يعرف البعض موانع المسؤولية الجنائية : (أنها الحالات التي تتجرد فيها الارادة من القيمة القانونية). ولما كانت هذه الحالات انما تنحصر في حالات انتفاء الادراك او الاختيار او كليهما فاننا نستطيع ان نقول بان موانع المسؤولية هي الحالات التي ينتفي فيها الادراك او الاختيار او كليهما معا. فما هي هذه الحالات يا ترى، وما هي طبيعتها، وهل نص عليها القانون على سبيل الحصر ام على سبيل المثال وما هو الاثر الذي يترتب على قيامها وتحققها، وهل يشترط لتحققها وقت معين بالذات؟ هذا ما سنتناوله تباعا لذلك.

تكلم قانون العقوبات العراقي، عن موانع المسؤولية في الفصل الأول من الباب الرابع من الكتاب الأول تحت عنوان المسؤولية الجنائية وموانعها في المواد 60 و 65. ومن دراسة نصوص هذه المواد يظهر لنا ان الشارع العراقي لم يضع معيارا عاما لمنع المسؤولية بل نص على أسباب مختلفة اذا توافر واحد منها امتنعت مسؤولية غير ان هذه الأسباب في الواقع تحيط بكل ما من شانه فقد الادراك أو الاختيار او كليهما : وهي فقد الادراك او الارادة لجنون او عاهة في العقل او غيبوبة ناشئة عن تعاطي مواد مخدرة او مسكرة والاكراه وحالة الضرورة وصغر السن. والاسباب الأربعة الأولى عارضة لأنها تقوم على خلاف الاصل في الإنسان اما السبب الخامس فهو طبيعي لانه يمثل مرحلة من حياة الإنسان يمر بها كل شخص قبل ان تكتمل ملكاته الذهنية ببلوغ سن التمييز. والراي الغالب ان هذه الموانع جاءت في القانون على سبيل الحصر. والواقع ان قانون العقوبات العراقي في ذلك لم يختلف عن بقية القوانين الجنائية الأخرى (1)

ولكن هل ان من الصواب ان يذكر القانون هذه الموانع على سبيل الحصر؟ يرى بعض الكتاب ان النص على موانع المسؤولية الجنائية قد حددت بتوافر الادراك والاختيار اذن فكل ما يمنع من توافرها يؤدي الى منع المسؤولية سواء نص عليه القانون او لم ينص، وبالتالي فلا حاجة الى تحديد ذلك بحالات معينة او محصورة بنص في القانون الأمر الذي يعني ان النص في القانون على موانع المسؤولية لا يجوز ان يكون على سبيل الحصر (2). ويرى آخرون ان صيانة نصوص القانون وان كانت توحي باتجاه الشارع الى حصر موانع المسؤولية، وهو رأي غالبية رجال الفقه الجنائي، غير ان ذلك يعاب عليه بانه يمنع من اعتداد الشارع بارادة غير مدركة او غير مختارة لم تكن معروفة وقت صياغة نصوص القانون، الأمر الذي يمكن تصوره اذا ما كشف العلم عن أسباب جديدة يزول بها الادراك والاختيار (3) ولذلك هم يرون ان الشارع عندما نص على موانع المسؤولية، انما نص على أهم حالات فيها وأوضحها وبين شروطها فان توافرت في غيرها فان ذلك يطابق قصد الشارع وان لم يستند الى صريح نصه وان القياس والتفسير الواسع جائزان في شان النصوص الخاصة بموانع المسؤولية، باعتبار ان هذه النصوص لا تنشئ جرائم ولا تقرر عقوبات. ويؤيد احد أصحاب هذا الراي رايه بقوله (… إن الشارع لم تفته هذه الحقيقة فاستعمل في بعض نصوصه عبارات رحبة تقل بطبيعتها التفسير الواسع وتتسع لما يكشف منه التطور العلمي كقوله ..) عاهة في العقل (الذي نصت عليه المادة 62 عقوبات مصري)(4).

وعندنا ان موانع المسؤولية وان جاءت في القانون على سبيل الحصر فان ذلك لا يمنع من اللجوء الى التفسير الواسع او القياس اذا تطلب الأمر عند تفسير نصوصها، لان ذلك لا يؤدي الى خرق مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات كما ذكر اعلاه ولكن لا يجوز التوسع الى اكثر من ذلك (5). فلا يجوز اعتبار حالة ما من موانع المسؤولية اذا لم تدخل تحت احدى الموانع التي نص عليه القانون وذلك عن طريق القياس او التفسير الواسع. وتعتبر الموانع المسؤولية ذات طبيعة شخصية لذلك فهي تتصل بالفعل ولا شأن لها بالجريمة في ذاتها مما يترتب عليه ان موانع المسؤولية لا تنتج اثرها الا فيمن توافرت فيه من الجناة سواء أكانوا من الفاعلين الاصليين ام من الشركاء، وانه ما دامت الصفة الجنائية للفعل باقية فقد يلزم الفاعل أي الجاني غير المسئول جنائيا بتعويض ما ينتج من أضرار.

اما الاثر المترتب على مانع المسؤولية، فهو اسقاط المسؤولية الجنائية عن الجاني الذي توافر فيه ذلك لان مانع المسؤولية اذا ما تحقق فانه يجرد الارادة من القيمة القانونية مما يؤدي الى اعتبارها في حكم غير الموجود في نظر الشارع وبذلك يزول الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الجنائية وهو الارادة المعتبرة قانونا مما يؤدي الى زوالها هي أيضاً لفقد أساسها وان زالت المسؤولية زالت العقوبة تبعا لها اذ لا عقوبة من غير مسؤولية غير ان هذا لا يمنع من جواز اتخاذ التدابير الاحترازية اذا وجدت لها ضرورة. ولأجل ان يفعل مانع المسؤولية مفعوله وينتج اثره يجب ان يكون متحققا ومتوافرا وقت ارتكاب الجاني فعله وليس وقت تحقق النتيجة الاجرامية ومن باب اولى ليس وقت المحاكمة او وقت تنفيذ العقوبة. ذلك لأن وقت ارتكاب الجاني الفعل الجرمي هو وقت توجيه الجاني ارادته الى مخالفة القانون، والى هذه الارادة ينصرف تأثير مانع المسؤولية مما يتطلب تعاصرهما حتى يتحقق هذا التأثير.

__________________________

1-انظر في ذلك المواد 61 و 62و64 من قانون العقوبات المصري والمواد من 18 الى 25 من قانون الجزاء الكويتي – الدكتور مصطفى العوجي، المسؤولية الجنائية في القانون اللبناني ص111.

2-انظر جارو ج1 ن329 ص637 وكذلك محمود محمود مصطفى، المرجع السابق ن 329 ص377.

3-الدكتور محمود نجيب حسني، المرجع السابق.

4-انظر الدكتور محمود نجيب حسني، المرجع السابق ن607 ص610.

5-وقد أيد المشرع العراقي ذلك بالنص حيث جاءت المادة (60) من قانون العقوبات تقول (……… او لأي سبب اخر يقرر العلم انه يفقد الادراك او الارادة).

المؤلف : علي حسين خلف – سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .