أي آفاق للاختصاص الجنائي للقأي آفاق للاختصاص الجنائي للقضاء التجاري؟

محاولة للتعليق على حكم المحكمة التجارية بالدار البيضاء رقم 1015 بتاريخ 3 يناير 2006

من إعداد: رضوان قويع

طالب باحث، ماستر قوانين التجارة والأعمال

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية

جامعة محمد الاول وجدة.

 

القاعدة

التماس القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري بتوقيع العقوبة ـ لاـ
اختصاص المحكمة التجارية للنظر في الجريمة ـ نعم ـ

“لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”

عمر بن الخطاب

تقديم

عرف التنظيم القضائي المغربي تطورا مهما بإحداث محاكم تجارية[1] متخصصة لأول مرة في تاريخه، بينما كان في ظل النظام السابق يرجع الاختصاص للبت في القضايا التجارية للمحاكم الابتدائية، في إطار ولايتها العامة مع استئناف أحكامها أمام محكمة الاستئناف. ومما لا شك فيه، أن المحاكم التجارية باعتبارها مؤسسة قضائية حديثة، جاءت لتكرس نزوع المشرع المغربي نحو مبدأ تخصص القضاء، ويظهر هذا الاتجاه جليا بعد أن أنشأ في سنة 1993 المحاكم الادارية[2].

والمشرع المغربي بإحداثه للمحاكم التجارية، يكون قد خطا خطوة مهمة في سبيل تشجيع المستثمرين الأجانب والوطنيين على حد سواء، من خلال توفير الحماية القضائية اللازمة لهم، ويعد إحداثها من الضمانات الأساسية لحماية الاستثمار والاقتصاد الوطني[3]. وإذ نحن اليوم نقف أمام تجربة عشرين سنة من العمل بهذه المحاكم، فإن أهم المشاكل والصعوبات التي اعترضت هذه التجربة يتعلق بتحديد اختصاصها، خاصة وأن صياغة بعض مقتضيات قانون إحداث المحاكم التجارية فيما يتعلق بالاختصاص النوعي تتسم بالعمومية والغموض.

و من المؤكد نظريا وبالملموس، أن مشاكل الاختصاص النوعي[4] وصعوبات تحديده تشكل بحق صعوبة، إذ يترتب عنها خلق تعقيدات إضافية على حساب مسطرة التقاضي وينحرف بها النزاع الموضوعي أي النزاع المنصب على الحق عن غاياته، ليصبح مجرد نزاع في الاختصاص القضائي وهو نزاع في كنهه عبارة عن جدل قانوني عقيم لا يستهدف تحقيق العدالة التي هي المبتغى في كل دعوى. والحكم الذي بين أيدينا للتعليق لخير شاهد.

أولا: المحكمة المصدرة للحكم واطرافه

بتاريخ 23 يناير 2006 أصدرت المحكمة التجارية بالدار البيضاء في ملف رقم 206/26/2006 حكما يحمل رقم 1015، بين كل من القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري(Le juge commis à la surveillance du registre du commerce) بهذه المحكمة بصفته مدعيا في القضية، وبين مسير شركة “كتكوت الريف” بصفتها مدعى عليها.

ثانيا: الوقائع والادعاءات

تقدم القاضي المكلف بالسجل التجاري بالمحكمة التجارية السالفة الذكر، بملتمس يعرض فيه بأن متصرفي الشركة المشار إليها أعلاه لم يقوموا داخل الآجال القانونية بملاءمة النظام الأساسي للشركة مع أحكام القانون المنظم لها.

(n’auront pas mis ou fait mettre les statuts en harmonie avec les dispositions de la loi).

ويؤسس القاضي المكلف بالسجل التجاري ادعائه في هذا الصدد على خرق مقتضيات القسم السادس، وبالخصوص المادة 449 من قانون شركات المساهمة[5]، التي تلزم متصرفي شركات المساهمة على ملاءمة النظام الأساسي مع القانون المشار إليه وذلك تحت طائلة غرامة مالية.

وبموجب هذا الملتمس يطالب بمعاقبة متصرفي الشركة المذكورة أعلاه بالغرامة المالية المنصوص عليها قانونا، والتي تتراوح بين 2000 و10000 درهم.

أما المدعى عليه فقد تخلف عن الحضور في الجلسة المدرجة بتاريخ 23 يناير 2006، فقررت المحكمة حجزها للمداولة قصد النطق بالحكم في جلسة يوم 30 يناير 2006.

ثالثا: الاشكال القانوني

يتضح من خلال ما سبق، أننا أمام جهاز قضائي بالمحكمة التجارية ” القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري”، يسعى إلى تطبيق القانون المتعلق بالسجل التجاري ويسهر على مراقبته بل والاكثر من ذلك يطالب بتوقيع العقوبات الزجرية على المخالفين من خلال ملتمساته!

فهل إصدار المحكمة التجارية للحكم الزجري الذي بين أيدينا بناء على ملتمس القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري يكون صحيحا؟

وتنحدر من هذه الاشكالية الرئيسية إشكاليتين فرعيتين:

الأولى: حقيقة وجود النيابة العامة (le ministère public ) بالمحاكم التجارية؟

الثانية: مدى اختصاص المحاكم التجارية للبت في قضايا جرائم الشركات؟

رابعا: الحل الذي تبنته المحكمة

بعد المداولة حكمت المحكمة بجلستها العلنية ابتدائيا وغيابيا بأداء متصرفي الشركة لغرامة قدرها 2000 درهم لفائدة الخزينة العامة ومنح مهلة جديدة لا تتجاوز ستة أشهر لملاءمة النظام الأساسي للشركة.

وتنبغي الاشارة إلى أنه ورغم الجهود المبذولة لمعرفة صيرورة الحكم على مستوى المسطرة القضائية هل تم التعرض عليه من قبل متصرفي الشركة أو لا باعتباره صدر غيابيا، وهل وصل لمرحلة النقض أو لم يصل، فإننا لم نوفق في ذلك.

وعليه سيكون تعليقنا على هذا الحكم من خلال المحورين التاليين:

المحور الأول: دور النيابة العامة بالمحكمة التجارية

المحور الثاني: مدى اختصاص المحكمة التجارية للبت في قضايا جرائم الشركات

المحور الأول: دور النيابة العامة بالمحكمة التجارية

لا يخفى على أحد الدور الهام الذي تضطلع به مؤسسة النيابة العامة في الميدان الزجري، فهي تنفرد بإقامة الدعوى العمومية وممارستها ومراقبتها وممارسة طرق الطعن…إلخ، كما تتدخل في الميدان المدني[6] وذلك حينما يتطلب الأمر حماية مراكز قانونية معينة جديرة بذلك وخاصة عندما تمس المنازعة النظام العام. ونتساءل في هذا الاتجاه وارتباطا بما جاء في مضمون الحكم عن أدوارها بالمحكمة التجارية؟

نشير في البداية إلى أن قانون إحداث المحاكم التجارية (loi instituant des juridictions de commerce) ينص في مادته الثانية على أن المحكمة التجارية تتكون من رئيس ونواب للرئيس، وقضاة، ومن نيابة عامة تتكون من وكيل الملك ونائب أو عدة نواب، ومن كتابة الضبط، وكتابة للنيابة العامة .

ولقد خول المشرع للنيابة العامة التجارية باعتبارها تسهر على المصلحة العامة و النظام العام الاقتصادي، دورا رقابيا متميزا على الشركات التجارية، حيث يحق لها التدخل في عملية التأسيس لتسوية وضع غير قانوني إذا لم يتضمن النظام الأساسي كل البيانات اللازمة أو لم يقم المؤسسون باتخاذ الاجراءات اللازمة في هذه المرحلة، وهكذا نجد الفقرة الثانية من المادة 12من قانون شركات المساهمة تنص على أنه :”إذا لم يتضمن النظام الأساسي كل البيانات المتطلبة قانونيا وتنظيميا أو أغفل القيام بأحد الإجراءات التي تنص عليها فيما يخص تأسيس الشركة أو تمت بصورة غير قانونية، يخول لكل ذي مصلحة تقديم طلب للقضاء لتوجيه أمر بتسوية عملية التأسيس تحت طائلة غرامة تهديدية. كما يمكن للنيابة العامة التقدم بنفس الطلب.

تتقادم الدعوى المشار إليها في الفقرة أعلاه بمرور ثلاث سنوات ابتداء من تقييد الشركة في السجل التجاري أو من تقييد التغيير في ذلك السجل وإلحاق العقود المغيرة للنظام الأساسي به”.

وبالرجوع كذلك إلى الفصل 11 من المرسوم[7] القاضي بتطبيق الباب الثاني المتعلق بالسجل التجاري بالقسم الرابع من الكتاب الأول من مدونة التجارة نجده ينص على أنه : “يقوم رئيس المحكمة المختصة أو القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري بترقيم السجلين الزمني والتحليلي وتوقيعهما والتحقق منهما في نهاية كل شهر. ويثبت التحقيق المذكور بوضع طابع المحكمة وتوقيع القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري.

وإذا افترض رئيس المحكمة أو القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري أن تصريحا يقع تحت طائلة المادة 64 من القانون المشار إليه أعلاه رقم 15.95 وجب عليه أن يبلغ ذلك إلى النيابة العامة”.

وبناء على ما سبق، فإننا نرى أن استناد هيئة المحكمة( (la juridiction de jugement في الحكم الذي بين أيدينا على ملتمس القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري، ومعاقبة متصرفي الشركة بغرامة مالية قدرها 2000 درهم عن عدم ملاءمة نظامها الأساسي مع أحكام قانون شركات المساهمة، وبغض النظر عن تحقق الفعل المعاقب عليه بركنيه المادي والمعنوي وفق ملتمس القاضي السالف الذكر، نجده أمر لا يستقيم أمام تواجد جهاز النيابة العامة بالمحاكم التجارية والتي يعود إليها السهر على التطبيق السليم للقانون، بل وهي التي تملك سلطة الملاءمة في تحريك الدعوى العمومية من عدمها في الافعال التي تصل إلى علمها على مستوى القضايا الزجرية.

وبالإضافة إلى ما سبق، نجد الفصل 24 من قانون المسطرة الجنائية[8] ينص على أنه: “يجب على كل سلطة منتصبة وعلى كل موظف بلغ إلى علمه أثناء ممارسته لمهامه ارتكاب جريمة، أن يخبر بذلك فوراً وكيل الملك أو الوكيل العام للملك وأن يوجه إليه جميع ما يتعلق بالجريمة من معلومات ومحاضر ووثائق”.

كما أنه باستقرائنا لفصول المرسوم المنظم للسجل التجاري عامة، نجدها لم تشر بتاتا إلى أي حالة أو مكنة تمكن القاضي المكلف بالسجل التجاري من تقديم طلب أو التماس إلى المحكمة بشأن أي خرق للمقتضيات المنظمة لهذا السجل، بل اكتفت بالإشارة إلى وجوب التبليغ للنيابة العامة في حالة الادلاء ببيان غير صحيح وفق الفصل 64[9] من مدونة التجارة[10]، وبالرغم من أن المشرع لم يحدد أي نيابة عامة يجب لها التبليغ؟ هل النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية أو النيابة العامة بالمحكمة التجارية؟ فإننا نرى والحالة هذه، أنه ما دام الأمر يتعلق بفعل مرتكب من قبل شركة ويشكل مخالفة، ومجرم بموجب قانون شركات المساهمة، والتي يعود الاختصاص في النزاعات الناشئة بشأنها إلى المحكمة التجارية فإن النيابة العامة لديها تكون هي المعنية بالتبليغ.

وبالتالي فإن الاستعاضة عن ممثلي النيابة العامة بهذه المحاكم وفق ما جاء في الحكم، سيفرغ هذا الجهاز من دوره الوظيفي بهذه المحاكم وهو ما يناقض توجه المشرع المغربي المعبر عنه من خلال قانون إحداث المحاكم التجارية وقانون الشركات التجارية وقانون صعوبات المقاولة[11] وغيرها من القوانين التي يرجع أمر تطبيقها إلى هذه المحاكم.

والاكثــر من ذلك، فقد منــح المشرع للنيابة العامة حق التدخل في حياة ومصير الشركة وما يؤكد هذا التوجه ما جاء في الفقرة الأخيـــرة من المــادة 426 مــن قــانون شـركــات المساهــمــــــــــة (les sociétés anonymes) التي تنص على أنه يمكن لكل ذي مصلحة أو للنيابة العامة طلب حل الشركة من المحكمة. ويمكن أن تمنح المحكمة أجلا أقصى للشريك حتى يقوم بتسوية وضعيته. ولا يمكن لها النطق بحل الشركة إذا تمت تسوية الوضعية ولغاية يوم البت ابتدائيا في الموضوع[12].

وعليه نخلص في هذا الصدد أن كل التماس يتعلق بتطبيق القانون و توقيع العقوبات على المخالفين بصفة عامة، وكل التماس يتعلق بخرق مقتضيات قانون شركات المساهمة المتعلقة بملاءمة النظام الأساسي للشركة حسب المادة 449 بصفة خاصة، يكون من اختصاص ممثلي النيابة العامة بهذه المحكمة باعتبارها الحارس الأمين للنظام العام الاقتصادي للدولة، و نعتبر ملتمس القاضي المكلف بمراقبة السجل التجاري إجراء باطل لعدم ارتكازه على أي أساس قانوني ويترتب عليه قابلية الحكم للطعن.

ويبقى تساؤل آخر يطرح نفسه بإلحاح على هذا المستوى، ويتعلق بنوعية القضية التي نظرت فيها المحكمة هل تدخل أصلا ضمن اختصاصها النوعي؟

المحور الثاني: مدى اختصاص القضاء التجاري للبت في قضايا جرائم الشركات

إن الاختصاص النوعي[13] ( la compétence en raison de la matière) للمحاكم التجارية تم تحديده بموجب القانون المحدث لها، في إطار المنازعات التجارية الناشئة بين التجار والمنازعات الناشئة بين الشركاء في شركة تجارية وغيرها من المنازعات التجارية ، وتم تمديده ليشمل بصفة استثنائية غير التجار عندما يتعلق الأمر بالأعمال المختلطة، بيد أنه لم يتضمن اختصاصا جنائيا ولم يشر المشرع في أي نص إلى أي مقتضى يخول لها النظر في الجرائم الواردة ضمن قانون الشركات بصفة صريحة.

و يذهب أحد الفقه[14] إلى اعتبارها محاكم مصنفة في خانة المحاكم المتخصصة غير الجنائية، وأن المصدر التاريخي لهذه المحاكم هو التشريع الفرنسي الذي صنف المحاكم التجارية الفرنسية في الكتاب الرابع من قانون التنظيم القضائي الفرنسي ضمن خانة المحاكـم المتخصصة غيـر الجنائـــيـة (les juridiction spécialisées non pénale).

وعليه، ورغم الكم الهائل من المقتضيات الزجرية الواردة ضمن قوانين الشركات التجارية عموما، وقانون شركات المساهمة خصوصا، حيث أفرد لها المشرع القسم الرابع عشرـ كاملاـ المعنون بـ”العقوبات الزجرية” المواد من 373 إلى 424، والباب الثاني من القسم الخامس عشر المتعلق بشركات المساهمة المبسطة المواد من 437 إلى 440، علاوة على المادة 449 التي استندت عليها المحكمة مصدرة الحكم والتي جاءت في القسم السادس عشر من القانون السالف الذكر المعنون بـ”أحكام مختلفة وانتقالية”، نجدها لا تسعف للقول باختصاص المحاكم التجارية في توقيع العقوبات الزجرية في جرائم الشركات ومـن ثم معاقبة متصرفي الشركـة (Les administrateurs de sociétié) عن عدم ملاءمة نظامها الأساسي مع القانون المنظم لها في ظل غياب نص تشريعي واضح.

ولكن رغم ذلك نرى في اعتقادنا أن اختصاص تجارية الدار البيضاء بإصدار الحكم في هذه القضية، سليم ويتقبله المنطق القانوني والممارسة العملية وذلك لعدة اعتبارات، فمن جهة تعتبر جريمة عدم ملاءمة النظام الأساسي مع القانون 17.95 مخالفة معاقب عليها بعقوبة ذات طبيعة مالية صرفة(غرامة) فقط، ولا يظهر فيها متضرر مباشر بخلاف باقي جرائم الشركات كإساءة استعمال أموال الشركة (les abus de biens sociaux) مثلا، حيث تمس الجريمة المصالح الاقتصادية للشركة (intérêts économiques) ومصالح الشركاء بالدرجة الأولى، وبالتالي فهي لا تستدعي الكثير من البحث والتقصي وآلياته المخولة للنيابة العامة وقاضي التحقيق على المستوى المحاكم الزجرية، ومن خلاله يمكن للمحكمة التجارية النظر فيها، ومن جهة أخرى فمراقبة مشروعية النظام الأساسي للشركة وكل ما يتعلق بسجلها التجاري نجدها أمورا ذات طبيعة تجارية محضة ستكون فيها المحاكم التجارية أكثر دراية وفعالية وتخصصا من نظيرتها الزجرية.

وحيث أنه بالنظر إلى طبيعة المواد المشار إليها أعلاه، لن يجادل أحد في كونها ذات طبيعة زجرية صرفة، والدليل على ذلك أنها تضمنت قواعد ومبادئ تستمد وجودها من القانون الجنائي كما هو الشأن بالنسبة لأركان الجريمة وحالات المساهمة والمشاركة في الجريمة وظروف التشديد والتخفيف وحالات العود مع بعض الخصوصيات التي تميز ميدان الشركات. بالتالي لم يعد هناك أدنى شك في الاختصاص الزجري الموكول لجهاز النيابة العامة التجارية خاصة وأن المشرع قد أسند صراحة للمحاكم التجارية صلاحية النظر في القضايا التجارية التي تنشأ بين التجار والشركات التجارية.

ويؤكد هذا الاتجاه استحالة التمييز بين المواد الاقتصادية كما في قوانين شركات المساهمة وغيرها، حيث تفرض ضرورة تطبيق هذه القوانين برمتها أي بجميع موادها نظرا لانسجامها ووحدتها، فإذا وقع تمييز بين هذه المواد وقع نقص وبتر وخلخلة في سلامة تطبيق روح القوانين كما أسسها المشرع، لهذا الاعتبار وجب على وكيل الملك بالمحكمة التجارية ممارسة جميع اختصاصاته الوظيفية مدنية وزجرية بصفة طبيعية[15].

ونشير في هذا الصدد أن المشرع المصري قد خول للمحاكم الاقتصادية[16] ـ بنص صريح لا لبس فيه ـ اختصاص النظر في الجرائم المنصوص عليها في قانون شركات المساهمة وباقي الشركات التجارية، وكذلك الجرائم المرتبطة بميدان التجارة والأعمال بصفة عامة. حيث جاء في المادة 4 من قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية أنه: ” تختص الدوائر الابتدائية والاستئنافية بالمحاكم الاقتصادية، دون غيرها، نوعيا ومكانيا بنظر الدعاوى الجنائية الناشئة عن الجرائم المنصوص عليها في القوانين الآتية:

قانون العقوبات في شأن جرائم التفالس؛
قانون الإشراف والرقابة على التأمين في مصر؛
قانون شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات المسئولية المحدودة؛
[…]”.
ونراه اتجاه محمود كان على المشرع المغربي الأخذ به ومنح الاختصاص للمحكمة التجارية في جرائم الشركات. و لا يوجد ما يمنع المشرع حسب أحد الفقه[17]، من أن يقرر منح اختصاص واسع للمحاكم التجارية يجعلها تنظر كذلك، إلى جانب القضايا التجارية، الجرائم الاقتصادية التابعة أو المرتبطة بها وما أكثرها في مادة التجارة، سواء في مساطر المعالجة أو الشركات أو السجل التجاري، أو بورصة القيم أو مؤسسات الائتمان أو التأمين أو غيرها.

وفي هذا الصدد نؤيد ما ذهب إليه أحد الفقه[18] كذلك، بالقول أن تقوية جهاز النيابة العامة التجارية لن يتأتى فقط عبر تقوية التنسيق بينها وبين نظيرتها لدى القضاء الزجري، ولكن عبر إسناد المشرع لمجموعة من الاختصاصات للنيابة العامة التجارية، كإسناد إجراءات البحث التمهيدي بخصوص الاخلالات المتعلقة بالسجل التجاري ومباشرة الأبحاث في جرائم الجلسات التي قد تقع داخل المحاكم التجارية وكذا تقوية فعاليتها عبر إمكانية تسخيرها للقوة العمومية عند الضرورة لمؤازرة أعوان التنفيذ. وبالتالي اسناد الاختصاص في كل ما يتعلق بجرائم الشركات للمحاكم التجارية.

كما أن تخويل المحاكم التجارية سلطة النظر في جرائم الأعمال خصوصا المرتبطة منها بالشركات التجارية يحقق اهداف قانونية واقتصادية مهمة[19]، تتجلى أساسا في تذليل مختلف الصعوبات التي تعرقل عمل القضاء التجاري وهو ينظر في ملفات اقتصادية هامة، إضافة إلى تفعيل دور النيابة العامة بالمحاكم التجارية والذي بات شبه منعدم من خلال السهر على تطبيق القانون وحماية النظام العام الاقتصادي ثم تنقية الحقل التجاري من كل الشوائب والخروقات التي قد تهوي بمصالح المجتمع.

خاتمة

من خلال ما سبق التطرق إليه، ورغم أن الواقع العملي يطالعنا بشكل جلي ويومي على أن النصوص الزجرية التي جاء بها قانون شركات المساهمة لم تعرف طريقها بعد إلى التطبيق، حيث يقتصر الأمر على تكييف بعض الجرائم منه وفق القواعد العامة للتجريم والعقاب، ونقصد هنا مجموعة القانون الجنائي وتبت فيها المحاكم التجارية تبعا لذلك، لأسباب نعتقد أنها تعود إلى المشرع المغربي نفسه وإلى بنية الاقتصاد الوطني. إلا أن الحكم الذي بين أيدينا ـ وهو حكم نادر ـ الذي أصدرته تجارية الدار البيضاء قد خرج عن هذه القاعدة من خلال موضوعه حيث نظرت في مخالفة تعد من صميم جرائم الشركات التي نص عليها المشرع المغربي في قانون شركات المساهمة، وذلك رغم العيب الإجرائي الذي تخلله، وهو ما قد يفتح آفاقا رحبة مستقبلا لهذه المحاكم للنظر في هذه الجرائم.

ملحوظة:

يمكن الاطلاع على أصل الحكم من خلال الرابط التالي:

www.jurisprudencemaroc.com/lecture.php?id_fichier=8562

[1] ظهير شريف رقم 1.97.65 صادر في 4 شوال (12 فبراير 1997) بتنفيذ القانون رقم 53.95 القاضي بإحداث محاكم تجارية، الجريدة الرسمية عدد 4482 بتاريخ 8 محرم 1418 (15ماي1997)، ص1141.

[2] ظهير شريف رقم 1.91.225 صادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) بتنفيذ القانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية، الجريدة الرسمية عدد 4227 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1414 ( 3 نوفمبر 1993)، ص 2168.

[3] عبد الرحيم بحار، القضاء التجاري والمنازعات التجارية، الطبعة الأولى 2014، ص 77.

[4] للمزيد من التفصيل حول اشكاليات الاختصاص النوعي لهذه المحاكم يراجع:

يوسف ملحاوي، مدى حقيقة الاختصاص النوعي للمحاكم التجارية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في قانون الأعمال، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة، السنة الجامعية 2000/1999.
[5] قانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.96.124 صادر في 14 من ربيع الآخر 1417 الموافق ل 30 أغسطس 1996، كما تم تغييره وتتميمه.

[6] في إطار القواعد العامة، نص الباب الثاني من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 447.74.1 بتاريخ 28 شتنبر 1974 المتعلق بقانون المسطرة المدنية على دور النيابة العامة أمام المحاكم المدنية في الفصول من 6 إلى 10، وهي تبعا لذلك تتدخل إما بصفتها طرفا أصليا أو منضما.

[7] مرسوم رقم 2.96.906 صادر في 9 رمضان 1417 (18 يناير 1997) لتطبيق الباب الثاني المتعلق بالسجل التجاري بالقسم الرابع من الكتاب الأول من القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة التجارة، الجريدة الرسمية عدد 4449 بتاريخ 20/01/1997، الصفحة 135.

[8] ظهير شريف رقم 1.02.255 صادر في 25 من رجب 1423 ( 3 أكتوبر 2002 ) بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1424 (30 يناير2003).

[9] تنص المادة 64 على أنه: “يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة تتراوح بين 1000 و 50000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من أدلى بسوء نية ببيان غير صحيح قصد تسجيله أو تقييده بالسجل التجاري. يأمر الحكم الصادر بالإدانة بتصحيح البيان الخاطئ بالشكل الذي يحدده”.

[10] ظهير شريف رقم 83-96-1 صادر في 15 من ربيع الأول 1417 بتنفيذ القانون رقم 95-15 المتعلق بمدونة التجارة، الجريدة الرسمية بتاريخ 19 جمادى الأولى 1417 – 3 أكتوبر 1996.

[11] من مظاهر تدخل النيابة العامة في نظام صعوبات المقاولة طلب فتحها لمسطرة المعالجة وفق المادة 563، كما لوكيل الملك إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، أن يطلب من المحكمة إصدار أمر باستمرار نشاط المقاولة الخاضعة للتصفية القضائية لمدة محددة وفق المادة 620، وبناء على المادة 716 وفي الحالات المنصوص عليها في المواد من 712 إلى 715، يتقدم وكيل الملك إلى المحكمة بطلب سقوط الأهلية التجارية عن كل مسؤول في شركة تجارية اقترف أحد الأفعال المنصوص عليها في المادة 706…إلخ.

[12] وقد جاء في الفقرات الأولى من نفس المادة أنه: “لا يحق أن يكون عضوا في شركة مساهمة مبسطة إلا الشركات التي لا يقل رأسمالها عن مليوني درهم أو عن مقابل قيمتها بالعملات الأجنبية. يجب على الشركة، بصفتها شريكة، التي تخفض رأسمالها إلى أقل من هذا الحد الأدنى أن تقوم داخل الستة أشهر الموالية لهذا التخفيض إما بزيادة رأسمالها حتى يصل إلى ذلك المبلغ أو أن تفوت أسهمها وفق الشروط المحددة في النظام الأساسي. يجب حل الشركة في حالة عدم قيامها بذلك وتحويلها إلى شركة من شكل آخر”.

[13] جاء في المادة الخامسة من قانون إحداث المحاكم التجارية على أنه: “تختص المحاكم التجارية في:

الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية؛
الدعاوى التي تنشأ بين التجار والمتعلقة بأعمالهم التجارية؛
الدعاوى المتعلقة بالأوراق التجارية؛
النزاعات الناشئة بين شركاء في شركة تجارية؛
النزاعات المتعلقة بالأصول التجارية.
وتستثنى من اختصاص المحاكم التجارية قضايا حوادث السير.

يمكن الاتفاق بين التاجر وغير التاجر على إسناد الاختصاص للمحكمة التجارية فيما قد ينشأ بينهما من نزاع بسبب عمل من أعمال التاجر.

يجور للأطراف الاتفاق على عرض النزاعات المبينة أعلاه على مسطرة التحكيم والوساطة وفق أحكام الفصول من 306 إلي 70-327 من قانون المسطرة المدنية”

[14] محمد المجدوبي الادريسي، عمل المحاكم التجارية، بدايته وإشكالياته، مطبعة بابل، 1999، ص43.

[15] عبد العالي العضراوي، النيابة العامة بالمحاكم التجارية مؤسسة جديدة، دار الطباعة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2001، ص67.

[16] القانون رقم 120 لسنة 2008 بشأن إنشاء المحاكم الاقتصادية منشور بالجريدة الرسمية العدد 21 تابع بتاريخ 22 مايو 2008.

[17] أحمد شكري السباعي، الوسيط في مساطر الوقاية من الصعوبات التي تعترض المقاولة ومساطر معالجتها، دار نشر المعرفة الرباط، 2000 ، ص 558.

[18] أحمد اشمارخ، اختصاصات النيابة العامة لدى المحاكم التجارية، مجلة المحاكم المغربية، عدد 90/2007، ص 58.

[19] عبد السلام بنحدو، الاختصاص الجنائي في المحاكم غير الجنائية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة التكوين والبحث في العلوم الجنائية، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة، الموسم الجامعي 2008/2009، ص 103.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت