العقد المحدد والعقد الاحتمالي :

61 – العقد المحدد :

هو العقد الذي يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي أخذ والقدر الذي أعطى ، حتى لو كان القدران غير متعادلين . فبيع شيء معين بثمن معين عقد محدد ، سواء كان الثمن يعادل قيمة المبيع أو لا يعادله ما دامت قيمة المبيع ومقدار الثمن يمكن تحديدهما وقت البيع .

62 – العقد الاحتمالي :

هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي أخذ أو القدر الذي أعطى ، ولا يتحدد ذلك إلا في المستقبل تبعاً لحدوث أمر غير محقق الحصول أو غير معروف وقت حصوله . فالبيع بثمن هو إيراد مرتب مدى الحياة عقد احتمالي ، لأن البائع وإن كان يعرف وقت البيع القدر الذي أعطي لا يستطيع أن يعرف في ذلك الوقت القدر الذي أخذه ، إذ الثمن لا يتحدد إلا بموته والموت أمر لا يعرف وقت حصوله . والمشتري أيضاً كالبائع يباشر عقداً احتمالياً ، فهو يعرف القدر الذي أخذه ، ولكنه لا يعرف القدر الذي أعطي وهو الثمن الذي لا يمكن تحديده وقت البيع لما سبق بيانه . ومن العقود الاحتمالية الشائعة عقود التأمين وعقود الرهان والمقامرة ( [1] ) .

هذا وقد يظن لأول وهلة أن تقسيم العقد إلى محدد واحتمالي لا يكون إلا في عقود المعاوضة ، وليس في عقود التبرع إلا عقود محددة . ولكن الصحيح أن عقد التبرع قد يكون احتمالياً إذا كان الموهوب له لا يستطيع أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي يأخذ ، كما إذا وهب شخص لآخر إيراداً مرتباً طول حياته .

63 – أهمية هذا التقسيم :

والتمييز بين العقد المحدد والعقد الاحتمالي له أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية . أما من الناحية القانونية فأهميته محدودة . ومن أهم نتائجه أمران :

( 1 ) أساس العقود الاحتمالية هو ذلك الاحتمال ( alea ) في المكسب أو الخسارة . فلو أتضح أن هذا الاحتمال غير موجود في الواقع ، وإن حسبه المتعاقدان موجوداً ، فالعقد باطل ، كما إذا باع شخص منزلا بإيراد يعطي لشخص ثالث طول حياته ، فإذا بهذا الشخص قد مات قبل وقوع البيع .

( 2 ) لا يؤثر الغبن عادة في العقود الاحتمالية ، لأن الأساس الذي بنيت عليه هذه العقود هو كما تقدم غبن احتمالي يتحمله أحد المتعاقدين ( [2] ) .

7 – العقد الفوري والعقد الزمني ( [3] ) :

64 – العقد الفوري :

هو العقد الذي لا يكون الزمن عنصراً جوهرياً فيه ، فيكون تنفيذه فورياً ولو تراخي التنفيذ إلى أجل أو إلى آجال متتابعة .

فبيع شيء يسلم في الحال بثمن يدفع في الحال عقد فوري ، لأن عنصر الزمن هنا معدوم ، إذ أن كلا من المبيع والثمن يسلم في الحال ، فهو عقد فوري التنفيذ .

وقد يكون البيع بثمن مؤجل ويبقي مع ذلك فورياً . ذلك لأن الزمن إذا كان قد تدخل هنا فهو عنصر عرضي لا دخل له في تحديد الثمن ( [4] ) . فالبيع بثمن مؤجل عندما يحين وقت تنفيذه ، يكون فوري التنفيذ . وليس الأجل إلا موعداً يتحدد به وقت التنفيذ ، ولا يتحدد به مقدار الثمن .

وقد يكون البيع بثمن مقسط ويبقى مع ذلك فورياً . إذ الثمن الذي يدفع أقساطاً ليس إلا ثمناً مؤجلا إلى آجال متعددة . وليست هذه الآجال إلا عناصر عرضية في العقد لا يتحدد بها مقدار الثمن . ويكون العقد في هذه الحالة فوري التنفيذ ، جزءاً جزءاً ، عندما يحين وقت التنفيذ لكل جزء منه .

وقد يكون الأجل الذي يضرب للتنفيذ إجبارياً ، لا اختيارياً كما في الأمثلة المتقدمة ، ويبقي مع ذلك عنصراً عرضياً لا يتحدد به المحل المعقود عليه ، فيكون العقد في هذه الحالة فوري التنفيذ . مثل ذلك النجار يتفق مع العميل على أن يصنع له دولاباً . فصنع الدولاب لا بد أن يستغرق زمناً ، ولكن هذا الزمن – وهو أجل إجباري – لا يتحدد به محل العقد . والأجل الإجباري هنا كالأجل الاختياري هناك ، كلاهما عنصر عرضي لا يقاس به المعقود عليه . ويكون عقد الاستصناع في المثل الذي قدمناه فوري التنفيذ عند ما يحين وقت تنفيذه ، أي بعد أن يتم صنع الدولاب .

ويتبين مما تقدم أن العقد الفوري يتحدد محله مستقلا عن الزمن ، وأن الزمن إذا تدخل فيه فإنما يتدخل عنصراً عرضياً لا عنصراً جوهرياً ، لتحديد وقت التنفيذ لا لتحديد المحل المعقود عليه . ذلك أن محل العقد الفوري – أرضا كان أو بناء أو عرضواً أو نقداً أو غير ذلك – إنما يمتد في المكان لا في الزمان ، أي أن له جرماً إذا هو قيس فإنما يقاس يجيز مكاني لا بمقياس زماني ، أو هو – كما يقول الدكتور عبد الحي حجازي في رسالته المعروفة – حقيقة مكانية لا حقيقة زمانية . وإنما سمي بالعقد الفوري ، ولم يسم بالعقد المكاني ، لأن الظاهرة الجوهرية فيه ليست هي في إثبات المكان له ، بل في نفي الزمان عنه .

65 – العقد الزمني :

هو العقد الذي يكون الزمن عنصراً جوهرياً فيه ، بحيث يكون هو المقياس الذي يقدر به محل العقد . ذلك أن هناك أشياء لا يمكن تصورها إلا مقترنة بالزمن . فالمنعة لا يمكن تقديرها إلا بمدة معينة . والعمل إذا نظر إليه في نتيجته ، أي إلى الشيء الذي ينتجه العمل ، كان حقيقية مكانية ، ولكن إذا نظر إليه في ذاته فلا يمكن تصوره إلا حقيقة زمانية ، مقترناً بمدة معينة .

ومن ثم فعقد الإيجار عقد زمني لأنه يقع على المنفعة ، والزمن عنصر جوهري فيه لأنه هو الذي يحدد مقدار المنعفة المعقود عليها . وعقد العمل لمدة معينة ، عقد زمني ، لأن الخدمات التي يؤديها العامل لا تقاس إلا بالزمن ، فالزمن عنصر جوهري فيه إذ هو الذي يحدد مقدار المحل المعقود عليه .

وهناك من الأشياء ما يتحدد في المكان فيكون حقيقة مكانية ، ولكن المتعاقدين يتفقان على تكرار أدائه مدة من الزمن لسد حاجة تتكرر . فهو في ذاته يقاس بالمكان ، ولكن المتعاقدين اتفقا على أن يقاس بالزمان . مثل ذلك عقد التوريد ، يلتزم به أحد المتعاقدين أن يورد للمتعاقد الآخر شيئاً معيناً يتكرر مدة من الزمن . فمحل ا لعقد هنا – وهو الشيء المعين الذي اتفق على توريده – يقاس في ذاته بالمكان ، ولكن المتعاقدين اتفقا على أن يتكرر مرات مدة من الزمن ، فجعلاه يقاس ، كالمنفعة والعمل ، بالزمان لا بالمكان . فالمعقود عليه في كل من عقد الإيجار وعقد التوريد هو الزمن ، أو هو شيء يقاس بالزمن . ولكن المعقود عليه في عقد الإيجار يقاس بالزمن طبيعة ، أما المعقود عليه في عقد التوريد فيقاس بالزمن اتفاقاً .

ومن ثم ينقسم العقد الزمني إلى عقد ذي تنفيذ مستمر ( contrat a exe cution continue ) كعقد الإيجار وعقد العمل لمدة معينة ، وعقد ذي تنفيذ دوري ( contrat a execution periodique ) كعقد التوريد وعقد الإيراد المؤبد أو الإيراد مدى الحياة .

66 – أهمية هذا التقسيم :

ترجع خصائص العقد الزمني إلى فكرة جوهرية هي أن المعقود عليه في هو الزمن . والزمن إذا مضي لا يعود . فإذا نفذ العقد الزمني حيناً من الزمن ، وأريد لسبب أو لآخر الرجوع في العقد استحال ذلك ، فإن الفترة من الزمن الذي نفذ فيها العقد قد انقضت ، وما نفذ من العقد أصبح تنفيذه نهائياً لا يمكن الرجوع فيه . أما العقد الفوري فلا يقوم على الزمن ، وإذا نفذ في جزء منه جاز الرجوع فيما تم تنفيذه . ويترتب على هذا الفرق الجوهري فيما بين العقد الزمني والعقد الفوري نتائج هامة ، نذكر منها ما يأتي :

( 1 ) الفسخ في العقد الفوري ينسحب أثره على الماضي ، لأنه يجوز الرجوع فيه . أما الفسخ في العقد الزمني فلا ينسحب أثره على الماضي لأن ما نفذ منه لا يمكن إعادته .

( 2 ) إذا وقف تنفذ العقد الفوري ، فإن هذا الوقف لا يؤثر في التزامات المتعاقدين من حيث الحكم بل تبقى هذه الالتزامات كاملة كما كانت قبل الوقف . أما العقد الزمني فوقف تنفيذه يترتب عليه النقص في كمه وزوال جزء منه ، إذ تمحي آثاره في خلال المدة التي وقف تنفيذه فيها . لأن هذه المدة لا يمكن تعويضها بعد أن فاتت بل قد يترتب على وقف العقد الفوري انتهاؤه إذا كانت مدة الوقف تزيد على المدة المحددة للعقد أو تساويها .

( 3 ) العقد الزمني تتقابل فيه الالتزامات تقابلا تاما ًن لا في الوجود فحسب بل أيضاً في التنفيذ ، فما تم منها في جانب يتم ما يقابله في الجانب الآخر . ففي عقد الإيجار الأجرة تقابل الانتفاع ، فإذا انتفع المستأجر مدة معينة التزم بدفع الأجرة بقدر المدة التي انتفع فيها . أما في العقد الفوري فإن التقابل إذا كان تاماً في الوجود فهو غير تام في التنفيذ . ففي عقد البيع بثمن مقسط إذا تقابل المبيع والثمن من حيث الوجود ، فليس من الضروري أن يتقابلا من حيث التنفيذ ، ويجوز أن يدفع المشتري أقساطاً من الثمن لا يأخذ ما يقابلها من المبيع ، ويلجأ إلى فسخ البيع فيسترد ما دفعه من الثمن .

( 4 ) الإعذار شرط لاستحقاق التعويض في العقد الفوري في أكثر الأحوال . أما في العقد الزمني فالاعذار ليس بضروري إذا تاخر الملتزم عن تنفيذ التزامه الزمني ، لأن ما تأخر فيه لا يمكن تداركه لفوات الزمن ، فلا فائدة ترتجي من الإعذار .

( 5 ) العقد الزمني لا يمكن إلا أن يكون ممتداً مع الزمن ، وبقدر ما يمتد يكون تغير الظروف محتملا ، ومن ثم كانت العقود الزمنية هي المجال الطبيعي لنظرية الظروف الطارئة . أما العقود الفورية فلا يمكن أن تنطبق عليها هذه النظرية إلا إذا كان تنفيذها مؤجلا ( [5] ) .


( [1] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر بان العقد الاحتمالي هو الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين تحديد ما يحصل عليه من المنفعة وقت التعاقد . وهي لا تتحدد إلا فيما بعد تبعاً لوقوع أمر غير محقق كبيع الثمار قبل انعقادها والزرع قبل نباته بثمن جزاف . والبيع بسعر الوحدة ليس احتمالياً لأن كلا من البائع والمشتري يعلم وقت العقد ما أعطى كما يعلم ما أخذ ( 18 ابريل سنة 1948 المحاماة 31 رقم 135 ص 365 ) .

( [2] ) ومع ذلك أنظر المادة 214 من القانون اللبناني ، وقد جاء في الفقرة الأخيرة من هذه المادة أن العقود الاحتمالية ذاتها قد تكون قابلة للإبطال بسبب الغبن . ويمكن حمل ذلك على أن احتمال المكسب والخسارة في جانب أحد المتعاقدين بعيد عن أي تعادل مع هذا الاحتمال في جانب المتعاقد الآخر .

( [3] ) رجعنا في هذا الموضوع إلى رسالة قيمة للدكتور عبد الحي حجازي ، عنوانها ” نظرية عقد المدة – العقد المستمر والدوري التنفيذ ” . القاهرة سنة 1950 . وقد آثرنا أن نسمي ” العقد الزمني ” ما مسماه الدكتور عبد الحي حجازي ” عقد المدة ” . ولا يزال العقد الزمني في مستهل تطوره الفقهي . ومن الخير أن يترك للفقه حتى يستكمل تطوره ، فينتقل بعد ذلك إلى التقنين . وسنعود للإشارة إليه في أماكن أخرى متفرقة .

( [4] ) وإذا كان قد روعى في الثمن المؤجل أن تضاف إليه الفوائد عن المدة التي أجل فيها ، فإن الزمن في هذه الحالة لا يتدخل إلا في تحديد الفوائد ، وهي في العادة نسبة ضئيلة من الثمن . أما في الفوائد ذاتها ، فالزمن عنصر جوهري .

( [5] ) وهناك تقسيم للعقود ، من حيث طبيعتها ، إلى عقد ذاتي ( contrat subjectif ) واتفاق منظم ( convention institutionnelle ) . فالعقد الذاتي هو اتفاق بين شخصين لهما مصلحتان متعارضتان ، وتكون الرابطة بينهما رابطة ذاتية عرضية تقتصر عليهما ولا تجاوزهما إلى غيرهما . مثل ذلك عقد البيع ترى فيه تعارضاً بين مصلحة البائع ومصلحة المشتري . والرابطة بينهما ذاتية مقصورة عليهما ، وهي لا تلبث أن تزول في أهم مشتملاتها بانتقال ملكية المبيع إلى المشتري . أما الاتفاق المنظم فعلى النقيض من العقد الذاتي يوجد مركزاً قانونيناً منظماً ثابتاً ( statut, institution ) هو أقرب إلى القانون منه إلى العقد ، فيسري على الغير كما يسري على الطرفين . هذا إلى أن الطرفين في الاتفاق المنظم لا تناقض بين مصالحهما وليس فيهما دائن ومدين ، بل لهما غاية متحدة وغرض مشترك . مثل ذلك الشركة ، فإن الشركاء اتفقوا على أن يوجد بينهم هذا المركز المنظم الثابت لغرض مشترك هو الغرض الذي يسعون إليه من وراء اشتراكهم ، ولا تعارض فيما بين مصالح الشركاء يماثل التعارض بين مصلحة البائع ومصلحة المشتري في عقد البيع ، كما أن نظام الشركة لا يسري على الشركاء فحسب ، بل هو أيضاً يسري على الغير الذي يتعامل مع الشركة . ومثل ذلك أيضاً الاتفاق الجامع للعمل ( contrat collectif du travail ) وهو يرمي إلى تنظيم القواعد التي تسري على عقود العمل الفردية بين العامل ورب العمل ، فينظم بذلك حالة مستقرة ثابتة تسري على من اشترك في العقد وعلى من لم يشترك .

والواقع أن الفرق بين العقد الذاتي والاتفاق المنظم ليس على قدر كبير من الوضوح . فهناك من العقود الذاتية ما يوجد رابطة مستمرة غير وقتية كعقد الإيجار ، فإنه يخلق رابطة مستمرة بين المؤجر والمستاجر ، وهذه الرابطة قد يتعدى أثرها إلى غير المتعاقدين كالمشتري للعين المؤجرة . والوكالة وهي عقد ذاتي يتعدى أثرها هي أيضاً إلى الغير الذي يتعامل مع الوكيل . والشركاء في عقد الشركة ، التي هي اتفاق منظم ، لهم مصالح متعارضة ، إذ كل شريك يريد أن يعطي للشركة أقل حصة ممكنة ويفوز بأكبر ربح ممكن . ومن ثم تدرك السبب في أن تقسيم العقد إلى عقد ذاتي واتفاق منظم ، وهو قسيم ابتدعه الأستاذ ديجيه في افقه الإداري ، لم يسد في الفقه المدني .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .