بحث قانوني هام عن المتابعة و الجزاء في جريمة افشاء السر المهني

إن القوة القانونية للإلتزام بالكتمان تتوقف على الحماية التي قررها المشرع بمقتضى النص والتي بدونها يصبح الالتزام بكتمان السر المهني شعار زائف لا قيمة له.

هاته الحماية التي قررها المشرع ضد الانتهاكات التي تقع على السر تتمثل في ضرورة المتابعة، سواء على مستوى إجراءات المتابعة المتمثلة في الدعوى العمومية والدعوى المدنية التابعة (المطلب الأول) بالإضافة إلى الجزاءات المقررة من طرف التشريع الجنائي (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الدعاوى المترتبة عن جريمة إفشاء السر المهني

إن خرق القانون الجنائي بإتيان الجرائم يرتب حتما الزجر عن طريق توقيع الجزاء على الخارق، والوسيلة المهيمنة في تحصيل ذلك هي الدعوى العمومية التي تقيمها النيابة العامة باسم المجتمع مطالبة فيها بتطبيق القانون الجنائي على المجرم (الفقرة الأولى).

لكن الخرق السابق للنظام الجنائي قد يتخلف عنه إلى جانب الضرر العام الذي أصاب كل أفراد المجتمع ضرر خاص نال فيه شخصيا أحد الأفراد الواقعة عليه الجريمة، اعتبره المشرع في المادة الثانية من ق.م.ج وسمح له بأن يطالب بالتعويض عنه أمام القضاء الجنائي تبعا للدعوى العمومية المنظورة أمامه، وتسمى هذه المطالبة بالدعوى المدنية التابعة (الفقرة الثانية)[1].

الفقرة الأولى : الدعوى العمومية

بعد مناقشة أركان جنحة إفشاء السر المهني في المبحث السابق، والتأكد من وجودها، تطرح أسئلة وجيهة حول من له الحق في تحريك الدعوى العمومية، هل النيابة العامة أم المتضرر صاحب المصلحة؟[2] وهل هذه الجنحة من الجنح التي تتم فيها المتابعة بصفة تلقائية من طرف ضباط الشرطة القضائية، أم أن الأمر يتعلق بجنحة تتوقف على ضرورة تقديم شكاية في الموضوع من طرف المتضرر؟ وهل هذه الجنحة تخضع للتقادم العادي أم لها مدة تقادم خاصة بها؟

أولا:تحريك الدعوى العمومية

هناك اختلاف بين بعض الباحثين، حول مدى توقف المتابعة في جريمة إفشاء السر المهني ، على تقديم شكاية في الموضوع من قبل المتضرر، أم أن النيابة العامة تحرك المتابعة من تلقاء نفسها دون توقف ذلك على شكاية، خصوصا مع غموض النصوص التشريعية المغربية عكس بعض التشريعات المقارنة .

إذ يرى جانب من الفقه أنه لا مانع من إثارة الدعوى العمومية بصفة تلقائية بمجرد ملاحظتها دون توقف ذلك على تقديم شكاية في الموضوع، لأن الأمر يتعلق بجريمة معاقب عليها جنائيا بصفة محددة[3].

لكن يذهب الطرف الآخر عكس هذا التوجه ويعتبر أن الأمر يتعلق بمصلحة خاصة للعميل المجني عليه، وهو الذي يتوفر على أحقية تقدير هل ما تم إفشاؤه يضر بمصالحه أم لا[4] ؟ وبالتالي فهو الوحيد صاحب الحق في إثارة الدعوى، مما يتوقف على تقديم شكاية من قبله إلى النيابة العامة.

وفي إطار التشريعات المقارنة، خصوصا القانون السويسري، نجد أنه لم يحسم في الأمر، إذ يتبنى موقفا يظهر بعض التردد، فالفصل 321 من القانون الجنائي لسنة 1932 الذي يتعلق بجريمة إفشاء السر المهني بشكل عام، ينص على أن هذه الجنحة لا تتم فيها المتابعة إلا بشكاية.

أما في بلجيكا وفرنسا واللوكسمبورغ، فإن سيطرة المصالح الفردية للعميل جعلت له وحده حق تحريك المتابعة ضد المفشي الذي أضر بمصالحه عن طريق إفشاء السر الذي أودعه لديه. غير أن قانون العقوبات الإيطالي استلزم صراحة في المادة 622 تقديم شكاية من المجني عليه إذا لحقه ضرر من جراء إفشاء أسراره المهنية

ثانيا: سقوط الدعوى العمومية(التقادم نموذجا)

تم النص على التقادم كأحد اسباب سقوط الدعوى العمومية في الفصل 111، وتبعا لذلك تتقادم الدعوى العمومية بصدد هذه الجنحة بمرور 5 سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب فعل الإفشاء حسب المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية المغربية. وفي الحالة التي يتكرر فيها الإفشاء فإن الأجل لا يسري إلا ابتداء من آخر فعل إفشاء[5].

على أن إعمال هذه الأحكام تقتضي مراعاة الملاحظة التالية:

– إن الدعوى العمومية التي تحرك بشكاية من العميل، لا تنتهي بتنازل هذا الأخير أو استرداد شكايته ما دامت قد وضعت. فالدعوى العمومية تتابع إلى حين البت في القضية بحكم له قوة الشيء المقضى به[6].

وينقطع أمد تقادم الدعوى العمومية بكل إجراء من إجراءات التحقيق أو المتابعة تقوم به السلطة القضائية أو تأمر به. ويسري هذا الانقطاع كذلك بالنسبة للأشخاص الذين لم يشملهم إجراء التحقيق أو المتابعة، ويسري أجل جديد للتقادم ابتداء من تاريخ آخر إجراء انقطع به أمده، وتكون المدة الجديدة مساوية لمدة خمس سنوات، حسب ما هو مكرس في المادة 6 من قانون المسطرة الجنائية المغربية.

وتتوقف مدة تقادم الدعوى العمومية فيما إذا كانت استحالة إقامتها ترجع إلى القانون نفسه. ويستأنف سريان التقادم ابتداء من اليوم الذي ترتفع فيه الاستحالة لمدة تساوي ما بقي من أمده، أي من وقت توقفه.

والمسؤولية الجنائية المترتبة عن جريمة إفشاء السر المهني لا تنفى إمكانية المساءلة المدنية سواء تحققت هذه الجريمة أم لا، فهي تترتب إذا ما شكل الإفشاء ضررا للعميل.

الفقرة الثانية : الدعوى المدنية التابعة

أتاح القانون للأشخاص المصابين بأضرار خاصة نابعة مباشرة عن الواقعة الإجرامية أن يلجئوا حسب اختيارهم إلى المطالبة بالتعويض عنها إما لدى المحاكم المدنية وذلك هو الأصل، أو لدى المحاكم الزجرية حيث ترفع الدعوى المدنية موازاة مع الدعوى الجنائية[7].

وقد نصت المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية: “إن حق إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة يرجع لكل من تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة…”.

وعليه يمكن تعريف الدعوى المدنية التابعة بأنها الطلب الذي يقدمه المتضرر أمام المحكمة الجنائية (أو المدنية) وهي تنظر في الدعوى العمومية بهدف الحصول على تعويض الضرر الذي لحقه من الجريمة المعروضة عليها[8].

لسماع دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني ، لا بد أن يكون هناك ضرر لحق شخصا ما من جراء ما قام به الأمين على السر من أفعال مخالفة لواجب قانوني عام يتمثل في عدم إفشاء أسرار العميل، ، كما يجب على المتضرر أن يثبت كل أركان المسؤولية من خطأ وضرر وعلاقة سببية .

تتألف الدعوى المدنية التابعة من طرفين أساسين هما: المدعي وهو العميل( صاحب السر)، والمدعى عليه الذي يتمثل في الأمين(المهني)

أولا:المدعي

جاء في المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية ما يلي: “يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عن جناية، أو جنحة، أو مخالفة، لكل من تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسيب فيه الجريمة مباشرة…”

يعتبر المدعي هو المتضرر مباشرة مما قام به الأمين من إفشاء لأسراره، ومن ثم يكون هو صاحب المصلحة والصفة في رفع دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني ضد العميل[9]، أما غير المتضرر فليس له حق رفع هذه الدعوى.

لكن هذا الحق، لا يثبت للمتضرر وحده بل يثبت أيضا لكل من نائبه أو خلفه.

ونائب المتضرر، يجب أخذه بالمفهوم الواسع، فهو إما الولي أو الوصي أو المقدم إذا كان المتضرر من إفشاء السر المهني شخصا قاصرا، أو الوكيل إذا كان حاصلا على توكيل في هذا الشأن، أو السنديك عندما يتعلق الأمر بإفشاء الأسرار البنكية لشركة خاضعة لمسطرة التسوية القضائية.

أما إذا تعدد المتضررون من فعل الإفشاء الذي قام به الأمين، فإنه يحق لكل واحد من هؤلاء ممارسة دعوى مستقلة للمطالبة بالتعويض عن الضرر الحاصل له بعد إثباته. وذلك برفع دعوى شخصية باسمه، ولا تضامن بين المتضررين، بل إن القاضي يقدر تعويض كل واحد منهم على حدة. وإذا كان المتضرر قاصرا قام نائبه مقامه، كالولي أو الوصي أو المقدم[10].

وحق المطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عن إفشاء السر المهني ، يثبت للورثة بعد وفاة المتضرر، إذا كان قد سبق لهذا الأخير أن رفع دعوى المسؤولية قبل وفاته، حيث تدخل تلك الدعوى ضمن عناصر التركة. أما إذا لم يسبق له أن رفع تلك الدعوى، فإنه يقع التمييز بين التعويض عن الضرر المادي والتعويض عن الضرر الأدبي[11].

فإذا كان التعويض عن الضرر المادي الذي أصاب مال المتوفى من جراء إفشاء أسراره البنكية كأن يفشي البنك بيانا في الصحف عن أرصدة عميل أو يبلغه للغير، ويترتب على ذلك إحجام البنوك الأخرى عن إقراض هذا الزبون استنادا إلى هذا النشر، فإن الحق في التعويض ثابت للمتضرر، وبذلك ينتقل منه إلى ورثته، حيث يصبح من حق الورثة المطالبة بالتعويض، الذي كان مورثهم سيطالب به لو بقي حيا.

أما إذا كان طلب التعويض ناجما عن ضرر أدبي أصاب المتضرر في شعوره أو عاطفته أو كرامته أو شرفه، فإنه لا ينتقل إلى ورثة المتضرر، إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ما بين المتضرر والمسؤول، أو طالب به المتضرر أمام القضاء[12].

لكن الإشكال المطروح هو كيف يقدر القضاء التعويض الكامل الواجب للمتضرر شخصيا عن الضرر الناجم عن الجريمة؟ ويتم تحديدا التعويض من قبل القضاء بعد تأكده من حصول الضرر بشروطه القانونية[13] مستندا في ذلك لعدة عناصر منها مدى مشاركة المتضرر من أحداث الضرر، كاستفزاز الضحية للمتهم، بالإضافة إلى حالة المسؤول عن الضرر المادي من فقر وغنى، وموقف القانون الذي يفرض أحيانا حدودا للتعويض ينبغي اتباعها من القضاء[14].

والتعويض الناتج عن جريمة والواجب لكل طالب في حدود طلبه يرجع إلى السلطة التقديرية المطلقة لقضاة الزجر، وأن استئناف الظنين والمسؤول المدني يسمح لقضاة الدرجة

الثانية بتخفيض التعويض الممنوح للمطالب بالحق المدني من غير أن يكون ملزمون بتبرير ذلك بأسباب خاصة[15].

ثانيا: المدعى عليه

تنص المادة الثامنة من قانون المسطرة الجنائية بأنه “يمكن إقامة الدعوى المدنية ضد الفاعلين الأصليين، أو المساهمين، أو المشاركين في ارتكاب الجريمة، وضد ورثتهم أو الأشخاص المسئولون مدنيا عنهم”.

إن أول من يقع عليه تفكير الضحية عند المطالبة بالتعويض هو المتهم المسؤول المباشر عن الجريمة، سواء كان فاعلا أصليا، أو مساهما، أو مشاركا في ارتكابها.

ويعتبر ذلك نتيجة مباشرة لمبدأ شخصية المسؤولية، حيث أن الأصل هو إسناد المسؤولية المدنية أو الجنائية إلى المتسبب الحقيقي في إلحاق الضرر بالضحية، أما إذا كان المتهم المطلوب بالتعويض ناقص الأهلية بسبب صغر سنه، أو سفهه، أو إدانته بعقوبة جنائية تعين إدخال نائبه القانوني الذي يسند إليه القانون حماية مصالحه في الدعوى .

1-الفاعل

يعتبر الأمين (المهني) هو المدعى عليه في دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني ، وهو المسؤول عن الضرر الذي لحق المتضرر من جراء الإفشاء الذي صدر منه.

وتوجه هذه الدعوى ضد الأمين في شخصه ، اما إذاكان الأمين شخصا معنويا كالبنك أو مصحة طبية خاصة ، فإن الدعوى ترفع في شخص ممثله القانوني، كما يسأل الأمين إذا كان شخص معنوي عن أفعال مستخدميه الذين صدر منهم فعل الإفشاء أثناء تأدية وظيفتهم، على أساس مسؤولية المتبوع عن أفعال التابع، ويبقى له حق الرجوع على الموظف بالتعويض الذي أداه، ما لم يثبت أن خطأ الموظف الذي نشأ كان سببه تقصير الأمين في توجيهه، لأن تقصيره بالذات يعتبر خطأ[16].

2- الورثة

تنص المادة 12 من قانون المسطرة الجنائية أنه ” إذا كانت المحكمة الزجرية تنظر في الدعوى العمومية، والدعوى المدنية معا، فإن وقوع سبب مسقط للدعوى العمومية يترك الدعوى المدنية قائمة وتبقى خاضعة لاختصاص المحكمة الزجرية”.

والحل الذي اتبعه المشرع هنا، يبدو واضح الفائدة بالنسبة للمتضرر الذي جنبه تكرار المطالبة من جديد أمام القضاء المدني[17].

وإذا كان المشرع قد أوجب إدخال الورثة في الدعوى المدنية التابعة للحكم عليهم بأداء التعويض فإن ذلك رهين بتخلف تركة عن وفاة المتهم، لأن الورثة كما هو معلوم لا يلتزمون إلا في حدود التركة.

المطلب الثاني : جزاءات جريمة إفشاء السر المهني

تبنت مجموعة من التشريعات المقارنة تجريم إفشاء السر المهني، عن طريق إقرار مجموعة من الجزاءات في مختلف قوانينها، هذا أن دل على شيء فهو تناثر التشريعات المجرمة والمعاقبة على إفشاء السر المهني.

وتختلف الجزاءات في جريمة إفشاء السر المهني إلى ثلاثة انواع :

v جزاءات جنائية (الفقرة الأولى)

v جزاءات تأديبية (الفقرة الثانية)

v جزاءات مدنية (الفقرة الثالثة)

الفقرة الأولى : الجزاءات الجنائية

بناء على التنظيم التشريعي للجزاء الجنائي، يمكن تعريفه بذلك الجزاء الذي يوقعه القضاء ، بإسم المجتمع على كل شخص ارتكب فعلا أو تركا مخالفا بذلك القانون الجنائي و تكون الغاية المباشرة من تطبيقها على الجاني هي الردع الخاص لكن هناك غايات أخرى غير مباشرة تكمن في تحقيق العدالة و تحقيق الردع العام[18]

و الجزاءات الجنائية نوعان: الحبس أو السجن ، و الغرامة

و المشرع المغربي عاقب في الفصل 446 من القانون الجنائي مرتكب جريمة إفشاء السر المهني “بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة من ألف ومائتين إلى عشرين ألف درهم”.

كما أن الفصل 447 من نفس القانون عاقب على إفشاء مصنع ومحاولة إفشائها من قبل مدير أو مساعد أو عامل فيه، بعقوبة الحبس من سنتين إلى 5 سنوات، وغرامة من مائتين إلى عشرة ألاف درهم،إذا كان الإفشاء إلى أجنبي أو مغربي مقيم في بلد أجنبي، أما إذا كان الإفشاء إلى مغربي مقيم بالمغرب فعقوبته هي الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين والغرامة من 200 إلى 250 درهم، ويحكم بالحد الأقصى، حتما في الحالتين السابقتين، إذا كانت الأسرار متعلقة بمصنع الأسلحة أو الذخيرة الحربية مملوك للدولة.

يتضح من خلال هذين الفصلين – ماعدا إذا انصب الإفشاء على أسرار متعلقة بصنع الاسلحة أو الذخائر الحربية المملوكة للدولة- أن المشرع المغربي قد جعل عقوبة الحبس وجوبية بجوار الغرامة، وألزم القاضي بالجمع بينهما، ويرى البعض الباحثين[19] أن هذا التشدد محمود بالنظر إلى الضعف الذي يصيب هذه المؤسسة – مؤسسة السر المهني- من جراء الحدود التي تكبلها.

ما يلاحظ هو أن المشرع وضع حبسا قصير المدة لجنحة إفشاء السر المهني الواردة في الفصل 446 و 447 من ق.ج.م ، وهو من ناحية لا يحقق لا الردع العام و لا الردع الخاص ( في رأي البعض) لأن قصر مدته يجعل منه عقوبة غير مجدية، ويضعف أثره كعقوبة في نفوس الناس، خصوصا و أن المحكوم عليه إذا تعود عليها قد يفقد رهبة السجن.

بالإضافة إلى إن عقوبة الحبس قصير المدة قد يفسد المحكوم عليه أكثر مما يصلحه، لأن ولوج المؤسسات السجنية قد يصيبه بالإحباط النفسي و يفقده اعتباره، إضافة إلى أن اختلاطه مع عتاة المجرمين غالبا ما يكسر حاجز الخوف لدى المجرمين بالصدفة، ويحولهم إلى مجرمين محترفين، ليتحول السجن بذلك من فضاء لتقويم سلوك المجرمين إلى مدرسة لتعلم فنون الإجرام، خصوصا وأن قصر مدة هذه العقوبات غالبا مالا تسمح بتنفيذ برامج الإصلاح و التأهيل الاجتماعي الخاصة بالمحكوم عليه[20].

وبالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي يلاحظ أن العقوبات الحبسية في هذا القانون تتراوح في مجملها بين شهر واحد كحد أدنى و5 سنوات كحد أقصى[21]. و يلاحظ أيضا أن المشرع لم يعتمد على العقوبات الحبسية إلا في الجرائم التي تنم عن خطورة إجرامية واضحة لدى مرتكبيها. وبالتالي فإن الزجر عن هذه الجرائم بعقوبات حبسية – ولو كانت قصيرة المدة- أعتقد أنه أمر مقبول و مطلوب حتى لا يفقد القانون الجنائي روحه الردعية، ولا يمكن الاحتجاج بمساوئ هذا النوع من العقوبات للقول بضرورة إلغائها. لأن ذلك سيكون أقرب إلى الخيال، على اعتبار أن هناك بعض الجرائم المتوسطة الخطورة لا يمكن المعاقبة عنها إلا بعقوبات حبسية قصيرة المدة، و بالتالي فأنا هنا أضم رأيي إلى الرأي القائل بضرورة الإبقاء على هذه العقوبات مع التضييق من نطاقها. وتنظيمها بشكل يتلاءم ودرجة خطورة المجرمين المحكوم عليهم بها، و تأطيرها بمقتضيات قانونية واضحة تضمن فعاليتها، من قبيل التنصيص على ضرورة عدم اختلاطهم بالمحكوم عليهم بعقوبات طويلة المدة، ومواكبة ذلك بالإمكانيات المادية التي تكفل التطبيق السليم والسلس لمثل هذه المقتضيات. لأن القانون الجنائي يبقى قانونا غايتة الزجر والردع، وإذا فقد هذه الخصوصية أعتقد أنه سيفقد قيمته المرجعية كأهم فرع من بين فروع القانون الأخرى، وسيفقد كذلك وظيفته في إشباع الإحساس بالشعور بالأمن.

على خلاف نهج القانون المغربي رفع قانون العقوبات الفرنسي هذه العقوبة في المادة 226-13 منه بالحبس سنة والغرامة 100.000 فرنك فرنسي، وقد أحسن المشرع الفرنسي صنعا حينما رفع العقوبة الحبسية والغرامة إذ من شأن ذلك توفير الحماية الفعالة لصاحب السر.

وهناك نصوص تعاقب بعقوبات خاصة كما هو الحال بالنسبة للمادة 105 من ق.م.ج الذي يعاقب على كل إبلاغ وإفشاء لوثيقة وقع الحصول عليها من التفتيش يتم من طرف شخص ليس له صلاحية قانونية للإطلاع عليها، بعقوبة الحبس من شهرين إلى سنتين و بغرامة من 5000 إلى 30000 ألف درهم.

في حين أن نصوصا أخرى تعتمد على أسلوب الإحالة على المادة 446 من ق.ج.م لتطبيق العقوبة الواردة فيه على من يفشي الأسرار، مثال ذلك المادة 80 من قانون البورصة ألزمت أعضاء مجلس إدارة الشركة المسيرة وشركات البورصة، ومستخدميها، بكتمان السر المهني، في جميع القضايا التي ينظرونا فيها بأي صفة من الصفات وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها في المادة 446 ق.ج. والملاحظ أن المشرع شدد العقاب إذا كان محل الإفشاء سر من أسرار الدفاع وعندئذ يعاقب الموظفون بعقوبة خاصة كما هو الحال في الفصل 192 وهي الحبس من سنة إلى 5 سنوات في حالة السلم، وأما في زمن الحرب فإن العقوبة هي السجن من خمس سنوات إلى 30 سنة.

والمبدأ العام في الجزاء الجنائي هو شخصية العقوبة، لكن في جريمة إفشاء السر المهني، يتعذر تحديد المسؤول بصورة شخصية[22]، ويرى بعض الفقه أن العمل على هذا النحو يشكل إفشاء لسر المهنة ، لكن لا يمكن متابعة مدير المستشفى إلا إذا تبين أنه تسبب شخصيا في الإفشاء.

الفقرة الثانية : الجزاءات المدنية

من المقرر كقاعدة عامة أن كل عمل غير مشروع يسبب ضررا للغير يلتزم مرتكبه بالتعويض، ولاشك في أن جريمة إفشاء السر عمل غير مشروع، ولكنها لا تؤدي إلى المطالبة بالتعويض إلا إذا تسبب ضررا للمجني عليه ماديا كان أو معنويا[23].

وتختلف المسؤولية المدنية[24] والمسؤولية الجنائية في عدة نواحي منها:

v أن المسؤولية الجنائية تتحقق بمجرد حدوث الإفشاء العمدي سواء حدث ضرر أم لم يحدث ، في حين أن المسؤولية المدنية يشترط لقيامها حدوث ضرر من جراء الإفشاء حتى يمكن الحكم للمجني عليه بالتعويض[25].

v الخطأ في المسؤولية الجنائية مخالفة لواجب يفرضه القانون ويعاقب على مخالفته، أما الخطأ في المسوؤلية المدنية فهو مخالفة للالتزام ناشئ عن عقد أو لواجب قانوني عام يتمثل في عدم المساس بحقوق الآخرين[26]

v إذا كان المشرع يشترط لقيام المسؤولية الجنائية توافر أركان الجريمة من ركن مادي وآخر معنوي، فإن المسؤولية المدنية تعتبر قائمة متى أحدث الفعل المرتكب من طرف الجاني ضررا خاصا، ولو بمجرد الإهمال.

وتجدر الإشارة إلى أن دائرة الخطأ المدني أوسع من الخطأ الجنائي، ذلك أن هذا الأخير يكون متحققا بتوافر الركن المادي لجريمة إفشاء الأسرار، بينما الخطأ المدني يتحقق بمجرد مخالفة التزام ناشئ عن عقد أو واجب قانوني عام يتمثل في عدم الإضرار بالآخرين.

الفقرة الثالثة : الجزاءات التأديبية

تتحقق الحماية القانونية لسر المهنة بما يوقع من جزاء تأديبي على الأمين نتيجة تقصيره في المحافظة على سر المهنة بإعتباره تصرفا من شأنه المساس بشرف المهنة أو مصالحها أو الإخلال بواجبات الوظيفة والمهنة[27].

وقد نصت القوانين المنظمة لشؤون كل طائفة من طوائف الأمناء على الأسرار على إلتزام أفرادها بالمحافظة على السر المهني، كما نظمت كيفية تأديبهم عند مخالفة ذلك الإلتزام، ومن هذا القبيل المادة 61 من القانون المنظم لمهنة المحاماة [28] بأنه يعاقب تأديبيا المحامي الذي يرتكب مخالفة للنصوص القانونية أو التنظيمية، أو قواعد المهنة أو أعرافها، أو إخلال بالمروءة والشرف ولو تعلق الأمر بأعمال خارجة عن النطاق المهني، ويملك مجلس الهيئة حق إجراء المتابعة واتخاذ العقوبات التأديبية.

وتستقل المسؤولية التأديبية عن المسؤولية الجنائية في ما يلي :

v يشترط لقيام المسؤولية التأديبية أن يكون الخطأ المرتكب من الموظف أثناء قيامه بوظيفته، أما بعد انتهائها فلا تتم محاسبته وذلك لأن مناط المسؤولية هو قيام الرابطة الوظيفية، أما المسؤولية الجنائية فتأتي بصورة أكثر شمولية، فيتم محاسبة الموظف حتى بعد انتهاء خدمته وكذلك لا تشترط في محاسبة الشخص أن يكون موظفا[29].

v المسؤولية الجنائية تتولد عن الجريمة لإحداثها إخلالا خطيرا بأمن وسلامة المجتمع، أما المسؤولية التأديبية فتتولد عن الجريمة التأديبية، لأنها تقوم على خطأ مصلحي للموضوع، و تؤدي بدورها إلى الإضرار بالمجتمع.

v الجريمة الجنائية لا تنشأ إلا على أخطار محددة على سبيل الحصر مقدما من طرف المشرع في القوانين العقابية المختلفة عملا بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، في حين أن الجرائم التأديبية، وإن كانت عقوبتها محددة على سبيل الحصر، وتبدأ للمحامي مثلا بالإنذار والتوبيخ، فالإيقاف عن ممارسة المهنة لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، فالتشطيب من الجدول، أو من قائمة التمرين أو سحب الصفة الشرفية[30].

[1] عبد الواحد العلمي: شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء سنة 2006، ، ص 79.

[2] و موضوع تحريك الدعوى العمومية تتجاذبه في الأنظمة الجنائية المقارنة نظامين متناقضين هما النظام الإتهامي و النظام التفتيشي و تجدر الإشارة إلى أن قانون المسطرة الجنائية المغربي يأخذ بانظام التفتيشي مع تطعيمه ببعض إيجابيات النظام الإتهامي.

[3] نوفل الريحاني، مرجع سابق، ص152.

[4] مولاي البشير الشرفي :المسؤولية الناتجة عن خرق الالتزام بالسر المهني في القانون البنكي المغربي، مجلة القانون المغربي، العدد 1/2002، ص 29.

[5] نوفل الريحاني، مرجع سابق، ص 154.

[6] – Raymond FARHAT, op.cit, p : 138 et 139.

[7] عياط محمد، “دراسة في المسطرة الجنائية المغربية”، الجزء الأول مطبعة بابل للطباعة و النشر و التوزيع الرباط الطبعة الأولى 1991، ص 133.

[8] وزارة العدل: شرح قانون المسطرة الجنائية، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية ، سلسلة شروح و دلائل العدد 2 2004 الطبعة الأولى، ص 59.

[9] عبد القادر العرعاري: مصادر الإلتزامات الكتاب الثاني المسؤولية المدنية، الناشر دار الأمان الرباط، الطبعة الثانية السنة ،2005 ص 107 .

[10] المختار عطار : قانون الالتزامات والعقود، – مصادر الالتزامات- ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1999ص 291.

[11] المختار العطار، مرجع سابق، ص 291.

[12] عبد الرزاق أحمد السنهوري، “الوسيط في شرح القانون المدني الجديد. مصادر الالتزام، الجزء الأول، المجلد الثاني”، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الثالثةـ 2000.ص 1041.

شروط الضرر القابل للتعويض هي:

§ أن يكون الضرر مباشرا : إن الضرر الذي يؤخذ بعين الإعتبار عند تقدير التعويض هو الذي يتولد بصورة مباشرة عن الفعل الضار ، و يترتب على ماسبق أن الضرر إذا لم تكن له علاقة مباشرة بالخطأ فإنه لا يستوجب التعويض.

§ أن يكون الضرر محققا و حالا: مقتضى هذا الشرط أن يكون الضرر قد وقع فعلا وهو ما يسمى بالضرر الحال ( (Dommage actuel

§ أن يكون الضرر شخصيا : سواء كان الضرر ماديا أو معنويا فإنه يتعين فيه أن يكون شخصيا وهذا يعني أن المطالبة بالتعويض حق للمضرور المباشر وحده لإرتباط ذلك بمصلحته

[14] كما هو الحال بالنسبة لظهير 2 أكتوبر 1984 الذي وضع مجموعة من الجداول تحدد التعويض الواجب للمتضرر بدلالة نسبة العجز المؤقت أو الدائم التي لحفت بالضحية في حوادث السير.

[15] قرار المجلس الأعلى، الغرفة الجنائية، 15 ماي 1969، قضاء المجلس الأعلى العدد 11، الإصدار الإلكتروني.

وتجدر الإشارة إلى أنه على المتضرر أثناء تقديمه لطلباته المدنية أمام القضاء الزجري أداء القسط الخزافي حتى تكون طلباته مقبولة شكلا.

[16] كامل الوادي: الأعمال المصرفية والقوانين المنظمة لها،- الجزء الأول- ، دار المتنبي للطباعة والنشر، أبو ظبي، 1991.ص 44..

[17] عبد الواحد العلمي: شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، – الجزء الأول – مرجع سابق، ص 266.

[18] عبد الواحد العلمي، مرجع سابق ، ص377.

[19]- مولاي البشير الشرفي، مرجع سابق، ص30.

[20] أبو العلا عقيدة،أصول علم العقاب ، دار النهضة العربية، بدون طبعة و بدون سنة، ص183

[21] باستثناء حالات العود

[22] مثال ذلك ما يحدث بالمستشفيات التي يسير فيها العمل على تخصيص تذكرة لسرير كل مريض توضع بجوازه أو تعلق بسريره، فعندئذ يكون من الميسور أن يطلع كثير من العاملين بالمستشفى أو الزوار على البيانات المذكورة.

[23] أسامة عسيلان، مرجع سابق، ص 158.

[24] يشترط لقيام المسؤولية المدنية توافر شروط ثلاث هي :

§ الخطأ : هو الإنحراف في السلوك المالوف مع إدراك لهذا الإنحراف .

§ الضرر: هو ما يصيب الشخص بأذى في نفسه أو ماله أو إعتباره ، وقد يكون ماديا أو معنويا .

§ العلاقة السببية : تبرز أهميتها في أنها تبين العلاقة بين الخطأ و الضرر فتبين أن الضرر ناتج عن الخطأ ، و أنه لولا الخطأ لما كان الضرر .

[25] مرسلي والعيبود، ص 61.

[26] أسامة عسيلان، مرجع سابق، ص 160.

[27] أسامة عسيلان، مرجع سابق، ص 157.

[28] ظهير 20 أكتوبر 2008، منشور في الجريدة الرسمية عدد 5680 يوم الخميس 6 نونبر 2008.

[29] أسامة عسيلان، مرجع سابق، ص 158.

[30] مرسلي والعيبود، مرجع سابق،ص 62.