دراسة وبحث قانوني هام عن سلطة ولي الأمر في الأحكام الاجتهادية

الباحث: د / حمود محمد غالب الغشمي

أولاً : النتائج :

تتلخص أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث فيما يأتي :

الولاية هي سلطة شرعية لشخص ما في إدارة شأن من الشؤون وتنفيذ إرادته على الغير وفق أحكام الشريعة , وتثبت بالشرع وبالاختيار وتكون خاصة أو عامة .

إن السلطة هي القدرة الممنوحة شرعاً لذي ولاية لتصريف شؤون المولى عليه ومصالحه فرداً كان أو جماعة , وكل من تثبت له ولاية على نفس أو مال فقد منحه الشرع القدرة التي تمكنه من القيام بكل ما تتطلبه هذه الولاية من مهام تعود إلى رعاية شؤون المولى عليه ومصالحه , وهذه القدرة تضيق وتتسع بحسب حجم الولاية حيث تتسع في الولاية العامة وتضيق في الولاية الخاصة , ومن هنا فإن سلطة ولي الأمر هي القدرة الممنوحة له شرعاً لتمكينه من القيام بالحفاظ على الدين ورعاية شؤون المسلمين ومصالحهم وفق مقصود الشرع .

اختلف أهل العلم في المراد بأولي الأمر على أقوال عدة , أشهرها ثلاثة أقوال الأول : أنهم الولاة والأمراء , والثاني : أنهم أهل العلم والفقه , والثالث : أن أولي الأمر جمع يشمل الأمراء والعلماء ، وقد ترجح لي القول الثالث ؛ لأن الإسلام يقوم بطائفتي العلماء والأمراء , والناس كلهم تبعٌ لهم , فيدخل في أولي الأمر الأمراء والولاة والعلماء، ويكون من شأن العلماء بيـان الأحكام الشرعية ومن شأن الولاة والأمراء تنفيذ هذه الأحكام .

التشريع في الإسلام بإجماع المسلمين حق خالص لله وحده لا يشاركه في ذلك أحد من البشر , فلا حكم إلا لله , ولا حكم للرسول , ولا للسيد على العبد , ولا لمخلوق على مخلوق , بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم غيره , وإن غاية السلطة في الدولة الإسلامية هي القيام بأمر الشرع والمحافظة عليه , وتطبيق أحكامه على جميع الأفراد حكاماً ومحكومين .

إن إسناد السلطة إلى ذي رأي مطاع من أهم المصالح وأجلها وأعظمها , ويعبر الفقهاء القدامى عن وجوب إسناد السلطة بقولهم : وجوب نصب الخليفة . وقد اتفق فقهاء أهل السنة على أن نصب الخليفة واجب كفائي على الأمة , وأن مصدر هذا الوجوب هو الشرع , ولم يحدد الشرع طريقة ثابتة لإسناد السلطة لا يمكن تجاوزها , بل جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين يختارون الطريقة التي تحقق مصلحتهم وتنم عن رضاهم بإمامهم ، فدل ذلك على أن إسناد السلطة من المسائل الشرعية المرنة المتروكة لاجتهاد الفقهاء , والقابلة للتغير من زمن إلى زمن بحسب مصلحة أهل كل عصر .

والأصل في إسناد السلطة كما ذهب إليه فقهاء أهل السنة من السلف والخلف أن يكون باختيار الأمة ورضاها .

ويتم عبر مرحلتين : الأولى مرحلة الاختيار والترشيح من أهل الحل والعقد , أو من ولي الأمر القائم بالعهد إلى من سيخلفه في الولاية العامة على المسلمين . والثانية مرحلة البيعة , والبيعة عقد يتم به إسناد السلطة من الأمة إلى ولي الأمر ليكون نائباً عنها في حراسة الدين وسياسة الدنيا به , مقابل السمع والطاعة له في المعروف , ولا يشترط فيها كيفية معينة , فتصح بأي صورة تظهر الرضا بالإمام والانقياد له .

سلطة ولي الأمر مقيدة بحدود الشرع , فلا يملك أن يخرج في أعماله وتصرفاته عن أحكام الشريعة ومبادئها وقواعدها , وتتمثل في القيام بواجبين أساسين هما : إقامة الدين وحراسته وحفظه , وسياسة الدنيا به , ويتفرع عن هذين الواجبين الكثير من الواجبات الفرعية .

إن الحكم الشرعي هو مقتضى خطاب الله المتعلق بفعل المكلف طلباً أو تخييراً أو وضعاً وهو ينقسم إلى قسمين هما : الحكم التكليفي , ويشمل كل ما فيه تكليف من الشرع بفعل شيء على سبيل الوجوب أو الندب , أو بتركه على سبيل الحرمة أو الكراهة , أو التخيير فيه بين الفعل والترك على سبيل الإباحة . والحكم الوضعي : ويشمل خطاب الشرع بالإخبار عن جعل الشيء سبباً , أو شرطاً , أو مانعاً , أو صحيحاً , أو فاسداً , أو عزيمة .

إن الأحكام الشرعية التكليفية تنقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة :

أ- فمن حيث ثبوتها تنقسم إلى قسمين :

الأول : الأحكام قطعية الثبوت , وتشمل نصوص القرآن كلها , ونصوص السنة المتواترة فقط .

الثاني: ظنية الثبوت , وتوجد في السنة فقط , وتشمل أخبار الآحاد وهي ماعدا المتواتر.

ب – وتنقسم من حيث دلالتها على المراد منها أيضاً إلى قسمين :

الأول : القطعية في دلالتها على المراد منها , وتوجد في نصوص القرآن والسنة .

الثاني : الظنية في دلالتها , وتوجد أيضاً في نصوص القرآن والسنة .

جـ – وتنقسم أيضاً من حيث نسبتها إلى الاجتهاد إلى قسمين :

الأول : الأحكام غير الاجتهادية , وتشمل كل حكم ثبت بنص قاطع من الشارع أو بإجماع المجتهدين , مع صراحته في دلالته على معنى واحد لا يحتمل غيره . وكل حكم اتصف بالقطع في دلالته وفي ثبوته يخرج عن محل الاجتهاد , ويحرم مخالفته باتفاق حيث لا اجتهاد مع النص .

والثاني : الأحكام الاجتهادية , وتشمل كل حكم انخرمت عنه صفة القطع في ثبوته أو في دلالته , أو كان مما لم يرد به نص من الشرع , فيكون محلاً للاجتهاد في موضع الظن فيه , فالمجتَهَد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع .

أن الاجتهاد هو بذل الفقيه غاية جهده في تحصيل حكم شرعي ظني فرعي بطريق الاستنباط من أدلة الشريعة وقواعدها العامة , ولا يكون الاجتهاد معتبراً ومقبولاً إلا إذا صدر ممن له أهلية الاجتهاد ، وهي تحصل لمن جمع عدة شروط , ذكرها الفقهاء , تمثل آلة الاجتهاد لمن يحوز عليها .

إنه حيث يوجد مسوغ للاجتهاد يوجد الاختلاف ضرورة لاختلاف وجهات النظر , سواء أفي فهم المراد من النص أم في حكم مالا نص فيه , أم للاختلاف في ثبوت النص ونحو ذلك , وما جرى بين الفقهاء من خلاف في الأحكام الاجتهادية كان لأسباب حقيقية وموضوعية , جعلتهم يختلفون في سبيل الوصول إلى الحق , مع اتفاق جميع الأئمة المجتهدين على وجوب إتباع الدليل , ووجوب تطبيق أحكام الشريعة على المتقاضين , ولم يكن اختلافهم بدافع التعصب أو الهوى .

ولقد كان لهذا الخلاف آثارٌ إيجابية : كحصر الاحتمالات الصحيحة التي يحتملها الدليل بوجه من الوجوه ، وإيجاد عدد من الحلول للواقعات غير المنصوص عليها بما يتيح الوصول إلى أقربها إلى الحق , وأخرى سلبية : منها ظهور التقليد المذموم والتعصب الممقوت بين أتباع المذاهب , وجمودهم على أقوال أئمة المذاهب من دون العودة إلى المنابع التي استنبط منها أئمتهم آراءهم , مما أدى إلى الفرقة والاختلاف بين الناس , وظلم كثير من الناس لبعضهم بعضًا ، وجهل كثير من الناس بالأمر المشروع والمسنون , وحصول كثير من المفاسد التي وصلت إلى حد الاقتتال أحياناً وإلى المقاطعة أحياناً أخرى.

ومن أهم الآثار السلبية لاختلاف الفقهاء هو اضطراب الأحكام الصادرة من القضاء في فصل الخصومات بين الناس في القضايا المتحدة في موضوعها وفي أسبابها .

وكل ذلك دفع الفقهاء إلى بحث موضوع تقييد القاضي بمذهب معين , أو بالراجح منه، وتطرقوا إلى حق ولاة الأمر في إلزام القضاة بالحكم بمذهب معين أو برأي أحد الفقهاء، وتناوله الفقهاء المتأخرون تحت مسمى تقنين أحكام الشريعة .

التقنين هو : صياغة أحكام شرعية مختارة من مذهب فقهي أو أكثر , في صورة مواد قانونية , مرتبة ومرقمة على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية , لتكون مرجعاً سهلاً محدداً , يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة ويرجع إليه المحامون .

إن التقنين في الغالب يتولاه أناس غير متضلعين في أحكام الشريعة , كما أن انتقاء الأحكام لتقنينها يتم بغير ضوابط واضحة وثابتة , لذلك فإن جوازه بهذه الصورة محل خلاف بين الفقهاء .

رفع الخلاف عمل اجتهادي يهدف إلى رد مسائل الفروع الاجتهادية المتنازع عليها بين مختلف المذاهب المعتبرة إلى الكتاب والسنة , بغية الوصول إلى الصواب فيها، يشترط في القائمين به أن يكونوا من أهل الاجتهاد , وأن يكون عبر اجتهاد جماعي يقوم به طائفة من المجتهدين من مختلف المذاهب المعتبرة , ويتمثل في قيامهم بدراسة مسائل الخلاف , كل مسألة على حدة , دراسة تمحيص وتحقيق وتدقيق , ونظر وترجيح , بعد جمع أقوال الفقهاء فيها وأدلتهم واستعراض المآخذ التي قيلت في أدلة كل قول , والنظر فيها نظر مشاورة ومناصحة للأمة , مع الوقوف على سبب الاختلاف فيها ، وذلك كله بغرض ترجيح أقرب الأقوال إلى الكتاب والسنة , معتمدين في ذلك على المصادر الأصلية المتمثلة في الكتاب والسنة , ثم القياس على الأصول منهما , مع مراعاة المصلحة أو العرف الذي لا يتعارض مع الشريعة في كل ما لا نص فيه ولا قياس, مستعينين في ذلك بقواعد الترجيح المبينة في علم أصول الفقه. ثم تأتي سلطة ولي الأمر في رفع الخلاف , وتتمثل في الإلزام بالقول الراجح الذي ترجح للمجتهدين في الاجتهاد الجماعي بإصداره في صورة نظام عام ملزم .

ظهرت الحاجة إلى رفع الخلاف في القرن الثاني الهجري , واستمر تأثيرها بعد ذلك بصورة أو بأخرى , وأعيد طرحها رسمياً من الملك عبد العزيز – يرحمه الله – في القرن الرابع عشر الهجري , ثم من ابنه الملك فيصل – يرحمه الله – في عهده , ولكن لم تخرج الفكرة إلى حيز التنفيذ ، وهذا يدل على أن الحاجة إلى رفع الخلاف ما زالت قائمة , وتزداد الحاجة إليها في عصرنا هذا خاصة بعد أن أصبح النظام أو القانون هو المرجع في الحكم على مختلف نواحي الحياة , فأضحى إخراج الفقه الإسلامي في مدونة شاملة – تحوي جميع الأقوال من مختلف المذاهب في المسألة الواحدة مع أدلتها ومناقشاتها , وإظهار ما يرجحه الدليل من الكتاب والسنة , وإفراده في مدونة مختصرة ليتولى ولي الأمر إصداره في صورة نظام ملزم بعد ترتيبه وترقيمه ونشره للعمل به – هو البديل الإسلامي في مواجهة القوانين الوضعية , والمرجع الأساس في إصدار أنظمة وقوانين شرعية موحدة في البلاد الإسلامية .

لرفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية مقتضيات كثيرة منها : أن الحق في كل واقعة اجتهادية واحد عند الله متعين قبل الاجتهاد , وأن اجتهاد المجتهدين يقع في طريق الوصول إلى هذا الحق , وهذا التعدد في الأقوال الاجتهادية لا يعني تعدد الحق وانقسامه في حقيقة الأمر على عدد أقوال المجتهدين ، وإنما الحق في نفسه واحد يصيبه أحد المجتهدين ومن يوافقه عليه وما عداه فمخطئ , إلا أنه لم يتعين في ظل الاجتهاد الفردي ولذلك بقي الخلاف , فوحدة الحق هذا تقتضي ضرورة الاجتهاد الجماعي لتعيين الحق – ولو في غالب الظن – بإذن الله تعالى ليرتفع الخلاف بإلزام ولي الأمر به, كما أن تطبيق أحكام الشريعة يقتضي رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية ؛ لتُطبَّق الأحكام الشرعية الراجحة على الناس في خصوماتهم بصورة موحدة , كما أن مبدأ العدل في الشريعة يقتضي أيضاً رفع الخلاف باجتهاد جماعي – يتولى العلماء فيه تعيين الراجح في الأحكام الاجتهادية ليلزم به ولي الأمر – ؛ ليتساوى الناس في الحقوق والواجبات وفي أسباب الحصول عليها , أو الإلزام بها , وفي فصل الخصومات على وفقها .

كما أن الوحدة الإسلامية تقتضي رفع الخلاف ؛ لأن الوحدة أصل شرعي عظيم , وقد فرطت فيه الأمة الإسلامية منذ زمن ، فهانت واستهان بها عدوها ، ولابد للأمة الإسلامية من العودة إلى ذلك الأصل , وذلك يتطلب اتخاذ خطوات متعددة ومتدرجة ومن أهمها : توحيد النظم والقوانين في البلاد الإسلامية على أساس شرعي , وخير وسيلة لتوحيد النظم والقوانين في البلاد الإسلامية هو استمدادها من الشريعة الإسلامية, وجعل السيادة فيها لأحكام الشرع وحده وذلك يقتضي رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية كوسيلة ضرورية في التمهيد لوحدة النظم والقوانين .

إن الأحكام التي لا يسوغ الخلاف فيها تضم ثلاث فئات : الأولى الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ، والثانية الأحكام الثابتة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة ، والثالثة الأحكام الثابتة بالإجماع , وهذه الأحكام بفئاتها الثلاث تمثل معالم الإسلام وركائزه في مختلف شؤون الحياة , وهي الثوابت التي يجب أن يلتقي عندها المسلمون الحاكم والمحكوم ليعملوا بها ويدافعوا عنها ويتحاكموا إليها ؛ لأنها شرع الله الذي شرعه لعباده, وسلطة ولي الأمر إزاء الأحكام التي لا يسوغ الخلاف فيها تتمثل في واجبات ملقاة على عاتقه كونه نائباً عن الأمة في القيام بحراسة الدين وتنفيذ أحكامه , والمالك لسلطة إلزام الكافة بمقتضى أحكام الشرع , وأن أهم الواجبات بشأنها هو المحافظة على أصولها المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة , وحمايتها من العبث بها , ويلزم للمحافظة عليها بيانها , ونشرها بين الناس أولا .

الخلاف في الأحكام الشرعية إنما يسوغ إذا دخل الظن في أدلة تلك الأحكام ، سواء أكان الظن في ثبوت النص الدال على الحكم أم في دلالته على المعنى المراد منه , أم كان لعدم وجود نص في المسألة محل الخلاف ، وسوغ الخلاف يكون بين المجتهدين بعد ممارسة الاجتهاد واستفراغ الوسع في موضع الظن من تلك الأدلة ، لتحصيل الحكم الشرعي , فالخلاف السائغ هو : ما يحصل نتيجة لاجتهاد تام من أهله في مواضع الاجتهاد, وينقسم الخلاف السائغ بين المجتهدين إلى قسمين : الأول : خلاف التنوع ، وهو الذي يذهب فيه كل فقيه إلى مشروعية عمل من الأعمال في وضع معين مخالفاً ما ذهب إليه الفقيه الآخر ، ويكون ما ذهب إلى مشروعيته كل فقيه في هذا الموضع – في الحقيقة – جائزا ومشروعا , وثابتا في السنة . والثاني : خلاف التضاد : وهو الخلاف الذي تكون فيه أقوال الفقهاء متضاربة ومتعارضة ويكون الصواب مع أحدها فقط .

مما يساعد على نجاح الاجتهاد الجماعي في رفع الخلاف باختيار الراجح هو اتفاق المجتهدين سلفا على منهج واضح يلتزمونه في اجتهادهم , فيتفقون على ترتيب الأدلة التي يرجعون إليها فيما لا نص فيه , كالبدء بالقياس مثلاً , وتحديد متى يؤخذ بالاستسحان بعد ضبط معناه ، ومتى يؤخذ بالمصلحة بعد تحديد شروطها , وكذا العرف وغيره.

ويتفقون كذلك على منهج وسط بشأن قبول أحاديث الآحاد , بحيث لا يرد الحديث لأدنى شبهة عند بعض العلماء , ولا يقبل مطلقاً من دون التأكد من عدالة رواته وخلوه من الشذوذ أو العلة.

وكذلك الشأن فيما يتعلق بالقواعد الأصولية المختلف فيها , يتفقون على منهج واضح إزاءها , وكذا الاتفاق على كيفية مواجهة التعارض الظاهر بين النصوص وطرق الترجيح… إلخ .

إضافة إلى تجريد القصد لله تعالى والابتعاد عن العصبية المذهبية , ووضع مصلحة الأمة الإسلامية – في التوحد على أساس شرعي – فوق كل اعتبار .

لكي يكون رفع الخلاف عملاً شرعياً ومحققاً للغاية المنشودة منه من تحري الراجح في مسائل الاجتهاد بدليله من أجل العمل به , وحتى لا يتجرأ من ليس أهلاً لذلك باقتحامه, لا بد له من ضوابط شرعية تحوطه بسياج منيع , يحول من دون التلاعب بالأحكام الاجتهادية تحت أي مبرر , ويفسح في الوقت نفسه المجال لمن هو أهل لذلك في تحري الراجح منها , مع مراعاة أحوال الناس وحاجاتهم ومصالحهم فيما لم يرد فيه نص .وهذه الضوابط تتمثل في أن يتولاه المجتهدون باجتهاد جماعي , ولا بد فيه من الوقوف عند النصوص القطعية , وعند دلالة الأدلة الشرعية الخاصة والعامة , وعدم تجاوز حدودها أو تعطيلها تحت مسمى الاجتهاد , وإعمال القواعد العامة وعدم الخروج على أصل هذه القواعد أو الاستثناء منها إلا بدليل يجيز الاستثناء , وألا يؤخذ فيه بالآراء الشاذة , وأن يكون الترجيح بناءً على دليل شرعي معتبر .

إن المذهب الفقهي ينحصر في الأحكام الاجتهادية التي ذهب إليها إمام من الأئمة المجتهدين فيما محله الاجتهاد ، ويدخل فيه الأحكام التي استنبطها أصحابه وأتباعه من علماء المذهب بعده وفق أصوله وقواعده , أما الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ، أو الثابتة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة ، أو بالإجماع فلا تنسب لمذهب معين ؛ لأنها ليست محلاً للاجتهاد ، وليست مذهباً خاصاً بأحد العلماء ، وإنما هي أحكام شرعية ثابتة وواجبة الاتباع على جميع الأمة علمائها وعوامها , وقد أطلق المذهب في عرف المتأخرين على ما به الفتوى من باب إطلاق الشيء على جزئه.

لرفع الخلاف ثلاثة طرق:

الأولى : الإلزام بالراجح من مذهب معين , وهذه الطريقة تصلح في إطار القطر الواحد الذي ينتشر فيه أتباع هذا المذهب , لكنها قد تجر إلى مفاسد كثيرة , منها : تعميق العصبية المذهبية بين أتباع المذاهب الإسلامية , بما من شأنه زيادة الفرقة والاختلاف بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.

والثانية : الإلزام بقول الجمهور , وهذه الطريقة يصلح تعميمها على مستوى الأقطار الإسلامية من دون إثارة للعصبية المذهبية ؛ لأن المرجعية فيه لقول أكثر المجتهدين , وهي طريقة فعالة إلى حد ما في جمع كلمة المسلمين ووحدة صفهم , لكن يكتنفها صعوبات ومفاسد , ومن أهم تلك المفاسد أنهاها تجعل ميزان كثرة القائلين بهذا القول أو ذاك هو الأصل بدلاً من القاعدة الشرعية في حسم الخلاف بالرد إلى الكتاب والسنة.

والثالثة : الإلزام بالراجح من أقوال الفقهاء بناء على ترجيح يتم باجتهاد جماعي , وهي الطريقة المثلى لرفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية ؛ لأنها تقوم على أسس شرعية , ولا تفتح باباً للعصبية المذهبية , وتحقق مصالح كبيرة للأمة , من غير أن تجر عليها مفاسد الفرقة والاختلاف أو الوقوع في المخالفات الشرعية , حيث تعتمد على قوة الدليل , فإذا قام الدليل على رجحان حكم معين في المسألة الاجتهادية وجب العمل به , وتلك هي الغاية من رفع الخلاف , وهي تحري الحق في مسائل الاجتهاد , والعمل بما ترجح أنه الصواب ، وإذا صحب هذه الطريقة بعض المفاسد فيكون ذلك من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما , والله أعلم .

أتوقع أنه سيكون لرفع الخلاف هذا أثران عظيمان :

الأول : يكون ثمرة لعمل المجتهدين في الاجتهاد الجماعي المقام لرفع الخلاف ، ويتمثل في ظهور مدونة للفقه الاسلامي مبنية على أسس شرعية سليمة , ومنسقة تنسيقاً حديثاً, تحوز على رضا الأمة , وسيتحقق من خلال هذه المدونة العديد من المصالح العامة .

الثاني : وهو ناتج عن إلزام ولي الأمر بما رجحه المجتهدون في الاجتهاد الجماعي , ويتمثل في وجوب طاعة ولي الأمر فيما ألزم به من أحكام ، وحقه في ترتيب الجزاء على من يخالف في ذلك ، وكلا الأثرين سيجلب مصالح كثيرة للأمة بينت منها ما تيسر في أثناء البحث.

تغيير الأحكام الاجتهادية هو أيضاً عمل اجتهادي يبدأ به العلماء المجتهدون – أيضاً في اجتهاد جماعي – لكنه لا يلزم أيضاً عموم الأمة إلا إذا تبعه إلزام عام به من ولي الأمر.

يعود الأصل الشرعي في جواز تغيُّر الاجتهاد إلى إجماع الصحابة العملي على هذا المبدأ , فقد وقع التغيُّر في الاجتهاد في عدد من الواقعات الاجتهادية من فقهاء الصحابة, وممن تولوا أمر المسلمين آنذاك -كقضاء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في قضايا الجد مع الإخوة , وفي المسألة الحجرية – وعملوا بالاجتهاد الثاني من غير إنكار من أحد في كل واقعة اجتهادية تغير فيها الاجتهاد .

إن تغيير الأحكام الاجتهادية تابع لتغيُّر الاجتهاد , وتغيُّر الاجتهاد مبني على ما يظهر للمجتهد من دوافع وأسباب شرعية تغيِّر من رأيه الأول إلى رأي آخر , أي أن الأحكام الاجتهادية تتبع أسبابها المبنية عليها في نظر المجتهد , فإذا كان سبب الحكم الأول باقيا لم يتغير فلا يتغير الاجتهاد وعليه فلا يتغير الحكم ، وإذا تغير سبب الحكم الأول وظهر سبب آخر وجب على المجتهد أن يعيد الاجتهاد في الواقعة التي تغير سببها الأول ومن ثم يستنبط الحكم لها بحسب ما يظهر من أسباب جديدة ، فيكون تغيُّر الأحكام الاجتهادية بحسب تغيُّر أسبابها .

إن في تغيير الأحكام الاجتهادية بتغير أسبابها إحقاقا للحق , ورعاية لمقصد الشريعة في جلب المصالح للناس ودفع المفاسد عنهم , وعدم تغيير الأحكام الاجتهادية عند تغير أسبابها يؤدي إلى إلحاق الضرر والمشقة بالناس والتعسير عليهم , ويفتح الباب لأعداء الشريعة في وصفها بالجمود والتخلف وعدم قدرتها على مسايرة تطورات الزمان ، وهذا ما تأباه قواعد الشريعة القاضية بالتيسير والتخفيف على الناس , ودفع الضرر عنهم , وجلب المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم في كل زمان ومكان .

لم يفصل الفقهاء الأسباب التي تطرأ ويكون من شأنها وجوب إعادة الاجتهاد , وفي ظني أن تلك الأسباب كثيرة منها : ظهور نص للمجتهد في الواقعة الاجتهادية لم يطلع عليه في أثناء الاجتهاد الأول , أو تَرجُّح معنىً ثانٍ في نظر المجتهد غير المعنى الأول في النصوص المحتملة لأكثر من معنى , أو تغير العرف الذي استند إليه في الاجتهاد الأول , أو انتهاء المصلحة أو اختلافها عما كانت عليه في الاجتهاد السابق , أو وجود أسباب أخرى , كفساد الذمم وانتشار الفساد بين الناس , أو حدوث تطورات جديدة في وسائل المعاملات المختلفة وأساليبها ، أو ظهور حقائق علمية ترجح حكماً آخر إلى غير ذلك من الأسباب .

إن الإجماع إذا كان مستنداً إلى نص جاء مراعياً لعرف معين أو لمصلحة زمنية مؤقتة فإنه في حال انتهاء العرف أو تبدُّل المصلحة يجوز أن يُنسخ الإجماع بإجماع آخر مسايرٍ للعرف الجديد أو موافقٍ للمصلحة الحادثة , أما إذا كان النص الذي استند إليه لم يأت مراعياً لعرف أو لمصلحة مؤقتة فإن الإجماع المستند إلى هذا النص يكون قطعياً ملزماً للأمة لا يجوز الاجتهاد فيه أما إذا كان الإجماع في الأصل مبنياً على عرف أو على مصلحة مرسلة فإنه يجوز تغيير الحكم عند تغيُّر العرف أو المصلحة التى استند إليهما بالاجتهاد من غير حاجة إلى إجماع على التغيير هنا.

إنه لا يصح تغيير الأحكام الاجتهادية إلا إذا وجد مقتضى لإعادة الاجتهاد فيها , وأنه لا ينبغي التسرع في التغيير لمجرد التوهم بوجود مقتضى التغيير وإنما لا بد من التمحيص والتأكد من قيام الموجب لتغيُّر الحكم ، فإذا ثبت تغير مناط الحكم الأول , أو مستنده بحيث أصبح لا يفضي إلى المقصود منه عند ذلك يصح النظر في تغيير الحكم ؛ لأن الغاية من تجديد الاجتهاد وتغيير الأحكام هي إحقاق الحق وإقامة العدل وجلب المصالح ودفع المفاسد .

إن معنى تغيير الأحكام الاجتهادية هو نقلها من حكم إلى حكم يختلف عن الحكم الأول تبعاً لتغير المقتضى , ويتوقف ذلك على ضرورة الموازنة الجادة من المجتهدين بين المصالح أو المفاسد السابقة والمستجدة وبين الأعراف السابقة والأعراف الحادثة , بهدف الوقوف على قدر المصالح أو المفاسد الحادثة , ومدى ضخامتها وأهميتها , وهل لها أثر كبير يفوق المصالح أو المفاسد السابقة أم لا ؟, فلا يصح التغيير إلا إذا رجحت المصالح أو المفاسد الحادثة على السابقة , ويترتب على هذا التغيير الإفتاء بترك الأحكام الاجتهادية السابقة والانتقال إلى العمل بأحكام اجتهادية أخرى , تلائم ما تجدد من أعراف ومصالح , وما تندفع به المفاسد , وسيكون له أثر هام في نماء الفقه الإسلامي وتطوره , وفي إبقاء أحكام الشريعة الإسلامية مرنة تساير تصرفات الناس في كل زمان ومكان .

هناك العديد من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء ثم صح الدليل من السنة على صواب أحد الأقوال فيها , ومن ذلك صواب القول بعدم صحة النكاح بغير ولي, وصواب القول بجواز القضاء بشاهد واحد ويمين المدّعي في الخصومات التي تتعلق بالمال أو ما يؤول إليه , كما أن هناك العديد من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء ويمكن أن يتغير الحكم فيها من زمن إلى آخر بحسب ما يتحقق به المقصود الشرعي من إحقاق الحق وجلب المصلحة ودرء المفسدة , كالقول بجواز التسعير عند الحاجة إليه , واختلاف مقادير التعزيرات بحسب صلاح الناس واستقامتهم أو انحرافهم وفجورهم .

إنه في المسائل الاجتهادية التي لم يقم نص معين على صواب أحد الأقوال فيها يكون ترجيح أحد الأقوال فيها استنادا إلى قواعد الشريعة ومقاصدها , ومن ذلك القول بجواز رمي الجمار ليلاً لمن لم يتمكن من رميها نهاراً استناداً إلى قاعدة الشريعة في التيسير ورفع الحرج , والقول بعدم جواز قضاء القاضي بعلمه استنادا إلى قاعدة الشريعة في سد ذرائع الفساد , كما قد يكون الترجيح في بعض المسائل الاجتهادية بالجمع في العمل بين قولين , ومن ذلك القول بأنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة أو إخراج الجزء الواجب من عين المال الذي وجبت فيه

لم يغفل النظام السعودي عن تحديد مصدر السلطة , حيث أورد نصاً صريحاً في النظام الأساسي للحكم يجعل الشرع المتمثل في الكتاب والسنة هو مصدر السلطة والمهيمن على جميع الأنظمة .

يعدُّ الملك في النظام السعودي هو صاحب الولاية العامة , فهو الذي يسوس الأمة سياسة شرعية , ويعمل على الحفاظ على العقيدة الإسلامية ، ويشرف على تطبيق أحكام الشريعة ، ويعين الأمراء والوزراء وغيرهم , ويصدر الأنظمة اللازمة لتنظيم شؤون المجتمع وفق الشريعة , وتعد السلطات الثلاث : التنظيمية , والتنفيذية , والقضائية , وكل من يمنحه الملك سلطة في إطار مكاني أو موضوعي -كرؤساء المصالح والهيئات وغيرهم – مسئولين أمامه عن حسن سير العمل فيما أنابهم فيه ، وعن الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها، وعن تطبيق الأنظمة الصادرة كلٌ فيما يخصه .

إن النظام السعودي أخذ بالشورى الجماعية في إصدار النظام من خلال إسناد إصدار الأنظمة وتعديلها إلى مجلس الشورى ومجلس الوزراء , حيث يخضع النظام قبل إصداره, إلى دراسة وتمحيص وتثبت من اللجان المتخصصة في المجلسين ، ولا يصدر النظام ولا يعدل إلا بعد مناقشة جماعية , وبعد إبانة كل عضو من أعضاء المجلسين عن رأيه في كل مادة من مواد النظام في الجملة .

حرص النظام على أن يتولى تقرير القواعد الشرعية العامة من لهم تضلع كبير في العلم، ومن لهم أيضاً ممارسة عملية طويلة في القضاء , يظهر ذلك من خلال إسناده إلى هيئة كبار العلماء وإلى مجلس القضاء الأعلى مهمة إبداء الرأي المستند إلى أدلة الشرع , فيما يتعلق بتقرير قواعد شرعية عامة , ليسترشد بها ولي الأمر في سياسته للأمة.

التزام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بجعل النظام محكوما بما دل عليه الكتاب والسنة , وجعل الأحكام الشرعية التي لا يسوغ الخلاف فيها واجبة التنفيذ والتطبيق ، وعدم إصدار أنظمة تتعارض معها .

إن النظام في المملكة العربية السعودية – عند معالجته لرفع الخلاف الذي يقع في مجلس الشورى أو في مجلس الوزراء المناط بهم دراسة الأنظمة ومناقشتها قبل إصدارها أو تعديلها – أقر الترجيح بالكثرة العددية إذا بلغت حداً معيناً لتجاوز الخلاف – أي أنه غلًّب رأي الموافقين على إصدار نظام أو تعديله إذا كانوا أكثر من المعارضين ، وعند انقسام الآراء المختلفة إلى قسمين متساويين من حيث العدد فإنه جعل لرأي رئيس كلٍّ من المجلسين ثقله في ترجيح الكفة التي يكون معها على رأي الكفة الأخرى.

وأما فيما يتعلق بعمل هيئة كبار العلماء , وكذا مجلس القضاء الأعلى فقد أطلق لهم حرية الاجتهاد , وفق ما دل عليه الكتاب والسنة من دون الإلزام بطريقة معينة ، فلكل واحد حق الاجتهاد وترجيح ما يؤديه إليه اجتهاده , وما اتفق عليه أكثر الحاضرين فهو الذي يعمل به شرط بلوغ الحاضرين عدداً معيناً نص عليه النظام ، وعند انقسام الآراء إلى قسمين متساويين يكون رأي الرئيس مرجحاً للعمل به .

نص النظام السعودي صراحة على جواز تغيير الأحكام الاجتهادية الصادرة بنظام إذا دعت لذلك حاجة من تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة ، على ألا يتعارض مع ما دل عليه الكتاب والسنة

تمر إجراءات تغيير الأحكام بنفس الإجراءات التي يمر بها إصدار النظام ، وهذه الإجراءات تتدرج بالترتيب ابتداءً باقتراح التعديل , ثم بدراسته ومناقشته , ثم التصويت عليه ، ويأتي بعد ذلك التصديق , لتنتهي الإجراءات بالإصدار ثم بالنشر وتحديد موعد النفاذ . ويترتب على تغيير الأحكام في النظام

الآثار التالية:انتهاء القوة الإلزامية للنص النظامي السابق الذي تم تعديله , وعدم نقض ما تم العمل به من الأحكام النظامية الأولى , وفقا للنظام السابق , إذ لو جاز نقضها لتسلسل النقض مع كل تعديل جديد , فلا تستقر الأحكام أبدا , وعدم جواز مخالفة ما نص عليه النظام الجديد أو النص النظامي المعدَّل , حيث وقد أمر به من تجب طاعته , واستحقاق المخالف في ذلك , للجزاء الذي يحدده النظام على حسب نوع المخالفة .

جعل النظام للقاضي السعودي سلطة مطلقة في النِّزاعات والخصومات التي لم يصدر بشأنها أنظمة تحكمها ، فله حق الاجتهاد والتحري لما هو الصواب , وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة في تطبيق الأحكام الشرعية عليها . أما النِّزاعات والخصومات التي صدر بشأنها أنظمة تحكمها فإن سلطة القاضي السعودي مقيدة بتطبيق الأنظمة الصادرة بشأنها.

حرص النظام السعودي على رفع مكانة القضاء , وسعى إلى تجنيب القضاة كل ما من شأنه أن يكون سبباً في الظن السيئ بهم ، فحدد تحديداً واضحاً متى يتنحى القاضي من تلقاء نفسه عن نظر الدعوى ، وبينت اللائحة التنفيذية للنظام الأحوال التي يجب على القاضي أن يتنحى من نظر الدعوى بيانًا شافياً واضحاً , ورتبت بطلان عمل القاضي وقضاءه إذا وقع في أي حال من الأحوال الممنوع من القضاء فيها .

يتضح من نصوص الأنظمة السعودية المتنوعة أن التعزير بالمال يمثل جزءًا من السياسة الشرعية التي ينتهجها ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية , لحمل الناس على عدم ارتكاب المعاصي ، وعلى السير وفق الأنظمة , التي تنظم شؤون حياتهم وحثهم على عدم مخالفتها , ببيان العقوبات التي ستطبق علي من يخالفها .

إن النظام السعودي قد تناول العديد من المسائل الاجتهادية بالتنظيم ومنها جباية الزكاة , حيث جعل من اختصاص الدولة جباية زكاة الأموال الظاهرة كاملة وصرفها في مصارفها ، أما جباية الأموال الباطنة فقد خضعت للتغيير والتعديل أكثر من مرة ، فتارةً يجعل النظام جبايتها كاملة من اختصاص الدولة ، وتارةً يسمح لأربابها بصرف نصف زكواتهم على مستحقيها بمعرفتهم ، واستمر التعديل إلى أن استقر النظام , على أن جعل للدولة جبايتها كاملة من جميع الأفراد والشركات والمؤسسات .

ثانياً : التوصيات .

لما كان رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية , وكذا تغيير الأحكام الاجتهادية عند تغير مقتضياتها وفق ما بينته أثناء البحث يحتاج إلى تضافر جهود أولي الأمر من الفئتين العلماء والحكام , بحيث يُبدأ بنية خالصة من حُكومة إسلامية تدرك أهميته وتستشعر عظم المصالح التي ستتحقق من هذا العمل الجليل فتسخر إمكاناتها لتأسيسه ودعمه وإنجازه , كما يحتاج في المقابل إلى عزيمة صادقة من العلماء المجتهدين للقيام به .

لذلك رأيت أن أرفع ثلاث توصيات مهمة وضرورية كي يتحققَ رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية على أرض الواقع , وهي على النحو التالي :

التوصية الأولى : أرفعها إلى حكومة المملكة العربية السعودية ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – يحفظه الله – فهي خير حكومة يمكن أن تدعم هذا العمل الجليل وتتبنى الإشراف عليه , وإن خير ما يمكن أن تقدمه المملكة من خدمة للإسلام والمسلمين في هذا العصر هو جمع علماء العالم الإسلامي المجتهدين للقيام باجتهاد جماعي منظم فيما يحقق المصلحة ويدفع المفسدة عن الأمة فيما يأتي :

أ- رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية وَفق منهج شرعي وَسَطِي يُتفق عليه سلفا ؛ ليكون ما يترجح لهم أساساً شرعياً تُستقى منه الأنظمة والقوانين , وتصدر الأحكام القضائية موحدة على وفقه وبذلك ينحسر التناقض والاختلاف في الفتوى وفي الأحكام القضائية, وترتفع التهم والظنون السيئة عن ولاة الأمر وعن القضاة , ويتحقق العدل والمساواة بين الناس .

ب- تغيير الأحكام الاجتهادية كلما استجدت مقتضيات تستوجب التغيير ؛ لجلب المصالح ودفع المفاسد .

ج- استنباط الأحكام الشرعية لما يحدث من واقعات ونوازل بما يتناسب وتطورات العصر ولا يتناقض مع مقاصد الشريعة .

د- التصدي للآراء الشاذة والأفكار المنحرفة التي تضر بعموم الأمة ومصالحها , والتي تصدر ممن يتسمَّون باسم الإسلام , ودحضها بالحجة والبرهان .

التوصية الثانية : أرفعها إلى القائمين على جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية المباركة بضرورة الدعوة والتنظيم لمؤتمر عام يضم علماء العالم الإسلامي بخصوص رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية من أجل الاتفاق على ضوابط لاختيار المؤهلين لهذا العمل الجليل وللاتفاق أيضا على المنهج المناسب الذي سيسير عليه المجتهدون في رفع الخلاف وغير ذلك مما يتصل بهذا الموضوع .

التوصية الثالثة : إلى العلماء المجتهدين في العالم الإسلامي بضرورة الاجتهاد الجماعي فيما اختلف فيه الفقهاء السابقون وفيما يحدث من واقعات لأهميته في بيان الأحكام الشرعية الراجحة بالدليل فيما للخلاف فيه مسوِّغ ؛ لتجتمع كلمة الأمة على العمل به , وتسن الأنظمة والقوانين في البلاد الإسلامية على وفقه , وليتحقق بتطبيقه على الخصومات العدل والمساواة بين الناس .

وفي الختام أسال الله – تعالى – أن يجمع كلمة الأمة على الحق , وأن ييسر سبل رفع الخلاف في الأحكام الاجتهادية وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم , وأن ينفع به من قرأه