقتسام الصفقة عند التساوي ويكون في النص على حكم الترجيح بين طالب الشفعة والمشتري الشفيع عند اختلاف المرتبة تنبيه عليه عند التساوي، فيكون المعنى المناسب الذي اقتضى الحكمين، هو عدم اعتبار شراء الشريك أو الخليط أو الجار المشفوع منهم مزية لهم على غيرهم من الشفعاء اكتفاءً بمظنة علة الشفعة لكل منهم، وبعبارة أخرى يكون لنص المادة الثامنة منه مفهوم موافقة في الحالة المسكوت عنها للحالة المنطوق بها.
ويتأكد الأخذ بهذا المفهوم لمجيء المنطوق به والمسكوت عنه وفق حكم الأصل وهو الاعتبار في الشفعة بمظنة علتها لا بذات العلة، فلا يكون بين طالبها والمطلوبة منه، إذا كان شفيعًا، إلا ما بين طالبي الشفعة يتفاضلون بقوة السبب، ويتزاحمون عند التساوي.

ولم تبين لنا محكمة أسيوط – بعد أن قالت إن المادة الثامنة جاءت خاصة بثبوت حق طالب الشفعة على المشتري الشفيع إذا كان أسبق منه في الدرجة – كيف استنتجت من تخصيص هذا الحكم بالذكر في صورته نفيه عما عداها، هل أخذت في ذلك بمفهوم المخالفة، وهو ما لا يصح الأخذ به عند الأصوليين على ما سنبينه، أم عادت إلى الأخذ بانتفاء الضرر وقد ثبت عدم صحته.

حكم محكمة طنطا:

تقول محكمة طنطا إن المادة السابعة وضعت قاعدتي الأولوية والتقسيم عند تعدد الشفعاء وظاهر منها أنها لا تنطبق إلا بين الشفعاء الذين استوفوا إجراءات الشفعة طلبًا وعرضًا ودعوى في المواعيد، والمادة الثامنة وُضعت لبيان إحدى صورتي النزاع، وهي التي يكون فيها الشفيع والمشتري من درجتين مختلفتين، ولتطبيق حكم الأولوية بينهما فيها، فيبقى محلاً للاجتهاد حكم الصورة الأخرى وهي الحالة التي يكون فيها الشفيع والمشتري من درجة واحدة، ورأت في هذه الصورة أن قصر النص في المادة الثامنة على حكم الأولوية ينفي جواز القياس فيها وكأنها قالت إن تخصيص حكم جواز الشفعة في المنطوق به يدل على نفيه في المسكوت عنه وهو اتحادهما في الدرجة، ثم دعمت الأخذ بمفهوم المخالفة بانتفاء العلة التي بنيت عليها قاعدة التقسيم ثم شرحت ذلك فقالت إذا جاز التقسيم بين الشفعاء، فلعدم وجه لتفضيل أحدهم على الباقين، ولأن الأذى بالشريك الجديد يدركهم جميعًا، واستنتجت أن لا وجه للتقسيم بين الشفيع بالشركة والمشتري الشريك، لانتفاء هذا الأذى، وأنه يجب إذن كلما كان المشتري حائزًا لما يجعله شفيعًا أن يختص وحده بما اشتراه، إذا لم يشفع في العين المبيعة من كان أقوى منه سببًا، ويكون لشرائه وجه تفضيل على غيره ممن هم في درجته.
ويقول الأستاذ مصطفى النحاس باشا عند استناده إلى هذا الحكم أمام محكمة أسيوط (إن هذه العبارة الأخيرة موفقة التوفيق كله فهي تتناول حالة الأولوية باختلاف الدرجة كما في حالة الفقرة الأولى من المادة السابعة وحالة الأولوية بوجود المرجح مع اتحاد الدرجة كما في حالة الجوار الواردة في الفقرة الأخيرة من المادة السابعة).
وقد أساءت بعض المحاكم فهم المذهب المخالف فمنع الجار عن الأخذ بالشفعة من المشتري الجار بغير نظر إلى الأولوية بينهما، وهي أحكام خاطئة فيما نرى، وفي المذهب المخالف ذاته، لأن كل ما جاء في منطوق المادة الثامنة هو مراعاة قاعدة الأولوية ولم يرد فيها كون طالب الشفعة والمشتري من درجتين مختلفتين، والأولوية كما تكون بين مختلفي الدرجة بقوة السبب تكون بين الجيران، وهم من درجة واحدة.

ومن الحق قبل البدء في مناقشة حكم محكمة طنطا أن نعترف بما له على حكم محكمة أسيوط من بيان وفقه، فقد ابتدأ هذا الحكم بالنص على أنه مهما يكن من الحكمة التي توخاها الشارع في تقرير حق الشفعة فإنه طرد الباب، وأطلق الحكم، ولم يقصر حق الشفعة على من توفرت في حالته حكمة ذلك الحق، فلا محل للتخصيص أو التقيد، فأسقط بذلك حجة من يقول إن الشفعة شرعت لدفع الضرر وإن العلة تدور مع معلولها وجودًا وعدمًا إلى غير ذلك مما قالته محكمة أسيوط – لكنها لم تبين لنا بم ظهر لها أن المادة السابعة لا تنطبق إلا بين الشفعاء الذين استوفوا إجراءات الشفعة طلبًا وعرضًا ودعوى وأنه يخرج عن تناولها الكلام في المفاضلة والمشاركة عندما يتنازع شفيع ومشترٍ شفيع. ولا نكون معنتين على هذا الحكم إذا قلنا إن المادة السابعة لم تفد هذا التخصيص لأن الشارع لم يكن قد شرع بعد في بيان أحكام الطلب والغرض والادعاء حتى تكون (ال) للعهد وحتى نفهم من لفظ الشفعاء إذا أطلق الشفعاء الطالبين العارضين المدعين، ولا تزال (ال) للاستغراق أو للجنس وهي في كليهما تفيد العموم.
ويؤكده ما تنبغي ملاحظته من أن لفظ الشفعاء الوارد في المادة السابعة مطلق فيها إطلاقه في المادتين الأولى والثانية على من قام به سبب من أسباب الشفعة.

أما لفظ الأولوية الذي ورد في المادة الثامنة موهمًا بنصه العربي أن معناه الأفضلية بالدرجة وأن هذه المادة وُضعت لبيان حكم الشفعة في صورة ما إذا كان طالب الشفعة والمشتري الشفيع من درجتين مختلفتين، فهو بعينه الذي ورد في المادة السابعة في معنى الترجيح بين الجيران على تساويهم في الدرجة، وقد بينّا خطأ ترجمة هذا اللفظ بما صححناه نقلاً عن الأصل الفرنسي – ولم نجد في نص المادة الثامنة طريقًا من طرق القصر المعروفة كالعطف بلا وبل أو النفي والاستثناء المفرغ أو التسوير بأنما التي بمعنى ما وإلا المفيدة للنفي والإثبات معًا، حتى يفيد القصر والتخصيص فيقال لا شفعة من مشترٍ شفيع إلا إذا رجح سبب طالب الشفعة منه على سببه.
فلم يبقَ علينا بعد ذلك إلا مناقشة الحكم فيما انتحله للمادة الثامنة من مفهوم مخالفة وفي حجة هذا المفهوم، ومن المفيد قبل ذلك أن نمهد بإيراد معنى المنطوق والمفهوم بنوعيه مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وما الذي يصح الأخذ به منهما؟ ولم يصح؟ أو لا يصح؟
المختار عند الأصوليين المشرعين أن المنطوق ما فُهم من دلالة اللفظ قطعًا في محل النطق – والمفهوم ما فُهم من اللفظ لا في محل النطق، وهو قسمان مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، والأول ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقًا لمدلوله في محل النطق ويسمونه فحوى الخطاب ولحن الخطاب، ولا تخرج هذه الدلالة عن أن تكون من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى أو بالمساوي على مساويه، وإنما يكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق إذا عُرف المقصود من الحكم وأنه أشد مناسبة لاقتضاء الحكم في محل السكوت من اقتضائه في محل النطق: ومثاله في قانون الشفعة أن يُفهم من منطوق المادة الخامسة أن لا شفعة من موصى له لعدم جوازها من موهوب له، لأن المقصود من المنطوق به منع الشفعة فيما لا عوض فيه وهو ظاهر في الوصية ظهوره في الهبة ولا خلاف في صحة الاحتجاج بمفهوم الموافقة وإنما الخلاف في مستند الحكم في محل السكوت هل هو فحوى الدلالة اللفظية أو الدلالة القياسية، ويقولون إن الأشبه هو الاستناد إلى فحوى الدلالة اللفظية. (الآمدي جزء 3 صـ 97).

وتشترط الشافعية للأخذ بمفهوم الموافقة أن يكون المعنى المفهوم أولى بالحكم في محل السكوت منه في محل النطق وتكتفي الحنفية بمساواتهما فيه (راجع صـ 112 و113 من التقرير والتحبير للإمام الكمال بن الهمام).
أما مفهوم المخالفة فهو عندهم ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ومثاله في القانون المدني أن يُفهم من منطوق المادة (228) التي نصها (ولكن المحررات العرفية لا تكون حجة على غير المتعاقدين إلا إذا كان تاريخها ثابتًا ثبوتًا رسميًا) أنها تكون حجة بتاريخها العرفي بين المتعاقدين وورثتهم.
وهو عند القائلين به مفهوم صفة، ومفهوم شرط، ومفهوم غاية، ومفهوم عدد، ومفهوم تخصيص بأوصاف تطرأ وتزول، ومفهوم لقب، ومفهوم اسم مشتق دال على الجنس، ومفهوم استثناء، ومفهوم حصر.
ولا يهمنا منها في مقالنا هذا إلا مفهوم الصفة وهو ما علق الحكم فيه بأحد وصفي الشيء كوصف المشتري بكونه شفيعًا في صورتنا المنطوق بها في هذه المادة الثامنة.
واستنتاج حكم المسكوت عنه يرجع في الواقع إلى النظر في فائدة تخصيص حكم المنطوق به دون غيره، وذلك مما لا يعلم من مجرد هذا التخصيص، بل لا بد فيه من نظر عقلي يحقق التخصيص للنفي، ولذا كان اتفاقهم على عدم الأخذ بمفهوم المخالفة كلما ظهر لتخصيص المنطوق به بالذكر فائدة ووقع اختلافهم إذا لم تعلم فائدته فذهب جمهور الشافعية إلى أن التخصيص بالذكر يكون إذن لنفي الحكم في المسكوت عنه وخالفهم الحنفية وبعض حذاق الشافعية كالغزالي (صاحب المستصفى في الأصول) والآمدي (صاحب الأحكام).

وعلى هذا كان شرط الأخذ بمفهوم المخالفة عند القائلين به أن لا يوجد بعد التأمل ما يقتضي التخصيص بالذكر فإن وُجد انتفى المفهوم (راجع صـ 294 و295 من الجزء الأول من حاشية العطار على جامع الجوامع)، وقد بيّن الشربيني في تقريره المطبوع على هامش جامع الجوامع علة ذلك فقال إن المفهوم ظني فإذا ظهرت فائدة أخرى للتخصيص بالذكر بطل وجه الدلالة عليه لتطرق الاحتمال فيصير الكلام مجملاً لا يُقضَى فيه بموافقة أو مخالفة.
ويعدون من فوائد تخصيص المنطوق به بالذكر خروج المنطوق مخرج الغالب أو مجيئه جوابًا لسؤال عنه أو عن حادثة تتعلق به أو للجهل يحكم دون حكم المسكوت عنه (صـ 295 من حاشية العطار) أو رفع توهم من توهم أن حكم الصفة بتقدير تعميم اللفظ يكون مخالفًا لحكم العموم ويكون ذلك منبهًا على إثبات الحكم فيما عدا الصفة بطريق الأولى أو يكون الحكم في محل السكوت منفيًا أخذًا بالأصل (صـ 110 و111 و112 الآمدي).
أما الأصوليون من فقهاء القانون فقد اكتفوا بالتنبيه على ضعف حجية مفهوم المخالفة وعدم الأخذ به مصرحين بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عن المسكوت عنه وأنه لا يمكن الأخذ به إلا إذا ورد النص استثناءً عن الأصل وكان في الأخذ بمفهوم المخالفة رجوع إلى القانون العام (راجع مطول بودري جزء أول في الأشخاص صـ 297 وربرتوار دالوز تحت كلمة (قوانين) نوتة 516 والبنديكت نوتة 240 ولوران جزء أول صـ 279) ويضيف أوبري ورو على ذلك أنه إذا اشتمل النص على ما يظهر منه بغير شك أنه مقصور على صورة معينة كورود الحكم بصفة النفي فإنه عندئذٍ قد يدل على الإثبات في نقيضه، وأنت إذا تأملت المادة الثامنة من قانون الشفعة رأيت أن الصورة المنطوق بها هي الصورة التي يكون فيها المشتري حائزًا لما يكون به شفيعًا، والحكم المنطوق به فيها هو استحقاق الشفعة لطالبها بمراعاة حكم الترجيح المنصوص عليه في المادة السابعة، ونقيضها وهي الصورة المسكوت عنها هي كون المشتري غير حائز لما يكون به شفيعًا ونقيض الحكم المنطوق به هو عدم استحقاق الشفعة لطالبها وهو مفهوم ظاهر البطلان.

وإذا كان للمادة الثامنة مفهوم مخالفة فليكن ذلك المفهوم الذي صرحت به محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها المؤرخ 10 مارس سنة 1925 إذ قالت ليس للمادة الثامنة إلا معنى واحد وهو أنه إذا حاز المشتري ما يجعله شفيعًا بحسب ما جاء بالمادة الأولى يكون لطالب الشفعة حق لأخذ منه إذا تقدم عليه في مراتب الترجيح المبينة بالمادة السابعة وهذا المعنى يدل بمفهوم المخالفة على أن للمشتري الشفيع أن يدفع دعوى الشفعة الموجهة عليه من طالبها ويستبقي الصفقة له إذ رجح سببه عن سبب طالبها.

وإذا أعدت النظر في هذه المادة والتفت إلى استعمال لفظ (subsister) المصدرة به واستبدلت لفظ الأولوية بلفظ الترجيح وصححت ترجمتها على ما سبق ذكره ولم يفتك معنى الظرف (même) الذي هو بمعنى حتى، تبينت أن الغرض من ذكر المادة الثامنة بعد المادة السابعة لم يكن إلا لدفع توهم من ظن أن لا شفعة من مشترٍ شفيع، ومتى اتضحت لك فائدة تخصيص الحكم المنطوق به بالذكر تعين عدم الأخذ بمفهوم المخالفة.

وإذا ذهبت إلى القول بأن في المادة الثامنة قصرًا مع خلوها من موجباته، وأن لها مفهوم مخالفة على الوجه الذي جاء بحكم محكمة طنطا، تعين مع ذلك أن لا تأخذ بهذا المفهوم لضعف حجيته عند علماء الشرع والقانون، وبخاصة لأن حكم المادة الثامنة في المنطوق به لم يرد استثناءً من حكم القانون العام بل جاء متمشيًا معه.
والأصل أن لا يؤخذ بمفهوم المخالفة إلا إذا ورد المنطوق به استثناءً من ذلك القانون.
الآن وقد عرفت ما مبدؤنا والمبدأ المخالف، ترى أننا جرينا فيه مجرى الأصول المختارة في الفقهين الشرعي والقانوني وأقمنا على الأخذ بمظنة علة الشفعة ما وجدت مظنتها وعلى نصوص القانون مطلقها وعامها لم نقيد فيه مطلقًا ولم نخصص منه عامًا ولم نرجع به إلى مفهوم مخالفة وأن مبدأ مخالفينا قام على ما علمت من التعليل بحكمة الشفعة وبدوران حكمها وجودًا وعدمًا مع علتها، وعلى تقييد المطلق من نص المادة السابعة وقصر في المادة الثامنة ولا قصر فيها بل أقاموه على مفهوم المخالفة وقد تبين لك ما فيه من ضعف وتنبيه من الأصوليين على عدم الأخذ به، والله يتولانا وإياك بالسداد والتوفيق.

حامد فهمي
المحامي