دراسة وبحث قانوني قيم في السلطات الإدارية المستقلة وإشكالية الاستقلالية

السلطات الإدارية المستقلة وإشكالية الاستقلالية

مقدمة:

العولمة هي نزع الحواجز أو الحدود الاقتصادية بين الدول، وذلك عبر العالم، بهدف ضمان حرية سير كلّ عوامل الإنتاج.
وهذه الظاهرة لم تكن بعامل الصدفة وخاصّة في بلدان العالم الثالث كالجزائر، وذلك بتقليد القانون الليبرالي الغربي. إذ نلاحظ تغيرات دستورية، وانسحابًا للدولة في المجال الاقتصادي، واستقبال التنظيم القانوني الليبرالي، وذلك باستيراد أحدث التكنولوجيات القانونية “المفتاح في اليد”. وقد صرح أحد الكتاب قائلا: » يمكن تحديد شكل الثقافة والاقتصاد للأمم الأخرى. وذلك باستيراد النظام القانوني الذي سيؤثر على التنظيم الاجتماعي كلّه، وبدون احتلال الأراضي أو استثمار رؤوس أموال في التطوير الاقتصادي والاجتماعي «([1]).
وبالتّالي ظاهرة العولمة مرفقة بإنتاج أحدث القواعد وكفاءتها تفرض كضرورة لانضمام الدولة المعنية في اقتصاد معولم (Une économie mondialisé)، بدون حدود([2]).
وبالنّسبة للجزائر، إلى جانب استيراد التقنيات “المفتاح في اليد”، تمّ وضع سياسة إزالة التنظيم وانسحاب الدولة من المجال الاقتصادي لصالح السوق([3]).

وبعد ذلك نلاحظ وضع هيئات جديدة مأخوذة من النموذج الغربي وهي السلطات الإدارية المستقلة والمكلّفة بمختلف الوظائف المتعلقة بوظيفة الضبط للاقتصاد في مرحلة انتقالية. علما أن هذه الإصلاحات تستدعي ضرورة إنشاء هيئات مكلّفة بالضبط ذات نموذج ليبرالي، وكما يصرح أحد الكتاب على أن:

« Libéralisation de l’économie et affirmation d’autorités de régulation cheminent de pair » ([4]).
وبالتّالي نشأت هيئات جديدة، تدعى السلطات الإدارية المستقلة، بدلاً من الهيئات الإدارية التقليدية أو الكلاسيكية، وذلك لأداء الوظائف المتعلقة بضبط النشاطات الاقتصادية والمالية.

تعتبر السلطات الإدارية المستقلة والمسماة كذلك بالسّلطات المستقلة أو بسلطات الضبط « Institution de régulation » مؤسسات جديدة من مؤسسات جهاز الدولة في الجزائر([5]). ولم يظهر هذا النوع من السلطات في القانون الإداري الجزائري إلا في بداية التسعينيات، والتي يبلغ عددها حاليا تسع سلطات([6]).

تختلف السلطات الإدارية المستقلة عن السلطات الإدارية التقليدية، بأنها لا تخضع لأية رقابة إدارية أو وصائية. ولا تخضع لمبدأ التدرج الهرمي الذي تتميز به الإدارة والهياكل المكونة لها. كما لا تعتبر الهيئات الإدارية المستقلة لجانا استشارية ولا مرافق عامة.
وتجدر الإشارة إلى أنّه ليس للسلطات الإدارية المستقلة نظام موحّد، حيث نجد أنّ تكوين هذه الهيئات وطريقة تعيين أعضائها، وكذا الطرق التي تؤمن استقلاليتها تختلف من هيئة لأخرى، أضف إلى ذلك أن من بين هذه المؤسسات ما تتمتع بالشخصية المعنوية ومنها ما لا تتمتع بذلك([7]).
كما يعتبر كلّ من الطابع الإداري للسلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، وطابع الاستقلالية، من بين المسائل التي أثارت وما زالت تثير جدالات ونقاشات فقهية وقانونية في نفس الوقت، خاصّة في الأنظمة المقارنة.
أما مسألة الاستقلالية، والتي تميّز هذا النوع من السلطات عن السلطات الإدارية العادية أو التقليدية([8])، فقد أثارت بدورها العديد من التساؤلات سواء في التشريع الجزائري أو في التشريعات المقارنة، وذلك على مستوى مختلف الجوانب العضوية والوظيفية .
فلذا نتسأل عن مدى استقلايلة هذه الهيئات الضابطة في المجال الإقتصادي والمالي.

المبحث الأوّل: الاستقلالية العضوية

تختلف درجة استقلالية السلطات الإدارية المستقلة من سلطة إلى أخرى، وبالرّجوع إلى القوانين المنشئة لهذه الهيئات، نلمس في بعض النصوص ما يبين تجسيد الاستقلالية، وفي نصوص أخرى حدود هذه الاستقلالية.

المطلب الأوّل : مظاهر الاستقلالية العضوية

اعترف المشرّع الجزائري لبعض السلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي بالاستقلالية بصورة صريحة([9])، عكس بعض السلطات الإدارية المستقلة الأخرى التي لم يُضفِ عليها المشرع طابع الاستقلالية صراحة، مثل مجلس النقد والقرض، واللجنة المصرفية، ومجلس المنافسة. وعليه يستوجب الأمر البحث عن هذه الاستقلالية عن طريق تحليل المواد القانونية المتعلقة بها.
فالاستقلالية المقصودة والتي تتميز بها السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، تكون في مواجهة السلطة التنفيذية.
فالمشرّع الجزائري في ظل القوانين المنشئة للسّلطات الإدارية المستقلة، ذكر استقلاليتها بصفة عامة واستقلالها المالي بصفة خاصّة، أمّا الجوانب الأخرى فسنحاول تبيانها وإبرازها من خلال نصوص متفرقة.
فدائما في الجانب العضوي سنتطرق إلى تشكيلتها، أي تعدد الأعضاء واختلاف صفتهم ومراكزهم، وكذلك اختلاف الجهات المقترحة لهم، وتحديد مدة انتخاب الرئيس والأعضاء… الخ.

الفرع الأوّل : تعدد الأعضاء واختلاف صفتهم ومراكزهم:

يعتبر تعدّد أعضاء السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية واختلاف صفتهم ومراكزهم القانونية مظهرا يضمن الاستقلالية العضوية([10])، إذ بالرجوع إلى تشكيلة بعض السلطات المستقلة نجدها تتكون من أعضاء يختلف قطاع انتمائهم أو عملهم، ليتراوح بين القضاء، والتعليم العالي، والمحاسبي، ومن ذوي الخبرة في المجال الاقتصادي والمالي (المنافسة، الاستهلاك، البنوك… الخ). ونذكر على سبيل المثال في المجال المصرفي، مجلس النقد والقرض، إذ نجد من حيث تشكيلته أنّ صفة ومراكز الأعضاء تختلف، إلا أنها لا تتعدى أهل الخبرة في المجال المحاسبي والمالي.
ومن خلال نص المادة 58 من الأمر رقم 03-11 المتعلق بالنّقد والقرض، والتي تطرقت إلى تشكيلة مجلس النقد والقرض، نلاحظ أنّها المادة جاءت عامة غير واضحة، مما يترك سلطة تقديرية واسعة للجهاز المختص، وهذا يترك المجال مفتوحا عند اختيار الأعضاء على أساس معايير غير شفافة أو على أساس اعتبارات سياسية أو بالمساومات([11]).
وما يعاب على هذه التشكيلة، هو غياب رجال القانون والأخصائيين في ذلك المجال، وأكثر من ذلك أنّ مجلس النقد والقرض يصدر أنظمة في المجال المصرفي تُعدّ بمثابة سلطة تنظيمية خوّلت للمجلس. والعمل على أساس هذه المعايير غير الموضوعية من حيث تعيين الأعضاء،ا لا يضمن استقلالية السلطة النقدية([12]).

كما تجدر الإشارة أيضا، إلى أنّ المشرع الجزائري لا يشارك المهنيين والحرفيين أو المتعاملين ضمن تشكيلة السلطات الإدارية المستقلة، أو يشاركهم بنسبة ضئيلة كما هو الأمر بالنسبة لتشكيلة مجلس المنافسة([13]).
وبالتّالي في حالة ما إذا كانت تتشكل من أعضاء تابعين لمختلف أجهزة الدولة، هذا لا يضمن الاستقلالية للسّلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية.
إلا أنّ هناك سلطات إدارية مستقلة، لم يتطرق المشرّع بتاتا إلى صفة الأعضاء فيها ومراكزهم القانونية، وهو الأمر نفسه بالنسبة للوكالتين المنجميتين([14]). ولجنة ضبط الكهرباء والغاز([15]).
وفي الأخير يمكن القول إنّ اختلاف هؤلاء الأعضاء المشكلين للسّلطات الإدارية المستقلة في مراكزهم وصفاتهم، مظهر يدعّم ويضمن الاستقلالية، وبالتّالي يؤدي إلى شفافية العمليات، فإذا فرضنا أنّ كلّ أعضاء السلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي ينتمون إلى سلك واحد، فهذا أمر قد يمس بحيادهم، وبالتّالي باستقلالية هذه السلطات.

الفرع الثاني: تعدد واختلاف الجهات المقترحة للأعضاء:

إنّ تعدد واختلاف الجهات المقترحة للأعضاء السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية يختلف من سلطة إلى أخرى.
يعين الأعضاء حسب قدراتهم في المجالات القانونية والاقتصادية والمالية من طرف جهات مختلفة، تتمثل في كلّ من رئيس الجمهورية، والسّلطة التنفيذية، ومحافظ بنك الجزائر. وأعضاء ممثلين لأجهزة مهنية. علمًا أنّ اختلاف جهات الاقتراح مظهر يؤثر على درجة الاستقلالية، لأنه لو كانت مهمة اقتراح الأعضاء مخوّلة لجهة واحدة فقط، فلن نكون أمام نفس درجة الاستقلالية.
ونذكر على سبيل المثال لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، والتي نلاحظ من خلال تشكيلتها اختلاف الجهات المقترحة للأعضاء، بحيث يعين أعضاء اللجنة حسب قدراتهم في المجالين المالي والبورصي، بعد اقتراحهم من طرف جهات مختلفة، تتمثل في كلّ من وزير العدل، الوزير المكلف بالمالية، والوزير المكلف بالتّعليم العالي، ومحافظ بنك الجزائر، والمصف الوطني للخبراء المحاسبين ومحافظي الحسابات والمحاسبين المعتمدين([16]).
رغم اقتراح الأعضاء من طرف جهات مختلفة، إلا أنّ سلطة التعيين تعود لسلطة واحدة وهي السلطة التنفيذية، وهذا يؤثر على درجة الاستقلالية أيضًا.
والملاحظ أنّه بالنّسبة لطريقة تعيين أعضاء السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، لا تلعب لصالح استقلالية الأجهزة، وذلك بما أنه تمّ إقصاء الهيئات التمثيلية الوطنية وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة في اقتراح أعضاء السلطات الإدارية المستقلة.
ومن هنا نستخلص أنه من الضروري أن يتقاسم البرلمان بغرفتيه والسّلطة التنفيذية سلطة التعيين([17]).
وفي الأخير، يمكن القول إنّه من الضروري عدم حصر الاقتراح في جهة واحدة فقط، فلذا يجب التنويع في جهات الاقتراح في السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، كلّ سلطة في مجال الاختصاص المخوّل لها، وأكثر من ذلك يجب مشاركة الأجهزة المهنية ضمن تشكيلة السلطات المستقلة.

الفرع الثالث – تحديد مدة انتداب الرئيس والأعضاء:

يعتبر تحديد مدة انتداب رئيس سلطة إدارية مستقلة ما وأعضائها من بين إحدى الركائز الهامة والمعتمد عليها، قصد إبراز طابع الاستقلالية كما يصرّح كاتب هذه المسألة([18]).
فاعتبار مدة الانتداب محددة قانونا، يعتبر بمثابة مؤشر يجسد استقلالية السلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي من الناحية العضوية([19])، حيث لو تمّ النص على تعيين الرئيس والأعضاء لمدة غير محددة قانونا. فلا يمكننا الإشارة إلى أية استقلالية عضوية، نتيجة جعل الأعضاء والرّئيس عرضة للعزل في أي وقت من طرف سلطة تعيينهم، الأمر الذي ينفي الاستقلالية العضوية، مثلما هو الشأن على مستوى مجلس النقد والقرض([20]).
وفي هذا السياق دائما، يمكن أن يؤدّي تجديد الانتداب هذا إلى تعاملات تتنافي مع مركز الاستقلالية([21]).
ويمكن أن نذكر على سبيل المثال لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، فيعين رئيس اللجنة في سبيل القيام بالمهام المخوّلة لها قانونا لمدة تدوم 4 سنوات، كما يعين الأعضاء الآخرين لنفس المدة.
وهذا الأمر كذلك بالنّسبة لمجلس المنافسة، فيعين رئيس المجلس ونائب رئيس المجلس والأعضاء الآخرون بموجب مرسوم رئاسي لمدة خمس (5) سنوات قابلة للتّجديد([22]).
فبالنّسبة للمجلس أحسن المشرّع بتحديده لمدة انتداب الرئيس والأعضاء، إلا أنّ قابلية تجديد الانتداب لمرّة ثانية بالنّسبة للرّئيس والأعضاء، سيؤثر سلبًا على استقلالية المجلس كسلطة إدارية مستقلة.
كما تجدر الإشارة كذلك بالنّسبة للجنة المصرفية، إلى أنّ رئيس الجمهورية يعين أعضاء اللجنة لمدة 5 سنوات([23]). أما بالنسبة لرئيس اللجنة وهو محافظ بنك الجزائر، فإنّ المشرّع في التعديل الجديد لم يحدد مدة انتداب المحافظ. وبالتّالي فهو محل العزل في أي وقت كان، وهذا يحدّ من استقلالية اللجنة كسلطة إدارية مستقلة في المجال المصرفي.
الفرع الرابع: مراعاة الأحكام الصادرة عن السلطات المستقلة لمبدأ الحياد:

قصد ضمان استقلالية السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، استوجب الأمر تكريس مبدأ الحياد الذي يتضمن بدوره نظام التنافي وإجراء الامتناع.
نظام التنافي Le régime des incompatibilités: يكون هذا النظام مطلقا أو نسبيا. فنظام التنافي المطلق أو الكلي يظهر عندما تكون وظيفة أخرى سواء أكانت عمومية أو خاصّة. وكذا مع أي نشاط مهني وأية إنابة انتخابية، بالإضافة إلى امتناع امتلاك الأعضاء للمصالح بصفة مباشرة أو غير مباشرة([24]).
نجد مثل هذا النظام، أي نظام التنافي المطلق في أحكام القانون المتعلق بالكهرباء وتوزيع الغاز([25])، نفس الأحكام وردت في القانون المتعلق بالبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، إلا أنّ هذا الأخير لم يُشرْ إلى العهدة الانتخابية، حيث تنص المادة 18 منه على أنه: » تتنافى وظيفة العضو في المجلس مع أي نشاط مهني أو منصب عمومي آخر، وكذا مع كلّ امتلاك مباشر أو غير مباشر لمصالح في مؤسسة تابعة لقطاعات البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية والسّمعي البصري والمعلوماتية «([26]).
يكتفي المشرّع، في حالات أخرى، بمنع أعضاء الهيئات المعنية من ممارسة أي نشاط مهني آخر، مثلما هو الوضع على مستوى مجلس المنافسة، حيث تنص الفقرة الأخيرة من المادة 29 على أنّه: » تتنافى وظيفة عضو مجلس المنافسة مع أي نشاط مهني آخر «([27]).
بالتّالي تمّ استثناء عهدة الانتخاب وامتلاك مصالح في أي مؤسّسة، من نظام التنافي. الأمر الذي يدفعنا إلى طرح التساؤل حول نظام التنافي عند امتلاك أعضاء مجلس المنافسة مصالح لدى مؤسسة تكون محل متابعة أمامه.

المطلب الثاني: حدود الاستقلالية العضوية

اعترف المشرع الجزائري وبصفة صريحة باستقلالية معظم السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي، إلا أنّ هذه الاستقلالية كثيرا ما تختفي، ويكفي التمعن في بعض النصوص القانونية الصادرة في هذا الشأن، ناهيك عن الواقع العملي الذي يثبت ذلك، مما يجعل البعض يصف أو يكيف استقلالية السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي بالنّسبية، ومنهم من يصفها باستقلالية مظهرية، نظرية، افتراضية، خيالية… الخ.
وبعد أن تعرّضنا لأهم أوجه إبراز الاستقلالية العضوية للسّلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي، نجد أنّ هذه الاستقلالية لم تكتمل، إذ غالبا ما تصطدم بعراقيل توقفها أو تعرقل مسارها. ويعود ذلك إلى احتفاظ السلطة التنفيذية ببعض وسائل التأثير، حيث رغم تنازلها عن بعض صلاحياتها في ممارسة الوظيفة الضبطية لهذه السلطات، إلا أنها ما زالت تمارس الرقابة عليها بطرق مختلفة. ومن بين أهم ما يعرقل استقلالية هذه السلطات، سنتطرق إلى تمتع السلطة التنفيذية بسلطة التعيين، ظروف انتهاء عضوية الرئيس والأعضاء، وكذلك عدم تحديد مدة انتداب الرئيس والأعضاء، وأخيرا غياب إجراء الامتناع.

الفرع الأوّل: تمتع السلطة التنفيذية بسلطة التعيين:

يعتبر هذا المظهر من بين المظاهر الأساسية التي تقلص الاستقلالية العضوية للسّلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي إلى حد ما، وبالتّالي تعرقل استقلاليتها، رغم المظاهر السابقة الذكر، الأمر الذي يدفعنا إلى ترجيح بعض السلطات المستقلة من هذا الجانب.

1 – تعيين الرئيس: إنّ كلّ السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي يتم تعيينهم بمرسوم رئاسي من طرف رئيس الجمهورية، باستثناء رئيس لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها.
علمًا أنّ المشرّع الجزائري خوّل سلطة تعيين رئيس لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها للحكومة، وذلك في نص المادة 2 من المرسوم التنفيذي رقم 94-175([28]): » يعين رئيس لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها لمدة نيابة تدوم 4 سنوات بمرسوم تنفيذي يتخذ في مجلس الحكومة بناء على اقتراح الوزير المكلف بالمالية «.
تبيّن لنا هذه الأحكام بصورة واضحة مدى تدخل الحكومة وتأثيرها على تشكيلة اللجنة، حيث تتمتع بمهمة الاقتراح والتّعيين معًا.
ومن هنا نقترح أن يتم تعيين الرئيس من طرف رئيس الجمهورية بمرسوم رئاسي وهذا بهدف تحقيق استقلاليته إزاء الحكومة من هذا الجانب.

2 – تعيين الأعضاء: إنّ أعضاء كلّ السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي يتم تعيينهم بمرسوم رئاسي من طرف رئيس الجمهورية، باستثناء أعضاء لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها. وكذلك أعضاء غرفة التحكيم للجنة ضبط الكهرباء والغاز([29]).
فبالنّسبة للجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها وتطبيقا لنص المادة 22 من المرسوم التشريعي رقم 93-10، تمّ إصدار نص تنظيمي في هذا الصدد، قصد إبراز كيفية تعيين أعضاء اللجنة، واستنادا إلى نص المادة 06 من هذا التنظيم([30])، يعين أعضاء لجة البورصة بقرار من الوزير المكلف بالمالية لمدة تدوم 4 سنوات.
فرغم اختلاف جهات اقتراح هؤلاء الأعضاء، كما سبق لنا ذكره، إلا أنّ إسناد سلطة التعيين للحكومة أمر يقلص من استقلالية هؤلاء الأعضاء.
ومقارنة بنظيرتها الفرنسية أي لجنة عمليات البورصة الفرنسية (COB) في ظلّ القانون المؤرخ في 2 جويلية 1996، فإنّ هذا الأخير يضمن لها استقلالا تاما في مواجهة السلطات العامة عن طريق توزيع سلطة تعيين أعضاء المجمع بين عدّة هيئات مختلفة تتراوح بين نائب رئيس مجلس الدولة، الرئيس الأوّل لمحكمة النقض، والرئيس الأوّل لديوان المحاسبات، إضافة إلى رئيس مجلس الشيوخ، رئيس المجلس الوطني، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، محافظ بنك فرنسا.
وعليه نلاحظ من خلال هذه التشكيلة، غياب تدخل السلطة التنفيذية في تعيين أعضاء المجمع، لتتدخل فقط في تعيين الرئيس واعتماد تعيين المدير والأمين العام([31]).
وعلى هذا الأساس نقترح توزيع الاختصاص في تعيين أعضاء لجنة البورصة الجزائرية بين كلّ من السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والجهاز القضائي، وكذا المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي (CNES)، وذلك من أجل ضمان استقلالية اللجنة عن السلطة التنفيذية.

الفرع الثاني : ظروف انتهاء عضوية الرئيس والأعضاء:

إنّ رؤساء السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي والذين يتم تعيينهم من طرف رئيس الجمهورية بموجب مرسوم رئاسي، تنهي مهامهم أثناء ممارستهم النيابة إلا في حالة ارتكاب خطأ مهني جسيم أو لظروف استثنائية.
وهو الأمر نفسه بالنّسبة لمحافظ بنك الجزائر ونوابه في ظل القانون رقم 90-10 المتعلق بالنّقد والقرض([32])، إلا أنه في التعديل الجديد لسنة 2003 تمّ إلغاء ذلك.
أمّا بالنّسبة للأعضاء فتنهى مهامهم بنفس طريقة تعيينهم، إلا أنه لا توجد أية إشارة لظروف أو أسباب إنهاء عضويتهم خلال مدة نيابتهم.
وفي هذا الصدد كان على المشرّع وضع هذا الضمان، أي عدم إمكانية العزل خلال فترة النيابة في النصوص التشريعية وتطبيقه على جميع السلطات الإدارية المستقلة في المجال الاقتصادي والمالي.

الفرع الثالث: عدم تحديد مدة انتداب الرئيس والأعضاء:

إنّ اختلاف المعطيات العضوية للسّلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي، يؤثر سلبا على استقلاليتها. وهذا ما يخلق فوضى في السلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي([33]).
وبالنّسبة لعدم تحديد مدة انتداب الرئيس والأعضاء، فهو الأمر كذلك بالنّسبة لخمس (5) سلطات مستقلة.
ونذكر على سبيل المثال سلطة ضبط البريد والمواصلات، فلم يحدّد المشرّع مدة انتداب الرئيس والأعضاء([34]). وبالتّالي هم عرضة للعزل في أي وقت وهذا يمس باستقلالية السلطة كهيئة إدارية مستقلة ضابطة في مجال البريد والمواصلات.
والأمر كذلك، بالنّسبة للجنة ضبط الكهرباء والغاز([35])، الوكالتين المنجميتين([36])، ومجلس النقد والقرض.
إلا أنّ هناك سلطتين إداريتين مستقلتين([37]). والتي حدّد المشرّع الجزائري صراحة مدة انتداب الرئيس وبقية الأعضاء فيهما، لكن في المقابل لم يشر لا بصفة صريحة ولا ضمنية إلى إمكانية تجديد هذه المدة، وبالتّالي، فأمام سكوت المشرع في هذا الشأن، تكون مدة النيابة قابلة للتّجديد على أساس غياب أحكام صريحة تنص على ذلك. وهذه المسألة، أي قابلية مدة الانتداب للتجديد، مظهر يمسّ بسير الأعمال نتيجة عدم استقرار الوظيفة من جهة، وعدم استقلالية الأعضاء تجاه سلطة تعيينهم من جهة أخرى.

الفرع الرابع: غياب إجراء الامتناع Le procédé de l’empêchement:

لا يُقصد بإجراء الامتناع منع أعضاء أجهزة إدارة السلطات الإدارية المستقلة من الجمع بين وظائفهم ووظائف أخرى أو نشاطات أخرى، أو امتلاك مصالح في مؤسسة معينة، وإنّما يُقصد به تقنية تستثني بعض أعضاء الهيئة من المشاركة في المداولات المتعلقة بالمؤسسات محل المتابعة بحجة وضعيتهم الشخصية تجاهها([38]).
وفي هذا الصدد، تنص المادة 29 من الأمر رقم 03-03 المتعلق بالمنافسة على أنه: » لا يمكن أي عضو في مجلس المنافسة أن يشارك في مداولة تتعلق بقضية له فيها مصلحة أو يكون بينه وبين أحد أطرافها صلة قرابة إلى الدرجة الرابعة أو يكون قد مثل أو يمثل أحد الأطراف المعنية «.
وعليه فالأشخاص المعنية ملزمة بإعلام الرئيس بالمصالح التي يمتلكونها، وهذا الإجراء لا يُعد أمرًا جيدًا، بل نظمه كذلك حتّى الأمر رقم 95-06 المتعلق بالمنافسة([39]).
وأكثر من ذلك، نجد أثره حتّى في النظام الداخلي لمجلس المنافسة([40])، مما يسمح لنا بإضفاء صفة الموضوعية والحياد على مداولات هذا المجلس.

أما بالنسبة للجنة المصرفية باعتبارها سلطة إدارية مستقلة ضابطة في المجال المصرفي، فإجراء الامتناع غائب على مستواها، حيث لم يشر المشرع الجزائري إليه، خاصّة في مواجهة الأعضاء الثلاثة غير الرئيس والقضاة، الذين يخضعون لهذا الإجراء بحكم مراكزهم، بالتّالي نتساءل: ما مفهوم مبدأ الحياد الذي من المفروض أن تخضع له اللجنة المصرفية حين تنظر في المخالفات التي ترتكبها البنوك والمؤسسات المالية التي تربطها بأعضاء اللجنة المصرفية مصالح؟
وعليه فإنّ غياب إجراء الامتناع ضمن الأحكام القانونية المتعلقة بالسّلطات الإدارية المستقلة الضابطة في المجال الاقتصادي والمالي مسألة تمسّ باستقلالية الأعضاء وحيادهم في ممارسة وظائفهم.
على ضوء دراستنا لأهم المظاهر التي تجسّد الاستقلالية العضوية من جهة، والقيود التي تحدّ من درجة هذه الاستقلالية من جهة أخرى، نخلص إلى وجود استقلالية عضوية لكنها جدّ محدودة، نتيجة التدخل المستمر للسّلطة التنفيذية في شؤون السلطات الإدارية المستقلة الفاصلة في المواد الاقتصادية والمالية، واحتفاظها بمختلف أشكال الرقابة، ممّا يضفي على استقلالية السلطات المستقلة من الناحية العضوية الطابع النسبي أو النظري أو الشكلي.