بحث عن نظامي الفيدرالية واللامركزية الإدارية في دستور جمهورية العراق

بقلم :أ. د. غازي فيصل مهدي .
أستاذ القانون الإداري في كلية الحقوق / جامعة النهرين .
المقــدمــة
نصت المادة ( 1 ) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على أن ( جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة ، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي ـ برلماني ـ ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق ) ثم جاءت المادة ( 116 ) لتنص على أن ( يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية ) أما المادة ( 117/ أولاً ) فأنها قضت بأن ( يقر هذا الدستور عند نفاذه إقليم كوردستان وسلطاته القائمة إقليماً اتحادياً ) وأخيراً وفي سلسلة نفس الموضوع نصت المادة ( 122/ أولاً ) على أن ( تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وينظم ذلك بقانون ) . والذي يتجلى كالشمس وضحاها من النصوص المذكورة أن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 تبنى نظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية في وقت واحد ، إذ يوجد إقليم واحد في العراق حالياً وهو إقليم كوردستان ، مع إمكانية استحداث أقاليم أخرى في قابل الأيام على وفق الكيفية التي حددتها المادة ( 119 ) من الدستور .

أما المحافظات التي لم تنتظم في إقليم فأنها تعمل على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وتمارس صلاحيات إدارية ومالية واسعة ولا تخضع لسيطرة أو إشراف أية وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة .
إن المزاوجة بين نظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية تثير تساؤلاً ملحاً عن صوابية هذا الأسلوب ومدى مواءمته للواقع الاجتماعي والسياسي للعراق ، إضافة إلى ذلك فأن لكل من نظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية سنناً تسالم عليها الفقه سلفاً وخلفاً، فهل كان الدستور متمسكاً بالسنن المذكورة أم أنه أشتط عنها لينسج من عندياته سنناً جديدة على غير منوال .

إن بحثنا هذا سيتناول الإجابة عن السؤالين المطروحين إجابة تشفي الصدور عسى أن تستفيد منها لجنة تعديل الدستور ، فتسقط من النصوص ما تردى وهزل ، وتعدل ما أحتاج منها إلى ترميم ، وبذلك يتسامى الدستور إلى مقام محمود ، فيحكم نشاط الدولة على الوجه الأسنى وهذا على اللجنة يسير . إن بحثنا سيتوزع على فصلين الأول مخصص لنظام الفدرالية والثاني مخصص لنظام اللامركزية الإدارية تتلوها خاتمة فيها النتائج والمقترحات .

الفصل الأول
نظــام الفــدراليــة
تنقسم الدول من حيث تكوينها إلى دول بسيطة ودول مركبة ، في الدول البسيطة توجد سلطة واحد لا منافس لها ، تمارس مظاهر السيادة من خلال هيئاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ، أما الدولة المركبة ومنها الدولة الفدرالية بالتحديد فأنها تضم ولايات وأقاليم ، فهناك هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية اتحادية تنبسط اختصاصاتها على إقليم الدولة بأسره ، وهناك هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية محلية ، تمارس اختصاصاتها في حدود الولاية أو الإقليم .

هذا وأن هناك طريقتين لنشوء الدولة الفدرالية ، فهي أما أن تنشأ من انقسام أو تفكك دولة بسيطة من خلال حركة انفصالية تنمو في داخلها فتسمى بالدولة الفدرالية عن طريق الانفصال ، أو تنشأ من انضمام عدة دول مستقلة برضاها لتكون دولة واحدة تسمى بالدولة الفدرالية عن طريق الانضمام ، ومن أمثلة النوع الأول أمريكا وسويسرا وألمانيا الغربية واستراليا وكندا وجنوب أفريقيا ومن أمثلة النوع الثاني البرازيل والأرجنتين والمكسيك (1) .
هذا ويوجد في العالم اليوم ( 25 ) خمس وعشرون دولة فدرالية تمثل في مجموعها 40 ٪ أربعين من المئة من عدد سكان العالم من بينها أكبر الدول الديمقراطية في العالم وأكثرها تعقيداً كالهند وأمريكا والبرازيل وألمانيا والمكسيك (2) .

أن الفدرالية لا تنبت وتعطي ثمراً جنياً إلا في أرض خصبة وظروف سياسية واجتماعية مؤاتية ، وهذا لا نحسبه متوافراً في العراق ، فهو بلد محدود المساحة والسكان ، متنوع القوميات والطوائف ، وعلى هذا فأن تبني قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 الملغى للنظام الفدرالي لم يكن ملبياً لحاجات حقيقية ، بل جاء رد فعل لمعاناة السنين الطوال من حكم النظام البائد ، وهذا هو المعنى المنتزع من نص المادة الثانية والخمسين من القانون المذكور ، والتي جاء فيها ( يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق ) وهكذا جاء القانون المذكور ليعتبر منطقة كوردستان إقليماً فدرالياً يتمتع باختصاصات كثيرة . وعلى اية حال فإن المخاوف المزعومة من تكرار تجربة النظام السابق لاتصلح من وجهة نظرنا ذريعة للإستمساك بعروة الفدرالية ، لأن القانون ذاته بدد المخاوف المذكورة وحولها الى هباء منبث ، لا بل انه نقل العراق الى خانة دول القانون على الاقل من الناحية النظرية (3)0 لقد كان النظام الفدرالي الذي تبناه دستور جمهورية العراق لسنة 2005 مشوها ، وحتى لايكون كلامنا مرسلا وخاليا من المضمون فإننا سنورد دليلين اثنين لتوكيد صدق ما نقول:

أولاً ـ توزيع الاختصاصات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم :
هناك طرق ثلاث لتوزيع الاختصاصات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم ، الأولى أن يتم تحديد اختصاصات السلطة الاتحادية والأقاليم في الدستور على وجه الحصر والإلزام والثانية أن يتم تحديد اختصاصات الأقاليم على وجه الحصر وترك ما عداها للسلطة الاتحادية ، والثالثة تحديد اختصاصات السلطة الاتحادية وترك ما عداها للأقاليم، وهناك بعض الدساتير تنص على اختصاصات مشتركة بين السلطة الاتحادية والأقاليم بغية تمكين الأخيرة من التصرف مع إخضاعها لرقابة السلطة الاتحادية ، كاشتراط أخذ موافقة الأخيرة عند إجراء تصرف قانوني معين ، وقد تكون الغاية المبتغاة من وضع الاختصاصات المشتركة ، تمكين السلطة الاتحادية من وضع الأسس والقواعد العامة للموضوع وترك التفصيلات للولايات ، إلا أنه مهما كانت الطريقة المتبعة في توزيع الاختصاصات ، فأن الأولوية للقوانين الاتحادية ، لأنها تعلو على قوانين الأقاليم علواً كبيراً ، حتى يمكن تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الدولة الفدرالية (4) . ولو صرفنا الأبصار تلقاء نصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 لتبدى لنا أن المادة ( 110 ) منه حددت اختصاصات السلطات الاتحادية على وجه الحصر وفي تسعة بنود ، ثم جاءت المادة ( 114 ) لتحصين الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية والأقاليم وفي سبعة بنود والذي يلاحظ بجلاء على صدر المادة المذكورة أنه جاء بصيغة ( تكون الاختصاصات الآتية مشتركة بين السلطات الاتحادية والأقاليم ) إلا أنها وفي استعراضها لبعض الاختصاصات المذكورة أشركت المحافظات غير المنتظمة في إقليم بها ، فجاءت شيئاً نكراً لأن المحافظات غير المنتظمة في إقليم تعمل على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية ، والاختصاصات التي تمارسها اختصاصات إدارية يتكفل القانون لا الدستور تحديدها ، وعليه فأن زج المحافظات غير المنتظمة في إقليم في ممارسة نفس اختصاصات الأقاليم خلط بين نظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية وطمس لمعالمها ينم عن جهل غليظ ليس حقيقاً بالدستور أليقاً ، إضافة إلى ذلك فأن أغلب الاختصاصات المشتركة تتعلق برسم السياسات في المجالات المختلفة ، ولذلك فأن المبادأة فيها والترجيح تكون للسلطة الاتحادية ، لأنها وحسب منطوق النصوص تصنع السياسات الموصوفة بالتنسيق أو التعاون أو التشاور مع الأقاليم ، فإذا تم وضع السياسات التي أشارت إليها بنود المادة ( 114 ) على وفق الكيفية التي حددتها فأنه لا يجوز بعد ذلك للأقاليم أن تسعى إلى نقض ما تم من جانبها لأنها إن فعلت ذلك تنزلت عليها قاعدة ( من سعى لنقض ما تم من جانبه فسعيه مردود عليه ) .

بناءً على ما تقدم فأن الأولوية في الاختصاصات المشتركة حسبما يهدي إليه المنطق تكون للسلطات الاتحادية وليس للأقاليم ، إلا أن الدستور وفي المادة ( 115 ) جاء ليضرب عن المنطق صفحاً وليقضي بأنه ( كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما ) .
والذي يمكن تسجيله على النص المذكور أنه ساوى بين الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في ممارسة الاختصاصات التي لم يحصرها الدستور ، وهذا لا يجوز قطعاً لأن الأقاليم تعمل على وفق نظام الفدرالية بينما تعمل المحافظات غير المنتظمة في إقليم على وفق نظام اللامركزية الإدارية وكبر فرقاً ذاك الذي بين الاثنين ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى موازية فأنه أعطى الأولوية في الاختصاصات المشتركة لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم ، وبذلك كان النص متناقضاً وطائراً في الخيال فهو متناقض لأن الأرجحية في الاختصاصات المشتركة تكون للسلطة الاتحادية كما ذكرنا قبل قليل ، وهذا ما يمليه المنطق السوي ، وهو طائر في الخيال لأن ليس للمحافظات غير المنتظمة في إقليم سلطة إصدار القوانين ، لأنها تعمل ـ والكلام هنا مكرر ـ على وفق نظام اللامركزية الإدارية ، والذي يتم في ضوئه توزيع الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية والهيئات المحلية ولا شيء غير ذلك .

أما نص المادة ( 115 ) من الدستور جاء في سياق اللغو ـ والمشرع منزه عن اللغو ـ ولهذا حق على لجنة التعديل ووجب أن تعيد صياغته بما يكفل إعطاء الأولوية للقوانين الاتحادية على حساب قوانين الأقاليم في الاختصاصات التي أشارت إليها مع استبعاد المحافظات غير المنتظمة في إقليم منه ، لأن لاعلاقة لها البتة بالاختصاصات المشتركة.

ثانياً ـ تعديل تطبيق القانون الاتحادي :
في هذا الموضوع يوجد خرق بين لسنن الفدرالية ، إلا أنه وقبل الكشف عن الخرق المذكور ، لابد أن نشير إلى أن تعدد السلطات التشريعية في الدولة الفدرالية يعد من أهم ملامحها ، فهناك سلطة تشريعية اتحادية وسلطات تشريعية خاصة بالأقاليم وقد تمارس السلطات التشريعية المحلية اختصاصات واسعة كما هو الحال في أمريكا إذ تمارس السلطات التشريعية للولايات كل ما لم يتم منحه للسلطة التشريعية الاتحادية (الكونغرس) وكذلك الحال في دستور ألمانيا الاتحادية لسنة 1949 والذي أعطى المجالس التشريعية للولايات حق عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية بعد موافقة الحكومة الاتحادية (5) ، وفي دول أخرى فدرالية تم منح البرلمان الاتحادي سلطات واسعة إلى الحد الذي يستطيع معه أن يوقف أي تشريع تصدره السلطة التشريعية للولاية كما هو الحال في الدستور الكندي(6) . وعودة إلى أصل الموضوع فقد نصت المادة ( 121/ ثانياً ) من الدستور على أنه ( يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم في حالة وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الإقليم بخصوص مسألة لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية ) .

إن النص المذكور يزايله الوضوح في الصياغة ، لأنه ذكر عبارة ( تعديل تطبيق ) في حين أن المقصود هو تعطيل تطبيق القانون الاتحادي وتطبيق قانون الإقليم ، هذا من حيث الصياغة ، أما من حيث المضمون ، فأن النص المذكور جاء مخترقاً لقاعدة ثابتة في النظام البرلماني لا تهتز وهي أن الأولوية في حالة التعارض بين القانون الاتحادي وقوانين الأقاليم تكون للقانون الاتحادي ، لأنه أقوى أثراً وأمضى مفعولاً من قوانين الأقاليم (7) . وبهذا يكون الدستور العراقي قد جاء ببدع تشريعية منسوجة من خيوط الخيال وليضعنا في نهاية المطاف أمام نظام فدرالي شاذ ليس كمثله شيء على أرض الواقع .

الفصل الثاني
نظـام اللامـركـزية الإدارية
يقوم نظام اللامركزية الإدارية على دعائم ثلاث وهي :
1ـ وجود مصالح ذاتية متميزة عن المصالح القومية أو العامة ، يتولى المشرع تحديدها حصراً كما هو واقع في بريطانيا وأمريكا ، أو أنه يحددها بصفة عامة طبقاً لقاعدة عامة كما هو حاصل في فرنسا .
2ـ تنظيم هيئات مستقلة لإدارة المصالح الذاتية تتمتع بالشخصية المعنوية ، فتستطيع اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات ، علماً بأن تشكيل الهيئات المذكورة يتم بالانتخاب أو التعيين أو بالاثنين معاً (8) .
3ـ الخضوع لرقابة السلطة المركزية ، إن استقلال الهيئات المحلية لا يعد مطلقاً بل نسبياً فهي تخضع لرقابة وإشراف السلطة المركزية لضمان وحدة الدولة من الناحية الإدارية وعدم خروج الهيئات المذكورة على حدود ما منح لها من اختصاصات (9) .
بعد هذه المقدمة الموجزة نعود إلى نصوص الدستور لنطالع نص المادة ( 122 ) منه فلقد قضى البند ( أولاً ) منها بأن ( تتكون المحافظات من عدد من الأقضية والنواحي والقرى ) أما البند ( ثانياً ) فأنه نص على أن ( تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وينظم ذلك بقانون ) فالذي يتبدى من النصوص المذكورة أن الدستور اعتنق نظام اللامركزية الإدارية بالنسبة للمحافظات غير المنتظمة في إقليم واعداً بإصدار قانون ينظم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة المنوي منحها إياها . وهكذا يتبادر إلى الذهن أن الدستور تلقف نظام اللامركزية الإدارية كما هو معروض في ميدان التطبيق إلا أن نص البند ( خامساً ) من المادة ( 122 ) اسقط هذا الاعتقاد ، فلقد جاء بصيغة ( لا يخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو إشراف أية وزارة أو أية جهة غير مرتبطة بوزارة وله مالية مستقلة ) .
أن النص المذكور أزال دعامة من دعائم نظام اللامركزية الإدارية الثلاث ، وهي خضوع الهيئات المحلية لرقابة السلطة المركزية والمسماة بـ( الوصاية الإدارية ) وبهذا يكون قد وقع في حومة التناقض ، فهو من جهة تبنى نظام اللامركزية الإدارية ومن جهة أخرى موازية أسقط دعامة من دعائمه الرئيسة ، فأي نظام أراد الدستور أن يثبته على أرض الواقع وهل هناك من أسوة اقتدى بها ؟
إن إسقاط الدعامة الثالثة من دعائم اللامركزية الإدارية يسقط النظام المذكور بأسره وبالتالي لا محل بعد ذلك للكلام عن اللامركزية الإدارية ، ثم لماذا هذا الإطلاق في منح الاختصاصات لمجالس المحافظات ، وهي لما تزل قليلة الخبرة ضعيفة العود تتقاذفها تيارات الأحزاب والكيانات السياسية ، وتنتشر بين أعضائها حالات الفساد والإفساد ، إن عدم إخضاع مجالس المحافظات إلى رقابة أية جهة سيجعل منها نداً للسلطة المركزية ، يعمل ما يشاء دون رقيب ، وهذا من شأنه أن يفتت الوحدة الإدارية للدولة فينفلت زمام السيطرة على الأوضاع فالأيلولة إلى الفوضى وفي الخاتمة السقوط إلى السحيق . هذا وبما أن خضوع الهيئات المحلية لرقابة السلطة المركزية يعد دعامة أساسية من دعائم نظام اللامركزية الإدارية كما يذهب إلى ذلك الفقه (10) عليه فأننا ندعو لجنة تعديل الدستور وبإلحاح أن تعيد النظر في نص البند ( خامساً ) من المادة ( 122 ) من الدستور بما يؤمن وجود رقابة على مجالس المحافظات من لدن السلطة المركزية ، حتى يكون الدستور في نصوصه منطقياً محققاً للمصلحة الوطنية لا للأهواء والرغبات لهذا الكيان السياسي أو ذاك . نود الإشارة أخيراً إلى المادة ( 123 ) من الدستور والتي قضت بأنه ( يجوز تفويض سلطات الحكومة الاتحادية للمحافظات أو بالعكس بموافقة الطرفين وينظم ذلك بقانون )، إن النص المذكور متهالك يتعذر إعماله على أي وجه ولهذا فأنه يستحق الإهمال جزاءً وإليكم تسويغ ذلك :
1ـ أن تفويض الاختصاص في مجال القانون العام جائز بناءً على نص صريح ، وهو ينحدر من علو إلى أسفل ، فيقوم الرئيس الإداري على سبيل المثال بتفويض الموظف المرؤوس أو تقوم الهيئة أو المجلس بتفويض رئيسها جزءاً من الاختصاصات المستمدة من القانون وذلك بناءً على قناعة واختيار ، أما تفويض الاختصاص بناءً على اتفاق جهتين إداريتين فهو نادر الحصول في الحياة العملية .
2ـ أن تفويض الاختصاص يجب أن يكون جزئياً لا كلياً ، فإذا كان كلياً فأنه يعد تنازلاً عن ممارسة الاختصاصات ، وبالتالي يقع باطلاً عقيماً عن إنتاج الآثار القانونية .
3ـ إن المادة ( 110 ) من الدستور حددت وعلى وجه الحصر اختصاصات السلطات الاتحادية وما عداها يدخل ضمن حصة الأقاليم ، فكيف يمكن أن تقوم السلطات الاتحادية بتفويض اختصاصاتها الحصرية إلى المحافظة غير المنتظمة في إقليم وهي خاضعة لنظام اللامركزية الإدارية ؟ وعلى أية حال فأن نص المادة ( 123 ) من الدستور عقيم لا يلد إلا عدماً وما على لجنة تعديل الدستور إلا أن تسقطه لأنه ضرب من الخيال .
4ـ لقد نصت المادة ( 123 ) من الدستور على جواز تفويض اختصاصات المحافظات إلى سلطات الحكومة الاتحادية ، وهذا يعني التفويض من أسفل إلى أعلى ، وهذه حالة شاذة لم نجد لها مثيلاً في التشريعات الأخرى ، ولو حصلت تطبيقاً للنص المذكور فماذا سيفعل بعد ذلك مجلس المحافظة ؟ أن عليه وصوناً لماء الوجه أن يحل نفسه لأنه لم يعد شيئاً مذكوراً .

الخـاتـمــة

بعد أن انتهى طوافنا حول نصوص الدستور المتعلقة بنظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية حقَّ علينا ووجب ، أن نسجل استنتاجاتنا حول الموضوع تعقبها المقترحات . لقد توصلنا إلى أن الدستور أعلن اعتناقه لنظام الفدرالية جهاراً باعتباره النموذج الفذ الذي يسمح بانسيابية السلطة وعدم حصرها في المركز ، وبالتالي عدم تكرار تجربة النظام السابق المملوءة بالظلم والجور والاضطهاد ، إلا أنه لم يتبن النظام المذكور بسننه المعروفة ، بل أجرى تحويراً جوهرياً فيها ، وليته لم يفعل ذلك ، بحيث أصبح الاعتقاد بأن الفدرالية طريق ممهد للانفصال لا للوحدة ، ولذلك عارضت قوى وأحزاب كثيرة النظام المذكور واعتبرته مشروعاً استعمارياً لتقسيم العراق على وفق ما يشتهي الأجنبي المحتل ، كما أن الدستور تبنى نظام اللامركزية الإدارية باعتباره النموذج الأمثل في الإدارة ، إلا أنه اخترق أصول النظام المذكور مسقطاً دعامة مهمة من دعائمه ألا وهي الرقابة على أعمال الهيئات المحلية . أن منح مجالس المحافظات اختصاصات إدارية ومالية واسعة وجعلها بمنجاة من أية رقابة ، سيساعد على تمزيق وحدة العراق الإدارية ويؤدي إلى تصاعد فرص الفساد وهدر الأموال وهذا شر مستطير آخر . أن نظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية بصورتيهما اللتين رسمها الدستور أسلوبان للهدم لا للبناء، فالأول هو خط الشروع باتجاه الانفصال والتمزق ، والثاني هو لجعل المحافظات أشبه بالدولة المستقلة التي تهيمن على شؤونها وتدير أموالها بنفسها ليس عليها رقيب عتيد . إننا في خاتمة هذا البحث نطلق صيحة الاستغاثة من النظامين المذكورين ونطالب لجنة تعديل الدستور أن تعيد النظر في بنائهما حتى يستويان نظامين خادمين لوحدة العراق محققين لمصالح شعبه وتطلعاته في العيش الرغيد تحت خيمة واحدة وهي خيمة العراق الواحد الموحد .

أ0د0غازي فيصل مهدي

مصـادر البحـث
1ـ د. بكر القباني ـ الرقابة الإدارية ـ الطبعة الأولى ـ دار النهضة العربية ـ القاهرة ـ 1978 .
2ـ د. سعد عصفور ـ القانون الدستوري ـ 1954 .
3ـ د. طعيمة الجرف ـ نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي ـ القاهرة ـ مكتبة القاهرة الحديثة ـ 1964 .
4ـ د. عبد الغني بسيوني عبد الله ـ النظرية العامة في القانون الإداري ـ دراسة مقارنة لأسس ومبادئ القانون الإداري وتطبيقها في مصر ـ 2003 .
5ـ د. عبد الغني بسيوني عبد الله ـ القانون الإداري ـ منشأة المعارف في الإسكندرية ـ 1991 .
6ـ محمد عبد المعز نصر ـ في النظريات والنظم السياسية ـ بيروت ـ دار النهضة العربية للطباعة والنشر ـ 1975 .
7ـ د. محمد علي آل ياسين ـ القانون الدستوري ـ المبادئ الدستورية العامة ـ المكتبة الحديثة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ الطبعة الأولى .
8ـ د. نواف كنعان ـ القانون الإداري الأردني ـ الكتاب الأول ـ ماهية القانون الإداري ـ التنظيم الإداري ـ النشاط الإداري ـ كلية الحقوق / الجامعة الأردنية ـ الطبعة الأولى ـ 1993 .
9ـ الفدرالية وسياسة التغيير ـ مقال افتتاحي منشور في مجلة الاتحادات الفدرالية ـ المجلد ( 5 ) عدد خاص ـ خريف 2005 .
———————————
(1) د. محمد علي آل ياسين ـ القانون الدستوري ـ المبادئ الدستورية العامة ـ المكتبة الحديثة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ ص206 ـ 207 .
(2) الفدرالية وسياسة التغيير ـ مقال افتتاحي منشور في مجلة الاتحادات الفدرالية ـ المجلد ( 5 ) ـ عدد خاص ـ خريف 2005 ـ ص 1.
(3) (3) انظر الباب الثاني من القانون المسمى (الحقوق الاساسية) والباب السادس المسمى (السلطة القضائية الاتحادية)0
(4) د. محمد علي آل ياسين ـ المصدر السباق ـ ص211 ـ 212 .
(5) د. طعيمة الجرف ـ نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي ـ القاهرة ـ مكتبة القاهرة الحديثة ـ 1964 ـ ص228 .
(6) محمد عبد المعز نصر ـ في النظريات والنظم السياسية ـ بيروت ـ دار النهضة العربية للطباعة والنشر ـ 1975 ـ ص488 .
(7) د. محمد علي آل ياسين ـ المصدر السابق ـ ص221 ، د. سعد عصفور ـ القانون الدستوري ـ 1954 ـ ص280 .
(8) فإذا تم بالانتخاب سميت باللامركزية المطلقة أما إذا تم بالتعيين والانتخاب سميت باللامركزية النسبية ـ أنظر د. عبد الغني بسيوني عبد الله ـ النظرية العامة في القانون الإداري ـ دراسة مقارنة لأسس ومبادئ القانون الإداري وتطبيقها في مصر ـ 2003 ـ ص145 ـ 146 .

(9) لمزيد من التفصيل أنظر : ـ د. عبد الغني بسيوني ـ المرجع السابق ـ ص150 وما بعدها . ـ د. نواف كنعان ـ القانون الإداري الأردني ـ الكتاب الأول ـ ماهية القانون الإداري ـ التنظيم الإداري ـ النشاط الإداري ـ كلية الحقوق / الجامعة الأردنية ـ الطبعة الأولى ـ 1993 ـ ص158 وما بعدها . ـ د. بكر القباني ـ الرقابة الإدارية ـ الطبعة الأولى ـ دار النهضة العربية ـ القاهرة ـ 1978 ـ ص94 وما بعدها . ـ د. عبد الغني بسيوني عبد الله ـ القانون الإداري ـ منشأة المعارف ـ الإسكندرية ـ 1991 ـ ص142 ـ 143 .
(10) د . عبد الغني بسيوني عبد الله ـ كتاب في النظرية العامة في القانون الإداري المشار إليه سابقاً ـ ص153 .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت