بحث قانوني و دراسة عن أنواع القصد الجنائى فى جريمة السرقة

تقسيـــــــــــــــــــــم :

ينقسم هذا البحث إلى فرعين :

الفرع الأول : الاتجاه القائل بالاقتصار على القصد الجنائي العام.

الفرع الثاني : الاتجاه القائل باشتراط القصد الجنائي الخاص ( نية التملك ).

الفرع الأول
الاتجاه القائل بالاقتصار على القصد الجنائي العام

استند هذا الاتجاه إلى ” أن الاختلاس مفهوماً على أنه سلب الحيازة الكاملة للشيء
لا يتحقق معناه القانوني إلا إذا اقترن نزع الشيء بنية تملكه، وأن نية التملك على هذا النحو تبدو عنصراً يفترضه فعل الاختلاس ذاته بحيث لا يمكن أن يوصف فعل الجاني من أخذه الشيء المملوك لغيره بدون رضاه بأنه اختلاس إلا إذا اقترن بهذه النية “([1]) .

” فنية التملك تقوم بدورها في توافر الاختلاس لا في توافر الركن المعنوي “([2]) وفي هذا المعني ذهبت محكمة النقض إلى أن ” من أركان جريمة السرقة أن يأخذ السارق الشيء بنية تملكه. والمفروض أن من يختلس شيئاً فإنما ينتوى تملكه “([3]) .

” وتأكد هذا المعني في حكم حديث لمحكمة النقض جاء فيه حرفياً أن ” جريمة السرقة
لا تتطلب لقيامها قصداً جنائياً خاصاً، بل يتوافر القصد الجنائي فيها بمجرد قيام العلم عند الجاني وقت ارتكاب الفعل بأنه يختلس المنقول المملوك للغير من غير رضاء مالكه بنية تملكه ” ([4]) .

ويؤكد أنصار هذا الرأي على ذلك بأن ” فهم دور الركن المعنوي في الجريمة لا يدع مجالاً للشك في أن نية التملك تعتبر عنصراً في الركن المادي للسرقة. فالركن المعنوي في الجريمة هو اتجاه الإرادة إلى الماديات غير المشروعة للجريمة، أو هو بعبارة أخرى انعكاس لماديات الجريمة في نفس الجاني، فالإرادة تتجه إلى هذه الماديات. ومن ثم كان تحديد الركن المعنوي للجريمة يفترض حتماً توافر الصفة غير المشروعة في ركنها المادي، أي أن يكون هذا الركن الأخير مستوفياً بذاته كل عناصر عدم المشروعية.

لما كان ذلك، وكان عدم المشروعية في السرقة يقوم على استيلاء الجاني للشيء المملوك للغير بنية تملكه رغماً عنه، كان من الواجب أن يستوفى الركن المادي للسرقة كل عناصر عدم المشروعية وهي الاستيلاء على مال الغير، ونية التملك وعدم رضاء هذا الغير. ولا يمكن السماح بإدخال عنصر من هذه العناصر – وهو نية التملك – في الركن المعنوي، لأن تحديد هذا الركن الأخير يتوقف على تحديد ماديات الجريمة كاملة غير منقوصة “([5]) .

وقد ذهب الدكتور محمد أبو العلا عقيدة مناصراً هذا الرأي إلى توجيه انتقادات عديدة ([6]) نورد منها :

– تهدف نصوص السرقة إلى حماية الذمة المالية للمجني عليه التي نقصت بدون وجه حق بفعل السرقة، ولا يهم بعد ذلك أن تكون ذمة الجاني قد ذادت أم لا. إذ أن النصوص الجنائية تهتم بالتغيير الذي حدث في ذمة المجني عليه. ويتأكد هذا المعني في جريمتي النصب وخيانة الأمانة : فالنصب يتحقق إذا أصاب المجني عليه الضرر ولو لم يتحقق إثراء للجاني، وخيانة الأمانة تتم حتى ولو لم توجد أي منفعة للجاني من وراء الجريمة.

– أن نية التملك في حقيقتها لا تعدو أن تكون أحد البواعث الدافعة إلى السرقة، فقد يسرق الشخص مال الغير ليتملكه، أو لتمليكه للغير، أو لمجرد الانتقام منه أو بإتلاف مال مملوك له. والباعث لا يدخل في بنيان الركن المعنوي للجريمة وإن أمكن للقاضي أن يضعه في اعتباره عند اختيار الجزاء الجنائي المناسب.

– إذا كانت نية تملك مال الغير بصورة مؤقتة لا تعد من قبيل السرقة وفقاً للاتجاه المناصر لفكرة القصد الخاص؛ ويظهر هذا جلياً في حالة الاستيلاء على السيارة المملوكة للغير والظهور عليها بمظهر المالك خلال فترة مؤقتة بغرض استعمالها فحسب؛ فكيف يمكننا أن نثبت نية التملك بصورة مؤقتة كما يدعى المتهم ونفرق بينها وبين نية تملك السيارة بصورة نهائية.

– واستطرد منتقداً الحكم الصادر في 24، أكتوبر سنة 1991([7]) فقال بأن الحكم أشار إلى أن جريمة السرقة يتطلب القانون فيها قصداً جنائياً خاصاً، ومع ذلك إذا رجعنا إلى النص الخاص بالسرقة في قانون العقوبات (المادة 311) نجده لا يشير من قريب
أو بعيد إلى فكرة القصد الخاص، بل لم يشر أصلاً إلى الركن المعنوي في الجريمة.

” وإذا كان هذا الفريق من الفقهاء متفقاً على أن نية التملك لا تشكل قصداً خاصاً في جريمة السرقة نظراً لدخولها في معني الاختلاس فقد صادفت أنصاره صعوبة تحديد موضع دراسة هذه النية داخل البنيان القانوني للجريمة. هل تدرس مع عناصر الاختلاس في الركن المادي للجريمة ؟ أم تدرس مع عناصر القصد العام في الركن المعنوي ؟”([8]) .

فبناءاً على رأيهم بأن نية التملك تعد عنصراً في توافر الاختلاس رتب رأى على ذلك ارتباط ” نية التملك بالركن المادي للجريمة بينما يرى البعض الآخر من الفقه أن الوضع الطبيعي لدراسة نية التملك هو الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي العام وهو إرادة فعل سلب الحيازة الكاملة بعنصريها المادي والمعنوي أي إرادة وضع المال تحت السيطرة المادية للجاني وظهوره عليه بمظهر المالك مع إحاطة علمه بذلك “([9]) .

الفرع الثاني
الاتجاه القائل باشتراط القصد الجنائي الخاص ( نية التملك )

حيث ذهب هذا الاتجاه إلى أنه ” لا يكفي لتحقيق ركن القصد الجنائي التأكد من توافر القصد العام المتطلب في سائر الجرائم العمدية. بل يجب أن نتأكد من تحقق قصد خاص إلى جوار هذا القصد العام. والقصد الخاص في جريمة السرقة هو إرادة التملك “([10]) ” وقد يؤدى عدم توافر القصد الجنائي الخاص إلى انتفاء الجريمة ” ([11]) وبالرغم من عدم رد هذا الاتجاه على الانتقادات السابقة؛ إلا أن الباحث يتفق معه، حيث أن الرأي الأول نتج عن خلط دفع إليه التقسيم الدراسي للبناء القانوني للجريمة؛ ذلك أنه غالباً ما يتم دراسة الهيكل المادي للجريمة قبل دراسة الهيكل غير المادي أو (الركن المعنوي) بالرغم من أن هذا الأخير – في واقع الأمر – يسبق الركن المادي – حتى في حالة القول بمعاصرته له، ما دامت ماديات الجريمة لم تكتمل، لأنه لو تأخر الركن المعنوي حتى اكتمال الركن المادي لما عاد له تأثير – ففي واقع الأمر – وبعيداً عن جدلية النظريتين النفسية والمعيارية – أن النشاط المادي الذي يقوم به الجاني إنما هو مخرج مادي لمقدمات معنوية (ذهنية)، أو بصيغة أكثر وضوحاً فإن ” السلوك المادي، إنما هو تنفيذ لأوامر العقل “.

ولذلك فإن أنصار الرأي الأول، قد قلبوا هذه الحقيقة حين قالوا بأن ” تحديد الركن المعنوي يتوقف على تحديد ماديات الجريمة كاملة غير منقوصة “؛ فالركن المعنوي هو الذي يحدد ماديات الجريمة، وليس العكس، وهو الذي يكملها أو ينقصها – باستبعاد التدخلات الاستثنائية غير المتوقعة – بإرادته المنفردة دون منازع. فهو الذي يبنى الهيكل المادي للجريمة. وإن كانت الطبيعة المادية هي التي تعطي للأخير قيمته في إثبات الركن المعنوي، أو بصيغة محايدة (الكشف عن الركن المعنوي). وهذه القيمة لا يمكن أن تقلب الحقيقة
ولا يمكن القول بأن ” تحديد الركن المعنوي للجريمة يفترض حتماً توافر الصفة غير المشروعة في ركنها المادي، أي أن يكون هذا الركن الأخير مستوفياً بذاته كل عناصر عدم المشروعية ” فلا يصح هذا القول إلا في الإثبات خلافاً لما يتعلق بالبناء القانوني للجريمة وهذا الدور الاثباتى أو (الكاشف) هو الذي دفع محكمة النقض دفعاً إلى القول بأن ” من أركان جريمة السرقة أن يأخذ السارق الشيء بنية تملكه. والمفروض أن من يختلس شيئاً فإنما ينتوى تملكه “([12]) . ويؤكد هذا الدور، ما قضى بأنه من المقرر ” أن التحدث عن القصد الجنائي صراحة واستقلالاً في الحكم أمر غير لازم ما دامت الواقعة الجنائية التي أثبتها تفيد بذاتها أن المتهم إنما قصد من فعله إضافة ما اختلسه لملكه ” ([13]) .

بل وبفرض صحة أن ” تحديد الركن المعنوي يتوقف على تحديد ماديات الجريمة كاملة غير منقوصة “، فإن هذا سيؤدى إلى نتيجة شاذة؛ وهي أن البدء في تنفيذ جناية أو جنحة ثم خيبة أثر هذا التنفيذ أو وقفه بدون تدخل الجاني سيؤدي إلى إهدار دور الركن المعنوي في الجريمة، خلافاً لما قضي بأنه ” من المقرر أنه ليس بشرط في جريمة الشروع في السرقة أن يوجد مال فعلاً، ما دام أن نية الجاني قد اتجهت إلى ارتكاب السرقة ” ([14]) . وما جاء بأن المتهمين قد ” دخلا فعلاً في دور التنفيذ بخطوة من الخطوات المؤدية حالاً إلى ارتكاب السرقة التي اتفق على ارتكابها مع المتهم الآخر بحيث أصبح عدولهما بعد ذلك باختيارهما عن مقارفة الجريمة المقصودة بالذات أمراً غير متوقع ويكون ما ارتكباه سابقاً على ضبطهما شروعاً في جنحة السرقة “([15]) .

ولكن هذا القول يؤدى بنا إلى التساؤل : هل هذا يعني أن هناك نيتان للتملك إحداهما تتصل بالركن المعنوي، وأخرى تتعلق بالركن المادي. تلك التي تعتبر عنصراً في الاستيلاء كما بينها جارسون.

يمكن الإجابة بالنفي أو الإيجاب؛ ذلك أنه وبالعودة إلى الأصل التاريخي الذى دفع إلى ظهور نظرية جارسون، نجد أن هذه الأخيرة ما ظهرت إلا كحيلة قانونية، لتحديد نطاق الحيازة فاستجلبها الأستاذ / جارسون من المفهوم المدني؛ هذا الأخير الذي يتطلبها كي يكون
” الاستيلاء سبباً من أسباب الملكية “([16]) .

في حين أن القانون الجنائي إنما يهدف باشتراط نية التملك إلى التمييز بين السرقة، والجرائم الأخرى كالإتلاف، أو بين السرقة وانتفائها كحالة ” الدائن الذي يأخذ مالاً لمدينه ضماناً لدينه على مدينه دون أن يقصد ضمه إلى ملكه بل رده إلى صاحبه بعد الوفاء بالدين”([17]) أو كسرقة المنفعة ….الخ ومن ثم اكتمال أو عدم اكتمال المسئولية الجنائية في السرقة ([18]).

ومن ثم تظل نية التملك كعنصر معنوي في الاستيلاء مجرد حيلة قانونية مستقاة من الخارج، في حين أنها في الركن المعنوي عنصر رئيسي وهام تتخلف بدونه المسئولية الجنائية. مما يدعم ذاتية القانون الجنائي في مقابل تواجد قواعد القانون المدني داخله، دون تعصب.

أما بالنسبة لما وجهه أستاذنا الدكتور عقيدة من انتقادات فإن الباحث يجمل الإجابة عليها في النقاط التالية :

– فبالنسبة للانتقاد الأول : يلاحظ أنه قد استخدم كلمة السرقة بمعناها الواسع، فأعتبر أن نصوص السرقة إنما تهدف إلى حماية الذمة المالية للمجني عليه التي نقصت،
ولا يهم بعدها أن تكون ذمة الجاني بعد ذلك قد زادت أم لا .. كما هو الحال في جريمة النصب وخيانة الأمانة.

وهذا القول صحيح، مع ملاحظة أن صحته تبقى فقط عند استعمال كلمة السرقة بمعناها الواسع …، أي باعتبارها اعتداءاً على المال دون وجه حق…، ولكن حين إنزال هذا القول على السرقة بمعناها الضيق – والذي لا يعنى الجرائم الواقعة على الأموال فأن السرقة وفق النموذج القانوني الذي حددته المادة (311) من قانون العقوبات، فإن هذا القول لا يمكن الجزم بصحته. فهو أشبه بتعميم قول قائل : ” أن الوظيفة الأساسية للقانون الجنائي هي إرساء العدالة بمنع الجريمة وعقاب مرتكبيها ” ثم توجيهه انتقاداً – إي هذا القائل – بأن القول بأن هدف النصوص العقابية المتعلقة بالأموال، ليس الحفاظ على المال، وإنما تهدف إلى إرساء العدالة بمنع الجريمة ومعاقبة مرتكبيها.

فنصوص السرقة ( بالمعنى الواسع ) تحمي الذمة المالية للمجني عليه وهذا هدف واسع يضيق كلما اتجهنا نحو دراسة النماذج القانونية المختلفة التي تحمي الأموال. وحينها يجد كل نموذج ذاتية أهدافه، ومن ثم ذاتية أركانه وشروطه. ففي حين لا تشترط نية التملك في الإتلاف تشترط في السرقة. وحيث يشترط استعمال وسائل احتيالية في النصب، لا يشترط ذلك في خيانة الأمانة … الخ.

وأضاف هذا الرأي : بأن نية التملك باعث لا يؤخذ في الاعتبار، ومع ذلك فقد قبل الأخذ بنية التملك إذا وردت ضمن القصد العام حين عرف القصد العام بالعلم ثم قال في الإرادة : ” مع اتجاه إرادته – أي الجاني – إلى الاستيلاء على حيازة هذا المال بعنصريها المادي والمعنوي، فيخرجه من حيازة صاحبه ويحرمه الانتفاع به كما لو كان ملكاً له “([19]) فكيف يمكن لهذا الرأي أن يعتبر نية التملك باعثاً ثم يرتضى بتأثيرها بل وبدمجها في القصد العام ؟ ولعل هذا ناتج عن كون أن نية التملك تشتبه بالباعث، غير متشابهة؛ فنية التملك من ناحية ليست ذات طبيعة عضوية، كالجوع، أو البرد أو حتى الانتقام إذا جاز أن ينتج عن العقل كعضو باعث كهذا …، وإنما هي عنصر في وسيلة، فقد يتم الانتقام بسرقة أو بإتلاف أو بنصب، أو بخيانة أمانة … ولكل هذه الجرائم مقاصد عامة، أو ما يضاف إليها من مقاصد جنائية خاصة لبيان تميز كل منها عن الأخرى. وهذا ما أدى إلى أن هذا الرأي لم يستطع الفكاك أو التخلص من نية التملك فارتضى بها في جانب دون جانب.

– أما القول بأن نية التملك المؤقتة يصعب إثباتها وتمييزها عن نية التملك النهائية، فبالرغم من كون هذا النقد يتعلق بالإثبات، إلا أنه ليس من السهولة حتى إثبات القصد العام مما دفع محكمة النقض؛ في كثير من أحكامها؛ إلى القول بأنه ” من المقرر أن التحدث عن نية السرقة استقلالاً ليس شرطاً لصحة الحكم بالإدانة في جريمة السرقة مادامت الواقعة التي أثبتها الحكم تفيد ذلك ” ([20]) ومع ذلك لم ينكر أحد وجوب توافر القصد الجنائي.

– أما ما وجهه من انتقاد لمحكمة النقض بأن القانون لم ينص حتى على القصد الجنائي، فهذا القول الأخير، يكفي كرد على هذا النقد. فما من أحد ينكر أن النص القانوني وإن لم يتحدث عن القصد الجنائي، إلا أن مجال تفسير النص يقتضيه، بل أن النص القانوني لم ينص على نظرية جارسون في الاختلاس، لا صراحة ولا ضمناً. فهل ننكر على النص أن يتم تفسيره وفق نظرية الاختلاس لجارسون. بل أن عدم تفسير النص باشتراط نية التملك سيؤدى إلى تنازع بين النصوص المتعلقة بالسرقة وغيرها من النصوص العقابية، وأكثر من هذا يمكن وفقاً لهذا، الاستغناء عن أغلب النصوص اكتفاءاً بنص المادة (311) عقوبات. إذا لم تكن تشترط نية التملك كقصد خاص. فلا داعي – على سبيل المثال – أن تنص المادة (323 مكرر [أولاً] ) من قانون العقوبات على أنه : ” يعاقب كل من أستولي بغير حق وبدون نية التملك على سيارة مملوكة