دراسة وبحث قانوني هام عن الدور المميز للقاضي في حل إشكالية تنازع القوانين

مقدمة:

من المعلوم أن الحياة الدولية لم تعد قاصرة على العلاقات بين الدول بل أصبحت تتضمن فئة أخرى من العلاقات لا تقل أهمية عن الفئة الأولى وهي العلاقات بين الأفراد عن دول مختلفة ومن هنا وجد بجوار المجتمع الدولي الذي يضم الدول مجتمع آخر.يمكن تسميته بالمجتمع الدولي للأفراد وهذا المجتمع لاشك في أنه يحتاج في تنظيمه إلى مختلف فروع القانون الخاص التي يحتاج إلى المجتمع الداخلي ومن ثم تحتم بروز اصطلاح ما اصطلح عليه بالقانون الدولي الخاص.الذي يلعب فيه القاضي دورا أساسيا لحل تنازع القوانين’ وذلك كلما تضمنت العلاقة عنصرا أجنبيا واحدا على الأقل ينتمي إلى دولة أجنبية.
يقصد بتنازع القوانين تزاحم قانونين متعارضين أو أكثر صادرين عن دولتين أو أكثر بحكم علاقة قانونية تتضمن عنصرا أجنبيا. والقوانين المتنازعة يجب أن تكون منتمية لأحد فروع القانون الخاص.

والقاضي المعروض عليه النزاع يلجأ إلى أحد القواعد التي يضعها مشرعه لتحديد القانون الذي يعتبر مختصا لحكم العلاقة لكن كيف يعقل أننا نتحدث عن علاقة دولية ومع ذلك فهي تخضع لقواعد داخلية من وضع مشرع دولة القاضي.
فإلى أي حد يستطيع القاضي من خلال السلطات المخولة له حل إشكالية تنازع القوانين ؟
هذا ما سنحاول إبرازه من خلال التطرق في مبحث أول :لدور القاضي المغربي في تحديد القانون المختص.على أن نعالج في مبحث ثاني أهم الوسائل المتاحة للقاضي المغربي من أجل استبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص.

المبحث الأول:دور القاضي المغربي في تحديد القانون المختص

لقد أصبح تنازع القوانين يحل بواسطة منهج خاص يسمى بمنهج قاعدة الإسناد وأن هذا المنهج صمد في وجه الهجوم العنيف الذي شنه عليه أنصار منهج جديد هو منهج القواعد المادية ولازال سائدا الأن في جميع أنظمة القانون الدولي الخاص عبر العالم .لذلك سنحاول في هذا المبحث التطرق للمراحل المتبعة من طرف القاضي لحل مشكل تنازع القوانين (في مطلب أول) على أن نتطرق لوسائل إثبات القانون الأجنبي الواجب التطبيق وتأويله (في مطلب ثاني)

المطلب الأول: المراحل المتبعة من طرف القاضي لحل مشكل تنازع القوانين

هناك مجموعة من المراحل التي يتعين على القاضي اتباعها لحل مشكل تنازع القوانين وهي:

1:إثارة نظام تنازع القوانين :عندما يتعلق الأمر بنزاع داخلي هنا لا يمكن أن نتصور وجود تنازع للقوانين حيث أن القاضي ملزم بتطبيق القانون المغربي ولكن مشكل التنازع يقع عند وجود عنصر أجنبي هنا تطرح مشكلة تنازع القوانين الذي يثيره أحد الأطراف اختصاص القانون الأجنبي ويثر الطرف الأخر اختصاص القانون المغربي فالقاضي المغربي هنا يكون ملزما بالرجوع لقاعدة الإسناد لتحديد القانون المختص.

2:اختيار قاعدة الاسناد :عند عرض النزاع ذو العنصر الأجنبي على القاضي عليه تكيفه وفي هذه العملية يظهر جليا عمل القاضي الذي يصبح مرتبا من مراتب المجلس الأعلى من أجل تصنيفه في إحدى التصنيفات المحددة لقاعدة الإسناد المغربية والتكييف هنا يكون طبقا لقانون القاضي وإقصاء التكييف طبقا للقانون الأجنبي حتى لا يجد القاضي نفسه في حلقة مفرغة ولا يعرف أي قانون واجب التطبيق وبعد تكييفه يصنفه في إحدى التصنيفات الواردة في قاعدة الإسناد (زواج.طلاق .ارث .وصية…………. )هذا عند وجود تصنيف.
أما عند عدم وجود تصنيف يناسب التكييف على القاضي أن يضع قاعدة إسناد تتلاءم مع النظام العام المغربي ‘أما إذا كان محصورا في ظل نظام
صارم ما على القاضي إلا أن يجرد المؤسسة القانونية الأجنبية من أي أثار أو يطبق قانونه الذي يتنكر لهذه المؤسسة.

3:تطبيق قاعدة الإسناد:لتطبيق قاعدة الإسناد على القاضي الرجوع إلى عنصر الارتباط الذي يتصل بهذا القانون أوذاك ومعرفة ما المقصود بهذا العنصر سواءا ارتبط ذلك بالقانون الداخلي أو الاتفاقيات الدولية حتى يتفادى أي مشكل يخلق بعده لكن المشكل الذي يطرح على القاضي هو عندما تنص قاعدة الإسناد على قانون الموطن وللشخص عدة مواطن مثلا موطن بفرنسا وآخر بالمغرب الحل يصبح بيد القاضي أو أن قاعدة الإسناد تنص على أن القانون أن القانون المختص هو القانون الوطني والشخص له عدة جنسيات هنا على القاضي أن يبحث على القانون الأكثر توافقا مع وضعيته “عنصر اللغة مثلا” وبعد تحديده للحكم عليه تحليله.
وهناك إشكال آخر يقع فيه القاضي عند عدم وجود أي عنصر للإسناد كانعدام الجنسية أو كون الإسناد موجود ولكنه غير معروف أو لكون عنصر الإسناد معروف لكنه غير محدد.فالقاضي هنا عليه أن يبحث في العقيدة رغم أن قانونه أحاله على الجنسية عندما تكون الدولة متعددة الطوائف.

المطلب الثاني:إثبات القانون الأجنبي الواجب التطبيق وتأويله

عندما تحدد قاعدة الإسناد للقانون المغربي هنا لا يطرح أي مشكل.لكن عندما يحدد القانون الأجنبي هنا يلعب القاضي الدور الكبير خاصة في مسألة الإثبات1 ومسألة التأويل 2

1:مسألة الإثبات :عندما يقدم الأطراف شهادة محررة من طرف أجهزة أجنبية رسمية تتضمن مضمون القانون الأجنبي وتبين فصول ثم يؤشر عليه ويصادق عليه من طرف الجهة المعنية ويقدم للقاضي أو يتم اللجوء إلى أحد رجال القانون (فقيه. مستشار قانوني) ثم تعرض تلك الوثيقة على القاضي وهذا الأخير يجد أمامه وثيقتين:رسمية وعرفية: الأولى غامضة والثانية مفسرة الأولى محايدة والثانية منحازة وبأجر هنا يبرز دور القاضي فالشهادة الأولى ضد الشهادة الثانية فأي شهادة سيختار؟هنا تبقى للقاضي السلطة التقديرية المطلقة للأحد بأي شهادة إن تحديد القاضي مضمون القانون الأجنبي استنادا إلى الوسائل الإثباتية المقدمة لديه لا يعفيه من التعليل .كما أن إلزام القاضي هنا لا يعني إلزامه بمعرفة القوانين والتعديلات الطارئة عليها وإنما تلزم بالبحث عن القانون وأن يصل إلى أن يعطي للأمر تعليلا كافيا وكذا مضمون ذلك القانون.

2:مسألة التأويل:على القاضي أن يأخذ القاعدة القانونية الأجنبية ليس بمفهومها الضيق ولكن بالمفهوم الواسع الذي يشكل القاعدة في حد ذاتها وكذا العرف والاجتهاد القضائي أي ما صار عليه الاجتهاد القضائي في تلك الدولة الأجنبية ولهذا قضت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قرار لها صادر في 12/07/1929 لا يجوز أن يعطي للقانون الوطني مفهوما آخر غير الذي أعطي له من طرف الاجتهاد القضائي لنفس الدولة وعلى القاضي ألا يغيب القانون الأجنبي حتى لا يكون معاتبا من طرف المجلس الأعلى لكن القاضي كذلك له دور فعال في الامتناع عن تطبيق القانون الأجنبي عن طريق إثارة النظام العام.

المبحث الثاني:الوسائل المتاحة للقاضي المغربي من أجل استبعاد القانون الأجنبي المختص.

إن القانون الأجنبي المحدد بقاعدة الإسناد قد يتضمن أحيانا مسا بالمقررات القانونية لبلد القاضي مما يدفع هذا الأخير لرفض تطبيقه إما لمخالفته للنظام العام (مطلب أول) وإما أن الوسيلة التي توصل إليها الأفراد لتطبيق هذا القانون تنطوي على تحايل وغش(مطلب ثاني)

المطلب الأول:الدفع بالنظام العام.

من بين الوسائل المتاحة للقاضي من أجل استبعاد القانون الأجنبي المختص هو تعارضه مع النظام العام. فمجال هذا الأخير يتوفر بوجود قانون أجنبي واجب التطبيق وفق قانون الإسناد لبلد القاضي. بتوفر مقتضيات النظام العام يتحتم الامتناع عن تطبيق القانون المختص المخالف للنظام العام وسنعالج أحكام النظام العام ودفع القاضي المغربي به و الانتقادات التي يتعرض لها القاضي المغربي عند إعماله لهذا القانون ثم رقابة المجلس الأعلى على القاضي عند دفعه بالنظام العام
إن النظام العام المغربي يجد أساسه في الوضع الداخلي للدولة ثم نجد النظام العام الدولي وهو يكون انعكاس للنظام العام الداخلي ولكن بشكل ضيق فالتبني مثلا ممنوع في المغرب ولكن مباح في القانون الدولي الخاص (القوانين الغربية) إن النظام العام يعتبر من بين مدعمات القانون الدولي الخاص ولا نجد النظام العام المغربي إلا من خلال اجتهادات المجلس الأعلى سنة 1974 إثر قانون المسطرة المدنية المغربي وخاصة الفصل 430 منه……..

إن إعمال النظام العام في استبعاد تطبيق القانون الأجنبي يشكل الأساس الذي يعتمد عليه القاضي في هذا الإطار وتعتبر الشريعة الإسلامية المحدد الأساسي للنظام العام المغربي .ويبقى على القاضي أن يقف موقفا سلبيا أحيانا وذلك بإعطاء البعد والمفهوم السلبي للنظام العام المغربي لكن يجب على القاضي ألا يختبئ دائما وراء ستار النظام العام في مواجهة القانون الأجنبي بل يجب عليه أن يقف موقف الوسط ويختار ما بلائم النظام العام المغربي وما لا يلائمه .أي التمييز بين الأوضاع ’وألا يبالغ فيه بل يجب أن تكون مرنة في التعامل لذا يجب أن تعامل الأوضاع الدولية بما تعامل به الأوضاع الداخلية.

إن دفع القاضي المغربي بالنظام العام يخضع فيه القاضي المغربي لرقابة المجلس الأعلى لأنها مسألة قانون ولأن الأمر يتعلق بالمؤسسات العامة للدولة و الأساسية للمرجعية المغربية.

المطلب الثاني:التحايل على القانون

تتحقق هذه الوسيلة في الحالة التي يقوم فيها أطراف العلاقة بتغيير الضابط الذي يتحدد بمقتضاه القانون الواجب التطبيق بشكل متعمد وذلك بهدف التهرب من أحكام هذا القانون كما قد يعمد أطراف النزاع على تغيير الظروف المحيطة بالعلاقة القانونية فيترتب على ذلك تغيير ضابط الإسناد المحدد وغالبا ما يلجأ الأطراف إلى هذه الوسيلة لإنشاء علاقة لم يكن يسمح بها القانون الواجب التطبيق أصلا على العلاقة.ويشترط للدفع بالغش نحو القانون .شرطان:

1 :أن تكون الوسيلة التي يلجأ إليها الأطراف لتغيير عنصر الإسناد مشروعة:
لقد اشترط أن تكون الوسيلة التي تم اللجوء إليها بإرادة الأطراف للتحايل على القانون أن تكون مشروعة.أما التغيير الذي قام به الأطراف غير مشروع من الناحية القانونية.فيكفي إثبات عدم صحة الوسيلة التي لجأ إليها الأطراف أو صوريتها.
ويعتبر مجال الأحوال الشخصية من أكبر المجالات التي تتدخل فيه إرادة الأطراف لتغيير عنصر الإسناد.

2:أن تكون نية الأطراف اتجهت إلى إبعاد القانون المختص أصلا بحكم العلاقة القانونية بدون نية الأطراف قد اتجهت إلى التحايل على القانون من أجل استبعاد القانون المختص فلا يمكن أن نعتبر الأجراء الذي لجأ إليه باطلا.
ففي مسألة الطلاق مثلا لا مجال لإبطال تطبيق القانون الجديد مادام أن تغيير الجنسية قد تم بشكل صحيح ولكن يعتبر هذا التغيير أداة للتحايل.إذا كان القصد منه الهروب من القانون المحدد بالجنسية الأولى والخضوع لأحكام القانون المحدد للجنسية الجديدة .أي إذا تبين أن التهرب عن أحكام القانون الأول هو الباعث الرئيسي الذي أدى إلى تغيير الجنسية أما إن اتضح أن الخضوع للقانون المحدد لعنصر الإسناد الجديد لم يكن مقصودا بحد ذاته وإنما جاء كأثر طبيعي لتغيير الجنسية فإن التحايل على القانون ينتفي.