بحث قانوني في ركن الرضـاء في عقد النقل البري للبضائع

تمهـيد

نشاط النقل خدمة ضرورية لاغنى عنها لحصول الانسان على ما يحتاج اليه من سلع وخدمات، ولعل أهم اسباب انتشار ابرام عقود نقل البضائع تكمن في تعدد وتنوع وسائل النقل ، بالإضافة إلى الدور التكميلي الذي تلعبه خدمة النقل بالنسبة لخدمة البيع، والأصل أن لعقـد النقل البري للبضائع طرفين متعاقديـن هما الناقل والمرسل، ولكن المستفيد من العقد قد يكون شخصا أخرا غير المرسل يدعى بالمرسل إليـه إذا قبل العقد، ويفترض وجود رضاء المتعاقدين وصحته لقيامه صحيحا، وسنتكلم في المبحث الأول عن وجود الرضاء، و في المبحث الثاني عن صحة الرضاء

المبحث الأول
وجـود الرضـاء

يفترض عقد النقل البري للبضائع وجود الإرادة لأن الشخص المعدوم الإرادة لا يمكن أن يصدر منه الرضاء، ويستلزم لإبرامه التعبير عن إرادتي الناقل والمرسل وتوافقهما. ويكون التعبير عن إرادة الناقل في شكل إيجاب، أما التعبير عن إرادة المرسل فيكون في شكل قبول، ولا يكفي صدور التعبير عن إرادتي المتعاقدين في هذا الشكل بل لا بد من تطابق الإيجاب الصادر من الناقل و القبول الصادر من المرسل. وسنتناول في المطلب الأول الإيجاب، والمطلب ثاني القبول، و في المطلب الثالث تطابق الإيجاب والقبول

المطلب الأول
الإيـجـــاب

يصدر الإيجاب عادة من الناقل في شكل إيجاب عام موجه للجمهور أي لكافة الناس ، كالشركات التي تجر عربات النقل من مركبات والسكك الحديدية ونحوها في الشوارع والطرقات العامة ، لكن هذا لا يمنع في بعض الأحيان أن يكون موجها لشخص مسمى، غير أنه في أغلب الأحوال توجد مؤسسات النقل في حالة إيجاب دائم وموجه للجمهور
و اتخاذ الإيجاب هذا الشكل في عقد النقل البري للبضائع، يجد سنده القانوني في نص المادة 16 من القانون رقم:01/13 المتعلق بتنظيم النقل البري ، التي تلقي على عاتـق الناقلين الالتزام بإعلام زبائنهم بكافة الشروط العامة للنقل عن طريق الوسائل المناسبة لذلك لكي يكون باتا، إذ تقضي الفقرة الأولى من هذه المادة بأنه « يلتزم متـعاملو النقل البري بإعلام المستعملين عن طريـق كل الوسائل المناسبة وباستمرار، بالشروط العامة للنقل فيما يخـص الآجال و الوتيرة و التوقيت
و قد يكون الناقل في بعض الحالات محتكرا أحد أنواع النقل دون سواه، كما هو الشأن بالنسبة لاحتكار المؤسسة الوطنية لنقل بالسكك الحديدية نشاط النقل العمومي للبضائع عبر السكك الحديدية، مثلما يستخلص من نص المادة 20 من المرسوم التنفيذي رقم:91/195 المؤرخ في1991/06/01: المتعلق بالشروط العامة لممارسة نشاطات النقل البري للبضائع والأشخاص، التي نصت على أنه « تتدخل المؤسسـة الوطنية لنقل بالسكك الحديدية كمتعامل وحيد للنقل العمومي للبضائع عبر السكك الحديدية
و في حالة الاحتكار يلتزم الناقل المحتكر بقبول كل ما يقدم إليه من طلبات النقل وليس الاختيار بين تلك التي يقبلها و التي لا يقبلها مراعـاة لمصلحة الطرف الأخر ، نظرا لخطورة الاحتكار في الإضرار بالمعاملات التجارية، والقضاء على المنافسة الحرة والنـزيهة وحماية للجمهور المتعامل مع الناقل و لكن هذا الالتزام ليس مطلقا بل يرد عليه استثناء، إذ يجوز للناقل أن يرفض طلب المرسل بالنقل إذا كان هناك سبب مشروع لهذا الرفض، كأن يكون طلب المرسل مخالفـا للقانون أو كان تنفيذ النقل يشكل خطرا يفوق طاقة وسائلـه، غير أنه إذا قبل هذا الخطر لا يستطيـع فيما بعد أن يتمسك بصعوبة العمليـة لاستبعاد أو تحديد مسؤوليته أما إذا كان رفض النقل بدون مبرر مشروع، فهذا الرفض يعد حالة من حالات التعسف الناتج عن الهيمنة على السوق الممنوعة بمقتضى المادة 58 من قانون المنافسة رقم95/06، والمعاقب عليها بمقتضى المادة 65 من هذا القانون. و في حالة عدم مطابقة خدمـة النقل للمقاييس المعتمدة والمواصفات القانونية والتنظيمية التي تميزها، أو عدم استجابتها للرغبات المشروعة للمستهلك، فإن مؤسسة النقل تخضع للعقوبات المنصوص عليها في المادة 28 من قانون حماية المستهلك رقم:89/02 و يغلب أن يكون الإيجاب مطبوعا في شكل نماذج معـدة سلفا من طرف الناقل، والتي تختلف شروطها وبياناتها طبقا لطبيعة العقـد و وسيلـة النقل و محل النقل. و يتقيد في إعدادها بالكيفيات والشروط التي تبينها التنظيمات المحددة لعقود النقل البري للبضائع، طبقا لما نصت عليه المادة 15 الفقرة الثانية من القانون رقم:01/13 السالف الذكر بقولها « تحدد شروط و كيفيات إعداد عقود النقل عن طريق التنظيم و يتضمن كل نموذج الشروط الخاصة به، ويجب على طرفـي العقد تحديد النموذج المتفق عليه حتى يتم تنفيذ العقد في ضوء شروط هذا النموذج
و قد يحدث أن لا يحدد أطراف العقد النموذج الواجب إتباع شروطه وأحكامه، في هذه الحالة يفترض أن العقد أبرم بمقتضى النموذج الذي يتضمن الشروط العامـة، باعتباره ممثلا لإرادة الطرفين عندما تتعدد نماذج عقود النقل
و إذا اتفق في العقد على أن يتبع نموذج معين يشتمل على شروط خاصـة فلا ينعقد العقد إلا وفقا لهذه الشروط الواردة بهذا النموذج المتفق على إتباعه، ولا يجوز تجزئة الشروط التي يشتمل عليها هذا النموذج، وإنما لابد من إتباعها كاملة. و لا يوجد ما يمنع الناقل من أن يعدل عن نماذجـه كلها ويعد صيغة خاصة لعقد معين غير نماذجه العامـة والخاصـة، لأن هذه النماذج كلها كما سبق القول يعدها الناقل بنفسه. و لذلك لا يوجد ما يمنع المحكمة عند التنازع أن تعتبر النموذج عقد إذعان

المطلب الثاني
القـبــول

طبيعة شكل الإيجاب في عقد النقل البري للبضائع دفعت البعض من الفقهاء للقول بأن القبول فيه يعرف الحريـة القانونية التي يعرفها في باقي العقود، بمعنى أنـه حر لا يتقيد بشكل معين. ولكن الغالب أن قبول المرسل عادة ما يتخذ شكل الانضمام أو الإذعان لشروط الإيجاب الموضوعـة مسبقا من قبل الناقل، بمعنى التسليم لها دون مناقشتها، لأنـه ليس للمرسل سوى التسليم بها كما هي، إذ لا غنى له عن التعاقد خاصة إذا كان الناقل في مركز المحتكر. وفي هذا المعنى قضت المـادة70 من القانون المـدني بأنه « يحصل القبول في عقد الإذعان بمـجرد التسليم للشروط المقررة يضعها الموجب ولا تقبل مناقشة فيها
و يعد تسليم المرسل بشروط الإيجاب والتحفظات الواردة فيـه قبولا حقيقيا يتم به العقد، لأن المرسل لا يفقد حريتـه وإن كان في الغالب الطرف الضعيف بالنسبـة للناقل، وحمايـة للمرسل أعطى المشرع لقاضي الموضوع سلطة واسعة دون أن يخضع لرقابة المحكمة العليا، في تقدير ما إذا كانت الشروط و التحفظات الواردة في العقد تعسفية أو لا. فإذا تبين له فيه, شرطا تعسفيا، فله أن يعدله أو حتى أن يلغيه ويعفي المرسل من تنفيذه، ولا يجوز للمتعاقدين باتفاق خـاص، أن ينزعا من القاضي سلطتـه في تقدير شروط العقد لأن هذا الاتفاق يكون باطلا لمخالفتـه للنظام العام، ولولا هذه الحمايـة التي أقرها المشرع لغالت مؤسسات النقل في وضـع الشروط التعسفية في العقود التي تبرمها. وفي هذا المعـنى قضت المادة 110 من القانون المدني بأنه « إذا تـم العقد بطريقة الإذعـان، وكان قد تضمن شروطا تعسفيـة جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعـفي الطرف المـذعن منها، وذلك وفـقا لمـا تقضي به العدالة ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك و الأصل في عقد النقل البري للبضائع أن السكوت لا يعتبر قبولا طبقا للقواعد العامـة المنصوص عليها في القانون المدني، إلا إذا كان الإيجـاب لمصلحـة المرسل، أو إذا كانت هناك علاقة عمل سابقـة بين الناقل و المرسل، أو إذا كان العرف الجاري بـه العمل يقضي بذلك. و هذا ما يستفاد من نص الفقرة الثانية من المادة68 من القانون المدني التي نصت على أنه « و يعتبر السكوت في الرد قبولا، إذا اتصل الإيجاب بتعامل سابق بين المتعاقدين، أو إذا كان الإيجاب لمصلحة من وجه إليه

المطلب الثالث
تطابـق الإيـجاب والقبـول

عقد النقل البري للبضائع نتاج اتفاق الطرفين وحده أي بمجرد أن يتبادلا الرضاء، وبمعنى أخر أنـه ينعقد منذ اللحظة التي يتفق فيها الطرفان على طبيعة الخدمة و كيفية أدائها. ولقد أكدت المحكمة العليا على مبدأ رضائيـة العقد في العديد من القرارات التي نذكر منها على سبيل المثـال القرار المؤرخ في1987/11/11: الذي نص في إحدى حيثياته على أنه « من المقرر قانونا أن العقـد يتم بمجـرد أن يتبادل الطرفان الـتعبير عن إرادتهمـا المتطابقتين دون الإخلال بالنصوص القـانونية ومـن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد مـخالفا للقانون »

و لكي ينعقد العقد يجب أن يتطابق الإيجاب والقبول، بمعنى أن يرد القبول على كل شروط الإيجاب بحيث لا يعدل منه أو يقيد منه أو يزيد عليه, فإذا لم يكن كذلك لا يبرم العقد ونكون بصدد إيجاب جديد لم يقترن بعد بقبول من جانب مقدم الإيجاب الأصل. و في هذا المعنى قضت المادة 66من القانون المدني بأنه « لا يعتبـر القبول الذي يغير الإيجاب إلا إيجابا جديدا

و يفرق القانون المدني الجزائري بصدد مسألـة تطابق الإيجاب والقبول بين فرضين، وهما أن يكون المتعاقدان حاضرين في مجلس واحد أو يكونا بعيدين عن بعضهما ويتعاقدان بالمراسلة
ففي الفرض الأول وهو التعاقد في مجلس العقد ينبغي أن يقترن القبول بالإيجاب فورا قبل انفضاض مجلس العقد أي إذا كان المتعاقدان حاضرين حقيقة أو حكما كما هو الحال في التعاقد بطريق الهاتف أو وسائل الاتصال الحديثة كإنترنت ينبغي أن يقترن القبول بالإيجاب فورا قبل انفضاض مجلس العقد و الأصل أن يصدر القبول فورا بعد الإيجاب مادام الموجب لم يحدد أجـلا للقبول، فإذا لم يصدر القبول فورا، فإن للموجب أن يرجع في إيجابه. ولكن استثناءا من هذا الأصل أجـاز القانون أن يتراخى القبول مادام المتعاقدان مازالا في مجلس العقد ومنشغلين بالتعاقد ومادام الموجب باقيا على إيجابـه
أما في الفرض الثاني وهو التعاقد بين غائبين كالتعاقد بطريقة المراسلة وبطرقها المختلفة كالبريد أو بالبرق أو حتى بواسطة رسول غير نائب، فينبغي لاقتران القبول بالإيجاب أن يتصل بعلم من وجه إليه أي بعلم الناقل و يعتبر وصول القبول إلى الناقل قرينـة على العلم به حتى يثبت العكس ، و في هـذا المعنى قضت المادة 61 من القانون المدني بأنه « ينتـج التعبير عن إرادة أثـره في الوقت الـذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ويعتبر وصـول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم دليل على عكـس ذلك » و تطبيقا لنص هذه المادة يعتبر عقد النقل البري للبضائع تامـا في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الناقل بقبول المرسل، ويعتبر وصول قبول المرسل إلى الناقل قرينـة على علمه به حتى يثبت العكس. وهذا ما أكدته المادة 67 من القانون المدني بقولها « يعتبـر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك، و يفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان وفي الزمان اللذين وصل إليه فيهما القبول
غير أن الملاحظ في مجال عقود النقل بصفة عامة وعقد النقل البري للبضائع بصفة خاصة أن مسألة زمان ومكان إبرام العقد لا تطرح بحدة، لأن مجال هذه العقود يعرف العادات المنظمة له . و مع ذلك تبرز أهمية تحديد زمان ومكان إبرام عقد النقل البري للبضائع في نتيجتين أساسيتين هما

النتيجة الأولى: تتعلق بزمان تكوين العقد مختلف الفوائد المحيطة بتكوين العقد نفسه، لاسيما سريـان المواعيد من الوقت الذي يصل فيه قبول المرسل إلى الناقل, وينظر أيضا إلى أهلية طرفيه في هذا الزمان بالذات، بالإضافة إلى تحديد أجرة النقل في هذا الزمان في حالة وجود فارق في جداول الأسعار المعروضة في السوق و في مخاطر النقل،

النتيجة الثانية: يتوقف على مكان إبرام العقد تحديد الجهة القضائية المختصة للفصل في النزاعات المتعلقة بهذا العقـد